(٤) الكائن جسد معرفي
الحقيقة لُقيا، وليست كشفًا. والكشف أعرفه عقليًّا، واللقيا ألتقيها وجوديًّا كيانيًّا. والكشف ينضاف إلى كشوف أخرى ليشكل مادة العلم والتقدم التقني، لكن اللُّقيا إنما تمتُّ إلى منظومة أخرى من الأفاهيم والقيم، ولا يمكنها أن تنفصل عن تجربة الذات ككيان، بل باعتباره الكائن. والكائن ليس فعلًا منجزًا، إنه اسم فاعل لفعل يدوم؛ فالكائن لغويًّا عربيًّا، هو ما يحتاج إلى الفعل إلى الكون، كلَّ آنٍ؛ ولذلك لا كينونة إلا مع الزمان وفي الزمان، وكأن الزمان هو حس الانتظار، وليس حس الانقضاء. فهو يكاد يجتمع كله فيما لم يأتِ بعد. وهو لا يُسأل عما حدث، ولكن عما لم يحدث بعد. كأنما جسدي القائم، هنا والآن، لم يلتقِ قوامه الحقيقي بعد. فلست أنا كذات، المؤجَّل فقط، لكنه هو جسدي الذي يرتمي كذلك إلى خارج أمكنته المعتادة؛ فهو مكانيٌّ بدون استيطان مترسِّخ. إنه مقذوف معي إلى أزمنتي التي تجري أمامي، ولا أتملك منها. وبقدر ما يقال إنني أسير جسدي أصلًا، وإنه لا يلزمني بحجمه وهيئته فقط، بل يفرض عليَّ صورته كمصير نهائي لكياني، إلا أن الواقع هو أنني أسحب جسدي معي إلى أزمنتي المجهولة، وأفاجئه بمواقع له في أمكنتها غير المنظورة بعد. أنا الكائن الزماني، أُزمِّن جسدي باعتباره المكان الأول لكل أزمنتي القادمة. إنه مكاني البديء الذي تظل كل الأمكنة الأخرى تالية عليه، كأنها أزمنة المستقبل؛ فاللُّقيا هي انتظار الموعود بما لست موعودًا به إلا باعتباري أنني أعرف على الأقل أنني لا زلت جاهلًا له. وما يمكن أن يعبر عن هذه اللقيا هي الحقيقة الفلسفية، بما أنها تجعلني أعيش في كنف الدالِّ دون أن أستنفذه. إنها نوع من العيشة المستقبلية دائمًا. إنها رفقة مع الاحتمالات، وليس مع أي يقين، والاحتمال موطنه هو المستقبل؛ لأنه يعطي تلك الحقيقة المشروطة بمصيرها القلق من التحقُّق أو عدمه. فاستحقاق الحقيقة يكاد يكون أهمَّ من الحقيقة نفسها، ومن هنا حتمية ارتباطها بالمعيوش، فهي، الحقيقة، ترمز إلى ما يمكن أن يخصني وحدي من ذلك الدال الذي يبرر خصوصيتي، كأنها طريقة في تداول الكلي والتعامل معه كيانيًّا. والدال ليس هو الكلي، لكنه يحتمل الكلي، وتطبيقاته، من أشباه والتباسات، إلى درجة النقائض والاستثمارات التحريفية والانحرافية. كلٌّ منها يدَّعي صلة بالدال، كطريقة لاستثمار الكلي في تبرير الخاص والتملك منه. ويدفع الجسد أثمان الاستحقاقات الزائفة، أشكالًا من الاتهامات، والتخلِّي عن معيوشه، باعتباره خزانًا من الانفعالات والشهوات الموبوءة بأفراح وملذات مسروقة غير مشروعة.
والنظرة التقسيمية السائدة ترى الجسد وسيلة للمعرفة، وفرسًا جامحًا يمتطيه العقل، لكن الجسد هو محل المعرفة؛ فهو ليس جسرًا من النظر واللمس والشم والحركة، ينقل إليَّ معطيات المحيط. إن الجسد هو ما به أكون وأوجد بالنسبة لجوانيتي وبرانيتي؛ فهو صانع كل لحظة لوجودي، ولمعرفتي لوجودي والعالم كوحدة حية تفرض ذاتها كأساس أول لكل عملية تالية عليه، نصطلح عليها بالتحليل والتركيب الجسداني العقلي. هذا العالم الصغير الذي يبنيه حس وجودي، كما لو كان حسَّ وجودٍ لكل ما يغايرني؛ فالجسد هو الغائب، بدون حضوره ليس لأي شيء ثمة حضور. وهو الصامت الذي تتكلمه كل حروف لساني ونأماتي، وتتطلع منه وبه كل نظراتي، وتوجد أجساد الناس والأشياء لوجود جسدي فحسب؛ لذلك كانت تجربة الحب هي النموذج لإعادة استحضار الجسد من غيابه وغيبوبته عني. فأصدق جسدانية هي تلك التي تعبق بالتحام جسدانية أخرى معها، ومتعة الجسدَين بالتحامهما هي التي توقف سلطة الدالِّ، باعتباره محلَّ اللاشعور الكلياني، والفاصل الدائم بين جسدانيتي وتذويتي، وتعيدني شعورًا متحدًا بموضوعه كليًّا إلى درجة تهديدي بالانفصام الكلي في الوقت عينه. فلماذا تجربة الحب هي تجربة الموت كذلك؟ لأن الالتحام المطلق لا شيء يؤكده ويحميه إلا رعب الانفصال الذي ينتظره لا محالة بعده.
إن الحب يحدُّ من سلطة الدال، كأخروية كليانية، ويعيد إنتاج فردانية تجسُّدي كواحد يلتحم بالثاني، معوضًا عن لا نهائية العدد بمعمارية الهندسة الالتحامية، كجسدَين باحثَين عن الواحد الذي يجمعهما معًا دون سواهما أبدًا. إن سعادة الجسد بالحب هي فوزه بالجسد الآخر المتجسد وانتزاعه من كليانية الدال. مقابل استحالة جسد الأخروية بما هي لا نهائية المغايرة إلى حد التجريد، فإن الحب يكسو المغايرة باللحم والدفء، ويمنحها مساحة من المحايثة، ما بين الجسدَين، معيوشة، تتجدد عمقيًّا في اللحم والدم، بدلًا من الانتشار نسخيًّا في الامتداد، والمعيوش يقاس بالاشتداد وليس بالامتداد، والاشتداد هو توتر التركيز، وتواتر لحظات التكثيف. وإذا كان الحب العضوي يعبر عن إنتاجيته بالنسل، فإن الحب المعرفي يعيد صياغة الجسد على مستوى السؤال الفلسفي، الذي يشتغل على تحفيز تجسُّدات/وجوديات التمفصل بين الواحد والدال، بين المحايثة والمغايرة. وقد تتساقط المحايثة إلى درجة التخثر والشيئية، وتتدافع المغايرة إلى حد التلاشي وتأحيد التناسخ.
