(٢) انتظار «ذائقة» الكينونة

إن الانهمام الذاتي قد يُشَرْعِن لكي يكون انهمامًا نمذجيًّا، ويدخل في نطاق الطوبائيات الشمولية. يتجاوز الانهمام الذاتي سريةَ الفرد المعاني. فهناك جملة من التصرفات وجزئيات الأفعال، وبداهة الموقف تنقل الحميمية الخاصة إلى منابر علنية، لكن الجوانب الذاتوية تظل أقرب إلى سكون الجسد نفسه الذي تعربد في عروقه الدوافع المجهولة، والرغبات المكبوتة؛ فالسرية ليست أخلاقوية دائمًا، معها أو ضدها، لكنها من طبيعة المجهول الأنطولوجي الذي يترسَّب في أعماقنا، ونتهيَّب من كشفه، أو انكشافه تلقائيًّا. ومع ذلك شهدت الجنسانية استعراءً صاخبًا مع سيادة الديونزوسية قبل سقراط؛ ولقد كان لأعياد انفلات الملذات orgie erotidia طابع جماعي، لا يزال ساري المفعول إلى عصرنا تحت تسمية أعياد الكرنفال. هنالك حاجة لإطلاق الغرائز في أوقات معينة، وضمن سلوكيات لا يقرُّها المجتمع إلا بصورة موقتة. وقد عرفت العقائد الوثنية والغنوصية لدى اليونان والرومان، وكذلك الباطنية إبان أفول الحضارة العربية والإسلامية، أنواعًا من المهرجانات الإباحية السرية أو العلنية، المبررة حسب تأويلات دينية معقدة، لكن مثل هذه الثورات المقننة للغرائز، لا علاقة لها بإتيقا الانهمام بالذات للذات؛ فلقد كان المجتمع الإنساني مضطرًّا دائمًا إلى السماح بأوقات معينة، ليس للترويح عن النفس فقط، بل لإطلاق مكبوتها شبه الحيواني. ولقد تُعتبر المجازر الجماعية المنظمة (حضاريًّا) أو البربرية الخالصة، نوعًا من التصريف الدموي الجنسي للمكبوت الجماعي، وليس الفردي فحسب. وإن انتشار أنماط الجرائم النفسية الجنسية، التي يبدو أنها ذات غاية في نفسها، وذلك في المجتمعات الصناعية المعاصرة، لا يرجع فقط إلى أشكال التصريف للمكبوت والممنوع، بل هي نماذج من تحقق الذات سلبيًّا في الانحراف الكامل عن المقبول العام، والتماهي مع الشذوذ المطلق كصدمة للمألوف السائد، لكن كل أنماط الانحراف هذه ليست سوى مظاهر من الانهمام المعاكس. وهي تبعد كثيرًا عن إتيكا فن العيش أو الوجود التي سادَت لدى الرواقيين والأبيقوريين، امتدادًا لتعاليم سقراطية في معرفة النفس، وضبطها وتوجيهها نحو التزهد والتعالي جهة المثل المعرفية.

إن تقنين اللذَّات، والمعارف النظرية والقانونية التي تنظم آليات ضبطها، تؤكد صعوبة انضباط الجسدي تلقائيًّا؛ فهو الذي يفعل، يؤدي كل الوظائف الفيزيولوجية، ويتحرك ملء مساحات العالم من حوله، كان عليه أن ينفعل كذلك ويتلقَّى أوامر مما هو آخر، حتى ولو كان يحمله معه من جملة ما يحمل؛ فالنفس هي الآخر، الأهلي الجواني. وهي المتصلة بالجسد دون واسطة، لكنها منفصلة عنه كذلك بما تمتلكه من الوعي والإرادة والقدرة على محاكمة الأمور، بحسب أنظمة المعارف والقيم؛ فهي ليست ذاكرة الفرد أو الجسد وحيدًا، بل هي أيضًا ذاكرة الآخر المختلف، ما يتعدَّى الجسد وحدوده المادية. وهي ليست ذاكرة للحفظ فحسب، ولا مستودعًا ساكنًا، بل قادرة على تنفيذ لعبة القطب المضاد لأهواء الجسد ورغبته الجامحة.

غير أن الانهمام الذاتي لا يلعب دور سائق العربة الذي يكبح من جموح الفرس الأسود، لينسِّق جريه مع الفرس الأبيض المتزن، كما تريدنا أن نفهم نظرية قيادة النفس الأفلاطونية المبنية على الاعتراف بالدوافع المتناقضة، لكنها المؤمنة كذلك بإمكانية فرض الاعتدال والتوازن فيما بينها؛ فالفيلسوف لا ينكر الشهوات؛ بل يتقبَّل منها حدودها الضرورية، إن لم يستطع أن يستغني عن بعضها نهائيًّا. والمدرسة السقراطية لم تضع حدًّا للديونزوسية، بل حاولت ضبطها بإخضاعها لنظام تراتبي مشتق من هيئة الجسد عينها. حيثما البطن وأسفله (مركز الشهوات الغذائية والجنسية) إنما يقع تحت القلب، مركز العواطف النبيلة وأفضلها الشجاعة، وهو بدوره يقع تحت الرأس، مركز العقل، وفضيلته الحكمة. والعقل هو الذي يقود عربة الجسد، بالمشاعر النبيلة، التي بدورها تنظم الشهوات، كيما تحقِّق فضيلتها في الاعتدال.

وبالطبع فإن الرأس هو أعلى المراتب الجسدية الثلاث. وانقياد الأدنى للأعلى هو الذي يتيح كذلك أن يعلو كل الجسد بمراتبه تلك؛ فالعقل وما فوقه من السماء أو العلو اللامتناهي يسمح بتصوُّر إمكان تحرُّر النفس التي تحتوي العقل، أو تلازمه، من كامل الجسد. هناك خطوة واحدة بين شكل من انضباطية الجسد لأنبل أو أعلى ما فيه، وشكل آخر يتجاوز الجسد وعالمه الأرضي كلية، ويتطلع إلى الملأ الأعلى الذي يخترقه الخيال، نحو تصوُّر كائن الكمال التام ما فوق الملأ الأعلى نفسه، مقابل العالم السفلي حيثما يسود الكاوس، سديمًا فوضويًّا خارجًا على التعقُّل ومستمرًّا في عمائه.

