(١) نظرية إبطال الإنسان بين استبدادية الدلالة واستحالة المعنى

تجربة الجسد: الحد والبعد

العالم يشكل بالنسبة للجسد مسافة البعد، ودخول الجسد إلى العالم في كل مناسبة إنما يمنحه إدراكًا جديدًا لمسافة البعد، إنها تولِّد عنده حس المكان، فيكتشف الجسد مسيرته عبر المكان، وكأنه يضيف إلى جسدانيته المحدودة، شيئًا من اللاجسدانية غير المحدودة، والمنبسطة، مع ذلك، في كل اتجاه حوله؛ فالجسد مشَّاءٌ أصلًا، جوَّاب آفاق، ومخترق للمسافات. وهكذا فإن حسَّ البعيد مرتبط بالتجوال والبحث عما ليس معروفًا؛ فالجسد باحث في صحاري العالم عن البحث عينه، أي عن تلك الإمكانية في تخطِّي المسافة، وليس في إدراكها فحسب.

يتشكَّل الجسد جسدانيًّا عالميًّا، وهو يشكل في نسيجه بالذات حس البعيد، أي مجازفة الانقذاف إلى عمق المكان. من هنا ليس المكان خارجي الجسد، إلا بقدر ما تعكس هذه الخارجانية، شيئًا من برانية العمق الجسدي عينه. إذا كان الجسد يفرض على صاحبه كل لحظة تجربة الحد، فإنه في الوقت عينه يزوده بحس البعد. ما بين الحد والبعد، تتنامى برانية الجسد، كنوع من جوانية مقذوفة دائمًا خارج حدودها. وليس الحي مشاءً إلا لأنه يلبي نداء البعد، أي أنه يباعد عن نفسه حد جسده، أو جسده عينه باعتباره أصل الحدود كلها.

إذا لم يكن الجسد واعيًا غريزيًّا بحدِّه الإجمالي، فإنه لا يستطيع أن يميِّز أين تنتهي يده، وأين يبدأ الشيء الذي يبغي الإمساك به. إن برانية الجسد، أي هيئته الفيزيولوجية تبني حدوده للآخرين، كما أنها تكوِّن شخصيته الاجتماعية؛ فالكيان مضاف خارجي للجسد، لكنه في الوقت عينه محتاج إلى ما يضاف إليه، والإنسان الوالج في المسافات، يجعل عينَيه دائمًا شاخصتَين نحو الأمام الأعلى حيثما الأفق المبهم الجذاب بانبهامه وانبعاده؛ فالوجه يكاد يواجه ويناظر الأفق بجبينه المسطح والمرفوع نحو الأعلى. النظر شاخص إلى الأعلى، والوجه يتلقَّى علوَّ العالم. لا يمكنه إلا أن يطمح إلى تعالي المكان اللامتناهي أمامه. هنالك حيلة البعيد، إنه الخادع الجميل، ولا يمكنه إلا أن يكون خادعًا ومتحايلًا؛ لأنه ينطوي على جاذبية اللامتوقع واللامحسوم. البعيد هو فخ الانطلاق إلى الآفاق. بقدر ما تفرض الدلالات معانيها الجامدة، فإن الجسد يود أن يكون السهم المنطلق. إنه لا يعرف العالم إلا آفاقًا، وليس أمكنةً لقدمَيه فحسب. إنه مشَّاء حقًّا، لكنه طائر ملائكي كذلك، لا يمكنه إلا أن يظل ناشرًا لجناحَيه، وإلا لسقط على الصخرة العالية ودُقَّت عنقُه فوقها.

من هنا يكون تعريف الجسداني هو الكائن الرغابي؛ لأنه لا يوجد إلا على مسافات رغائبه. تجنِّحه الرغبات، لكن القدمَين تغرزانه في التراب. هنالك بعد العلو، وبعد الأفق. وكلاهما متحدان؛ أحدهما تتصاعد نحوه هامةُ الجسد بانتصابه أعلى فأعلى، بانتهاض جبينه إلى سقوف العالم، وهكذا، بفضل العينَين يصير الجسد مجنحًا. ينمو فيه الملاك الذي لا يمكنه أن يمتنع عن نشر جناحَيه خوف أن يهوي إلى الهاويات. أما البعد الآخر نحو الأفق، فهو ينهض بالتحليق الذروي نحو الأعلى، على سوية المستوى الأفقي الذي يمكن الجسد من التوجه إليه؛ فالبعد كامن في الجسد ومنتشر حوله. ورغم أنه لولا العالم لما كان ثمة بعد؛ إلا أن العالم لا يقدم إلا كل ما هو محدود؛ فالإنسان هو الذي يدخل البُعد إلى العالم، والبعد ليس هو المسافة المكانية، حتى يمكن القول إنه لا مكان للبعد بالرغم من التواصل اللغوي بين الترميزَين. إن البعد يحتاج إلى من يكتشفه، ومن يكتشفه يوجده، وهو بالطبع الإنسان وحده. فمن الوجهة الإناسية (الأنتربولوجية) يجول الجسد ماء الأبعاد المكانية التي تعطيه حس الامتداد، لكن البعد نفسه هو حادث أنطولوجي. إنه يوفر المسافة شعوريًّا ويلغيها مكانيًّا في الوقت عينه. والكائن الإنسان جوَّاب الآفاق بقدمَيه، أو بوسائط النقل الحديثة، لكنه يأتي بالبعد إلى ذاته، ولا يمضي هو إليه. البعد مسافة جوانية، ولا يمكن ارتيادها إلا برانيًّا. إنها تُتيح للفكر أن يرى اللامحدود وراء كل فكرة أو عاطفة أو نزعة محدودة تنتابه. إنها تلك المسافة التي توجد بَعد الحدِّ من كل ما هو محدود أعانيه.