غير أن الحب المعرفي ليس هو التجريد الصوفي، بل هو دعوة نحو التركيز والتخصيص، إنه يعيد إليَّ مسئوليتي عن تمفرد جسدي، ويخصني بحصة ما من العالم المداهم، بمغاير ما يعرفني، وأكتشف أُحاديته، ويتعاطى معي أُحاديتي. بواسطة جسد الآخر أنتزع دلالة لي وحدي من الدالِّ الشامل الذي يصرُّ على تجاهلي وانمحائي؛ فالحبيب لا ينوب عن العالم، ولكنه يحيِّده. وعندما يأتي إليَّ وحدي، فإنني أحس أنني أحضرت الجميع بدون أحد منهم؛ فالمعرفة الجسدية هي معرفة الحب، لأن الحب فقط هو عُرس المسِّ والتماس. وكل ما يحاوله جسدي هو أن يماسَّ المختلف ويعيد تأسيسه لذاته من خلال المختلف فحسب. ولا طريقة لنقل الاختلاف من العمومية والتجريد إلا بتجسيده عبر آخر — واحد — أحد، موجود كله، ويصير الآخر — الحي، الجميل الذي أحبه لأعرفه أكثر، وأحبه لأعرفه بما يرده إلى شمول الدال، دون أن يفقد دلالته الخاصة، ولكنها قد غدت من دلالتي كذلك، لكن اللُّقيا جعلتنا نغادر، كلٌّ منا، دلالته، ليلحق كلٌّ منا بالمغاير لدى الآخر؛ فالصوفي العربي تمسك بمعمارية الجسد، على عكس الصوفي المسيحي القروسطي؛ لأن الجسد هو مكان اللقيا الحقيقية. وكل ما يمكن أن تبنيه اللُّقيا إنما يتشيد على معمارية الجسد، وتصاحبه في معارجها المتعالية كلها. غير أن الصوفي الحداثوي بائس من التجسيد في الكلي، أو عبر الكلي؛ لذلك ليس له إلا الحوافي والسطوح؛ فهو ينزرع في الحافة ليجلب بعض الموج من المحيط، ليلامس بعض رذاذه. وهو يتمعَّن في السطوح لعلها تأتي بالأعماق إلى مستوياتها؛ فالاقتراب من البعيد هو دائمًا تورط في شساعته. كل ما يأمرني به جسدي هو أن أتحسَّس كل مغاير كأجساد لي لا أعرفها بعد.
والجسد الذي ينتشر هو الذي يضمُّ كذلك، يصير الجسم الذي هو قرين الضم؛ فهو يضم أجزاءه، ويخلق التشابه بين أعضائه، أو التنسيق بين الوظائف المتفاصلة، والمتكاملة في الأداء العام المتناسب. ومثلما يضم الجسد أعضاءه المتمايزة، فإنه يمارس حركات الضم لسواه؛ فالحب يدفع الجسد إلى تحريك يدَيه لضم المحبوب. كل حس الحب هو حس الاستيعاب، استيعاب الآخر، ولكن بدون تبديده، بل بتأييد مغايرته. فلو لم يكن هو كما هو، لما أثار حبي. وعندما ينتهي إلى أن يصير مماثلي، يترحَّل جسدي نحو سواه؛ ذلك أن الحب هو الرغبة بتأكيد أخروية الآخر، وتقبله كما هو حتى بعلاته عينها المشاركة في صناعة مغايرته. فاختلافه هو المشترك الوحيد بين الحبيبَين. وليس الضم حركة تكامل بين ناقصَين، بل إن اللقيا العشقية لا تتم إلا بضم الجسدَين المختلفَين جنسيًّا عضويًّا، ونفسيًّا ذاتويًّا؛ فالحب هو استثناء الرغبة الوحيدة القائمة على تأكيد المغايرة والقبول بها، بل التعلق بها إلى درجة التضحية بصاحبها نفسه. ذلك أن كل رغبة تتجه إلى التملك من موضوعها، بامتصاصه أو تبديده، إلا الحب فإنه يقيم مملكة الآخر ضامنًا لاستمراره كما هو، ولا ينحدر الحب إلى نزوع التملك من الآخر إلا عندما يفارق استثناءه الرغابي كحب، ويتحول إلى أية رغبة أخرى، تحتال على موضوعها بتوسيطه وسيلة لإشباعها. من هنا ندرة الحب؛ لأنه وحده يظل ينتمي إلى طائفة التجارب الكبرى للإنسانية التي تميز قصدية الجسد الإنساني، عن ألينة أو عضونة الجسد الحيواني.
ومعنى القصدية هنا هو انتقال الجسد من حالة إرادة الحياة المتجلية في الدفاع عن بقائه، إلى حالة إرادة الاقتدار. والحب يفعم الجسد شعورًا بالقدرة والقوة على اختراق الدال، وانتزاع ثمة دور منه، ويخصه وحده. وهذا ما تعبر عنه الأمثولة الشائعة أن الحب يعطي معنًى للوجود؛ فالجسد يحقِّق بالحب لُقيا الجسد الآخر، مندفعًا برغبة في العطاء لا تحد. ومتعة الحب أو لذته المادية ليست رشوة لاستدرار العطاء، أو تبرير المغامرة، وخوض ما يشبه المغامرة الكبرى في الحياة، بل إن المتعة الجسدية والنشوة اللذية، قد تكون تأكيدًا للجسدانية الحيوانية، لكنها في الوقت نفسه ترمز إلى تلك الحالة النادرة والقصوى في تصالح الذات مع الآخر، واندماج الجسدَين فيما يشبه الجسد الواحد ولو للحظات. فالحب يبرهن على إمكان تجسيد الاثنَين في الواحد، وتحقيق هدفية للضم، للجمع، للاتحاد، على أرضية من المتعة الحسية الخارقة لعادة المتع العضوية الأخرى، ذات السهولة الرتيبة في الجري إليها، والقبض عليها، والتمتُّع العادي بها.
مثلما هي علاقة الوجدان بالوجود، فإن الوجود المتكثر المتغير المتقلب، لا ينقذه من فوضاه البدئية تلك إلا اقتدار إنساني على استخلاص نقاط تبئير، ومحطات انتقال، وفواصل شبه ثابتة، لا تلبث أن تغدو منابر أحكام؛ فالوجدان متعايش مع الوجود ومتجاوز له في آنٍ. إنه تصفية للذاكرة الجسدانية، للفرد والنوع معًا. فالوجدان ليس منتج أحكام القيمة، ولكنه محلها ومكانها. أما المنتج الحقيقي فهو الكائن الوجوداني الجسداني، الذي هو لحظة تغيير دائم في بحران العالم؛ فالتأسيس الأخلاقي يستمدُّ أحقيته أولًا من «علم الكاوس» نفسه. ومن هنا فالقيمة محدثة دائمًا. والتعامل معها ينبغي أن يكشف عن ذاكرتها الجسدانية التي كونتها. وهي إذ تدخل الدال إنما تحتمي بمغايرته الشمولية، كيما تمارس أحكامها على البدن. وهذا ما تعبر عنه ثقافة التداول، من وصف الوجدان أنه صوت العام لدى الخاص، ولكن ما يفسد على هذا الوصف توازنه السكوني هي فُجائية الحب أو فوريته بالأحرى: بما أن الحب ينتشل جسدانية الفرد من الدال، فهو يعيده إلى مداره الحيوي بغتة، ويفرض عليه أن يحيا خصوصيته، وأن يفقد وجوده ككائن عمومي، خاضع دائمًا لأحكام القيم، مثله مثل الآخرين.