لكن بالنسبة لكامل التجربة الإغريقية، فإن التراتبية الجسدية ونظيرتها الأخلاقية والميتافيزيقية إنما تجري تحت قبة العالم، وليس فوق ما يتجاوزها. والتراتبية تلك مرئية، كما هي الكوسمولوجيا؛ فالكوسموس أو الكون هو ما يقع على حدود البصر والبصيرة معًا. والتصور التصاعدي لا يضاد ذلك التوازن بين أثينا كوطن للإنسان الحر، وجبل الأولمب المجاور لها، وهو سكن الآلهة ووطنها. والجسدي لا ينشد الاتساق بين مَلَكاته الثلاث إلا انعكاسًا لاتساقية الكون حوله، لكن الاتساقية لا تعطي أو تهب الانسجام، بل تجعله دائمًا على مسافة من واقع الكائن الناقص الذي هو الإنسان؛ لذلك فالجسدي هو مسرح الدرامي. كما لو كان الإنسان يجسِّم صلة الوصل والفصل بين الكوني والعدمي؛ فوجوده ذو طابع صراعي في أصله. والفارق بين الديونزوسية والأفلاطونية هو أن الأولى جعلت حقيقة الصراع تقع بين عناصره، ويُمَسْرحها الجسد عضوانيًّا ومعرفيًّا بين مادويته ونفسانويته، بينما جعلت الأفلاطونية هدف الصراع هو في تجاوزه؛ فإن عربة الجوادين الأبيض والأسود ينبغي أن تصل إلى نهاية الدرب وتقف عندها. وينزل منها الحكيم ساكنًا هادئًا متنعمًا بفضيلة الفضائل كلها؛ العدالة المنجزة. وليست هي سوى اتساق كلٍّ من تراتبية الجسد ما بين مَلَكاته المتناضدة، من ناحية، وتراتبية المجتمع بين طبقاته الثلاث كذلك: الإنتاجية (العمال من أحرار وعبيد)، والدفاعية (الجنود بين النبلاء وأبنائهم)، والسياسية الحاكمة من الفلاسفة والعلماء؛ فالهارمونية (الاتساقية) متناظرة ما بين الإنسان الجسد، والمجتمع، والكون اعتبارًا من أرض النقص، عالم الطبيعية، إلى الأفلاك وطبقاتها المتناضدة. إنه عالم كوني مغلق، لكنه متسق ومتناغم ما بين كائناته وعناصره كلها.

غير أن الدراما تصور الواقع المتعارض وطموحه لاستعادة التوافق، فإن مفهوم القدر يخضع له كلٌّ من مصائر البشر والآلهة معًا، المتداخلين مع بعضهم والمتشابهين في شهواتهم وأهوائهم ومطامحهم من حيث النوعية والكيفية، وإن اختلفَت من حيث الشدة والعنف؛ لأن الآلهة يتميَّزون بالدرجات القصوى من مختلف الأحوال الإنسانية نفسها، ما عدا خاصية الموت التي قد ينعم بها الكائن الإنساني وحده، في حين تحرم منها الآلهة، وتشقى دراميًّا مع أبديتها المرعبة. والحقيقة فإن إدخال مفهوم التراجيديا إلى صميم الفكر الفلسفي إنما يعود الفضل فيه إلى نيتشه، اعتمادًا على تأويله لتكوينية التجربة الهلينية؛ فالأبولونية ترسم خلاصًا للإنسان بإعادة التوافق لذاته بما ينسجم مع الناموس الكوني. وقد عبرت الأفلاطونية عن هذا الخلاص بابتكار فكرة الديالكتيك التصاعدي، داخل البناء الذاتي الذي سيناظر تعاليًا نحو المثل. في حين أن الديونزوسية تقف عند حدود التعارض وتجعله غاية في ذاته. ولا ترى له تجاوزًا جدليًّا، بقدر ما يعاني من تعمُّق لشرطه التراجيدي كما هو. وقد يرد نيتشه بذلك ليس على الأفلاطونية الإغريقية، بل على العقلانية الهيغلية القريبة منه. إنه يطرح الاختلاف مقابل ذلك الجدل التاريخي الذي يريد إعادة الهوية بين العقلي والواقعي عبر التقدم الجدلي. وهو حين يقول «إن التراجيديا القديمة (الإغريقية) [إذا كان ظهر] أنها ضلت وأُفسدت [بتأثير] الاندفاع الديالكتي نحو المعرفة، ونحو تفاؤلية العالم، فينبغي أن نستنتج من ذلك أن هناك صراعًا أبديًّا بين المفهوم التراجيدي والمفهوم النظري للعالم.»١ فالجدل الأفلاطوني أفسد التراجيديا الديونزوسية في الماضي، كما أن الجدل الهيغلي قد أخضع الحداثة لمنطق الهوية، وأعاق بذلك مولد التراجيديا المعاصرة، وظهور فلسفة الاختلاف متأخرة، مع نيتشه نفسه.

الانهمام بالذات لا يجد سعادته خارجًا عن معاناته التراجيدية؛ فالوصول إلى التوافق التام مع الذات رغم استحالته، ينبغي الإقرار أنه يشبه انعدام الذات، أو سكونيتها العقيمة. ذلك أن الصيرورة هي في الكائن عينه قبل أن تقع في العالم حوله؛ إذ إن تراكم المعارف الأخلاقية والسلوكية والصحية حول طريقة التعامل مع الذات، سوف يحجب واقع الاختلاف العميق في بنية الكائن، فكان الانهمام الذاتي أقرب إلى ممارسة الحوار مع الفن والفكر منه إلى المعرفة المقوننة؛ إذ يجد فيهما استشعارًا أقرب إلى دراميته الخاصة. وهنا فإن الانهمام الذاتي عينه قد يغدو جزءًا من التفكر الفلسفي في جوهره، ليس تحت صنف الأخلاق، بل في عمق السؤال الميتافيزيقي نفسه. وهو الأمر الذي تحاشى فوكو، مبدع المصطلح، الولوج إلى غاباته مجددًا، كيما لا يعيد إنتاجًا هيدغريًّا مماثلًا، لكنه ترك هذه المهمة إلى زميله دولوز كيما يقوم بأشمل مَسْرَحة للاختلاف عبر أعلى انهمامات الذات، في نتاج الفكر والأدب والفن. فالاختلافي يحلُّ مكان مصطلح التراجيدي، لكنه يحفظ له جوهره التمعيني، بعد أن يجرِّده قليلًا من طابع التهويل شبه الأخلاقي، أو التشميلي. فلا يطغى الجانب النظري، والتنظيري على التراجيدي؛ وبالتالي يغدو الانهمامي تنويعًا ذاتيًّا على التراجيدي نفسه، بما يقدم الثاني إلى الأول من مادة التجربة المباشرة، والمعاناة الفردية، التي يشتركان معًا في تشكيل خطابها اليومي وإعلانها عن نفسها. فالانهمامي ينقل مركزية الفعل من التاريخ كمفهوم تشميلي لكل المفاهيم، إلى الذرة الصدفوية الأولى التي هي الفرد. ترتفع تلك القدرية الأفلاطونية، وما بعدها تلك الحتمية التاريخية على طريقة هيغل، عن كاهل الكائن الذي لا رصيد له في الواقع إلا الفرد، وتجربة انهمامه بذاته والعالم في لحظة واحدة؛ فالتراجيدي لا يقفز فوقه إلا ليلقى تراجيديًّا آخر؛ وبالتالي لا يمكن مَذْهَبة الفرد كما لا يمكن كذلك إلغاء التاريخ بتحديد غائيات قَبْلية له. ويضيع الكائن كلما تم تجاوز مفرداته التفصيلية، وهم الأفراد الذين لا يتشابهون إلا في تغيُّرهم الدائم.