البُعد هو مكان زمانيٌّ لأنه يوجد دائمًا بعد مكانه. تجربة البعد هي صلة الوصل بين المكان والزمان. ولقد اعتبر الإغريق أن الحركة في المكان تولد الزمن، أو تنشئ الشعور به، لكن الإحساس بالبُعد نفسيًّا، يوفر الشعور بوجود مكان غير امتدادي، أي غير مُتمَيْكن موضوعيًّا. إنه مساحة تمتلئ بوجود الكائن داخليًّا وتفيض عنه؛ وبالتالي فإن اكتشاف توالي الزمان إنما يعود إلى انتفاء الحد، أي إلى البعد. وهذا البعد هو نوع من حراك داخلي يناظر الحركة في المكان الموضوعي، لكنه لا يتعلق بها؛ ذلك لأن المخيلة تستطيع تصور البعد والحد معًا. وهي لو لم تجنح إلى البعد لما أمكن تعيين الحد. والحقيقة فإن القدرة على تصور البعد ليست نابعة أصلًا عن القدرة على إلغاء الحد؛ إذ إن العالم يقدم إلى الإنسان كل لحظة تجربة الحدود، أما هو فيدخل عليه مجازفة اللاحد. من هنا فالبعد حادث عالمي، لكن بدون الكائن تنتفي ترميزية الحدود واللاحدود أصلًا؛ فالمسافة مكانية، والبعد إنساني كينوني.

لذلك فإن مقولة الكائن — في — العالم التي شكلت محور التفلسف الحداثوي الجديد أو المعاصر، بقدر ما هي أطروحة المحايثة عينها، فهي أطروحة المغايرة. عبارتها متحركة خارج كل تعريف لها. فلا تصنيف يرسم هندستها، وهي إن استطاعت أن تعين دلالة، كان البعد هو حدَّها الأنطولوجي وليس المنطقي؛ فالكائن في العالم موزع على جانبَي حرف الجر: «في». وكان من المفترض إلغاء ذلك الحرف، لو لم يكن أمرًا مستحيلًا؛ لأن العبارة تجسيمية أصلًا. وهي تقدم لنا لوحة يمكن رؤيتها عبر كل هذه الكائنات البشرية والحيوانية وسواها التي تعجُّ في أمكنة معروفة من العالم، ويبقى العالم الآخر مجهولًا خارجها وحولها، وفي الجسد عينه.

البُعد مكان أنطولوجي مقابل المكان الامتدادي أو الطبيعي، والسيكولوجيا تقدم معارف تجريبية كثيرة حول هذا التمايز بين المكانَين؛ فالإنسان المعاصر يحسُّ الانحصار لأنه يطلب الوساعة. وبقدر ما تتراكم الكتل البشرية لصق بعضها، فإن العين تجتاز السدود اللحمية أمامها، وتنطلق كالسهم إلى مقاربة الآفاق. والحصر والحصار شعور بانتفاء المسافة. ها هنا ينبثق إحساس البعد كاعتراض على السدود والحدود، كأنما الأصل هو الوساعة، ثم يأتي السد، لكن الوساعة بدون خارطة، والإنسان صانع السدود؛ بمعنى أنه ينتزع كوكب الأرض من الجيولوجيا، من الكونية البدئية، ويحوِّلها إلى جغرافيا، أي إلى خارطات مرسومة أمام حواسِّه، ومبثوثة في ذاكرته. أما انتماء الأرض إلى الجيولوجيا، فهذا لا يشير إلى الأثريات العلمية، بقدر ما ينزع إلى التأشير على استعادة الانتماء إلى السديم الأصلي، إلى الكاوس. فما هو هذا السديم؟ إنه بربرية اللاتكوُّن، ما قبل حضارة الأشياء والمسافات والخارطات الاجتماعية والجغرافية معًا.

أما البُعد في اللوحة الفنية، فهو اكتشاف العمق باعتباره يجسِّم الفراغات كيما تبرز حدود الأشياء، أو الموضوعات المرسومة، ولقد اعتبر التصوير الغربي متقدمًا نوعيًّا على الترسيم الشرقي مع اكتشافه للعمق، الذي دُعي بالبعد الثالث. ذلك يسجِّل قفزة من هندسة السطوح، إلى هندسة الفراغات؛ فالإتيان بالفراغ يعلن عن القدرة العقلية في تفكر اللاشيء، واستخدام الصفر قبل كل رقم، قبل الواحد. وهكذا إن تصور البعد هو طريقة لتفكر الانتفاء، ومن قول: لا يوجد شيء هنا أو هناك، إلى قول: العدم، تحقَّقت نقلة معرفية من العجز عن تصور اللاشيء إلا على أساس أنه انتفاء لشيء ما، إلى تصور العدم كأصل لذاته. وإذا استخدمنا هنا لغة أرسطو، فإن «الشكل» أو الصورة، يدخل إلى «الهيولى» لينشئ منها شيئًا، كائنًا، مفهومًا؛ فالهيولى لا تُدرَك إلا على أساس «انتظار» الصورة؛ وبالتالي فإن عمل الفكر هو التشكيل، أي إعطاء الشكل، لما ليس له أي شكل من قبل. أما إعادة تدمير الشكل فهذه الحركة لا تعيدنا إلى الهيولى السابقة، بقدر ما تقذفنا إلى الفوضى، أو الكاوس، فيصعب التفكير إذن فيما يتجاوز التشكيل وتدمير التشكيل أو إلغاءه. وإذا كانت ثنائية الصورة والهيولى حاولت أن تأتي ردًّا على الجدل الصاعد عند أفلاطون، واعتُبر هذا الرد بمثابة بداية للواقعية مقابل المثالية، فإن مدرسة أرسطو فعَّلت المثالية؛ إذ جعلت تكوُّن المفهوم أو المعرفة مرهونًا بهذا الاتحاد ما بين الصورة والهيولى، وبالطبع كأنما المعنى لا يجيء إلا مع نجاح الصورة بالتقاط شيءٍ من الهيولى، كيما تحوله إلى موقع محايث لها، لكن التجسيد ليس ماديًّا فحسب، بل إنه يشيد كيانًا معرفيًّا، يناظر كيان الجسد؛ إذ إن التشكيل هو فعل تجسيد لما لا قوام له أصلًا. والعقل كالعين يريد أن يرى حدود الموضوع. وما لم تبرز الحدود، فلا تجسيد؛ وبالتالي لا معرفة؛ فالجسدانية تقبع تحت مصطلح التعريف المنطقي، ومن بعده، القانون العلمي.