بحثًا عن الحكمة التراجيدية (الإشكالية)
من هنا كانت ثورة الإيغو الجسداني على الإيغو الفكراني. ذلك أنه إذا كان لا بد أن أفكر فهذا يعني أنه عليَّ باسترداد قاعدتي الحية أولًا. أن أتجاوز علاقة اللاشعور، القامع والمقموع. أن أستردَّ لساني من الدال وهيمنته الكلية على تلك الذات التي صنعها، وألبستني إياها التربية والحياة الجمعانية، وعلَّمتني أن أعتبرها معادلًا حقيقيًّا لمفردتي كإنسان. فما ينبغي قوله بعد لاكان، هو أن التفلسف الحداثوي أضحى مساويًا لأن يتفكَّر المرء جسده؛ إذ لم يعُد ثمة مجال لقيام تلك الذات الكبرى أو الصغرى بدون الجسد. حتى أصبح تفكر الاختلاف معادلًا لاسترداد الجسد. فهو «الآخر» الحقيقي الذي ألتصق به ولا أعرفه. إنه «الآخر» المتجسد، الحي، القائم الآن وهنا. إنه «الآخر» الذي يخصني وحدي، وأتنكَّر له؛ إذ أفتقد اللغة التي أحاوره بها. وهي لغة غير قائمة بعد. وعليَّ أن أخترع حروفها ومنطقها وصرفها ونحوها، من تصريف علاقات جديدة كليًّا، أباشرها مع لحمي ودمي، كما لو أنني أولد مع كل قطرةٍ من ذلك الدم، وهي تعبر أنحاء جسدي الباطني كله بسرية وخارجانية برية موحشة. في حين أن الجسد والدال لا يتفاهمان؛ إذ ليس بينهما لغة مشتركة.
إذن، يقف التفلسف الحداثوي ليس عند حد اختراع الفكرة، بل اختراع اللغة غير المسبوقة التي تُنطِق الإيغو (الأنا) الجواني، لكن الجواني ليس هو مستودع ذات النفس الذي اعتاد نوع من التفلسف الادعاء بأنه يغرف من كنوزها الدفينة؛ ذلك أن الجواني ليس هو إلا فراغًا مضاعفًا من الذات والآخر معًا. فلست لأُخفي شيئًا في أعماقي، بقدر ما أنا المخفيُّ الدائم عني. وظهور جسدي لا يظهرني بقدر ما يتحداني أن أعاود إخفاءه ليعاود هو استعراؤه السري بدوني. فالدال يعمل على فرض توسيطه اللغوي أو الأيقوني، والعام، بيني وبين جسدي من ناحية، وبين تلك الذات التي أدَّعيها، وتنقصني دائمًا؛ فالدال هو التوسيط عينه الذي يمكنه أن يتحكَّم دائمًا بحدَّي العملية معًا؛ تلك هي المشكلة الفلسفية المركزية: كيف التعرف إلى الوسيط، وتحييده أو الحد من سلطته المطلقة على المنقول منه، والمنقول إليه، ومادة النقل. فالناقل أو الوسيط سيد العملية، كما تُثبته المعلوماتية المعاصرة، وإعلامها الفوري. ولقد نُظر إلى الجسدي تقليديًّا كأنه وسيطي وجسري بين عمقي وعمق العالم، وأنه وسيط دخيل على إنشاء المعرفة. إنه لا يُتيح الصلة المباشرة بالشيء، ولا يتفقَّه ما يعنيه المعنى، لكن كلوسوفسكي كسا الجسدَ لغةً تعبيرية أخرى من فوضى حركاته وإيماءاته، ومعماريته (الانتصابية الذكرية)؛ فهو التمثال الحي المبتكر مع كل وضع، تشكيلًا مختلفًا من الإشارات والرموز، كما لو أن إثبات الجسد عضوانيًّا قد يعوضه عن أخرويته المطرودة؛ فيمارس تذويتًا مادويًّا، إيحائيًّا، تعبيريًّا؛ مثبتًا في كل ذلك إمكان الفن، باعتبار الفن هو مبدع اللغات الخاصة التي لا تحتاج إلى وساطة الدال، وقد تخترق أجهزته الثابتة. فهل يمكن للتفلسف أن يستحضر سؤال الجسد مع وجوده، وليس في غيابه، كما هو إمكان الفن واستطاعته المتميزة. بعبارة أخرى كيف يمكن الإعلان حداثويًّا عن الحق بالتفلسف، بدون الحق بالحب، أي بدون استحضار الجسد كذات حقيقية، وليس كحامل لها تارة، أو كنقيض لها تارة أخرى، وطريدًا ومطاردًا من قِبلها.
السؤال الفلسفي كسؤال الحب، يريد أن يلغيَ التوسيط؛ الأول يستهدف المعنى تحت مصطلح الجوهر أو الحقيقة؛ والثاني يهدف إلى جمع الجسدَين عبر اختلافهما وحده. وقد لا يستطيع السؤال الفلسفي أن يتحد بالمعنى إلا ليفارقه إلى المعنى «الآخر»، بذلك يعلن استقلاليته عن الأجوبة، وعن قيامه بذاته ولذاته بمعزل عن ركام المعلومات وتراكمها؛ لأنه يطلب الحقيقة ولا يتوقف عند المعرفة. إنه يعشق المغايرة التي قد تطيح به إلى بداد التجريد، ولن يعاود استثناءه إلا بمُمارسة ذلك العَود الأبدي، في تكرار النزوع إلى الاتحاد بالجوهري، ومعاودة الجري وراءه، وفض سراباته، وتمزيق أقنعته. ذلك هو حقه البديء أن يكون ذاتَه باكتشاف الآخر السابق على ما هو فلسفي (أو القبفلسفي)، واللاحق به من تلك الحيزات غير المفتوحة الأبواب، أو غير المفترعة عُذْرياتها. إنه حب شبقي تعشقي، كما أعلن هوسرل عن كون «موضوعية اللحم هي أساس كل موضوعية» — كبند رئيسي في كتابه — البيان: تأملات ديكارتية. والمقصود بالموضوعية لدى هوسرل هو إقامة الفينومينولوجيا كعلم دقيق، حسب مصطلحه الأثير. فالشهوة لا تشاغب على المعرفة، ولكنها تكسبها لحمًا ودمًا، تجعلها أكثر واقعية وموضوعية من أي معطًى علمي، وخاصة عندما يتعلق الأمر بإشكالية العلاقة بين الحياة والوجود. فإن استمرار الحياة مرتبط بالغذاء والجنس. أما الوجود فإنه اختراع إنساني؛ «فالزهرة هي بدون: لماذا. تزهر لأنها تزهر.» كما يقول أنجيلوس سيليسيوس — ذلك الصوفي الألماني من القرن السابع عشر. هل هذا يعني أن الأجوبة هي القائمة فعلًا، في حين أن الأسئلة هي الطارئة؟ هل يعني أن الحي هو جوابه الذي يمارسه بوظائفه العضوية؟ وأما سؤال الحياة، فهو من اختراع انفصالٍ ما عما هو كائن، ومحاولة اختراع أجوبة أخرى متكلمة وضاجَّة، وغير صامتة كجواب الزهرة أو الجسد العضواني، بما هي، وبما هو.