وبعدُ فإن الانهمام لا يسبق موضوعه، كما الشاعر تكتبه قصيدته، والرسام تلوِّنه لوحته. كذلك فإن حلَّ الانهمام كإشكالية ذاتية لا يكون بتجاوزه إلى سكون اللامبالاة، لكنه في إعادة تأزيم المأزق ولو تحت تسميات أخرى. فما يدفع الفنان المبدع إلى معاناة اليأس بعد انقضاء الفرح بإنجاز ما، هو مواجهة العدمية من جديد. والمرء كذلك بدون انهمامي ذاته، فإنه متروك للاستنساخ، أو لأن يصبح صدفة لسواه، لكن مثل هذه الحالة هي السائدة، والاستثناء هو رهان الانهمام. ولا يصير المرء انهمامي ذاته إلا بتمزيق هُويته كل لحظة، وفي البحث عن أصل الهوية في كل ما يُفاجئها، ويغايرها. كأن الانهمام هو نقيض مبدأ الحفاظ على البقاء. إذ ينبغي فهم البقاء بمغادرته دائمًا، بالمجازفة به، فهو البقاء الأقرب إلى الطبيعة الكاوسية، وليس إلى الطبيعة العلموية؛ إذ إن الانهمامي ليس باحثًا عن المعرفة ليفرح باكتشافها فحسب، بل ليجعل منها حقيقته البسيطة، حتى لو كانت تفصيلًا عابرًا، وخطابًا صدفويًّا. ليس مضطرًّا لتعليل أفعاله وآرائه، بل يدعها لتلقى تأويلاتها غير المتوقعة، من لدن الآخرين، المنشغلين كذلك بلغزية ذواتهم الفارغة؛ فالحقيقة الانهمامية، ليست لُقيا جاهزة، بل لا بد أن يشرع في صنعها أو تدميرها؛ لأنه لا يعرف لها قانون وحيد. كحال الفنان الذي هو أرستقراطي المزاج والعطاء. ليس له إلا نتاجه برهان استثنائيته من المعهود والشائع. مع الفارق وهو أن النتاج الانهمامي ليس معروضًا إلا أمام منتجه، صاحبه فقط، بالرغم من سلوكياته المنعكسة نحو الخارج والغير، وما هو ذلك النتاج إن لم يكن يؤلف ثمة جمالية أخرى يتذوقها صاحبها أولًا. كما لو أن هناك ذائقةً أخرى توصف بالانهمامية، وتتقارب مع الذائقة الجمالية (الإستطيقية)، في كونها ثمرة خاصة للحساسية، لكنها ليست تلك الحساسية المنفصلة عن المفهوم المرتبط بالحكم، كما عند العقل المحض الكانطي. إنها بالأحرى قد تدفع إلى إنشاء النقد الرابع بعد المحض، والعملي، ونقد الحكم. ولعلنا نتمكن من اعتبار «الكينونة والزمان» محاولة أولى لرسم مدخل نحو النقد ذاتي الانهمام الذي شرعه هيدغر. ووضع له الكينونة معيارًا لكينونتها، من خلال مصطلح: الأصالة [شرط تجريدها من ذاكرتها الاستعمالية في السرد العربي الشائع.] وهي L’authenticité. ذلك أن الأصالة هنا هي الفوز بالذات دون ذاتوية. والأصل هنا هو ما يؤسسه الكائن باعتباره هو ذاته.

إن نقد الانهمام الذاتي هو كتاب نقد العقل الرابع الذي لم يؤلفه كانط، ولم يكتبه بعده أحد، وإن كان خط التطور من الحداثة الكلاسيكية إلى الحداثة البعدية قد عين الاتجاه، وراكم المواد التفكيرية المطلوبة من أجل تحقيق خصوصية هذا النقد الرابع. وقد قلنا إن المؤلف الرئيسي لهيدغر ربما يشكل مدخلًا، ويغدو بمثابة فنٍّ مؤسس لهذا النقد، وإن لم يحمل عنوانه الحرفي. وهو افتتحه ولم يغلقه. وما زال البناء عليه مشرعًا أمام المجتمع.

من التَّشْظِية إلى «فن» الانهمام

إن استرداد مفهوم الكينونة مع هيدغر، بعد غياب طويل قد يعادل تاريخ الفلسفة الغربية بتمامه تقريبًا، واستعادته على الطريقة الإغريقية مع اختلاف جذري في التمعين والمقاربة، يؤكد من جديد أن سؤاله للكينونة ليس هو في صميمه إلا سؤال الانهمام الذاتي عينه، وأنه لم يعُد ثمة معنًى لأي طرح كينوني إن لم يكن محملًا بمعاناة تخصُّ الذات أولًا؛ فالمعرفة البرهانية اتحدت مع العلم. ولم يتبقَّ إلا تلك المعرفة الأخرى المتحدة بالكائن عينه، والتي لا يمكن التعبير عنها إلا من خلال العميق والأعمق من استشعار الكائن بدنوٍّ من كينونة منسحبة دائمًا: لا يحيط بها لكنها تسكنه. ولا يلتقط لها ثمة إشارات إلا من إشارته لذاته، عنه وبه. إنها جسديته الجوانية التي تسعى إلى تجسيده في جوانية العالم. وهو يعلق عليها رهانه شبه المستحيل في الفوز بذات تفرض عليه انفلاتها الدائم، ويستفزه مجهولها عبر حضور متسلط لا ينفك عن استفزازه وتحديه. وهو مجهول يتمتع براهنية استثنائية لا تعني أحدًا سواه، وتلك هي أخص حالات الفردية وأعمقها درامية … لأنها تريد أن تصل بين فرادة خصوصيتها ومشروعيتها الكينونية. إنه ذاتي الانهمام حسب نموذج يتعدى الأخلاق والإتيقا معًا. لا ينطبق إلا على مبدعه الأساسي، وانطباقًا صدفويًّا كذلك. تلك هي الفرادة الفريدة التي تحاول سكنى العالم شعريًّا. وفي ذلك الوقت الذي تتحطم فيه نمذجات البطوليات المهزومة سلفًا بمصائرها المغدورة بأيدي أصحابها أنفسهم قبل الآخرين، قد لا يتبقَّى إلى ذلك اللحاق السري بمجهول الذات، على أنه يشكل وحده أخص ما يخص الذات؛ فهو المجهول الأقرب إلى السرية، وما يكاد يميز الفرد في النهاية، هو سرُّه. وقد اعتبر التحلينفسي أن السرية ليست سوى ذلك الحيز الذي يمتنع على الآخر أن يشارك فيه صاحبه أدنى مشاركةٍ أو أقلها.