والجسدانية اكتسبَت مفهوم الكيان الإنساني، وكانت أول خاصية للإنسان، هي الروح. كما أسماها أفلاطون لأول مرة في محاورة ألسيبياد Alcibiade، باعتبارها المبدأ الذي يؤسس إنسانية الإنسان. ولقد تطور مفهوم الروح، إلى «الشخص» مع أوغسطين، والوعي عند ديكارت، و«الأنا» حسب ما أعطاها روسو من دلالة، و«الذات» الذي أبرزه كانط. وقد تعمَّق تايلور في تحليله هذا التطور للمبدأ المؤسس للخاصية الإنسانية في مؤلَّفه الجامع: «تشكيل الهُوية الحداثية»؛١ وكان يهدف إلى إعادة تحليل ذات النفس أو عَين العَين (Self) التي صنعت حداثة الغرب وبؤسها كذلك، على حد تعبيره، كأنما الجسد ليس مقبولًا بذاته، بحدوده الظاهرة. فلا بد أن ينطويَ على مسافة أخرى داخله؛ فهو قد يحدُّ الروح، لكن الروح بُعد ثالث لهندسة الجسد المسطَّحة. إنها تقبع وراء ظواهره، بَيْد أنها تستخدم كل تلك الظواهر كدلائل على بعدها المستتر؛ فالعقل منذ ابتكار الرياضة، وخاصة منها الهندسة، قرن المعنى بالحد، وتخلَّى عما يتجاوزه، أو أنه أوكله إلى ما يحميه من المسافات الأخرى غير المنضبطة؛ ذلك أن اختراع الخط فالشكل، والعدد، يؤرخ أهم انتصار للعقل على اللامحدودية، أو التجانسية المطلقة التي يبرزها الامتداد اللامتناهي، وهكذا فالرياضة أَنْسَنت الفراغ، وأعطت أول لغةٍ ترميزيةٍ تخصُّ مفردات الوعي الإنساني للشكل وحده؛ فهي جلبت «البُعد» من لا محدوديته، من سواسيته، وأخضعته للشكل الهندسي والكم العددي. غير أن الرياضة ستظلُّ تحافظ على جوهرها الأصلي، وهي أنها العلم الذي يقرأ اللامتناهي بحرفية المتناهي؛ ولذلك فهي نمت وعاشت توءمًا للفلسفة. هذا بالرغم من أن الفلسفة لا تستطيع أن تقيم فاصلًا نهائيًّا بين المحدود واللامحدود، بين المعنى واللامعنى. ولعل عدم استطاعتها تلك تؤلف خصوصيتها وتميزها. إنها لا تقرأ المحدود إلا بلغته اللامحدودة.

الوجود في العالم هو الوجود في البعد. والجسد هو محلُّ هذه التجربة قبل الوعي المجرد؛ ذلك أن الجسد هو شيء، حجم. كتلة مادية، من بين كتل الأشياء الأخرى، المتواجدة في العالم، لكنه الكتلة التي تتمتع بمعرفة نفسها على أنها هي كذلك … وشيء آخر كذلك، هو الذي يمنحها أو يؤهلها لهذه المعرفة. والبعد ليس توصيفًا إناسيًّا، (أنتربولوجيًّا) فحسب، بل هو دليل أنطولوجي أيضًا؛ لذلك يصح تعريف الوجود في العالم على أنه أصلًا هو وجود في البعد. والبعد يعني الانفصال. والتاريخ الإناسي وُلد مع ولادة الوعي بالمنفصل وغربته، والبحث عن المتصل وإقامة المؤالفة معه، والفهم هو الطريق الوحيد المتاح للإنسان لإعادة المؤالفة مع الأغراب. ومن هنا يمكن تعريف الحضارة بطريقة استرجاعية، على أنها ثقافة التواصل.

يلعب البُعد، بالنسبة إلى العقل إذن، دور فاعل التحدي والاستفزاز من أجل الانتصار عليه وإعادة استيعابه؛ أي بإلغائه، والاستغناء عنه بترميزاته الاسمية والدلالية؛ ولذلك اعتُبر التفكير بالدلالات هو التعامل مع الأشياء في غيابها؛ فالدلالة ليست وسيطًا بين الفَهْم والشيء، بقدر ما هي عينها شيء آخر ينبغي تأمُّله في ذاته. الدلالة هي البعد الأليف، البعد القريب، وهو إنما يترجم نفسه فحسب؛ أي إن الدلالة هي دلالة ذاتها، بالرغم من اعتبارها التداولي أنها دليل شيء آخر، أو وسيطته المعنوية؛ ولذلك كان التعريف الأساسي لمنهج التفكيك، عند مبدعه الأول نيتشه، ومنظِّره تفكيريًّا وتطبيقيًّا هيدغر، إنه تَعْرِية الدلالة من كل التباساتها التوسُّطية، وحتى التأويلية، من أجل الوصول إليها كدلالة ذاتها فحسب، أي إن التفكيك هو محاولة الفوز مجددًا بكمية «البعد» الذي تنطوي عليه الدلالة. وهو البعد الذي يبرز غربتها الخاصة، ويُعيدها إليها.٢

