(٣) الحق بالتفلسف الحق بالحب
التجسُّد التجوهر
إذا كان أرسطو رفض أن يفصل بين الروحي والمادي فيما هو جسدي، ورأى أنهما جوهر واحد، فإن المعرفي الحداثوي يكتشف أن الجسد هو جوهره، وإنما ربما كان الجوهر الوحيد الذي تتلبَّسه ماديته، منجزةً إلى أقصى حدٍّ واقعي، وناقصةً إلى أقصى حد لا واقعي، ما دامت واقعيته لا تغلق صيرورته، بل تشكل لها مئونتها الدائمة، لما سوف يصير إليه الجسد في كل لحظة مستقبلية. وهو لا يصير بظواهره فحسب، بل بدواخله. إلى أن تجيء لحظة الفكر التي تعين الجسد كترميز لذاته، متحدٍ بموضوعه، كل آنٍ، ومفارق له. وليس «الوجه» فقط هو ساحة الرموز بامتياز وتفوُّقه وحده، بل كل عضو بارز أو ظاهر — في الجسد — قد يرتكب بعض ترميزات الوجه. وكذلك الجسد كقامة قائمة بذاتها؛ إذ إنه شكل هندسي متماوج الخطوط، وتخالف الزوايا: وسكونه جزء من حركيته. وهو ينحت في كل حركة تمثاله اختلافيًّا، ويبارحه في حركة تالية؛ فالجسد خامة تماثيل لا يَسعها خيال أهم نحات مبدع.
وهو الجوهر المادي، والمادة الجوهرية الحية المتحركة، والمنشئة لعالمها ظهورات لحمية وحركية وكلامية لا تتناهى، وتموج فوق دواخل سرية تظلُّ ملك صاحبها؛ فالجسد عالم داخل العالم، وهو قاعدتي لكل مغادرة، بما لا يمكن لأية مغادرة إلا أن تحمل معها قاعدتها دائمًا؛ فالعالم يتهددني بالضياع، والمكان تتباعد مساحاته الهائلة عن مساحة صغرى لقدمي، لكنني أُنشئ بيتي في العراء، يخرج العراء كله إلى بيتي، فأنا من ساحتي الضئيلة تلك، لا أقول إنني أردف العالم، بل هو يخرج إليَّ، وجسدي ليس سوى قصبة جوالة في فيافيه المطلقة، تتقاذفها رياحها المجنونة أو الصامتة من كل جانب. تعوي كل عوائها «الخارجي» المهوِّل في داخلي، هذا الداخل الذي يفرغني تمامًا ويمنحني خصوصية فراغي.
جسدي لا يعرفني، ولا يعرف أنني أصحبه، أوجده أو ألغيه، أخفيه أو أطقسنه. أعيد استعراء نفسي من خلال لفائف الألبسة والأنسجة التي أحشره لصق خيطانها الثعبانية. فأنا وراء «هيئتي» المستعارة، أمارس لعبة تناسل الهيئات المتغايرة الموهومة، وتمزيقها. فما أفعله بجسدي لا يغير شيئًا منه، بل من هيئاتي التي أسبغها عليه، وينجو هو من أشباحها، ليفرض عليَّ عراءه بطريقة ما؛ لأنه ليس هو إلا عراءه ذاك. وكل ما عداه دخيل عليه، حتى «الأنا» التي تتقوَّله، وتصير له لسانه ويده وإرادته، لكن دون أن يدري بها، أو بكل أفعالها تلك. فلست، بأناي وهويتي، وأهميتي، موضوع استفهام ما من لدنه، ولكنني مشغول به، ويفرض عليَّ كل قوانين طبيعته العضوانية، ويحشرني في مسلسل إيقاعاته، وينوب عني في كل أفعالي وحركاتي. ولا أنوب عنه في شيء إلا وهو شاهد عليَّ، وعليه. أجعله موضوع تعلاتي وأحكامي، ويظل هو حاكمي الأصلي، وكمدبر آثامي ومصائري الأخيرة. وجودي ليس سوى قصة جسدي. أتكلمها كلامًا، وأفعلها أفعالًا، وأنوء تحت مبادراتها ونتائجها.
إن حضور جسدي وجهوزه الدائم هو من طريقة حضور العالم مستقلًّا عني، وفارضًا نفسه عليَّ دائمًا. إنه من تلك الكينونة المهاجمة، المتغيرة، المجهولة، والمحيطة بي مع ذلك من كل جانب، إنه ليس من افتراضي ولا من مخيلتي؛ فالجسد هو أبعد ما يكون عن التصور؛ لأنه ممتلئ وجودًا، ومستمر حضورًا. والجسد يماثل الكينونة من حيث إن جهوزه، مقترن بمجهول أسبابه؛ فالجسد قد تتعرَّفه علوم الطب والطبيعة، ولكنها تظل جاهلة تجوهرَه كجسد. فهو بقدر ما يُبدي أعراضًا لا تتناهى، لكنه يحتفظ بتجوهره الأصلي، كسر أسراره كلها. تغمرني كل لحظة موجات أحاسيسه؛ يجعلني أتلقاه من جهات خارجة عن ذاتيتي؛ إذ إن له ذاتيته الخاصة. ولا أكاد أتعامل معها كآخر، لكنه هو كل ما أنا عليه، وما كنته، وما أنا كائنه وصائر إليه. ولا ذات لي بدون إعطائي حق وكالته الدائمة. قد أنوب عنه، متكلمًا عنه، وشارحًا أحواله. ويقبل هو الصمت، وانطباق أقوالي عليه، ليس لديه ما يعترض عليه من ترميزاتي لمجرياته وأعماقه الساكنة، حتى خفوق القلب لا أسمعه وأنا صاحبه، وحامله العتيد، لا ردَّ له على كلماتي وما أنسجه على صمته الصلد من حروف وأصوات. الجسد ليس ذاتي، كما أنه ليس موضوعًا لي. وأقول ليس ذاتي لأنني أحسُّ تغايري معه ووقوعه دائمًا على مسافة من إرادتي. كل عمليات حياته لا علاقة لي بها. طبعًا أستطيع التدخُّل في مجرياتها تصحيحًا أو تعطيلًا، لكنها تتابع عملها في الأصل دون تدخُّل من إرادتي. وأجدني، أنا ذاتي، في سياق عمليات حياته تلك، معها، ومنها، كما لو كان فرجة لي واستعراضًا له.