لكن الجسد الإنساني هو حياة ووجود معًا، هو تقاطع الطبيعة والثقافة، أي التاريخ. فهو صامت في عضوانيته، ضاجٌّ عبر وجودانيته، وهذه الوجودانية مصطلح آني، نود أن نعبر من خلاله عن وجود للجسد الإنساني، لا يكتسبه كله من برانية الدالِّ وأخرويته، بل يكتشفه ويحاوره كمساحة ثقافية تاريخية تتاخم الطبيعة فيه، وتتداخل معها. تلك هي خصوصية الجسد الإنساني؛ فهو أكثر من طبيعة صامتة، وأقل من ثقافة شفافة. لا يكفُّ عن التمفصل على حدَّي المحايثة والمغايرة في آنٍ معًا. إذا كان يتمتع بموضوعية تضاهي كل موضوعية أخرى؛ فذلك لأن موضوعيته تلك مكانية زمانية. وهي نتاج الماضي كما أنها تمسك بمشروع المستقبل، فليست كموضوعية العلم التي تقرر واقعًا محددًا منتهيًا إلى الترميز الرياضي أو المعرفي الذي يختزله. فأنت ترى الجسد وتقول الإنسان. تؤكد الفارق بينهما؛ إذ إن الحد الثاني يضم الحد الأول، لكن العكس ليس صحيحًا دائمًا؛ فالجسد مكتفٍ بوظائفه العضوية. أما الإنسان فله تعريفات كثيرة. وهذا يعني من جهة أنه لا يمتلك طبيعة ثابتة، كما أنه ذلك الكائن المنفتح على الزمان. وكلُّ انفتاح يتجاوز التنبُّؤ بنتائجه، وعلى هذا الأساس ميَّز هيدغر الإنسان بوجودانيته الزمانية. فماذا ينفع الجسد إن كان عاجزًا عن إيداع إنسانه، وما قيمة موضوعية هُيولته، مادته، إن لم تشفَّ عن روحه، أو حريته، أو مستقبله غير المنظور بعد؛ فالجسد الإنساني هو شيء من أشياء هذا العالم، ولكن لا واحد منها يشبهه. وإذا أمكن تحديده من هيئته وصورته وحركاته، فلا مجال لتحديد كائنه الآخر، الزماني؛ إذ إن زمانية جسدي ليست هي معادلة حريتي فحسب، بل هي لُغزي، وسري الفردي، وليس النوعي فقط. فأنا يرتسمني مستقبلي المجهول الذي يخص خصوصية حياتي، وصُدفتي من الوجود، ولا أعرفه حتى أنا نفسي، ولست لأركب مركب جسدي، وأسافر به نحو مجهول الزمان. ليس هو وسيلتي أو مطيتي لأية غاية. بل هو الآن موجهي وقائدي عبر ترحالي في أمكنة العالم؛ وأنا وإياه مسافر واحد، ولسنا مسافرين، في غياهب الأزمنة القادمة.
ولقد شُغلت الفلسفة في عصور عديدة من حياتها بتعليم الإنسان التحرر من أبدانه. والآن يعود الفكر إلى إثبات حقيقة أولية، وهي أنه ليس ثمة من تحرر إلا بالبدن ومعه، أي برفقته الدائمة. وإذا كان ثمة من مضمون حقيقي لثقافة الانهمام بالذات، فهو أنها ثقافة المحايثة أولًا، وما يجعلني محايثًا لحياتي ووجودي، والعالم الذي أنا فيه، هو أنني كائن بدني دائمًا. تلك هي البداهة الأساس والأس، لكل البداهات التي ستُبنى عليها وحدها، وإلا بنيت على فراغ، كقاعدة لكل بناء فكروي ومعيوشي، وبما هي أسٌّ لمفهمته، ولكن المهمة شاقة. ويتعلم الفكر هذا الدرس الأولي بصعوبة بالغة؛ إذ كيف للسؤال الشمولي أن يقنع أخيرًا بأنطولوجيا جهوية. كيف يغدو جهد التفكير في هذا العصر الذي لم يفكر كفاية بعد، أن يُمَفْهِم الخاص، والعرضي، والفاني، كأسلوب وحيد لمفهمة الكلي، وبدون مبارحة الخاص الأصلي.
وحده الاقتران بين الحق بالتفلسف والحق بالحب، هو الكفيل بالتعامل مع تلك المعادلة العصية. والحب هنا ليس هو حب الحقيقة وجارَيها الدائمَين: الخير والجمال، فحسب. وليس هو حب الحب عينه، كما يحلو لها أن تُثبته دائمًا كل أفلاطونية متجددة، لكنه هو حب كل يوم، وكل إنسان. فأن أجهر وأجاهر بالحق في التفكير، بحق الفلسفة، كرديف لحقي كإنسان بالحب، ذلك يعني ألَّا يفكر أحدٌ نيابة عني، مثلما لا يقدر أحد أن يحب بديلًا عن حبي. ألا يكون له بدن بديلًا عن بدني … فأن أمارس حق فكري كما أعيش الأمل واليأس، والطموح والخيبة … وأعيش الحب بكل سمفونياته الوجودية الصامتة والضاجَّة معًا، قد يكون ذلك باعثًا على استرداد ثمة عقيدة عصرية جديدة في الحكمة. فهي ليست فعلًا عقيدة ولا أيديولوجيا، لكنها تولد في لحظة انكسار هذه التسميات وأضرابها، كما لو كانت الحكمة لم تعُد طلب حياةٍ أخرى، بقدر ما هي الاتحاد مع حياتي الراهنة، هنا والآن، وتكرار التوحد معها بطريقتها الخاصة. إنها نوع من الحكمة السعيدة. وهي كذلك، أي سعيدة لأنها سهلة وفي متناول الكل، من الفيلسوف إلى سواه، أو هكذا تبدو لأول وهلة، لكنها هي الحكمة الأصعب لأني وضعت لها شرطًا عندما وصفتها بالسعيدة، وما يدريني أنها كذلك. وما يجعلني على ثقةٍ من قدرتي في جعلها كذلك؛ فالحكمة العارية من كل صفة تضاف إليها، هي الأصل، وكل توصيف لها قد يحدُّ من … حكمتها عينها، ولقد كان اكتشافها في فجر التفكير لم يجد أفضل من الحب علاقة وحيدة بها ممكنة، يسعى إليها، ويتقبَّلها، تاركًا لها حرية أن تعطيه ما يتوقَّعه وما لا يتوقَّعه منها.