ومن هنا فالتفلسف الحداثوي يتميَّز بقطيعته مع ذلك التفلسف المعهود، الباحث عن الدلالات كماهيات للأشياء، والذي يحدد هدفه باستنتاج الأشياء من معانيها. ذلك أنه يعتبر أن الفكر قد استنفد هذه المنهجية التقليدية؛ إذ إن اللغة لا تمتلك الأشياء بل الدلالات، وإن الدالَّة وحدها هي الجديرة بالتحليل، وإعادة التفكُّر في التباسها الخاص؛ فالتفلسف الحداثوي يفكك الدلالة من التباساتها ليصل إلى فراغها الخاص، إلى بعدها الذاتي. وما يعنيه هذا البعد هو انفصال الدلالة أصلًا عن «دالَّاتها» أي عن شبكة تداولاتها اليومية أو الاصطلاحية، وحتى العلمية الموثوقة. غير أن ما نضيفه نحن في هذا السياق، هو أن البعد لا يحل مكان الجوهر أو الماهية الأصلية. ليس هو مآل الدلالة الأخير بقدر ما هو بدايتها الدائمة أو المستمرة؛ فالبعد هو فرار الجوهر وليس التقاءه، ولكنه فرار بطريقة جوهرية مع ذلك.

هذه المقاربة الجديدة لا يمكن إدراك تميزها الخاص إلا بمضاهاتها مع ذلك التقليد الفلسفي العريق المتبع منذ أيام أفلاطون، والمحدد بالدعوة دائمًا إلى الغوص على عمق الأشياء. وقد قدمت نظرية المُثُل الأفلاطونية أكمل منهجية عن مفارقة المعاني السامية وضرورة الصعود إلى معارجها، عن طريق الخلاص من ظواهر عالم الفساد الدنيوي، وكانت هذه النظرية منطلقًا للأديان والأيديولوجيات جميعها. غير أنه ضمن تاريخ الفلسفة، تنامَت تقاليد البحث عن الحقيقة كمحاولات جادَّة من أجل الوصول إلى ماهيات الأشياء … وانشقَّ هذا التاريخ إلى تيارَي اليقين والشك، وما بينهما من النسبيات ودرجاتها المختلفة الجانحة يمينًا أو يسارًا، لكن النظرية النقدية، المؤسسة مع كانط، حاولت أن تضع حدًّا للسجالات العقيمة حول نقائض اليقين والشك، فأعطت الأهمية الأولى لمفهوم الظهور باعتباره أول مُسلَّمة واقعية لدلالة وجود الكائن الإنساني في العالم؛ وبالتالي فالسؤال الفلسفي يتحدَّد من جديد حول تعامل العقل مع هذا الظهور. الأمر الذي يجعل الحديث عما لا يتمتع بالظهور، أي لا يندرج ضمن سيالة الزمكانية، نوعًا من التأمل في «الشيء في ذاته»، أو الماهية حسب المدلول التقليدي، ودعاه كانط noéme مقابل phénoméne، الظاهرة؛ فالشيء في ذاته ممتنع على كلٍّ من المعرفة التجريبية «العلمية» والفلسفية، لكنه قد يمتنع على الإنسان كمعرفة، إنما ليس كمعاناة.
لكن الفلسفة بعد كانط لم تستسلم لهذا الفصل بين الفينومين والنومين؛ فقد فاض القرن التاسع عشر بالمذاهب الفلسفية الكبرى التي حاولت تجاوز هذا الفصل في سياق ما عُرف بالتيارَين المثالي والواقعي الوضعي. وجاءت محاولة هيغل بإدخال الصيرورة الجدلية إلى معارج الأقانيم الفلسفية، وتحريكها وزحزحتها من استبدادها الدلالي النهائي، كأعلى مشروع ساعٍ إلى تحديث ثنائية العقل الغربي بين الفكر والوجود، أو المفارقة والمحايثة. فإن هيغل بذلك إنما يسترجع البعد، ولكن زمانيًّا؛ وبالتالي فالمطلق فارغ إن لم يدخل التاريخ، وينخرط في إنتاجية الزمان نفسه، وأحداثه المتعارضة، والمتكاملة في آنٍ واحد، والمحققة بذلك الغائية الشمولية التي تجسِّد البعد البعيد، وهو بدوره يشدُّ الحدثيات النسبية إلى مقاربته، والتزود من غناه اللامتناهي، كيما تقضي على البعد المتباعد بين حدَّيها، وتقربهما من الاتحاد والاندماج في نهاية المسيرة، أي نهاية التمزُّق وبناء الوحدة بين العقل والواقع، يجعل هذا الواقع يغدو نتاجًا عقليًّا خالصًا في غاية المطاف. وهذا يعني أن الغائية الأنطولوجية ينبغي أن تطامن من شموليتها في المحصلة الأخيرة، ينبغي أن تختزل البعد البعيد في لا نهائيتها كيما تحقِّق الحكمة الهيغلية القائلة: كل ما هو عقلي هو واقعي، وكل ما هو واقعي هو عقلي. فالفكر ينحسر إلى العقل، والعالم يتضاءل إلى مجرد واقع. وعندئذٍ، بدلًا من الصيرورة الأنطولوجية، تحل الجدلية التاريخية، وتأتي الماركسية لتعطي حاملًا واقعيًّا حتى أقصى التجسيد، إلى هذه الجدلية، بتعيينها كجدلية مادية. كأنما العالم يفقد بعده البعيد العالمي مع كل فلسفة غائية؛ ذلك أنه لدى كل فلسفة من هذا النوع حاجة لتخليص التاريخ من سيولته اللامحدودة، بافتراض نظام فكروي معين يتبعه أو يتعلق به، ويُمَوضعه فوق جريانه عينه، ويوظفه على أحداثه رقيبًا وحسيبًا. وهذا ما يُدعى بعقلانية التاريخ، التي قد تغامر في صيرورة النقص والفساد، لكنها تفيد من كل مغامرتها تلك في إنقاذ التاريخ من نفسه أخيرًا؛ وذلك بوضع خاتمته موضع التنفيذ، عبر التطابق الكامل بين العقل والواقع.٣