فالعالم يهاجمني، وكذلك جسدي. أتدرَّأ به، لكنه لا يمنعني تمامًا. لا يحميني من هجومه الدائم عليَّ؛ فأنا داخل خارجية الجسد عني، وهو داخل ذاتيتي المختلفة عنه، ونحن معًا واحد داخل خارجية العالم. أو أنا الذي هو جسدي، وجسدي الذي هو أنا، متعارفان متخالفان في تخالف العالم عينه. وما يمكن أن أحمله معي من العالم في عزلتي، هو أنا والعالم. ذلك لأني أنا جسدي الذي أخرج به إلى العالم، وآتي به، يحفُّ به العالم، ومع ذلك فإن جسدي يضم عزلتي ويحميها. وحده يسمع سكوني وصخبي المكبوت. وهو بدوره يعرفني حق المعرفة، ويسكت عني. ليس بيني وبين جسدي إلا أنا. وفي هذه اللحظة من كتابتي عنه، أحسُّ أنه هو القلم بدون أصابعي، وبدون عينَيَّ فوقه، تمطرانه بالنظرات الراسمة للكلمات، والمنظِّمة أو المبدعة لأشكالها … فإن فعل الكتابة يفصلني رموزًا على الورقة البيضاء. وأريد للرموز أن تكون حاملة لمعانٍ يشترك معي في فَهْمها وقراءتها كلُّ أجسام الأنوات الأخرى، التي أعرفها ولا أعرفها؛ فإن جسدي يشركني في هذا الذي يتشارك فيه الجميع، وهو كونهم أجسادًا موجودة. فما نتشارك فيه نحن البشر هو أننا أجساد نملأ صدوع العالم حولنا في كل مكان، ولكننا لا نسمي هذه الأجساد إلا بشرًا؛ فالبشري جسد قائم أولًا. وكل ما يصدر عنه من أفعال وحركات وأقوال وأفكار إنما هي تفاصيل جسدية تحمل أسماءً أخرى، وترتكب تنويعات أخرى على ثباته هو، بما هو موضوعتها الأصلية، لكنه ذلك الثبات على التغيُّر الدائم.
ومن هنا يكون تفكري تفلسفيًّا كليًّا؛ لأنه ينبني على الفعل التجسدي الذي لا نهاية له كفعل متحد بالرغبة؛ فهي التي تضع كل نتاج لهذا الفصل، كل تجسد، على شفا اغترابه نحو تجسدي آخر، أكثر تجسدية؛ فالكلي هنا يفارق التجريدي، ويلتحم بالموجود الحي، ينقلب من الوساعة الامتدادية، والتكاثر الكمي إلى الشدة التكثيفية. يعيد التكثيف التجسدي على طريقته، قصة تمركزية البذرة، الذرة الكونية الأولى، المحملة تكثيفيًّا، إلى أعمق نقطة في تمركزيتها المطلقة، بثقل وامتداد ووساعة الكون كله قبل أن ينفجر إلى لانهائيته المطلقة في الزمان والمكان. والتمركزية التكثيفية في أصغر ذرة، هي حركية انسراعية لا حد لقوتها التكوينية؛ مثل انسراعية الكهراطيسية الناقلة للمراسلات الدماغية؛ فالكائن الحي هو أعلى ثمرة نموذجية لانسراعية المادة الكونية، والدماغ هو أوج تلك الثمرة، والفكرة هي الخلاصة «الروحية» لها، للانسراعية الكونية وقد غدت شفافية كلية، مفكرة فحسب. ذرة فكرية.
حادثة «الفكرة» هي غاية غائيَّة الانسراعية التكوينية، وقد تصفَّت من كل تاريخها الحدثي اللحظي في الزمن الفوري الذي ترمز إلى إعجازه الدائم معجزة الفكرة وتكوُّنها الاستثنائي؛ فالانسراع المطلق حتى أقصى الوجود المطلق، وأقصى العدم المطلق، هو الناسج ونسيج الجسد العالمي، وهو ما تثبته كل يوم كشوف العلوم الخلوية الفلكية. الكون اللامتناهي في الصغر، واللامتناهي في الكبر، (ماكرو - ميكرو كوسموس). فإذا كان ثمة صورةٌ علميةٌ لما قاله قدماء اليونان حول روح الكون، فهي صورة هذا الانسراع الذي يشكل عمق مادة الكون، وهي ليست في النهاية سوى مادة انسراعية مطلقة، يقابلها سطوع الضوء وحركيته الفورية اللامحدودة في كل اتجاه. كما لو كان الكائن هو أصلًا كائن نوري، تكثَّف لحمًا ودمًا، وشعَّ فكرًا وارتغابًا.
والرغبة تعيد تجسير الإنسان على كونيته الأصلية، والرغبة تكثيف متجدِّد لانسراعية الجسد، وتغريبها عن مركزيتها نحو محيطها. تدفع الجسد إلى تخوم مفارقته لأية سكونية تعتريه من عضوانية ثابتة مستقرَّة في هيكليته من اللحم والعظم، والوظائف الفيزيولوجية الرتيبة، لكن الرغبة لا تجسرني على كونيتي، إن لم يكن العالم معروضًا عليَّ في الأصل؛ إن لم يحدَّني من كل جانب، يطبق عليَّ، وينفرج انفراجاته عليَّ، تلك الفُجائية والمثيرة والمتحدية؛ فهو القادم الشامل قبل أن يقدم عليَّ بشيء محدد.