ومنذ أن أقام ماكس شيلر ما يشبه مذهبًا فلسفيًّا متكاملًا على أطروحة «التعاطف» التي سبقت نظرية «التواصل» ومؤسسها المعاصر هابرماس، فإن الانهمام الذاتي حاول أن يجد سياقه المفهمي تارة تحت ظل الاستبطان الأقرب إلى علم النفس الذهني — كما كانت بداياته خلال القرن التاسع عشر، أو أنه ينضوي كذلك تحت نوع من لقاء الأخلاق بالاجتماع بالسياسة، كما قاربته تواصلية هابرماس، فإنه قد يرجع إلى فوكو، في إعادة تعيينه باسمه، والبحث عنه خلال تاريخ يكاد يخصُّه وحده. ولم يكن مثل هذا التخصيص ممكنًا، لولا استرداد هيدغر الكينونة إلى مركز الانهمام بصيغته التساؤلية، في الوقت الذي كاد التحلينفسي يتقاسم ساحة المايحدث الفكري مع الأدلجة الماركسوية في الغرب الأوروبي، وذلك خلال الربع الثالث من القرن العشرين، فكانت سلسلة «تاريخ الجنسانية» في كتبها الثلاثة — الناقص منها كتابها الرابع الواعد به فوكو قبل غيابه المفاجئ في أوج عطائه مع مطلع الثمانينيات — كانت أشبه بتصفية تلك المَسْرَحة الفكرية الأيديولوجية الغنية والفريدة. إنها التصفية الداعية إلى ملاقاة أصل الإشكال التمعيني كله، وهي الذات، لكن هذه المرة ليست الذات كبديل من المطلق الإلهي الذي انقضى أوانه، والتعويض عنه بألهنة الإنسان، الذي ليس له إلا حامل واحد مشخص: الذات، لكنها تلك الذات المشظاة. بما يعني أن المعطى الأول في مقاربتها إنما هو واقع التشظية وفوريتها المباشرة. ولو لم تَحُز هذه التشظية على آمريتها الخاصة من فوق ومن بعد كل ذاتوية أخلاقية، من نوع الثنائية العنيدة وقطبيتها التحكمية: ألهنة الإنسان/أنسنة الإله، خلال قرون الحداثة وحلم السيطرة الواحدية على العالم، فإنه لم يكن مقبولًا أن يغدو تدمير الذاتوية المضخمة أهم حدث لانبثاق الحداثة البعدية. لم يكن منتظرًا أن يغدو تفتيت الذاتوية هو الشغل الشاغل لفكر العصر المعاصر، منذ أواخر القرن العشرين؛ فقد جسَّد هذا القرن الأذل أهوال الذاتويات المطلقة التي حملتها العنصريات القوموية والأدلجات الطبقوية، وكانت كلٌّ منها تبشر العالم وتقسره على الانقياد لها احتكاريًّا فيما تشرعنه وتحرمه. فالإصغاء إلى حديث «ذات ضعيفة» منخفض ومتقطع، لم يَحِن أوانه إلا بعد أن استنفدت الحضارة تجاربها المهولة مع الصنميات الذاتوية، سواء المفارقة أو المحايثة. ومع ذلك فليس ثمة مَن يمكنه أن يطلق حكمًا على أن التصفية قد بلغت أهدافها؛ فالحنينيات إلى أسطرة الفردانية حسب الأسطرات الإغريقية، قد لا تكون تمهيدًا تاريخانيًّا لولادة ذاتية حسب إشارات الانهمام الذاتي، وليس توصيفاته فحسب، هل جاءت — هذه الحنينيات — بعد فوات الأوان متأخرةً عن لحظتها التاريخية الإغريقية ألفيتين ونيفًا فقط من السنوات، أم أنها ليست ذاكرة متأسية بآمالها المغدورة، ولكنها ذاكرة تخص صناعة مستقبل يمكن للإنسان أن يعاود بُشراه لنفسه؛ أنه قد يسكن العالم شعريًّا يومًا، كما حلم هولدرلن، وفَلْسَف الحلم العظيم هيدغر، بعد أن أبلاه الإنسان سكنًا ذاتيَّ التصحير، عقيمًا.

لا بد من فهم جديد للذات ينطلق أصلًا من الاعتراف، ليس بعظمتها أو إطلاقيتها، ولكن بما تنطوي عليه أصلًا من المحدودية، والبعثرة، والرخاصة، والعجز عن مقاومة العالم. فإن حديث الذات للذات غالبًا هو حديث الضعف واللاجدوى. وقد اعترفت الفلسفة قبل سواها بالنقص كأصل لوجود الإنسان، ثم وأن الفلسفة اكتشفت أيضًا، ذلك البركان الهائل من العزم على الفعل، من الرغبة، من إثبات الذات في هذا الفرد الهالك نفسه. فإن ما يدفعني إلى الحياة هو انتقاصي من الحياة. ذلك هو اكتشاف تيار الحيوية منذ البداية، وصولًا إلى اعتبار المعطى الحيوي هو نفسه نوعًا من الانسراع لا يلوي على شيء؛ فالذات حركية ساكنة أو نائمة تحت سطوحها، لكنها متواثبة من الحس والفعل والتفكير. وما يتبقَّى لي من ذاتي هو إدراكي غير الحاسم لنوع من الاقتدار الحبيس، في أوعية من بطء الزمكان نفسه الذي اندرج في سياقه، ويحيط بي من كل جانب. وتلك هي أهمية اكتشاف الجسدي فلسفيًّا؛ لأنه وحده المتحرك بأعضائه ووظائفه الفيزيولوجية، ويعرضني دائمًا من خلال حركاته وتبدياته المتلاحقة والمتغيرة، فإنني أزرع العالم حركة في كل اتجاه. ومع ذلك ليس لي إلا حدود جسدي الصغير، كمساحة تظل ملكي الخاص، بينما تنتمي هي إلى مساحة العالم كلها، وكما يقول باسكال، فقد يحتويني العالم ويستوعبني كنقطة في بحره، لكنني وحدي أفكر ذلك وأفهمه. وهنا يمكن لهذا الجدل العقيم بين الذاتوية والموضوعية أن يتلاشى عبثه العقيم.

ذلك أنه بين القطبَين: الفرد والعالم، نمت مفردات مشتقة من قاعدة الشخصاني التي نحَت منحى أولوية الباطن على الخارج، وأسست أقانيم الفرداني والاستثنائي، والوحداني، وكأنها تنويعات اجتماعوية على ثنائية المنفتح والمنغلق؛ فمرة ينشدُّ «الشخص» إلى أقصى زاوية داخل معتزل جسده، وتارةً يقذف به ذرة معدومة الهوية في بحران المجموع الغفل؛ فالشخص هو لا أحد، لكنه هو عين نفسه في آنٍ معًا. وهذا التأرجح أو النواس بين ما أعرفه عن نفسي وهو لي وحدي، وما يعرفه الناس عني، وهو لي ولهم قد يشكِّل المسافة المعنوية بين الشخص والشخصية. الأول مرادف للأنا، والثانية هي وجه الأنا بالنسبة للآخرين، وقد تغطي الشخصية على الشخص إلى درجة أن الفرد يتنازل إرادةً أو قسرًا، أو بحكم العادة عن شخصه، ليلتحق بشخصيته المتداولة عنه، يغدو تابعًا لتضاريسها الاجتماعية. حتى جسده، تعاد صياغة مفهومه، وترسم هيئته المقبولَ منها والمرفوض، من قبل نمذجية الشخصية الملصقة به من قبل الجماعة.

إن الانهمام الذاتي يهدف إلى معاكسة هذا الجدل: أن يعيد اكتشاف الشخص الغفل من تحت قوالبه. أن يعيد نبش هُويته كإنسان من تحت كل تلك الأغلفة الاصطلاحية المتراكمة فوق أديمه. وتبدأ تلك العملية الشاقة، بانتشال الجسد من قالب الشخصية الملصقة بلحمه وجلده؛ فالإنسان ليس هو الشخص، ولا الفرد، ولا الشخصية، لكنه هو نفسه التي لم يرثها عن أي مصطلح؛ ذلك أن المصطلح قد يأخذ من الذات بعضها ويهمل بعضها الآخر، يبرز خاصية أو خاصيات ويتنكَّر لأخرى. ولا يبلغ المرء حدَّ الانهمام الذاتي إلا عندما يشرع في وعي مبعثر بما لم ينهمَّ به بعد، بما فيه الكفاية؛ ولذلك لا يفهم الانهمام حالة تأملية، بل انخراطًا عفويًّا ومقصودًا في الفعل؛ فالذات المبعثرة حركية، وفورية، ولا يمكن التقاطها إلا حركيًّا. وما تلتقطه الذات عن عين نفسها لن يكون إلا اختلافيًّا في كل مرة؛ فهي في مطاردة ومتابعة مستمرة لوحدة لن تفوز بها، ما دامت لن تتم أبدًا. ومع ذلك لا يكف الانهمام عن الجري وراء نقطة ارتكاز في كلمة، في حركة، في إشارة. لا يمكن أن يركن إلى نظام قبلي في الحس وضبطه، وانضباطه في مذهب ما للارتجاع أو الاستناد؛ لذلك تصادف وجود فكر ما للانهمام، في هوامش الأخلاقيات والإيتقيات، وليس في متونها الأصلية؛ فهو ليس من صنف المسكوت عنه، بل من صنف المبحوث عنه، لكن دون جدوى؛ إذ إن أخص ما يميز الذات هو انهمامها؛ لأنه يعبر عن طريقة تعاملها مع عين ذاتها؛ فالتعرف الوحيد المقبول في ثقافة الانهمام، لأقنوم الهوية، هو ما تعنيه طريقة التعامل مع الذات. وهذه الطريقة هي الكفيلة وحدها بتشكيل خطابات حول الخصوصية التي لا سر فيها، إلا أنها بدون سرٍّ أصلًا. أو أنها مجرد إشارة إلى ما يُشبه السر.