فالبعد البعيد هو المستقبل وثمرته الكبرى في انتصار العقلانية الكاملة؛ ذلك هو الفارق بين الفلسفات التاريخانية للقرنَين الأخيرَين، التاسع عشر والعشرين من الألفية الثانية، وبين الفكر الآخر غير المولود بعد، والذي يلوِّح ببعض إشاراته، يطلقها من أفق مستقبلي آخر مختلف. وماذا كانت تعني الفلسفات التاريخانية سوى أنها تفترض أن الصيرورة ليست مفهومًا مكتفيًا بذاته، وأنه لا بد أن يضع حدًّا لحركيته عندما تتحقَّق غائية تنتجها الصيرورة عبر تقدمها التاريخي والتدريجي، تنتجها هي — أي الصيرورة — ثم تلغيها في نهاية المطاف. أما الفكر — ما بعد — التاريخاني، فهو يُعفي نفسه سلفًا من درامية هذا الإنتاج، وحتمية هذا الإلغاء المتصور. يريد أن يرى الصيرورة غاية في ذاتها؛ لا تهبط عليها الغائية من أية جهة خارجية عنها، كما أنها ليست وليدة عقلانية الصيرورة نفسها؛ فالصيرورة اختراع حضاري يتخلَّص من هول الكاوس ولا عقلانيته المرعبة، وقد يستبدل الوعي بهذا الاختراع، فوضى الحالة قبل الأنتربولوجية والأنطولوجية، بالتاريخ، أي بهذا المسار الخطي الخاضع لوتيرة الزمان الإنساني، وتوزُّعه بين أبعاده الثلاثة، من ماضٍ وحاضر ومستقبل؛ فالصيرورة البدئية، الأقرب إلى الكاوس، يتم اختزالها حسب الفلسفات التاريخية إلى مفهوم التاريخ وبطله الوحيد: الإنسان. وهذا التاريخ العام يناظر عمر الفرد الخاص. لا بد له من بداية ونمو وزوال. وهكذا شغلت فلسفات القرنَين الأخيرَين باختراع أنظمة التاريخ، مستوحاة أصلًا من نوعية تصوُّر الغاية؛ ذلك أنه لا طاقة للفكر التاريخاني على تحمل صيرورة غير محكومة بهدفية معينة مقدمًا، حتى عندما يدرك المنطق المجرد هنا التناقض بين تصور الصيرورة، وتصور الهدف حيث تحكم الصيرورة على ذاتها بالانقضاء. صحيح أن الصيرورة تنطوي على وتيرة السلب والإيجاب، التي تسمح لها بالحركة لكن انقطاع الصيرورة تفرضه المواجهة مع كلية السلب، وهنا فإن التاريخانية تحاول التعويض عن كلية السلب بافتراض تركيب شمولي، تتجلَّى من خلاله غائية سعيدة دائمًا، لكونها أضحت إنجاز الإنجازات التحقيبية السابقة جميعها.

البعد البعيد ليس له دلالة. والصيرورة التاريخانية هي دلالته التي تطمسه من أجل إشادة منظومة كوسمولوجية، منضبطة ذاتيًّا بفضل قوانين أزلية. ومع الحداثة تمت أَنْسَنة الصيرورة، انتُزِعَت من خامتها الأنطولوجية الحيادية، وجُعل التاريخ يمتطيها ويقودها لحساب تجاربه الكبرى، ولا شك فإنه مع الحداثة غدا الفكر هو التغير، لكنه ذلك التغير المنضبط ذاتيًّا بالاتجاه؛ فالتغير يأتي بالاختلاف، لكن الاختلاف يبين له منطق محدد يمكن قراءته وفق إنتاجاته الموضوعية؛ فالتاريخانية ترفض تفسير الحدث المنتج بذاته، بل تردُّه إلى محله من الانتظام العام؛ وبالتالي تمتنع عن اكتشاف اختلافه.

القرن التاسع عشر ابتكر الفلسفات الكبرى، والقرن العشرون طبقها على الفكر والواقع معًا، والقرنان يؤلفان معًا عصرًا واحدًا، قد يكون من أهم وأخطر ما أنتجه وجود الإنسانية على كوكب الأرض. إنه عصر العقلانية، بكل ما يعنيه هذا اللفظ من تقنية اصطلاحية، ومن إيحاءات عامة وتداولية. وقد تتميز هذه العقلانية في البداية، لدى المتعاطين معها من المفكرين والعلماء، بالخاصة الأساسية التي تصلها من كل ما يسبقها من النزعات، كونها حاسمةً مع الغيبيات، قاطعةً مع كل قدرية عالية فوق قدرة الوعي، وأن الوعي الذي هو شاسع القدرة، يحتاج كذلك إلى من يمتلك القدرة على استخدامه. ولأن العقلانية الكلية لا تخضع إلا إلى معاييرها، فقد انتهت إلى طرح عالم القيم خارج مساحتها، وقبلت أن تتعارض مع هذا العالم باستمرار. وكان من حصيلة هذا التعارض وصولُ الليبرالية أخيرًا إلى التسليم بسيادة قانون السوق، باعتباره هو محل العقلانية الخالصة، المتحررة من كل تدخل يُقحم عليها إرادويةً إنسانية معينة، تحت أفعال تفاضل القيم فيما بينها. إنها عقلانية الموضوعية الكاملة النائية عن أية ذاتية قد تعترض قوانينها من خارجها، فإذا كانت عقلانية القرن الثامن عشر قطعت مع الغيبيات الإلهية، فإن عقلانية السوق في عتبة الألفية الثالثة تقطع مع غيبيات الإنسان، أي مئونته من القيم، كما تدَّعي.