فالعالم راغب بي، قبل أن أرغب به؛ إنه يغمرني بمشهدياته الانسراعية، ممهدًا لانكشافه هو نفسه، كمشهدية بدون مناظر معينة. يصير المشهد الذي لا أشهده، بقدر ما أنا موشك أن أغدوَ سرعة من سرعاته، لمحة من لمحات ضوئه. وقبل أن أسمِّيه عالمًا، كان هو هذا الوجود المهيمن، الماثل في كل شيء يحيط بي، وتسميته بالعالم، تلك، إنما تحيله إلى مجهوله العظيم، قبل أي تعريف له، لكن هذا المجهول له علامة واحدة: أنه وجود. كل شيء يشترك مع كل شيء في خاصية الوجود هذه.
فالمجهول صيغة معرفية. أما الوجود فهو كينونة كائنة، وخاصيتها الشمول المطلق؛ لأنها تعمُّ كل موجود. والشمول هنا ليس حياديًّا، إنه اكتنافي. واكتنافيته تلك مداهمة وحصارية وإحاطية، لكنها ليسَت استيعابية، ولا تضمينية.
الكيان هو ما أقتطعه كحصة لي وحدي، من إنية أنتمي إليها، ولا تنحصر بي. الكيان، هو جسدي الآخر، الذي أنحته نحتًا، وأكتسبه اكتسابًا. وأحس حريتي الكاملة في صنعه وإتمامه وتحريكه، في التعامل معه؛ ومن ثَم في تغييره، وتحميله من رغباتي وطموحاتي وأحزاني، خاصتي وحدي. إنه كاتم أسراري وكاشفها معًا؛ لأنه حمَّال لرموزها وعلاماتها. ما دمت أصنعه أنا، ويعرضني هو بما لم أصنعه منه وفيه، وأتوقَّعه من تجلياته وتحليقاته وسقطاته؛ فالجسد يمتنع أصلًا على الذات بسبب من صياغته القبلية التامَّة. أما الكيان فهو قد يكون وليدها الشرعي، لكن ذلك لا يمنعه من أن يغدر بها ويخون أمومتها. وينقلب هو نفسه إلى صانع كيانات أخرى له، تعددية وثانوية؛ كأشباح له تبدد مثاله، وتزوغ منه وعنه؛ إذ إن أصله عجينةٌ احتمالية. وكل قَوْلَبة له لا تلتقط منه إلا أحد أشباحه الضالَّة المضللة فقط؛ فالكيان اصطلاح ثابت لمادة رجراجة باستمرار. وليس تمظهره بالثبات إلا من قبيل مقايضة للامتعين، للمداهم الشمولي، بشيء مما لا يمتلكه هو أصلًا؛ ألا وهو شيء من التعيُّن، الذي لا يخسر صدفته؛ لأنها تظل علامة خصوصيته.
الجسد كائن كلامي
إشكالية الوجود، منذ قدم السؤال الفلسفي، هو أن يكون هذا المداهم الشامل الذي تشهد له كل الموجودات، وهو لا يشهد على أحدٍ منها. إنِّيتي وحدها هي التي تُدرجني ككيان بين بقية الموجودات، تجعلني مشاركًا لها جميعها في هذا الوجود الحسي المشخص، ومختلفًا عنها كليًّا في الوقت عينه بما أتمتَّع به من تجسيد مفكر، لا ينقطع عن التفكر فيما يجسدني ويجسد كل موجود آخر، على شاكلتي أو مما يُغايرني. إنيتي هذه تُدخل الاختلاف إلى العالم، بما لا يمكن لأي كائن آخر أن يُشابه اختلافي هذا. وقد يراد للإنية أن تغدو محايثة للكيان ومتجاوزة له؛ ذلك لأن الإنية هي فعل وجود لا يكفُّ عن تحقيق إثباته؛ فهي تنتج كيانات وتحطمها، جاعلة منها مجرد علامات صدفوية على طريق صدفتها الكبرى التي تجهلها الإنية نفسها، عن نفسها، حتى الإثبات عينه ليس فعلًا حاسمًا، لكنه نظير الجسد، بفكرة أو هيئة أو كيان ما؛ فالإنية نزوع تجسيدي بغير أدوات الجسد، ولكن يطمح إلى اكتساب ما للجسد من واقعية ومادوية. ولفظة «إني» التي تفتتح كل عبارة عربية، سواء ملفوظة أو مضمرة، إنما تستدعي التوكيد النحوي كطريقة للإثبات الحضوري، المناظر للجسدي أو المتطابق معه. والإني الذي تؤكده كلماتي وأفعالي كل لحظة، إنما هو سعي للرد على الوجود المداهم المحاصر، بما يمتلك من إنية الحضور والشمول، وهو في الآن عينه محاولة للمشاركة فيها بقدر الجهد التوكيدي الذي تبذله الذات هنا، باعتبارها قطبًا من الخصوصية ينشد اعتراف العام والكلي بها؛ فالذات تسعى، عن طريق تحفيز فعلها الحضوري، إلى التمفصل مع كينونة شاسعة غائبة، دون أن تبرح الذات هويها الخاص. تستفزُّ الكينونة لتغادر انسحابها الشفاف، وتتحوَّل إلى مخالطة ﻟﻟ «المداهم الشمولي»، بما هو إنية اقتحامية تجسيدية مرعبة، تخالطه الذات أو تحتمي به منه، بما قد تفجره من طاقة حضورها، وتوكيدها لقطبها العيني مقابله، أي بما تشهره، من لدنها وعندها، من عين سلاحه (ولا تمتلك هي منه إلا أضعفه)، مما لديه هو (ويملكه هو كله)، أي من حضور الإنوية، التي تغدو بذلك تخاطب نفسها، موزعة ما بين استقطابَي الذات والعالم. وحصيلة هذه المواجهة الأنطولوجية يمكن الاصطلاح عليها بالكيان، كأن الكيان هو مكسب الإنية، نوع من الفوز على العدمية واللاشيئية، والتقاط شيء من الكينونة نفسها، المداهمة والانسراعية الفالتة، والمهاجمة باللاتعين؛ غير أنه هو اللاتعين الموجود مع ذلك.