والمرء لا يتحدَّث عن حياته إلا ليحياها أولًا، لا لأن يجعل الأفكار تتوسط المسافة بينه وبين حياته. أما الحكيم فهو الذي يدعي — أمام نفسه أولًا وقبل الآخرين — أنه يدع جسده يغوص في يمِّ الحياة، شرط أن يحافظ على رأسه مشرئبًّا ما فوق الموج المتلاطم. فالحكمة لا تسكن مملكة العقل وحدها، بل قد تفضل أن تكون بدون مملكة أيًّا كانت. وهي لا تعادل الفعل وحده، ولا الفكر، بل ترى نفسها أقرب إلى فعل الكون، إلى الكينونة، الساعية هي — أي الحكمة — وراءها دائمًا، دون أن تدركها؛ فالحكمة قصدية، بدون مقاصد معينة. وهذا ما يميزها عن التأويل الأخلاقي أو النفعي الخالص؛ فهي لا تتحقَّق كوسيلة لقيادة السلوك. حتى في الحقبة الأبيقورية والرواقية، الموصوفة بالأخلاقية والإرادوية، فإن الدعوة إلى تعلم الحكمة وتعليمها لم تتوقف على حسن التصرف، وبلوغ السعادة أو الطمأنينة، حسب الاختزال السريع لتلكما المدرستَين المتميزتَين؛ ذلك أن الحكمة كما هي قصدية بدون مقاصد، في حد ذاتها، فهي أيضًا ليست وسيلة لسواها؛ فالحكمة عند أبيقور مرادفة للتأمل الذي يمنحني وحده حق الحرية، ويجعلني أمارسها بعيدًا عن كل ما له طابع الإكراه بواسطة عنف الإغراء — الشهوات والملذات — أو إرغام الاتِّباع — القيم والعقائد والمؤسسات الجاهزة — وعند الرواقي، فإن الحكمة تتخذ طابع الدفاع عن مبدأ الاستقلال الداخلي للإنسان، للحكيم؛ حتى قبل أن يصبح هذا المبدأ حقًّا مؤسسًا لمفهوم الفرد في ظل المجتمع المدني الحديث. ولقد اعتمد الرواقيون على الإرادة ومرانها الخاص لدى الحكيم، كخط دفاع يومي عن الاستقلال الداخلي لرجل الحكمة، بما يتيح له الممارسة اليومية لحق التفكير. وليس من الصدفة وحدها أن يقوم كِلا المنهجَين الأبيقوري اللذي، والرواقي الإرادي، على التعامل مع الجسد، وخاصة جسد الحكيم والفيلسوف نفسه، كحقل تجريب أساسي، فاعل ومنفعل بعناصره جميعها. كما لو كان الجسد — بحسب المصطلح المعلوماتي المعاصر — يؤلف برنامجًا معرفيًّا، ذاتي الحركة من مبادرة وتعديل، واستهداف؛ فالأمر لدى هذَين النهجَين هو الكلي، مثلما كان تصور الجسد عند أفلاطون الذي أحلَّ فيه الانفصام، وجعل العقل أو الحكمة عنده، نوعًا من الحكم الذي يوازن بين الفرسَين الأسود والأبيض، أي بين التجسيد والتجريد، لكنهما يعترفان بالجسد الرغابي (الأبيقورية) والجسد الإرادوي (الرواقية).
مثلما لا يمكنني أن أحيا خارج جسدي، كذلك لا يمكنني أن أتأمل في حقيقة لا تكون لها علاقة بحقيقتي، كما لو كانت ظلًّا لوجودي منعكسًا على ذاتي من ذاتها.
والحكيم يريد أن يكون سعيدًا ﺑ «حقيقته» تلك وأن يعلنها على الملأ، كيما ينعم كل امرئ بحقيقته. ذلك كان الأمل السقراطي، فهو الأمل الذي لا يبشر بحقائق معينة، بقدر ما يعلم التمرس على افتقادها، والتأمل في اكتشاف دروبها، والتعامل مع رموزها كما مع أشباحها.
لأن الحقيقة غير موجودة أصلًا؛ فأنا أطمح فحسب، كإنسان وقبل أن أكون فيلسوفًا، إلى أن أحيا حقيقة الحب، حقيقة الأمل، حقيقة العزلة، حقيقة اليأس؛ فقد يتأتَّى للإنسان ألَّا يحيا هذه الأحوال على بساطتها، أو أنه لا يفوز منها إلا ببعض ظلالها، أو أنه يعيش أقنعتها فحسب. فأن يحيا المرء هذه الأحوال، هذا يعني أنه أضحى على مقربةٍ من جسده. كل شغف لا يهزُّني لا يمكنه أن يحتلَّ حيزًا من جسدي. فما أطلبه من الحياة هو أن أحياها حقًّا. وعند ذلك ليس مثل الحياة نفسها جديرة بالحب لأنها تجعلني حقيقيًّا عند ذاتي أولًا. ولقد قيل، منذ أيام مارك أوريل، الذي لم ينتج كتبًا في الفلسفة بقدر ما أنتج جسده في الحياة، بقدر ما كان سلوكه فلسفيًّا، بل كان فلسفة. وعلى هذا الأساس كان يسمَّى بالقيصر الفيلسوف؛ لأنه جعل حياته اليومية أشبه بأفكار مخطوطة على جسده وحركاته وأقواله ومواقفه. فأن أعيش الحياة الحقيقية، هذا يعني ألَّا أعيش الفلسفة، بل أعيشها باعتباري أنا السعيد الكئيب بها، المتشوِّق لما هو الأعمق، والأشد وضوحًا. فما يمنعني عن الحياة، هو امتناع الحقيقة، في حياتي، في حياة الناس من حولي. وهذا لا يعني أن الخلقي هو الفلسفي، لا أبدًا، على العكس، فإن عاشق الحقيقة، هو أول ثائر على القيم؛ لأن الموجود منها فقد حياته، وصار صنمًا، ولا شيء فيه يبعث على التفكُّر سوى تجاوزه.
الحكيم ليس ناطق الحكمة، لكنه من يجسدها، ومن يدفع الآخرين أن يروها في جسده كشخص، وفي شخصه كجسد. ذلك هو رهانه أولًا بالنسبة لذاته، ومراسه على تذويت ذاته، بما لم تكُنه حتى الآن. فإن لم يكن الفيلسوف هو حكيم نفسه، فكيف يمكنه أن يكون حكيمًا للآخرين؛ فأصدق فلسفة أو حكمة تلك التي تقدم سيرة صاحبها مكسوبة كأفكار، مكتوبة في كلمات، مقولة في عبارات، ذلك أن المفهمة ليست عملًا عقلانيًّا فحسب، لكنها برهان تالٍ على إشكالية وجود ومحايثة. والعَقْلَنة لا تعني قدرة على إصدار أحكام بالصواب والخطأ. هذه عملية مطلوبة، ولا يمكن التهرُّب منها إطلاقًا. إنما كل حكم في أساسه قائم على استشعار وجود للعبارة موضوع الحكم. فلا يمكن الحكم بخطأ قضية، إن لم أستشعر وجود الخطأ في بنيتها بالذات، كما أنني لا يمكنني أن أصدر حكم الصواب إن لم تبصر عيني وبصيرتي في وقت واحد، تلك البداهة أو ذلك الوضوح الساطع الذي أسمِّيه الصواب، الصح؛ فهو يأتي دائمًا من مرتبة الكشف، ومرتبة الإبداع، خاصة عندما أكون في صدد عرض أفكاري. وقد أكون أول من يفاجأ بفوريتها. وأول من يسعد بإشراقتها، ولا أجدني إلا في حال هياج المعرفة، أكتبها أو أذيعها، أو أحاور بها صديقًا أو حبيبًا. فإن أفكاري هي حبيباتي. ولو لم أعقد مع كلٍّ منها تلك العلاقة السرية، لما استطاع جسدي أن يولدها، ويطرحها أمام مخيالي في عرائها الكلِّي.