في بداية الثورة العقلانية كان التوجُّه إلى الطبيعة لفهمها والاقتداء بها، والسيطرة مثلها على قوانينها بالذات لإنشاء طبيعة أخرى مناظرة، دُعيت بالحضارة، ثم حُصرت تحت مصطلح التقانة وحدها، في حين أن عقلانية الألفية الثالثة تريد إبدال الطبيعة والحضارة معًا بالسوق وحدها. غير أن انتظار السوق وحدها، وانضباط الحياة الإنسانية بحسب أوامرها اليومية، سوف يقلبها هي كذلك إلى مصدر معيارية جديدة، وإن كانت معيارية عديمة من القيم أصلًا إلا حسابات الأرباح والخسائر فحسب. إنها معيارية بدون معايير، ولكنها تولِّد سلطة أيديولوجيا مستحدثة، يستنبطها مجتمع المال كوسيلة دفاع وتبرير عن العدمية المطلقة، بمعنى عدمية القيم والأفكار. فكما كان يعتدُّ بالطبيعة كأصل وجودي لكل شيء وكل كائن، وكمرجع لكل فهم ومعاناة، وكل صناعة وابتكار، فإنه يجري اليوم تطويب السوق على منوال الطبيعة، لتغدو الأصل والمرجع، المثال والواقع.٤

نظرية إبطال الإنسان

كان يمكن أن يعاد اكتشاف العالم بعد انقضاء الفلسفات التاريخانية. كان يمكن للمكان أن يحتضن الكينونة من جديد، لولا أن العالم يعاد اختزاله في «السوق»؛ فالسياسة المتفوقة تحذف المستقبل وتختزل العالم في وقت واحد. إنها تعتبر أن الحالة الراهنة لتوازن القوى الدولية، وما يعادلها من الواقع الاجتماعي الاقتصادي، إنما هي المآل الأخير لتطوُّر الإنسانية، بمعنى أن الرأسمالية هي الثمرة العليا للتاريخ، وهي التي تفرض حدودها في الوقت الراهن، وهو فرض لا محيص عنه في الحاضر، كما لا بديل له يأتي بعده: ما بعد الرأسمالية ليس سوى الرأسمالية. صار زمانها هو مكان العالم، وليس ثمة عالم آخر بالطبع. فإن ما يضع حدًّا للامتناهي المستقبل هو قيام الحاضر باعتباره المكان. والمكان ليس هو المدينة ولا الطبيعة، لكنه السوق. ذلك هو المكان الرأسمالي، أو أن المكان هو الرأسمالية، لكن الرأسمالية لم تعُد تتعامل إلا مع دليل واحد هو السوق؛ أي محل البيع والشراء. والحاسوب هو هذا المحل الذي لا صفة له إلا أنه الدماغ الآلي الذي من المفترض أن يغدو بديل الدماغ الإنساني؛ فقد يساعده حتى يستنفد جدواه، ويأخذ مكانه.

إن مسألة إبطال الإنسان باعتباره كائنًا لا لزوم له، أو لم يعد له لزوم، هي محورية الفكر ما بعد التاريخاني. ذلك أن إبطال الإنسان أمر يومي، وُضع موضع التنفيذ المطلق قبل أن يصار إلى تسميته. فإن العقد الأخير من الألفية الثانية دشن عمليًّا قتل الأمم. حتى إذا ما حلَّت الألفية الثالثة أصبح قتل الأمم بالعزل السياسي والاقتصادي، بالحرب الخارجية أو الداخلية، بتدمير الثروات الوطنية، نوعًا من تصفية إرث الحقب التاريخانية المنقضية. إن تحجيم المكان واختزاله إلى مكان البيع والشراء، أو ظاهرة السمسرة المالية فحسب، وجر مدى المستقبل إلى آنية الزمن الفعلي، يرمزان ولا شك إلى استنفاد الصيرورة. فتجرَّد من لا محدودية الزمكان. يتقزَّم العالم إلى مجرد عولمة.

يمكن القول إن أطروحة إبطال الإنسان ستشكِّل محورية الفكر القادم مع الألفية الثالثة. وهذه الأطروحة ليسَت مجرد مسألة نظرية، لكنها تنال من جوهر الإنسان، من تميُّزه في الكون باعتباره هو الكائن الثقافي الوحيد فيه. وليست خاصية الثقافة تعني هنا المعرفة الحيادية، لكنها تلك المعرفة التي تلزم صاحبها بالمعاناة الفاعلة؛ فالوجود الإنساني بقدر ما هو منفعل بمنبهات العالم الخارجي، فإنه ملزم بالتفاعل الإرادوي معها. إنه ليس مساحة من ردود الأفعال الآلية أو المنتظرة، بل هو نفسه كائن فاعل. إنه فاعل التغيير في كل ما يمسه من شئون حياته اليومية. ولو اكتفى بالتلاؤم مع المعطيات المحيطة، لما بارح الحقبة الحيوانية؛ فالإنسان مبادر، كائن يلتقط البدايات، يخترعها. فلا عجب إن أحس كل إنسان، أي إنسان، أن العالم إنما يبدأ منه. ورغم ضآلته المادية، وذرَّته الاجتماعية ورقمه العددي الذي لا يتجاوز الواحد، فإنه ينتظر من ذاته أن يكون كلَّ شيء. حتى عندما يصفعه اليأس والقهر، فإن مدى لا شيئيته لا تأخذ عنف دراميتها إلا من إحساسه الأصلي أنه كان يمكنه أن يكون كل شيء، وأن يتعامل مع كل شيء، ولكنه خسر كل شيء.