لا يمكن الكلام عن استراتيجيةٍ تلصق بالانهمام أو يلصقها هو بنفسه؛ ذلك لأنه محبط للاستراتيجيات الوافدة على الذات. كل مسعاه هو أن يبقى الراهن في أزمنة التتابع والمغايرة، في أمكنة التنقُّل والمغادرة. والراهن يخرج عن جدلية الثابت والمتحول العامية؛ لأنه الموجود اللاموجود في كلٍّ منهما معًا؛ والمستثمر لإنتاجاتهما دونما أدنى خضوع لأيٍّ من خطابَيهما. وليس ذلك لقوة استثنائية يخترعها الانهمام لذاته، ولكن لسقم من لغو الهدف والاستهداف؛ فالإرادوية وسياستها متروكتان للأخلاقويات والسلوكيات الانضباطية؛ ولم يتصاعد الاهتمام ﺑ «الانهمام» إلا على أنقاض مذاهب الخير والشر، ومذاهب اختراقهما كذلك، في آنٍ واحد. وقد يلقى الانهمام بعض مكان له في نوع من الأنطولوجيا الانتقالية التي قد تدري تمامًا بما عليها أن تتجاوزه، دون أن تكون كذلك تمامًا بالنسبة إلى ما تتوجه نحوه؛ فالمسألة لم تعُد في ألهنة الإنسان، أو أنسنة الإله، ولكن في اكتشاف المقعد الثالث خارج تلكما الحلبتَين معًا.٢ وقد شغلت الثقافوة من الفلسفة نفسها وعلوم الإنسان والفكر ما فيه الكفاية ويزيد عنها، في تسريد شئون كلٍّ من الحلبتَين تشخيصًا وتفنيدًا للآخر، أو تبريرًا للنقيض، وكذلك تجسَّد التسريد في حدثيات التاريخ وأهوالها؛ فلم يبقَ إلا الخلاص من المسرحية، وأضداها، ومنهما معًا، والانتهاء من استعادة عروض فقدت مسرحها وكاتبها وممثِّليها وجماهيريها.

فلقد كان التفكير محصورًا طويلًا تحت ظل الإله الجبار الموجود كل الوجود لوحده، ثم صار التفكير، في غياب الإله، فالتًا باحثًا عن بدائله، عبر أقانيم إرادوية من الحتميات الإطلاقية، المنسوبة إلى التاريخ تارة، وإلى المجتمع تارة ثانية، وإلى النفس ثالثة (هيغل، ماركس، فرويد)، ثم إلى الاختلاف عن كل هذه الأسطرات (هيدغر، دولوز وفوكو). فتم إشباع حقبة كاملة في البحث عن الآخر. وعاد الانهمام مجددًا وأخيرًا، إلى حالة: ذاتي الانهمام، أي ذلك الاهتمام الذي لم يعد يجد موضوعًا له إلا نفسه، إلا التفكير في عاديته المثيرة. والمثيرة مع ذلك؛ لأنها غير متوقعة، ولا مناص منها. لن يكون هذا الانهمام العادي والفذ معًا، تفكيرًا في حضور أو غياب مركز، كالذات أو الآخر، ولكن في غيابهما معًا؛ فهو المعول على نفسه، مؤسسًا نفسه كأنه الغياب الثالث الذي يتجاوز ثنائية الغياب أو الحضور للواحد أو الآخر.

هذا التجاوز الثالث هو الأصعب؛ إذ إنه لا يزال يكافح كيما يطرد من ساحته، أشباح التمثيليات المستعادة من حين إلى آخر، عن الأسطرات السابقة التي تتشبث سواء بالذات أو بالآخر كمجتمع، لتدعم مرجعيات مفارقة لهما معًا، ومتضادة ما بينهما، كاللاهوت التيولوجي أو الناسوت المؤدلج؛ فقد كان الفرد لا يقتنع بنفسه ولا يقنع بها. ولا بد له من مرجع خارجه ويتجاوزه، وقد يبرره ويمنحه بعض أمانه المفقود؛ فالانقسام بين المثالية والوضعية، لم يفارق مختلف السرديات الفلسفية والاجتماعية. وقد يجد من يتناوله من جديد، ويحلل أعراضه، بأصولها النظرية وأقنعتها الفكروية والعلموية الحديثة والمعاصرة، وحتى في نهايات الألفية الثانية، وهو بورديو، الذي كان لا يزال يتمسَّك بمفهوم الطرح العلمي بالنسبة لمقاربة الإنسان، كحل لإشكالية الثنائيات العقيمة تلك، من خلال كتابه الأهمِّ في إنتاجه كله، وهو: تأملات باسكالية.٣ فكل ما عدا هذا الطرح العلمي، في رأيه إنما يجدد المقاربات المدرسية (السكولائية) للقرون الوسطى وامتداداتها العصرية.
وقد يصحُّ مثل هذا التحليل ما دام الموقع الأصلي لبورديو نفسه لا يزال يتخبَّط على حوافي هذه السكولائية المتمادية عصريًّا عينها، وحسب مفهومه لها. وقد لا يتنبَّه مفكر اجتماعي من حجم بورديو، إلى القول إن الفردوية هي نتاج اجتماعي؛ فالجماعة هي التي تصوغ نمذجات ثابتة يسعى الفرد إلى تلبسها عن إرادة، أو بدونها. لا بد من الخارج حتى يتمكَّن الداخل من تحديد رؤيته وتقييمه لداخله وخارجه معًا، لكن الخارج هو كذلك من إسقاطات الذات؛ إذ لا بد للفرد من أن يستمع إلى صوته الخاص وهو يصغي إلى أصوات الآخرين والعالم من حوله؛ فالجسد المعزول ليس عضوانية بيولوجية، ووظائفية فيزيولوجية فحسب، بل هو كذلك إحساس بالاغتراب داخل الجماعة. هناك المكان المادي نفسه وليس فقط المكان الاجتماعي الذي يترك مسافات معينة من الأفراد. ونظرية ستراوسون P. F. Strawson حول «التمايز» تعطي لتوزع الناس حسب الأحياء الراقية أو الفقيرة، وإشغال المكاتب، والعناوين البارزة أو الضائعة، أي كل ما هو مادي في الأرض والتوزيع السكني والوظيفي، والتبعية لرموز الأمكنة والمقامات والوظائف، تعطيها حدودًا وتمييزات تؤسس «شخصية» الفرد، وتنسج خصوصيته.٤ كما لو أن الأفراد يحملون تبريراتهم حسب مواقعيتهم المكانية أولًا، وليس حسب أدوارهم الاجتماعية، على كل حال فإن نظرية التمايز المواقعي أو الدور الاجتماعي، تحاول أن تمنح مبدئية الأولوية الأنطولوجية — إن صح التعبير — إلى الوسط المكاني الاجتماعي، لكن ما يقصده الانهمام الذاتي هو نوع آخر من المسافة المفهومية، إن شئنا، بين الذات، وما تتعامل معه، من بقية التعيينات الاجتماعية كالفرد والشخص والشخصية، وحتى الهوية والدور والموقع … إلخ، مثل هذه المفردات ليست مرجعيات إلا بالقدر الذي يبرز اختلافها؛ فالتمييز الموضوعي ينبني على التمايز الذاتوي ويحيل إليه. ومع ذلك فإن مثل هذه التعارضية المتداخلة إنما تمسرح دلالاتها وأوصافها، بما يشفُّ عن بعض نشاطية الانهمام الذاتي. وما دام كل فرد يحمل خارطة هيئاته وسلوكاته معه، فإنه لا ينجو من أعباء «الشخصية» الملتصقة به. ومع ذلك قد لا يفارقه شعور أنه هو شيء، وشخصيته تلك شيء آخر؛ فالذات هي مسافية الاختلاف دائمًا حتى عن كل ما هو الأقرب إليها، إلى درجة الالتصاق. فما إن يقال عن شخص إنه هو كذا، حتى يحس فورًا أنه ليس كذلك تمامًا، مهما تلبَّسه ذلك التعيين.