قد أفوز بالكيان، وكأنه اقتطاع سكوني من تدفق إنويتي من جهة، ومداهمة اللايقين المفروض من الجهة التي تقابلني، من هذا العالم، أو من خلاله، ونحو مجهوله المحايث لكل أشيائه والمتجاوز لها في كل آنٍ. يقدم الكيان لصاحبه نقاط ارتكاز موقتة، ويحاول صاحبها أن يتجسَّدها، ويصورها، مصدرًا نفسه معها، إلى الآخرين، وكأنها تماثيل جاهزة أو نهائية عن نموذجه الأصلي الذي لم يعرفه هو تمامًا بعد.
كأن الكيان هو جسدي الآخر الذي لم أرثه عن ذاتي، وأنحته نحتًا، وأكتسبه اكتسابًا، وأختفي وراء هناك. ومن مكمني هذا أمارس استراق حرية حريفة ومتشظية، في التعامل معه، وخاصة في التسيُّد عليه، وفي تغييره، وتحميله رغباتي وطموحاتي المسكوت عنها، من قِبَلي أصلًا، لكنها تخصني وحدي. كأنما كياني هو كاشفي بما أحب أن أعلنه عن نفسي، بيد أنه كاتم أسراري غير المبذولة، ما دمت أنا صانعه. وهو يعرضني بما لم أصنعه من أجله تمامًا. يُفاجئني بما لم أتوقعه من تجلياتي، أنا نفسي، عبر ما يعتبره من عروضاته، خاصته.
جسدي موجود هناك، لكن كياني هو الذي يوجدني. وعندما أبحث عن وجودي لا أبحث عن جسدي؛ فهذا الموجود كله هنا والآن هو المضمر الوحيد، هو المتجاوز، وهو المرجع المتوفر الذي تتجاهله مرجعياتي الأخرى اللغوية. فليست هي سوى عباراتي التي تقول كياني. وعندما أصمت أبقى وحيدًا مع جسدي. وجسدي ليس هو باعث قلقي، بقدر ما هو خوفي على كياني من التبدُّد كلما أقمت له تمثالًا من الاعتراف به. فما يشغلني حقًّا ويخيفني هو ذوبان الشمع المغلِّف لجسدي، وعودتي إلى حال استعرائه؛ فالعري الجسدي هو الكيان في درجة الصفر من الكينونة. واكتساء الجسد بالثوب هو قرين اكتساء فراغي بالكيان. لا تكفي الجسد كتلته، وملامحه، وحركاته؛ فإنه محتاج إلى اسمه، وعند ذلك يصبح الجسد كائنًا كلاميًّا؛ فالاسم بديل صوتي لا يشغل أمكنة، لكنه ينسج حضورًا. أستحيل مع الاسم من كائن جسدي إلى كائن زماني، وليس له من الزمان إلا تشبُّثه بالحاضر؛ فإن جسدي هو مكاني المتحرِّك ضمن الأمكنة كلها، لكنه هو وحده كذلك من يحضرني على مستوًى من لحظة الحاضر فحسب. تنزلق عليه الأزمنة، وهو ينزلق على الأمكنة. وكياني يوفر له إحساسي بالفصل والوصل بين الأمكنة المتقطعة والأزمنة المنفصلة. يحاول تثبيت تجسيدي مكانيًّا واستمراري زمانيًّا. والجسد بدون الكيان يمسي قطعة مادية مرمية في المساحات الواسعة من المكان، ولولا الكيان لما استطاع الجسد أن يكون إلا مجموعة أجهزة آلية كيماوية، والجسد لا يمكنه أن يتيح الكيان، لكن بدونه ليس ثمة كيان. فالهُوي اصطلاح زائد عن اللزوم، لكنه يؤسس العلاقة الارتجاعية بين الجسد والكيان، بحيث يغدو أحدهما مرجعًا لنفسه وللاثنَين معًا، مع الاحتفاظ دائمًا للجسد بحق الأولوية على الكيان الذي بدوره يسمح بإمكانية قيام مثل هذه التراتبية، وهي تراتبية محض افتراضية، ليس الجسد مسئولًا عنها وحده، بل إنه غير مسئول إطلاقًا.
فالجسد الراغب هو قاعدة الإنسان الأفكر. والفكرة هي رغبة بدون موضوع. رغبة لا يرويها موضوعها. إنها تجسيد للجسد خارج حدوده، والفكرة هي إعلان عن مغادرة، عن رحلة اغتراب خارج المعطيات المباشرة. إنها البحث عن طريقة للتجسيد خارج المجسد نفسه، ومن دون أدوات التجسيد وآلياته، كما هو اللحن خارج أصواته. والتمثال خارج طينته وحجره. الفكرة هي فوز نادر استثنائي بلحظة تعين من اللامتعين. هي لحظة لا تتشبَّث أبدًا بديمومتها. ومع ذلك فإنها تحتفظ منها بترميز ما، قد يسمَّى فكرًا أو إبداعًا، فيما بعد.
ذلك أن الفكري هو كالشعري، لا يكون بدون رعشته الخاصة. وما رعشته تلك إلا لحظة انكشاف ذلك المداهم الكلي، وهو في حالٍ من المداهمة شبه الكلية كذلك؛ فأنا باحثٌ عن تلك الفكرة التي لا تطمئنني إلى شيء بقدر ما تخيفني أكثر؛ لأنها تضعني على حافة اللامعقولية المحايثة الحيَّة والمطلقة. وما يرعبني حقًّا هو أنني، أنا الكائن الأفكر، أكتشف كم أن العالم من حولي هو اللافكر الشامل. ومع ذلك فهو الذي يداهمني، ويجذبني عبر مداهمته، لا يتوفَّر على أية حقيقة جاهزة، ولا يعد بأية مواسم أفكار، بقدر ما هو الشامل المطلق المهاجر الذي يحولني إلى سؤال عابر في متاهاته. وأصفه بالمداهم والمهاجم لأنه ليس تصورًا سكونيًّا. حال الفيلسوف العصري كحال الفلكي الذي يقيس أزمنة الانسراعات الضوئية المطلقة بسلسلة أعداد من أصفار لا تتناهى، تعادل في النهاية صفرًا ما دامت فوق التصور، عصيَّة على الاستيعاب؛ فالوجود واللامعقول شيء واحد في المحصلة. واللامعقول هنا ليس العبث، بل هو مساحة الوجود المجهول، أو اللامعقول، بعد، الذي يتجاوز الوجود المدرك، أو المعلوم؛ لذلك بنى العقلانيون التعريف على الحد؛ لأن التعريف هو الذي يحدد الموضوع أي يحده، بأن يقتطعه من الشامل المداهم؛ من الكاوس. فيخال العقل أنه يسيطر عليه، ما إن يعرفه أو يتعرَّفه. فما يناظر الحد هو الجسد. إنه حدي الذي يقتطعني من مداهمة العالم لي، ويخصني بخصوصيتي التي لا يمتلكها سواي (جسدي هو تعريفي المتجسد).