من هنا تظهر أطروحة إبطال الإنسان أنها ليست بالأمر الجديد، ليست بالطارئ العصري الذي يأتي مع اختراع نهاية التاريخ؛ ذلك أن وجود الوعي مهدد ذاتيًّا بالنفي منذ بداية الجماعة البدائية، وهذا التهديد متغلغل في طيات الجماعة الثقافية وحتى التمدينية الأخيرة منها، لكن الجديد في إبطال الإنسان راهنيًّا هو أنه غدا جوهرَ مشروعِه. إن إبطال الإنسان يختلف عن موضوعة «نهاية الإنسان»، أو «نهاية الإله». ذلك أن كِلا المفهومَين الأخيرَين شغلا حيزهما المفهومي داخل التاريخانية عينها التي لا تزال تشكل المشروع الثقافي الغربي، مما يوحي أن هذا المشروع قد أوشك هو كذلك على مواجهة حد النهاية. فاذا يتبقى له بعد استنزاف موضوعة الإله، ثم موضوعة الإنسان كمرجعية، للفكر والعمل معًا؛ لذلك يبدو أن «إبطال الإنسان» عليه أن يكتشف ساحته خارج المشروع الثقافي بمرجعيته للمفارق والمحايث معًا، أي للمبدأ الذي يرى أصلًا للكائن فيما يتجاوزه ويعلو عليه، أو فيما يخالطه ويتضمنه.

إن موضوعة إبطال الإنسان تعني بكل بساطة فقدانَه لمركزيته ككائن متميز ضمن الجنس الحيواني، وإعادته إلى تصنيفه الأصلي ككائن حي فحسب، بين كائنات أخرى حية أو آلية. غير أن ارتداد الإنسان إلى قاعدته البيولوجية لن يؤدي إلى فوزه من جديد بامتلاك حيوانيته الأولى عضويًّا، أو التقهقر حضاريًّا إلى عهد البربرية، ولا إلى الوحشية الخام تكوينيًّا (جينالوجيًّا). ذلك أن إبطال الإنسان مثلما سوف يقطعه عن تاريخانيته النوعية، كذلك سوف يحيِّده تجاه عملية إبطاله عينها. بمعنى أن التحييد هو فقدان ذاكرة المفهوم الإنساني نفسه، بما يجعله عاجزًا عن تبيان ما يحدث له، أي إن فظاعة الإبطال إنما تتأتَّى عن كون الضحية تُدفع إلى اختيار عبوديتها الجديدة والمحتومة، وكأنها تختار تحررها المطلق، بل إن الأمر هو أقسى وأدهى من هذا الاختيار؛ لأن الإنسان المعاني لذاتي إبطاله، لا يكاد ينفصل عما يجري له. يفقد حس البعد، ويلتصق بمصيره دون إكراه أو إنكار، أو محاولة أي إدراك لأبسط تحوُّلاته تلك.

إن إبطال الإنسان يعني القضاء على البعد في «تمثال» الإنسان: يصير بدون علو، كما بدون عمق؛ لا يتبقَّى له إلا السطح، لكن الإنسان في هذا التحول الأخير لا يخضع للانسلاب ولا إلى التشيؤ؛ فهو لا يُسلب منه شخصه المفهومي الذي يشكل تجوهره المتميز كحرية وإبداع، ولا يداهمه اختزال خارجي اجتماعي أو اقتصادي وحتى ثقافي، ويحيله إلى سلعة أو وسيلة أو شيء؛ ذلك أن كل تلك الاصطلاحات التي صاحبت الفلسفات التاريخانية كيما تصور الأحوال السلبية التي تنتاب الكائن في ظل التطورات الحداثوية، إنما كانت قادرةً على إعادة البعد داخل الأزمة؛ أي إنها تتمكَّن من إحداث الفصل والصدع بين المايحدث الواقعي، واستيعابه فكريًّا وتمعينيًّا. في حين أن وضع: إبطال الإنسان، قد أبطل القدرة على الفصل، افتقد ابتكار البعد، عادت الأمور الإنسانية إلى ما يشبه تجاورية الأشياء فيما بينها؛ فالكائن المُبطل فاقد كذلك لحس الإبطال؛ فهو ليس فاعل الإبطال، ولا موضوعه. إنه مجرد نتيجة تجهل نفسها كنتيجة، بعد أن فقدت ذاكرة المقدمات التي أدت إليها. والمشكلة أن الإبطال ليس فعلًا في صيغة المتعدي إلا نحويًّا؛ أما تمعينيًّا فكان ينبغي صرفُه حسب صيغة انفعال، أي انبطال، على خشونتها؛ فالإنسان ليس باطلًا في حد ذاته، كما أنه لا يلحقه البطلان، وإن كان يلحقه الزوال، لكن الفارق واضح بين العبارتَين؛ فالإنسان كائن زائلٌ أو فانٍ، منذ تلفَّظه سقراط هكذا، وعمَّده أرسطو كبداهة أولى للمنطق، لكن سقراط الفاني ليس باطلًا، حتى عندما جرت إزالته ككائن من جراء الحكم بإعدامه، فإنه لم يَصِر إلى بطلان؛ فالبطلان تمعين سلبي، لكنه يختلف عن كل أصناف السلب المنطقي والرياضي، الأنطولوجي، الأخلاقي. إنه تحديد بلا حدٍّ واضح. لا شك أنه قد ينفتح على التمعين السلبي كله تقريبًا في التداول العامي؛ لكنه لا تعلق دارته الدلالية بسهولة. ذلك أن البطلان حالة تسبق الحكم والأحكام، وقد تمتنع عليهما كذلك. وقد نسمعه صرخة دينية أو صوفية من مثل هذا التأكيد: كل شيء باطل، و: باطل الأباطيل! إنه توصيف تقريري، ينطوي على اتهامية مرعبة بعبثية الوجود. وقد تتقلَّص جرعة العنف في الاستخدام القانوني للفظة، عندما يقال أو يصدر حكم ببطلان قضية أو دعوى.