هذا هو حسُّ المغايرة الذي ينعم به فضاء، يخص الانهمام الذاتي، ويميزه عن علوم النفس والاجتماع والأخلاق والتربية. فقد تكون له حصة في كلٍّ منها، لكن حصته لنفسه تخصه وحده. وهي التي تنبِّه التمعين الفلسفي كذلك، وتثير استطلاعه بصمت.

إن ما يحدِّد علاقتي بذاتي ليس حصائل تلك العلوم المعرفية الغنية، التي لا يمكن إهمالها ولا التقليل من شأن أفاعيلها على المتابع لأبحاثها والمنتفع بتنويراتها؛ لكن ثمة مَلَكة أخرى، قد توصف بالوجودية، وتشكل ما يشبه ذائقة الإبداع الفني، وتتعلَّق فقط بالمبدع الوجودي، الذي يتعدَّى الحقل المعرفي، كما الحقل الفني؛ لأنه يريد الجَسْر على علاقة الفصل والوصل بين حدَّي الحياة والوجود، من جديد. ودائمًا من جديد؛ لذلك يصير الانهمام بالذات يستحقُّ ذائقة مغايرة تخصُّه وحده. وينتظر «نقدًا للعقل» رابعًا، حدست به كل كتب النقود الثلاثة الكانطية، وكان المبرر الأعمق المتنامي والمحاور لكل مفهماتها. والتقت شتاتًا منه كل فلسفات الحداثة الكلاسيكية والمصححة بعديًّا، لكنها لم تخصَّه بكتابه المنتظر بعد، حتى فوكو الذي أشاد صرحًا شامخًا لنقد النقد، ورسم أركيولوجيا حقيقية لاستراتيجية الانهمام بالذات، فقد توقف تأليفه، وعمره معًا، قبل أن يستكمل كتابه الرابع من «إرادة المعرفة»، ويبلغنا معه مقام ذائقة الكينونة بطريقة ذاتي الانهمام، وفي الواقع يصعب على النظر الفلسفي الاعتراف بمَلَكة تسمَّى بذائقة، يكون موضوعها الذات عينها، وليس حالة من حالاتها، وكان أقرب إلى التناول في هذا السياق حديث الوجود الإني، كما هو متعارف عليه في تاريخ المصطلح الأنطولوجي، لكن «الذاتوية» شغلت الحيِّز الأهم والأخطر منذ أن انتزعت العقلانية الحديثة أقنوم الذات من المسيحية، وأعطته تشخيصًا محايثًا وكونيًّا في آنٍ واحد. حتى احتاج الأمر إلى قيام فلسفات الاختلاف المعروفة من أجل تهديم الصروح الإطلاقية التي بنتها مذاهب الذاتوية الكليانية. ولا يزال الصراع ضد استنساخات هذه الذاتوية المعاصرة، يكتشف ساحات متجددة لتأويلاتها الفكروية التجريدية، وتطبيقاتها الأخلاقوية والسياسية المباشرة. فلا ننسَ أحدث استنساخ لها وأشده وطأة على الفكر، وهولًا على العالم، ونعني به العولمة التي هي قصووية النموذج الذاتوي المعمم على الخصوصيات الثقافية كلها تحت ضغط الأمركة، كما لو كانت — هذه الأمركة — المصير الواحدي المفروض كنهاية لتاريخ الإنسان على كوكب الأرض. وهي نهاية تخترع وهم اتحاد العقل بالواقع؛ في حين أنه ليس من زمن كعصرنا يشهد أكبر تعسف في تمويه تضادات هائلة بينهما، لكن مصلحة المركزية الجديدة، تختزل كلًّا من العقل إلى التقنية، والواقع إلى سيطرة المالك الاحتكاري على التقنية. ولا تبقى للذات إلا التماثل مع قاهرها.

لقد تأخَّر الاعتراف بذائقة مستقلة للذات، وانهمامها بنفسها، ما دامت الذاتوية (بالحرف الكبير) تسيطر على الفكر والتاريخ معًا؛ فالفارق بين الكلي والكلياني لم يكن من السهل الوعي به، لا على مستوى التجريد، ولا على مستوى العمل والممارسة. والذات هي أقرب ما تكون للاندفاع مع سلطة التوسيع والتعميم، فإن التمييز بين حس الاقتدار، وبين القدرة على التسلُّط، بين أن يكون المرء حرًّا في ذاته، وألَّا يكون حرًّا إلا في سلب حريات الآخرين، لا يتوقف حسم الموضوع على الأوامر المعيارية التي احتكرتها الأديان، ثم الأخلاق الوضعية والأيديولوجيات السياسية. ذلك أن التاريخ احتاج إلى كل أهواله المعروفة والمجهولة، من أجل أن يفسح مكانًا ضيقًا لفَهْم مختلف يتعامل مع الاقتدار، في مسافة عقلانية واضحة بينه وبين الممارسة السلطوية؛ فالنظرية المعيارية لا تستطيع أن تقيم الاقتدار في وقته الذاتي، ولكن في أثر هذه القوة خارجه. ومن هنا فلا يستطيع الانهمام الذاتي أن يشكل حكمًا، ولا أن يكون موضوعًا لحكم. فما يعنيه الفرد بالنسبة لذاته يسبق النطق؛ وبالتالي الحكم. ولعل مثل هذا الوضع الأنطولوجي هو الذي دفع إلى اختراع مبدأ الثبات في هُوية سابقة على أفعالها، كمبدأ متعالٍ في ذاته. غير أن ما يعنيه الفرد بالنسبة لنفسه ليس جوهرًا قائمًا في عمق الشخصية، لكنه قد يكون أمرًا جوهريًّا دون أن يقع الإمعان في ذات النفس، كأنه جوهر أو حقيقة مستقرَّة. وقد أعار المجدِّدون، في الأخلاقية ما بعد الحداثية، انتباهًا إلى مفهوم استقلال الفرد، باعتباره أحدث تعاملٍ مع هُوية لم تعُد مبدأً متعاليًا؛ فالاستقلالية غدت أحدث تعريف للفردية المتصالحة مع نفسها من جهة ومع الخارج بطريقة الاعتراف المتبادل. وهو وضع فكري مدني متقدم يسمح بإنتاج أفراد عاديين ومتمايزين في وقت واحد، وغير تمييزيين كذلك. ما يعنيه الإنسان بالنسبة لذاته هو ما يتبقَّى بعد كل تعريف هووي أو توصيفي، أو تحديد اجتماعوي أو قانوني؛ فهو يرمز إلى تلك الفعالية من الذات التي قد تؤسِّس الفرد مستقلًّا وليس انعزاليًّا، أحدًا وليس أوحد. وهي الناحية التي قد يتذوَّقها الفرد وحده، دراميًّا أو شعريًّا، انهماميًّا أو اعتياديًّا لامباليًا، لكنها تظلُّ حصته غير القابلة للمشاركة من قبل أحد. ذلك هو امتيازها وضعفها في آنٍ. ومع ذلك فهو امتياز يتمنَّى الفرد مشاركة الآخر في تقديره والتحسُّس به، دون التملُّك منه تمامًا، دون أن يمكن هذا الآخر من استعارته إراديًّا، أو مصادرته قسريًّا، إلا تلك الأحوال الخواص، من التعاطف والصداقة والحب، فإنها تقدم أساليب أخروية، من التشارك في هذا الخاص، المتمنع عن البذل إن لم يلقَ بذلًا مقابلًا لدى الشريك الآخر. فما يمنعه الفرد عادة عن الآخر يتمنى أن يتلقاه منه، إلا في الحب حيثما يبدو أقصى البذل بأخص الممتنع على البذل لدى كلٍّ من الشريكَين تجاه الآخر، نوعًا من الوقود السري الثمين لحياة الحب واستمراريته.