أحدُّ العالمَ بجسدي، أميِّزه بوجودي الذي يتميَّز عن وجود الآخرين، واندراج الأشياء. فأكاد أكون غير جسدي، ويكاد العالم يكون غير موجوداته، من أفلاكه وأحيائه، وأشيائه. يفرض جسدي حدي. إنه معرفتي المؤسسة لكل معرفة. إنه يعادلني ويفارقني، ويفترق عني، وكأنه يعود بي إلى أصله؛ أصلنا الكوني. فهو ظاهر في أنا الذي يشارك في ظاهر العالم كله، بل إنه يأتيني، هو كذلك، مع المداهم الشامل؛ فأنا كائن ظهوري أستبق كل كشف. لست خبيئًا بانتظار المعرفة لتكشفني على طريقة سقراط. وليس العالم مبطنًا أو محجوبًا أو حاجبًا لسواه؛ فنحن كائنات ظهورية خالصة، في عالم ظهوري، ومداهم في ظهوريته الشمولية. والمشكلة الفلسفية الكبرى هي في هذه الظهورية المطلقة الوحشية، في هذا العراء الكاسح. وجسدي الذي يحدُّني موقتًا، هو الذي يكسر حدوده كل لحظة، وينجرف ويجرفني معه في خضم من المتناهيات الظهورية، اللامتناهية.
الحقيقة: محبة الحب
غير أن الحقيقة هي استحقاق، والاستحقاق فعل ذاتي أولًا، وتجربة لي تخصني وحدي. بقدر ما أحب الحب؛ لأنه جميل، وبقدر ما أحب الخير لأنه جميل، وبقدر ما أحب الحقيقة لأنها جميلة، أي بقدر ما يسعدني هذا الحب ويلذ لي، ويشعرني بجسدي كليًّا وأنا أتجسَّده، فإنني أستحقُّ حبي، الذي هو سعادتي القصوى. هذه الجدلية ليست عاطفية، لكنها وجودية كيانية. وهي التي توحد الجسد بكيانه المكتسب، كنظير له، يجسده أكثر، ويكشف له عن صميمه، بما هو أعمق وأكثر ثباتًا من عوارض الجسد المتقلبة؛ فاللغوي مع الحب إنما يفارق حال التلفيظ إلى حال التمعين، التي هي اكتشاف المعنى وتجسيده. والجسدي يفارق نفسه نحو الكيان لأنه يمضي به إلى أقصى تجسيده، أي تمعينه، وحركة التجسيد هذه إنما هي حركة الحب وحده. ولكون أن الحب هو طلب الجمال، فهو كاشف الجمال ليس في المشهد فحسب، ولكن في المعنى، كمعنى الخير ومعنى الحقيقة، أو الحق؛ فالأصل هو أن يستحق الإنسان وجوده، ولا يستحقه حقًّا إلا إذا كان عاشقًا كبيرًا، أي كائنًا حرًّا قادرًا على تلبية أعمق ما يدفعه إلى محبة المطلق، الذي يتحسسه، ويتجاوزه، ويقع على مسافة منه لا يمكن أن تُعبر بشكل نهائي. غير أن كل هذه الجدلية ليس لها من ساحة إلا تناوب الكلمات والأفكار. وباعتبار الثانية كلمات من نوع آخر، لكن أعلى. فالأولى نسبية والثانية أقرب إلى المطلق.
ذلك كان هو المنطلق المؤسس للقطيعة الأهم ما بين الفكر السابق على سقراط، والفكر الآخر الآتي منه وبعده. فمن الشعور الميتافيزيقي الموصوف بالبدئي، الذي عبرت عنه قصيدة بارمنيد أوضح تعبير إزاء الوجود، باعتباره هذا المداهم الشامل الذي لا مفر لكل موجود من الانتماء إليه أو التجسُّد إلا به، إلى ذلك الوجود الآخر على مستوى الملفوظ الذي لا ينسلُّ أو يتسلسل إلا من ملفوظ آخر لكي يؤدي إلى ثالث، وهكذا … نقول من هذا الشعور بالكلِّي، الذي وُصف بالميتافيزيقي فيما بعد، وموقعه خارج الذات؛ لأنه مستقلٌّ ومفروض عليَّ، ولا دَخْل لإرادتي أو وعيي في قيامه، من قبلي ومن بعدي، وفيما يخصُّ قيامي، وقيام كل شيء من ساكن جامد وحي حركي، وعاقل — حدث انتقال إلى مغايرة من نوع آخر، تقع ما بين الألفاظ، أو ما بين الدلالات عينها: عند بارمنيد كانت المفارقة مادية، أي تشخيصية وجسدية. كان هناك أمام المفكر الفَجْري انبثاق العالم الطبيعي الذي هو نفسه يشخصن الدلالة الكلية المستقلة، والمسماة بالوجود؛ فهو يُمَسْرح الاختلاف ويعدِّده إلى ما لا نهاية، لكنه يوحِّده من حيث إنه اختلاف في الوجود الواحد، والكشف الفلسفي الأصلي كان هو هذا التعرف إلى الواحد الذي لا يضيره في شيء، ولا ينال من واحديته، أي تعددي إلى ما لا نهاية، لكن الكشف نفسه كان من نوع تعبيري. فأنا أقول إنني أستشعر الواحد الذي يتمثل في كل شيء على شكل وجود. وهكذا ليس جسدي هو الذي يكتب أو يقول هذا التعيين، وإن كانت أعضاؤه من عين ويد ولسان ورأس، هي أدوات له، ولسواه في آنٍ واحد، أدوات تصنع الفهم والقول والحرف. هذا اﻟ-سوى ما هو؟ يمكن أن ندعوه الكائن اللغوي؛ فهو هذا الجسد الآخر الشفاف المستبطن للجسد المادي العضوي، والمنفلش حوله في آنٍ واحد؛ هذا الكائن اللغوي الذي يضعني داخليًّا خارج ذاتي دائمًا، إنما ينتمي إلى ذلك الأقنوم اللفظي الآخر الذي دعوناه: الكيان؛ فالجسد منذ ولادته، ملقًى إلى العالم وفيه. فهو المتغرِّب الدائم؛ لأن الحياة تضطر الجسد إلى التواجد خارج نفسه دائمًا؛ فانبثاقة الجسد تفرض عليه أن يوجد خارج لحمه، متأبطًا معه كل لحمه وأعبائه. إنه مدان بالتغرُّب خارج مساحته. وتغرُّبه هذا هو بدء الحكم عليه بالموت. وحين تردد الفلسفة دائمًا أن وجود الإنسان مرصود للموت، فلم تكن تعلن معرفة شاعرية، لكنها تحدد واقع الاغتراب الفعلي الذي يجد المرء نفسه ملقًى في فراغه الموحش. وقبل هذا الوعي، فإن بكاء الطفل المفارق لوطنه الرحمي البديء يعلن عن خوف جسدية الجسد من هذا الآخر الذي تمَّ تسليمه إليه عنوة؛ فالجسد مضطرٌّ ألَّا يكون، ألَّا يظل نفسه، وهو مسلَّم عنوةً إلى هذا الآخر. لا بد له من صنع جسد ثانٍ ينتمي إلى طبيعة ذلك الآخر، مع احتفاظه بقاعدة وجوده وبرهانه المادي فيما يوفره له الجسد الأصلي، إنه أسيره، أو هو كل ما يمثِّل الجسد الذات لدى الآخر، وبطريقة الآخر عينها؛ فالكيان مشروع لا متناهٍ من التوطُّن والاستيطان لدى غربة وغرابة الآخر، وتحت طائلة تغيره الفوري، الذي هو أساس تهديده وإرعابه. وأول جسر على الاغتراب هو الكلام.
الكيان جسد لغوي يناظر ويحاذي ويخالط الجسد العضوي. فما يقال عن حياة عقلية ونفسية وانفعالية إنما هي حوافٍ طرفانية للدال اللغوي، الذي هو بدوره كل ما يُكسب الكيانَ دلالةً عند ذاته والآخر معًا، فيمكن اعتبار الكيان هو الدال الأشمل؛ فليس هو إلا من مادة الدال ومن ابتكاره، أي إنه جسد لغوي، يكاد يكون كله من ابتكار الآخر وتعامله مع الجسد العضوي الذي يتسلَّمه كمادَّةٍ خام أولية؛ كل ما فيها هو أنها مجبولة بدم الرحم، الوطن الذي اقتُطعت منه، ومرجوفة برعب الاغتراب الذي تدفع إليه دفعًا، وتُجبر على ملاقاته جبرًا؛ فالجنين في الرحم لا يعرف إلا الحياة. أما الطفل والكائن فيعرف الحياة والموت معًا، بل إن حياته ليست إلا تأجيلًا موقتًا للموت، ما إن يولد الجنين حتى يموت موتًا واقعيًّا، ويحيا حياةً افتراضية.
ومن هنا فالجسد يمثل آلة تضخُّ الحياة العضوية كدفاع موقت ضد الفناء، الذي هو مصير كل فرد، لكن الجسد، في عين الوقت، وهو تحت طائلة الموت المحتوم، إنما يعمل على إنشاء الكيان، كجسد آخر، وذلك من عين المادة والطريقة اللتَين تميزان وجود الآخر. وقد أصبح من وجود هذا الآخر نفسه، وجود النوع الحيواني الإنسي، الموكول للأبدية، مقابل فنائية الفرد وجسده المحدود؛ فحياة الفرد وجسده هي دفاع ذاتي، ودفع ضد الموت المحتوم، المقدر، بل البادئ والنامي منذ لحظة الميلاد؛ ولذلك كان دفاعه الأساسي مشروطًا بقدرته على اكتساب مقاومة تكون من جنس العنصر المداهم المخيف نفسه. إنه الكيان الذي يؤهل الجسد لأن يكون كذلك جسدًا لغيره، للآخر، وعلى طريقته؛ فهذا الأقنوم الجديد هو من استحداث جهاز الدفاع الجسدي أصلًا، ولكنه يملك براعة الانتماء إلى «العدو» الخارجي، حيثما الموت يتهدده كل لحظة تحت أشكال أخروية كثيرة: كالحكم عليه بتحمُّل أضعف كيان لأضعف دالٍّ؛ كالحجر عليه وراء حدود جسده العضوي فقط، كاحتسابه مفقودًا من نفسه ومن الآخر، بما لا يؤهله حتى لإنهاض فرد له ما فوق شبهه العرضي، ما بين أشباه لا تعد ولا تُحصى. فما يحركه الجسد الفاني هو اكتساب شيء من أبدية النوع، ومما يتخطَّى فنائية الفرد، وأبدية النوع، وكل ثنائية أخرى، نحو التوطُّن في حوافي اغتراب الآخر، والتعاطي مع ذلك النوع من الدال النادر الذي لا يعود يعني سوى نفسه.