فرح الفكرة هو فرح الحب، وهو كل الصواب الذي يجعلني أتعشَّقها. أما اليأس فهو فشل الفكرة، عجزها عن ملامسة الحقيقة، وعند ذلك ليس أتعس من العيش مع الأفكار المغلوطة، مع أشباه الحقائق المشوهة، مع أكاذيب الجماعة كحقائق حياتها اليومية. ويبلغ اليأس درجة الهاوية من الإحباط، عندما تفرض على الناس الأكاذيب الكبرى باعتبارها تجليات الصواب عينه. فما يدفع إلى الثورة هو رفض الكذب العام، هو الخروج على سلطة الخطأ. والناس اعتادَت أن تبذل حياتها أفرادًا وجماعات، من أجل ما تعتقده حقيقة في نفسها، وترى عند الآخرين نقائضها، لكن الحكيم مع ذلك ليس هو إنسان الرأي، ولا إنسان المعتقد، بل هو الطامح دائمًا إلى التشكك في سهولة المعتقدات المتداولة؛ لأن السهولة لا تعني صحة المعتقد في حد ذاته، بقدر ما تشكل حاجزًا أو قناعًا تخفي بنيته بنيته الأصلية عن أهله ومريديه. ذلك أن الحقيقة ليست معطاةً بسهولة، وإن بدت، بعد التوصل إليها، أنها في غاية البساطة؛ لأنها تفرض بداهتها على الساعي إليها، ما إن يلتقيها. وإذا كانت الحقيقة ليست سهلة المنال، فإن الحياة في كنفها ليست معطاة، ولا مبذولة، وهي حياة في ظل الوهج الدائم. فكيف تغمض عينَيك دون الوهج، وكيف يُتاح لك أن تنام تحت ظهيرته الدائمة. الحياة الحقة ليست قريبة المنال، إنها دونها صحاري اليأس والعنت والقنوط، والثورة كلها. ويكاد الفيلسوف يعيش موته ألف مرة قبل أن يرضى عن وجوده، كيما يحقق ثمة صلة ما بالوهج الموعود. كأنما الحياة الحقة انبعاث اللحظة من الموات المستمر السائد وحده كلَّ آنات الزمن الضجر. وعندما يتحقَّق التقاط تلك اللحظة، فالتشبُّث بها عمقيًّا يؤبِّدها لدى جسد صاحبها، رغم انقضائها المحتوم. إنها نشوة اللُّقيا حقًّا، لكنها ليست لقيا المطلق، ولا لقيا الوهم. إنها تحمل لا تناهيها في تناهيها بالذات. ومن هنا فرصتها الكبرى، وألمها المدنف المضني.
الحقيقة الحية، الحياة الحقيقية، هي العطاء، ولا تعطي شيئًا؛ فهي الربح النادر في صحاري الخسارات اللامحدودة، ولا يلتقيها الفيلسوف إلا في تحرر الرغبة من النقص، وتحرر الحب من الخداع أو الضلال، وتحرر الوجوه من الأقنعة. إنها نوع من طلب الاستعراء. من هنا حاجتها إلى التجسُّد، أن تكون صِنْو الجسد، لكي تعايشه في عري مشترك. وقد يبدو كل هذا السرد ممتنعًا عن تمثُّله كوقائع، ما دام «الأنا» حاجبًا للذات والجسد معًا. فإن ما تعيشه ليس هو ما تفكر فيه، وما تفكر فيه ليس هو ما تعيشه. والتناسل من الشخص الواحد، قد يخترع أشخاصًا موهومة لا حدَّ لنسلها. فأنا متعدد الأجساد كما يقول الرواقي، كتعدُّد انفعالاتي، ولكنني أظل ذلك الواحد الأحد الذي يؤشِّر على افتقاد نفسه تحت كل شخوصه الأخرى. فليست ذات النفس هي العائدة الأبدية، لكن افتقادها بعد كل عودة، هو أبديتها الحقيقية. وعلى هذا فإن الحب هو ما تفتقده بعد كل لقيا؛ فالعاشق يحيا ويموت ألف لحظة في كل لحظة لُقيا مع معشوقه، كما في غياب اللقيا كذلك. كأنما الأصل هو الغياب. حتى الجسد له غيابه. والغياب هنا ليس بمعنى تناسي الجسد أو إهماله، أو تجاهله. تلك أمور معتادة في الحياة اليومية لكن غياب الجسد المقصود كأنه غياب الحقيقة. فالمسيح، بحسب سان بول، عندما يعود إلى الانبعاث، عندما يتجسد، فهو لا يرجع كروح أو كنفس، لكنه يرجع بكل جسده. ذلك أن المسيح مجسدًا، إنما يرمز إلى إمكان عودة الحقيقة، لكن الأصل هو الصلب، هو الموت. والانبعاث حادث إلهي. وفي فلسفة الحب الأرضي، فإن الجسد بدون تجربة الحب يغدو نسيًّا منسيًّا، لا أملكه، ولا يخصني بشيء. ذلك أن التساقط في رتابة اليوميات، هو الموت في الحياة. وما يعيدني إليها يكون أشبه بالانبعاث، وعودة إلى التجسد. على أنه ينبغي للحكيم المعاصر ألَّا يمارس الانبعاث المسيحي. فهو أبعد عن ذلك الحب للأنا الذي يضطره للتشبث به، والسعي إلى تكراره. ذلكم هو الانبعاث النرجسي، وهو أبعد ما يكون عن الحب؛ لأن الإنسان النرجسي هو بلا آخر. يعدم الأخروية في كل لحظة استرداد لذات الذات. إنه يقتل أهمَّ ما يميز وجود الإنسي، وهو الوجود على حد التمفصل بين المحايثة والمغايرة؛ فأنا لا أكون حيثما أكون، دون أن يغايرني عطاء العالم لي، بما يفاجئني دائمًا ولا أتوقعه. ولا يعيقني عن هذا النوع الفريد من الموت في الضجر، والانبعاث مجددًا في الحب، إلا قدرتي لا على التحرر من الأنا، ولكن على إعادة اكتسابه اختلافيًّا؛ فالعالم ليس مرآة لي، جسدي هو مرآتي لكل أجساد الآخرين، النابعة منه، والآتية إليه من مفارق الطرق العالمية كلها. والأنا ليس سوى الطارئ والعارض، والباحث أبدًا عن قاعدة وجود، لا يلقاها إلا عندما يخسر الرهان على لقيا العالم. لست سجين جسدي، بل سجين الأنا. والجسد هو رهاني الدائم على التقاء الأخروية، والتماس مع لحم العالم وأرضه وسمائه ووحوشه كلها، من كائنات نادرة وعجيبة، وأخرى قميئة وحربائية، وأخرى مائعة لزجة. أما الأنا فهو ما أخترعه كل لحظة لأدفن لحمي البارد الباهت داخل قوقعته، وأحتمي به من ملامسة الشمس والرياح؛ فالأنا يحرمني من الحب والانبعاث، من العطاء والعَود الأبدي إلى ذات الهم، إلى هم الحق بالحقيقة، قرين الحق بالحب. هذا الحق غير معترف به، وإن كان هو أعمق ما تنطوي عليه الرغبة في الوجود؛ فهو حق واحد وإن كان ازدواجيَّ التعبير، لأن الحقيقة وجودية حياتية، وليست علمية موضوعية. وهي عندما تُتيح لي الدنو منها، فإنها تمنحني سعادة اللقيا، كمن يلاقي الإنسان نفسه حقًّا فيما يغايره، فيفرح فرحه الطفولي أن يلاقي ذاته عند