فالانهمام الذاتي يجعلني أحتفل بنفسي في حالٍ من غياب العالم عني؛ أو هكذا يبدو الأمر للوهلة الأولى. كأنما يضع المرء نفسه على حِدَة دائمًا، وفي حين أن الجسدي يحتلُّ حيزًا فيزيائيًّا محسوسًا ويمكن ترسيمه هندسيًّا، فإن الإحساس بذات النفس لا مكان يتسع له؛ وبالتالي فإن ثمة حياةً فكريةً وحلميةً وعاطفيةً عارمة أو فقيرة، تخص ذلك الحيز المعنوي المسيج بالجسد ضد الخارج، لكنه المنفتح على الداخل. وقد يبدو أحيانًا انفتاحًا على عمق لا قرار له لأنه ممتلئ بفراغه وصمته فحسب. ذلك هو مبدأ الانفصام بين الذات وأشباحها الداخلية؛ إذ إن تلك الأشباح الصاعدة من القعر الصامت، تريد أن تعوض عن فراغ الهُوَّة. كما أن وجوه الآخرين وأجسادهم، ملء المكان الوسطي، تقدم مرايا من كل جنس، عاكسة لذات متعددة الشخصيات والأدوار، لكن الانهمام يريد أن ينتشل الذات من أشباح القعر الفارغ في داخلها، ومن انعكاسات المرايا الخارجية من البشر الآخرين، وعيونهم وأجسادهم القائمة هناك.

كما أن العقل لا يختصر الفكر، والقانون لا يختزل الحق، كذلك فإن الفردوية أو الاجتماعوية لا تستوعب الذات؛ هنا تبرز الانهمامية توءمًا فكريًّا وجوديًّا لذات النفس، تنقلها من صيغة «الأنا» المتكلم والفاعل، إلى صيغة عين الذات التي تعود اختلافية نفسها بعد كل تلفُّظ وفعل؛ فالذات ليست مبدأ الحدوث، لكنها حادثة المبدأ الذي يفجأ نفسه؛ ومع ذلك يظل هو عينه، مغايرًا لها ومتغيرًا بها. ما يعني أن الانهمامية لا تعمل على مطابقة الذات لنفسها سواء عن طريق المعرفة (سقراط/أفلاطون)، ولا عن طريق اللذة السكونية مع أبيقور، أو الانسجام الإرادوي مع «الرواقيين». هذا البحث الشاق للذات عن ظلها شحن مفهوم التطابق بطاقة تاريخانية على اختراع «اليقين» وتجسيده في خيار إرادوي وحيد، تحت الاسم الجليل: الحكمة. فمن الذات المعرفية، إلى اللذية، إلى الذات التقشفية، وصولًا إلى الذاتوية الكليانية الفاتحة، مع الحداثة الكلاسيكية، فإن همًّا واحدًا وفريدًا كان يؤرِّق الفكر (والحضارة معه)، وهو بحث الذات عن «الوسيط الخارجاني» الذي يمكنه أن يعيدها إلى حال التطابق مع نفسها. وفي اللغة البسيطة كان ذلك البحث يسمَّى بالسعي إلى السعادة. وقد صارَت الحكمة الدليل الأقرب الذي يقود هذا السعي، وينقذ الإنسان من الضلال، لكن هذه الحكمة هي التي التي ضلَّت نفسها كذلك.

لم تعُد تجرؤ على ادِّعاء الهداية؛ وقد تحول سؤالها عن الوسيلة إلى بلوغ اليقين، إلى سؤال اليقين عن ذات النفس. ولم يكن مثل هذا التحقيب ممكنًا لولا أن الذات استنفدت توقها إلى التطابق الكامل. اكتشفَت بعد عذابات الحضارة كلها، أن طلب التطابق إنما هو الركض وراء اللامتناهي. وهي لم تجرِ جَرْيها الهستيري خلفه ذاك، إلا لأنها كانت تصوغ نفسها لا نهائية، من جنس حكمة التطابق اللامتناهية الساعية وراءها؛ فالذات عندما أُتيح لها الاعتراف بالجسدي، لا كحامل لها، ولا كقطب مناقض لقطبها، ولكن كواقع مؤسس لنفسه بقدر ما هو مؤسس لها، حاولت أن تشتق منه أهم ما يميزه وهو أنه كائن الحياة؛ فهو يولد وينمو ويموت. إنه كائن التناهي بقدر ما هو كائن الوجود. وبدلًا من الانفصال بين الحياة كأقنوم للتناهي، والوجود كأقنوم للاتناهي، ولا عبور بينهما إلا من خلال الأقنوم الثالث الذي يحملهما معًا، ويتحمَّلهما وهو الإنسان، فإن هذا الكائن الاستثنائي — كما عبَّر عنه أرسطو في مطلع أول مبحث في الميتافيزيقا — هو المنوط به أن يحقق إمكان كلٍّ من الحياة والوجود كواقع جسدي ذاتي، وأن يُمَسْرح، من خلال درامية واقعة المتلبس ذاك، درامية العيش في كنف المتناهي، كطريقة في التقاط اللامتناهي وهو منسحب. بما يعني أن ذلك اللامتناهي ليس هو إلا سلسلة من المتناهيات، إلا تكرار المتناهي عينه؛ إذ إن المتناهي لا يعود هو نفسه أبدًا. وإن كان هو تكرار تناهيه. وهو التصوُّر الذي أطلقه أولًا نيتشه من خلال العَوْد الأبدي. وأعطى دولوز هذا التصور امتداده المنطقي، الحياتي الأنطولوجي معًا، بعد أن نزع عنه تصاديه الأسطوري. وأسَّس عليه منطقًا مضادًّا، للأورغانون الأرسطي عبر كتابه الفاصل: الاختلاف والتكرار. وقد راح يعرض تشخيصه من خلال مصطلح السلسلة بدلًا من المفاهيم الثابتة.