فالدال لغويًّا، هو المعنى مشفوعًا بدليله، ولا دليل له إلا بيانه، أي جوهره الغالب على أعراضه؛ فهو الجوهر الذي يغدو عرضًا وحيدًا لنفسه. وهو ما يعنيه الظهور المحض. وما يتضمنه القول: إن المعرفة نور. كل هذه الاستعارات تشارك فعليًّا في تأكيد أهم ما يميز الحقيقة وهو سطوعها الكامل. وما نسميه في الرياضة بالبداهة. ولقد كان ذلك امتياز الحقيقة في التراث الفلسفي، بل الإنساني عامة، لكن المشكلة تبدأ ما إن يسأل من جديد عما يعنيه الوضوح، وعما يبينه البيان، وعما يظهره الظهور. وعند هذا يتوقف العلم ليبدأ السؤال الفلسفي، كما لو أنه لم يكن شيء من قبل. فما يدهش الفيلسوف ليس هو الغريب والملتبس، أو العجيب في حد ذاته، بل هو اندهاش الدهشة، ولغز اللغز عينه.
لماذا وحده الإنسان، من بين كائنات جنسه الحيواني، تعتريه الدهشة؟ وما هو ذلك الجسد (الإنساني) وحده الذي يتجاوز أجهزته العضوية، ووظائفه الفيزيولوجية ويبني الكائن الآخر، الجسد الشفاف الثاني، الذي يطابقه ويتجاوزه، دون أن يبرح ماديته، ونسميه الإنسان؟ فما يدهش في هذا الجسد الذي تسلمني إياه الطبيعة هو أن لديه من المشاعر والميول والتصورات ما لا تجعله مكتفيًا بنفسه، وبأجهزته العضوية تلك؛ فقد تكون هناك أجوبة فلسفية ونفسية وأنتربولوجية كثيرة على مثل هذه الأسئلة، لكنها بعد كل الحصائل المعرفية، يبقى سؤال اللماذا لا يتناول موضوع المعرفة بالذات، ولكن كينونتها: لماذا هي المعرفة، وماذا يعني أن أعرف، وما يدفعني إلى ممارسة المعرفة، بكل عدتها المفهومية، وإشكالياتها النظرية، وآفاقها الفلسفية. قد تكون كل تلك الطروحات ثانوية أمام لغز الجسد المفكر. إنه البحث عن كوجيتو الجسد، بعد الكوجيتو الديكارتي. فهذا البنيان الذي أكونه، ولا أملكه، هو الذي يشتغل فكرًا واندهاشًا وقلقًا على الحقيقة وباسمها، كما يشتغل غذاءً وجنسًا وحركة؛ فالأفكر الجسدي ليس قاعدة للأفكر العقلي، لكن انهمامي بالحقيقة قد يعادل كينونتي، ويضع جسدي كما هو كياني، على مفترق الأفكار والأخطار، في آنٍ؛ فأنا مندهش من اندهاشي، وقلق من قلقي، ومتحرق من تحرقي عند كل إشكال، للفوز بالمنفذ، بالحل، بالفهم، بالقدرة على رؤية الأشياء كما هي.
الإنسان الفيلسوف هو الإنسان الجسداني عينه. وإذا كان ثمة استعادة، في اللحظة ما بعد الحداثية، للكوجيتو الديكارتي، فلن تكون سوى الكوجيتو الجسداني. فإن وظيفة الفهم والسؤال تكتسي لحمًا أخيرًا. وقد أدخل ميرلو-بونتي مصطلح المعيوش، من أجل أن يمركز الجسدي كنواة للفكري، وليس قاعدة استناد فقط. وهو بذلك حقق نَقْلة الفينومينولوجيا، كما جاء بها مؤسسها العصري إدموند هوسرل، من ديكارتية مستحدثة، إلى أنطولوجيا حيوية، لكن بونتي ربما شغل بالتوصيف السيكولوجي لحادثة الجسد المفكر، عن البعد الوجودي الذي تلقفه معاصره سارتر عن هيدغر بشراهة ملحمية، شكلت زلزال الفلسفة الفرنسية للنصف الأخير من القرن العشرين. ولا تزال هذه النقلة نحو الجسد المفكر تفتح أسوار «العلم» الفلسفي صوب المغايرة، والتقاط حصص فورية ثورية من كل نص إبداعي ومعيوشي، بما يكسر من تقاليد التفلسف كاختصاص مدرسي، ويعيده إلى كنف سؤال الفكر، بما يرجع إلى نفسه فحسب.
فما يريد الفكر أن يحققه منذ سقراط هو بلوغ ماهية الشيء أو جوهره. كأنما التجربة لا تقدم إلا كل ما يحرف الفكر عن هدفه هذا؛ ولذلك ينمو السؤال ما دام هناك إشكال. ما دام هناك التباس حول الموضوع، وأوهام، وشائعات، وأنك لا تستطيع أن تحسم العلاقة مع الموضوع المبهم إلا إذا كنت قادرًا أصلًا على رفض المظاهر التي يُعطى من خلالها ذلك الموضوع. كأنما هناك دائمًا شيء خبيء وراء مظهر الشيء؛ فالأمور لا تقدم حقائقها بسهولة، والإنسان في العالم يدور في حلقات مفرغة بين الأشباه، من أجل الفوز بالأصول، لكن هذه المعركة العريقة بين إغواء الشبه وحيادية الأصل، جعلت الهمَّ الفلسفي الأول مكافحة الضلال أو الخطأ، والاستغراق فيه إلى درجة تأجيل الحقيقة باستمرار؛ فالظهور ليس ظهوريًّا تمامًا، والعيش في كل ما هو ظهوري، وما ليس كذلك تمامًا، هو أصل الالتباس، وليس من الضروري أن يكون الالتباس خطأً كله، بل هو إمكان الصواب والخطأ معًا. والتفكير هو المترحل بين حدَّي الإشكالية هذه، لكن الخطأ قد يتميز بسلطة فرض الأمر الواقع، دون أن يكون الواقع نفسه حاملًا لاسمه وحده. ومن النافع التنبُّه إلى أنه ليس ثمة سلطة حقيقية للخطأ مفصولة عنه، وتنضاف إليه لتحمي إنتاجه وتحفظ بقاءه، بل الأجدر هو اعتبار الخطأ نفسه هو سلطته، ولا فارق بينهما. ذلك أن اكتشاف الخطأ كما هو قد يدفع إلى البحث عن نقيضه أي الصواب، بينما الخطأ كسلطة نفسه، هو المانع لإمكان البحث عن نقيضه، لأنه ألغى إمكان وجوده أصلًا.