كل كائن، دون أن يبرح جسده. إنها السعادة المعبرة عن اقتدار على الوجود. فما يُبعثرني أكثر، ويوزِّعني في زوايا الكون الأربع، هو ما يلمني في لحظة الفرح القصوى، ويجمع شتاتي في بؤرة من استحقاق الحقيقة، ومن فرح الحب. وليس الامتلاء بالاقتدار سوى بلوغ التخوم الحدية، سوى الفيض بقوة الحياة التي تغمرني. ويسابقني جسدي إليها، إلى تلك التخوم المستحيلة. والفيض والعطاء بقوة الحياة هو صانع الرغبة، ومغذِّي الحب؛ فالرغبة قد تأتي عن الحاجة والشعور بالنقص. أما الحب فهو لا يشعُّ إلا عندما لا ينقصني شيء، أو على الأقل إلا عندما أحس بتلك الحاجة الطاغية لأن أُسعد من أُحب، إلى أن أجعله دائم الفرح بي؛ فالحب هو ما يتوج كمالي بالشراكة الدموية مع كمال الآخر. إنما شراكة اللحم والفكر، والموت كذلك. وكما يقول سبينوزا فإن «الحب هو فرح يصاحب الفكرة بعلَّتها.» ولكن الحب كذلك هو فرح الفكرة كلما تجاوزت علتها أو سببها؛ لأن الحب في ذروة النشوة، لا يقاس لا بأسبابه ولا بنتائجه؛ إذ يغدو سبب ذاته فحسب. وعند ذلك فهو الاستمتاع الحقيقي، والفرح الذي لا يُضاهى إلا بذاته. كما أنه هو الألم كذلك؛ إذ لا يمكن الحفاظ عليه، والاحتفاظ به وهو في تلك الحالة فقط، من الاستمتاع به، دون الانشغال بأسبابه، ولا الخوف من نتائجه. فانقضاء الحب جزء من وجوده، إن لم يكن مغزاه الحقيقي. وقد يختفي ذكر البعض من الحيوانات في ذروة الفعل الجنسي، وفي هذه الحالة ليس الفرد سوى وسيلةٍ لاستمرار النوع. أما الإنسان فقد أَنْسَن الجنسانية بعد أن أدانها طويلًا خارج التنظيم الاجتماعي الأخلاقي؛ غير أن تحرير الجنسانية من الاتهامية الأخلاقية والدينية، لم يكن ممكنًا إلا بتحرُّر الكائن من كل ما يحدُّه ويأمره سلطويًّا مع شعار: منع المنع، كأعلى راية فوق رايات الثورة الطلابية، الاجتماعية عام ١٩٦٨م في باريس — الفريدة من نوعها في تاريخ الثورات العصرية كلها — فقد تم تحرير الجسدانية، كمفهوم وحياة ذاتية، وذلك برفع الاتهامية المسبقة عن الجنسانية. وقبل ذلك لم يكن بالمستطاع الكشف عن جاهزية السلطة في أدق شبكيات العلاقة ما بين الذرات الفردية، وما بين ذرة الفرد وجزيئياتها المتناهية في الصغر؛ فالسلطوي توسيط خرافي الانتشار، يحفر ثقوبه في أدق ذرات الكائن، وقد تجنَّدت أهم فلسفات الثلث الأخير من القرن العشرين في مطاردته، بعد أن أصبح شعار منع المنع أعلى نظام للأنظمة المعرفية السائدة، أصبح حركةً شاملة، من ثورة الحداثة على نفسها، والانكباب على تصحيح مفاهيمها وقيمها. وكان كتاب «الكلمات والأشياء» لِفوكو بمثابة الطبعة المعاصرة لكتاب «نقد العقل المحض» لكانط، بعد قرنَين. وكانت فلسفة فوكو بمثابة النزول الثاني لزرادشت النيتشوي من وحدته الجبلية، لا للتبشير بلا أبدية القيم، وإعلان موت الإله، بل للبرهنة مع فوكو، على موت الإنسان كذلك، ومولد الجسد، بديلًا عن قطبَي الثنائية: الإله/الإنسان، التي استبدَّت بالمشروع الثقافي الغربي، تارةً بإلغاء أحدهما لحساب الآخر، لكن دون تغيير حقيقي في صميم العلاقة؛ إذ بقيَت علاقةً بين مطلقَين؛ أي إنها علاقة السلطة وحدها، وسواء تم إسنادها إلى ألوهية مطلقة، أو إلى إنسانوية على شاكلتها، أي مطلقة كذلك، فالاسم لا يغير من المطلق، ولا من علاقات السلطة التي تتيح لمن يدعي مرجعيته، التصرُّف شموليًّا وكليانيًّا بالنيابة عنه، وتحت سلطة تلفُّظه دائمًا.
لكن الموجود الوحيد بين المطلقَين، كان هو الفرد بجسده النحيل الصغير المحدود. ولم يكن يرضيه أن يتخذ من مفردته المحددة بجسدانيته، مرجعيته الوحيدة الممكنة للتفكُّر، كما للحب، كما للحرية. فما كان أصعب أن يولد الفيلسوف، بينما يولد كل لحظة نموذج الكاهن، ونموذج السياسي، وأخيرًا: نموذج العالم. ذلك أن الفيلسوف المطالب وحده أن يكون النموذج، كان في صميمه أبعد ما يكون عن النَّمْذَجة. لا لأنه يرفض التقليد والاستنساخ، أي ليس لأنه نرجسيٌّ، بل لكونه يطمح لكل فرد أن يغدوَ فيلسوفه الخاص. وسقراط الفيلسوف كان سعيه الدائب لدى محاورة كل إنسان، أن يُساعده على اكتشاف فيلسوفه الثاوي في ذاته، وإيقاظ صوته، وإعلانه فوق كل صوت للسان صاحبه، ولسان محاوره، في وقت واحد. فليس الفيلسوف استثناءً في حد ذاته، لكن الاستثناء هو في صعوبة الاعتراف به لدى كل ذات، والسعي إلى بعثه من أعماقه هو. ذلك هو الجهد الآخر والأصعب حقًّا مما ليس في متناول كل الناس، لكن ما إن يستيقظ الفيلسوف من ذات ما، حتى يكون جهده الفلسفي، هو في مساعدة الآخرين على تحقيق مثل هذه اليقظة بطريقة المفرد كأنها طريقة المجموع. مما يمكن في النهاية أن يبني مجتمع الفلاسفة، ذلك الحلم الأفلاطوني العريق الذي لا تبليه التجارب التاريخية، بقدر ما تؤكد ضرورته، لضرورة أحقيته وحدها.
وفي هذا العصر الذي لم يفكَّر فيه بما يكفي، لم تعد تطلب الحكمة كما لو كانت لقيا تقع خارج الساعي إليها. بل هي تلك الحكمة التي يعاش في كنفها، عيشة تراجيدية، ليست العيشة السلمية ولا المسالمة؛ إذ إنها تلك الحكمة التي لا تعرف كيف تغدو باعثةً على الطمأنينة. ولعل مصدر شبه اليقين وحده في معايشتها، هو أنها قائمة الآن وهنا، حتى دون أن يُعترف بها، والفيلسوف وحده هو الذي يتنبَّه إلى مثوليتها، وراهنيتها. ويشرع في سرد حكاياها على ذاته أولًا … إلى أن يحين أوان كشف السر، رافعًا ببعض أصواتها، جاهرًا بعلاماتها، كأنها بعض علاماته هو، ولكن ماذا يقول لنا الفيلسوف في النهاية … إلا صمته المتميز، إلا سكونه المجتزأ من سكون الأبدية النائية أبدًا.