والمهم أن هناك جهدًا فلسفيًّا واعيًا يريد أن يتحرر من أسر الأقانيم الثابتة في التعاطي مع حركيات الصيرورة. والذات لم تعُد مركزًا في بحر من الصيرورات إن لم تكن صيرورة. لا تنطلق من مركز هووي، بقدر ما هي باحثة عن مركزية صدفوية آنية ومتحوِّلة؛ فهي مسرح صيرورات لا تتناهى. وكلما أمسكت بنمذجة معينة، داهمها انكسار النماذج المتخيلة أو المتوهمة داخلها وعلى أطرافها؛ فالذات موقع ملتبس دائمًا على الحد المتداخل بين فورية الحياة وراهنية الوجود، لكن هذه الثنائية التي تشغل التأمل التجريدي طيلة تاريخ الفلسفة، هي عينها التي تعيد اكتساب وحدتها عن طريق المعاناة الفردية والتجربة التاريخية؛ فهي ثنائية قد تنتمي إلى جهاز التحليل النظري للمساعدة على إنارة تشابكية المعاناة، وليست دليلًا قاطعًا على استقطاب ثنائي في صلب المعاناة نفسها. والخلط بين جهاز للتحليل والواقع التجريبي، جعل تيار الحداثة البعدية من نيتشه إلى دولوز، يجهد في سبيل قلب ذلك الجهاز، وتجاوز عدة التحليل والفهم المسيطرة على المذهبيات الفلسفية، بدون تمييز فيها بين المثالي والواقعي، العقلاني والتجريبي. ذلك أن تغيُّر أداة الفهم قد تغير من الفهم وطبيعة موضوعاته نفسها. وهذا ما يحدث فعلًا مع الموقف الجديد من إشكالية الذات؛ إذ يتحوُّل النظر من البرهنة على أحقية قطب دون الآخر، في أي ثنائية، إلى التمعين في طريقة تعامل الفكر معها.

خلال هذا المدخل لم يكن المقصود الاستغراق في تعريفات للذات، وما تثيره من إشكاليات برهانية أو أنطولوجية؛ إذ إن صيغة الانهمام بالذات، تسمح للمفكر أن يضع التعامل مع الذات في مركزية التساؤل بدلًا من أن يقبع في الأطراف أو الهوامش. بدلًا من «الذات» الكبيرة كأقنوم تلقاه في بداية كل تسآل، فإن التساؤل يمضي في طريقه أولًا، لينتهي إلى عروضات في التذويت. هنالك صيرورة-ذات، لا يمكن التقاطها إلا عبر «مجاميع» من الخبرات المتباينة، أو عبر «سلاسل» من الأفهومات الضعيفة، غير المؤهلة أصلًا لإنتاج النصوص الحاسمة على طريقة الذاتويات الكليانية التي استبدَّت بالمفهمة والممارسة معًا، فكرًا وحضارة معًا. فحتى لا تبدو الذات، أو الذاتوية، لعبة لغوية توضع في خدمة المشاريع التسلطية الكبرى في التاريخ، المعتمدة هي نفسها على لعبة المفاضلة العنصرية بين الأمم والثقافات، وحتى لا يبدو الأفراد مجرد نسخ بيضاء، تكتب عليها الذات الكلية نصَّها العمومي، فإن صيغة الانهمام بذات، بعيدة عن أن تكون صانعة أو مصنوعة، بيدها أو بسواها، إنما يحولها من صيغة الفاعل أو المفعول، إلى الفعل، بعيدة عن أن تكون صانعة أو مصنوعة، إلى وضع اللاتذويت Désubjectivisation، فإن اللاتذويت كفعل سلبي شكلًا، قد يعطي للفرد الحداثوي قوامًا إيجابيًّا، جديدًا حقًّا، يُشَرْعن أنطولوجيًّا للقوام المدني والحقوقي المعادل لمفهوم استقلالية الفرد. مع الفارق وهو أن هذه الاستقلالية ليست منحة يتلقَّاها الفرد من سواه، بل هي نتاج الجهد الفعلي المرئي لما يحققه الانهمام الذاتي، كشرعة غير تعميمية، وتبقى من اكتشاف الفرد لطريقة فرديته، أي لطريقة تعامله مع إنسانه. وهذا الجانب المرئي من جهد الانهمام لدى «كل» الأفراد، هو موضوع التواصل الحقيقي ما بين ذرات أو «موناندات» المجتمع المدني، الذي كان أول من حدس به ليبينتز، قبل أن يصير هذا الحدس محور نظرية التواصل عند هابرماس. فإن الدعوة إلى تشظي الذات، ليست سوى تحرير للجماعة من استبداد النمذجيات الكبرى اللاشخصية، بدلًا من فرض ذاتوية أو حدية، محايثة أو مفارقة، فإنه يُتاح للجماعة أن يتبارى أفرادها بابتكار ما لا يتناهى من الذاتيات اللينة، التعددية والانتقالية، وقد أصبح يُفضَّل إزاحتها كصنميات، واكتشاف ما وراءها من الفرديات، باعتبار أن مولد الفرد هو علامة الحداثة، وهو لم يرَ النور ولم يتطوَّر تطوُّره الخاص، إلا بقدر ما ماتت الذات وتشظَّت، لكن الفرد ليس هدية الحداثة الموعودة، بعد تجاوزها لتحقيباتها الفكروية والتاريخانية، إن لم يكن يجرُّ وراءه الذاكرة ملتاعة من نمذجيات الذاتويات المحطمة والمنسية، والمنبعثة والمستعادة باستمرار عند أول سانحة.

والانهمام بالذات ليس إلا آخر الفنون، عندما يغدو ذائقة الفرد لإنتاجيته من الذات الناعمة، أو الفرحة، أو الحرة، ومقاومة للذات (الاستهلاكية) التي ستضع حدًّا لكل هذا التراث الثري من البحث عن معنى الإنسان وإضاعته دائمًا؛ فالذات هي الضحية، كالجسد الذي يحملها، وينطرح منها. وليس تاريخ تمجيدها، ثم تهزيمها سوى تاريخ للتعامل معها. هذا التعامل الذي كان يصوغها ويدمرها ويعيد صياغتها، حسب الغَرَضيات التي ترصد من أجلها. وكان المشروع الثقافي الغربي حقل تجارب لها، متميزًا عن سواه لأنه كان مشروع الذاتوية المطلقة الفاتحة بلا منازع. واستطاع أن يرفع إلى صهوتها أخطر أحلام السيطرة الإنسانية وأبعدها وهمًا وعنفًا؛ إذ قرن الذاتية بالمعرفة. اخترع تجانسًا نفاقيًّا بين إرادة السيطرة وإرادة المعرفة. وحاول أن يغطيهما معًا تحت قناع إرادة الاقتدار.

هل يمكن أن يقرن هم الذات بهمِّ الحب. وهل يُعاد حلم إنساني، بإمكان سُكنى العالم شعريًّا.

تساؤل نكرره لأننا نحبه فقط.

١  لا يزال كتاب نيشته «أصل التراجيديا» يشكل التحليل النظري الأهم الأول، بوادر فكر الاختلاف، بالرغم من ثورة الفيلسوف على المنحى النظري، ويعني به العقلانية اعتبارًا من أفلاطون إلى هيغل.
٢  Luc Ferry: L’homme-Dieu, Grasset.
٣  Pierre Bourdieu: Méditations Pascaliennes, Seuil.
٤  P. F. Strawson: Essai d’une métaphysique descriptive, Seuil, 1973.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