ليس الفيلسوف وحده من يشتغل على التأويل، بل إن لكل كوجيتو جسداني، لكل وعي، له أن يكون وعيًا بشيء يغايره، ويقع على مسافة منه. فليس ثمة جوانية لذات مغلقة النوافذ والأبواب، ولا بد لها من مفارقة محلها البديء، لتبقى بدئية في كل ما يخارجها، ويتغاير معها، ويقتحم عليها سكونها الرحمي، ويقذفها في بحران الصخب العالمي؛ لذلك فالانقذاف إلى العالم، إلى لجج المغايرة، ليس نعمى، بقدر ما هو ابتلاء. ومن حق اللاهوتيات أن تعطي لصيغة الوجود في العالم طابع الاختباء في قلب السقوط. ولو لم تبدأ الأفلاطونية بالفصل بين الفكر والوجود، بين عالم المثل الثابتة وعالم التغير والفساد، لما أمكن تصور الألوهية نقيضًا للأنوية، ومتعالية ما فوق تجسُّدها ووعيها معًا، لكن اكتشاف المغايرة والتحسس بهمومها، هو إشارة الإنسي الأولي المميزة للجسد الحيواني الذي يحمله هذا الكائن، عندما سيصير له اسم الإنسان.
لا نستطيع القول عن الجسد إلا إنه الكائن؛ وذلك هو توصيفه الأنطي الذي يفتح على بعده الأنطولوجي. ويوضح ذلك أن الكائن ليس إضافيًّا على الجسدي. بل هو ما يصوغه صياغة الفرد المميز، هو ما يجعله نفسه، وليس أي أحد سواه. إنه — الكائن — أوسع من خصوصية الفرد، وفي الوقت نفسه هو كل ما يحدُّها. إنه يحيل خصوصيتي على الأخروية باعتبارها هي محل الدال الذي أنتمي إليه والآخرون، ويهبني أفهومي لدى كل الآخرين من أشباهي، كما لو كان أفهوم كل أحد، فإنني أعرف كل أحد من خلال هيئته عندما أراه، أو من خلال صفاته أو ذكرياتي عنه عندما يغيب، فإن صلتي بالآخر هي كذلك صلة معرفية، وعندما أقول عن فلان إنني أعرفه، فهذا يعني أنني أتواصل معه بطريقة ما تجريدية لكنها تجسيدية كذلك؛ فالجسد ليس جسرًا للعبور بين الأنا والعالم، لكنه هو الذي يعبر كذلك. فهو أنا، ونحن معًا ذلك الكائن الذي أوجد بوجوده، ولكن كل وجود هو حضور، وحضور الكائن ليس جسديًّا فحسب، إنما كل حضور يفترض جسد التمثال، ومعنى التمثال معًا. وقد أعبر في الشارع بآلاف الناس من أمثالي، لكن ما إن ألتقي الصديق حتى يغدو المجموع الغفل الذي أتحرك فيه مساحة إنسانية يبرز منه وجه صديقي. ويتعارف الوجهان، وتتلاقى النظرات والبسمات، وتترى الكلمات. وإذا ﺑ «الدال» بعد صياغة جسدَينا تجاه بعضنا عبر سلسلة متدافعة من مواقف الكلمات، وكلمات المواقف المتناهية في لحظات تحققها الصوتي والإشاري نفسه. ها هنا يطفو الحضور المعنوي حول التجسد الجسدي، ويحاول أن يكون أكثر تأثيرًا منه وأشد فعالية؛ فاللسان ينطق، وكذلك الجسد عبر الحركات الصغيرة، ويصير للجسد وجهٌ آخر من ملامح الحركة، وكل حركة هي إيماءة؛ فالحبيب أو الصديق الذي ألتقيه صدفة، ويبرز أمامي من وسط المجموع الغفل، ينسج في لحظة موقعًا لنا كلينا عبر مكان الكل، يخصنا وحدنا، ويملؤه قيام جسدَينا قابلة بعضهما. هذا التواصل الصدفوي يصوغنا كلمات ونظرات، تلزم جسدَينا بانفعالات المتعة السر، والوقت الضائع الذي يصير وقتًا، لُقيا لنا.
بدلًا من وحدة الكينونة لدى هيدغر، فقد وزَّعها سارتر بين صيغ ثلاث، وكأنه يقصد بها وجود الإنسان عينه، الذي عينه هيدغر تحت مصطلح الدازاين Dasein. وهذا ما أخذه هيدغر على تأويل سارتر له؛ إذ أبعد الكينونة لحساب الوجود الآني الفعلي، وحاول أن يعوض عن هذا الانتقاص الكبير، ببراعة التوصيف السيكولوجي والأدبي لصيغ الوجود الثلاث تلك: الكائن في ذاته (être en-soi) وهو الوجود المتخثر الذي لا يخترقه العدم أو التغير، وصيغة الكائن للآخر L’être pour autrui، وهو الوجود مع الآخرين، وفيه بداد للكينونة، وعدوان الأخروية على استقلالها. والصيغة الثالثة، وهي الكائن لذاته L’être pour-soi. وحدها صيغة الكينونة المشروعية؛ لأنها تتقبل الزمانية، وتنبني على الحرية واختيار الماهية حسب اكتشاف الكائن لإمكانه؛ نتيجة اقتدار الحرية نفسها.
انظر خاصة كتاب ميشيل هنري الآتي:
Michel Henry: Philosophie et phénoménologie du corps, PUF, p. 20, 21b.
انظر خاصة الدراسة الممتازة حول نظرية الحقيقة والإبداع الفني.
Daniel Payot: La statue de Heidegger, Art, Vérité, Souveraineté , ed., Circé.
وهي عبارة شهيرة عن لاكان وتتردَّد في خطابه التحلينفسي:
Lacan: Ecrits, pp. 835, 842.