الحكمة التراجيدية ماذا تعني منذ أن أعلن عنوانها نيتشه، وباسكال قبله. ماذا تقول سوى أن الفيلسوف لم يعُد يطلب هيجان الحياة من أجل هدف، أو ضد هدف آخر، بل من أجل الالتحام بها كما هي. وكما قال البعض: هناك كارثتان؛ الأولى عندما يبني المرء آمالًا عظامًا ويتمناها كلها؛ والكارثة الثانية، عندما تتحقق مثل هذه الآمال. لأن المشكلة: وماذا بعد! فالقول نعم! للحياة، للوجود هو التحدي الأصعب الذي تعلمه الحكمة التراجيدية منذ بوذا. كم هو عسير قول: نعم! للحياة، للوجود. أمام مثل هذه الاستجابة، ليس مطلوبًا من الحكمة أن تعلمنا أكثر مما هو ماثل في هذا الكل الذي نوجد فيه جميعًا، ويتجاوزنا جميعًا. ومع ذلك ليس لي في هذا الموقع الملتبس داخل الكل وخارجه معًا، سوى قاعدة جسدي الذي أرتكز إليه وحده. فما أمتلكه ويمتلكني في ذات الدرجة والمستوى هو جسدي وحده. إنه مئونتي في رحلة الوحدة داخل الكل وخارجه معًا. وليس لي من حكمة في كل هذا، سوى أنني أبحث عن محلٍّ لجسدي، مكان له بين أمكنة الأجساد الأخرى، في هذه الزحمة من فرط الآمال وانفراطها. فأنْ تولد طقوس الحكمة من جديد في هذا العصر، ذلك يعني حقًّا أن الفكر لم يتفكر بما يكفي بعد، لم يلتقِ قاعدته، جسده، في نعيم أو جحيم هذا الكل. هذا الكل الذي هو الحقيقة.
لا تتأتَّى تراجيدية الحكمة إلا من كونها لا تكفُّ عن تعليم ما علمته دائمًا، ومع ذلك يعاود الرجل الحكيم تعلُّمها وتعليمها. ذلك أن الحكمة ليست الاستمتاع بهذه الحقيقة أو تلك، بل بالحقيقة عينها، بالحرف الكبير. ولا شيء يرمز إليها إلا هذا الكل، والقول له: نعم! وإذا أنت استطعت أن تلتقط منه جزئية صغيرة، فقد تتمكن من رؤيته جميعًا إن كنت تحسن النظر، وأمعنت التأمل فيه، أو لا شيء من هذا.
وإذا كنا في نهاية الزمان نعود إلى طلب الحكمة، ونصفها بالتراجيدية، بل بالحكمة الإشكالية، تمييزًا لها عن تلك الحكمة الشرقية الأزلية المتصالحة مع نفسها أبدًا؛ فذلك لأننا نحسُّ أننا نحتاج إلى نوع الحكمة التي لا تجرؤ على الاعتراف بأكثر من جهلها، بعد كل هذا الذي حدث للإنسان.
مع ذلك، ثمة شيء واحد لا يتغير، مهما نالت منه عاديات الدهر، وهما الفكر والحب. اسمان لحق واحد، هو حق المرء بالحياة في كنف الحقيقة، لكنه لا يزال حقًّا أشبه بالممكن المستحيل؛ إذ أثبتت تجارب الفكر مع نفسه أنه إذا كان الإنسان هو كائن الحقيقة بامتياز، ويعيش وسط الحقيقة، التي هي الكل، لكنه عجز حتى الآن عن إشادة تلك المناقبية التي تجعله يعيشها كشفًا وجهرًا، مؤسسًا لحقه في التعامل معها، ولحقها في أن تكون ذاتها، أي كوجود ومعيار لهذا الوجود معًا.
فالحقيقة والجسد كلاهما موجودان، لكنهما يدخلان في تكوين الدالِّ دون أن تكون لأيٍّ منهما دلالته الخاصة به. وفاقد الدلالة يغدو فاقد الوجود. لا حقَّ له، وليس للآخر حقٌّ فيه. والاعتراف بالكل، بالدال الشمولي ليس من الضروري أن يتضمَّن اعترافًا بمكوناته، وعناصره جميعها؛ ولذلك فالحديث عن العودة إلى الحكمة في عصر أوج العولمة، ما هو إلا إحياء لإشادة ثقافة السؤال مجددًا. إذ إنه من موقع السؤال وحده تبدو الأشياء على غير ما تثبته ظواهرها في العادة. ومع التساؤل يمارس كل فرد حقَّه في الشك والمعرفة واستعادة البداهة. ذلك هو طريق التفلسف مقترنًا دائمًا بجدلية الصواب والخطأ، التي تنعكس على حياة الفرد من داخل، كما لو كانت حياة في الصدق ومع الصدق، أو في الزيف ومعه، وسواء كان الأمر هذا أو ذاك، فإنه لا يمكن القول إلا أن المرء إنما يحيا وسط الحقيقة، سواء أنكرها أو جهلها، أو تلاعب فيها وعليها. فإنها هي الأمر الواقع، والأمر اليومي. لا مهرب منها إلا بالانفصام النفسي، والإرهاب الجماهي بالأدلجة، وعقائد التصديق الإجباري، الغريزي منه، أو التلقيني، أو الإكراهي المنظم. ذلك ما يفرض البداهة الراهنة: إن أهم موضوع لما لم يفكر به بعد، للتفلسف في هذا العصر، هو سؤال السلطوي عينه، ما دام السلطوي يحتل مساحة التوسيط بين الفكر وأفكاره، بين التفلسف ومفاهيمه، بين الحقيقة وأشباهها، بين جسدَي العاشق والمعشوق.
ولا يأخذ سؤال الحق بالتفلسف كامل عنفه التمعيني إلا عندما يواجه إشكالية التوسيط، بأسراره وطقوسه، وتاريخه الخرافي كله. كما أنه لا يحقِّق سؤال الحب بالحب كامل فرحه، إلا باستعراء الجسد من كل أزيائه البالية أو المستجدة. واستعادة هيولاه الدفينة لصلتها البدئية بجسدانية الكون وهيولاه اللامتناهية. فتلك هي حياة الجسد الفاني بانبعاث حياته الفانية وتكرارها في سياق الأبدية اللامتناهية؛ فالحب الإنسان هو الضامن الوحيد لاشتعال شرارة الدفء الوحيدة في برودة الحب الكوني، معلنًا عن تواجد ما يشبه الأبدية في لحظة استمتاع الذات بالآخر، بدون الشريك الثالث المفروض: التوسيط ومشتقاته.
انظر الترجمة العربية الصادرة عن مركز الإنماء القومي، مراجعة وإشراف: مطاع صفدي. الفصل المؤثرات الإدراكية والمؤثرات الانفعالية.