وعلى هذا فقد يُفهم من إعلان إبطال الإنسان، كما لو كان الأمر نفيًا لأحقيته (Sujet de droit)، أو لاستحقاقه؛ مما ينبئ بانفقاد إنسانية الإنسان. كأنما الإنسانية جوهر آخر يضاف إلى الجسد كيما يغدو الجسد إنسانًا. هنالك ثمة مسافة، بُعد، بين الكائن الحي الذي هو على صورة الإنسان، وبين الإنسان، وقد حاولت الحضارات أن تملأ هذه المسافة، أن تجتاز هذا البعد محمَّلة بمفاهيم تضفيها على الكائن الحي، كيما تميز كل حضارة ذاتَها عن الأخرى؛ فالفصل ما بين الإنسان وما ليس كذلك، استثمر البعد بين المتحقق وغير المتحقق، أو بين الصورة والهيولى، حسب أرسطو، وأنشأ أصل التمييز بين البشر أنفسهم. حتى قالت لنا علوم الإتنولوجيا والأنتربولوجيا إن كل قوم مهما كانت بدائيته، كان يضفي على ذاته صفة الإنسانية، وينفيها عن سواه من الأقوام المجاورة. ولا شك أن التمييز بين الإنساني واللاإنساني صنع تاريخ الصراع بين الأنا، والأنا الآخر. وحتى يمكن اعتبار إنتاج العقائد والفلسفات، كونه ليس سوى أسلوب ثقافي في التعبير عن التمايز، وتأكيد الهُوي le soi-même ضد المغاير. وعندما يعزو القوم إلى ذاته وحدها مزايا الإنسانية كلها حسب تبريرات وتعلات متباينة، فإنه يقلب مفهوم البعد إلى إبعاد، إلى رفض وإقصاء؛ تغدو المغايرة مرادفة لضرورة إلغاء الآخر؛ وبذلك تتحوَّل المغايرة من كينونة اختلافية إلى حكم قيمة سلبي، يسحب صفة الإنسان عن المختلف، ويحصرها بالذات المباشرة. من هنا جرى تقسيم البشرية إلى صنفَي المتمتعين بالإنسانية من جهة، والفاقدين لها، أو العاجزين عن تحصيلها، لعلة تكوينية في وجودهم، فصاروا من «البرابرة».٥ والبربري ليس هو الوحشي بالضرورة، لكنه هو المختلف، المتخلف عن تحصيل الهُوي الإنساني؛ فالبرابرة كائنات حية، لكنهم ليسوا بشرًا. وهذه العبارة: ليسوا بشرًا، ليست حكمًا أخلاقيًّا أو معياريًّا، لكنه فعل إبطال لإنسانية الإنسان، وردُّه إلى مجرد كائن عضوي أو حيواني.

من هنا استلاب الجسد بعده اللامادي، واحتباسه داخل قالبه العضوي فحسب؛ فالجسد ليس كفاية إنسانية. وهو عند البربري يشكل حده الأخير الأنطولوجي، مما يؤسس امتناعه جوهريًّا عن انتظار التكون الإنساني؛ إذ إنه ليس مؤهلًا لتلقي الإنسان. واختلافه هنا عن الإنسان جوهري نهائي. وحين خص الإغريقي شعبه بالهوي الإنساني، فإنه أقصى البشر الآخرين عن إمكانية احتمال الهوي الذي يتعدى الجسد، أي البنية العضوية كحيوان. ماهية الكائن الحي هو أنه بدون ماهية. وهذا لا يعني أنه متحرر من الكيان أو الشخصية، بل أنه لا يوجد على مستوى المعنى، لكنه مختزل ومحاصر ضمن الدلالة وحدها؛ فالبربري كائن بدون بُعد ذاتي، لا يمتلك فضاءً داخليًّا، عاجز عن إدراك تناهيه بطريقة تدفعه إلى البحث عن اللامتناهي الكامن في جذره الأنطولوجي؛ فهو مستبعد بدلالة حيوانيته، كنوعية تصنيفية، ترسم حدود تعريفه المنطقي الأنطولوجي معًا، وتبقيه أسيرًا أبديًّا لدالَّته تلك.

المكان الكوسمولوجي الإغريقي كان مأهولًا بالآلهة في جبل الأولمب، والبشر الإنسانيين في المدينة Polis، وهي أثينا، وما خلا هاتَين المساحتَين، الأولمب وأثينا، يتباعد عالم البرابرة، أي «بقية العالم»، لكن الفلسفة الإغريقية تجاوزَت الإقصاء الجغرافي، اخترعت البعد الآخر: المعنى، زرعته في مركزية الإنسان المفكر، وعبرت عنه من خلال تعريف أرسطو أن الإنسان هو كائن سياسي، هو كائن المدينة. أثينا فارقت دلالتها الجغرافية، وتكثَّفت كمعنًى للمعاني داخل الإنسان الإغريقي مقابل البربري، سجين دلالته الحيوانية فحسب. غير أن أرسطو ليس مؤسس العنصرية، ولا كان داعيةً لها، لكنه اكتشف أن كائن المدينة ليس هو إلا الإنسان السياسي، بمعنى أن السياسي يفصل معيشة التجاور ما بين ذرات ومجاميع من كائنات حية، من أجساد لها هيئة البشر، عن معيشة المدينة بين الآخرين الإنسانيين؛ فالإنسان كائن سياسي لأنه يعيش بين أنداده دائمًا، والسياسة هي طريقة عيش الفرد بصيغة الجماعة، وعيش الجماعة بصيغة الفرد. وهو ما يميِّز حياة الجماعة عن «تجاور» أفراد القطيع؛ وبالتالي فإن «المدينة» يحكمها كل فردٍ فيها، بينما لا يسوس «القطيع» إلا راعٍ واحد.
أثينا المدينة التي تقوم بين مكانٍ للبرابرة خلفها، ومكان للآلهة على جبلها الأولمب، ومكان للإنسان بينهما، إنما تعكس تجسيمًا توزيعيًّا ومواقعيًّا Topologique لخارطةٍ جوانيةٍ تخصُّ الكائن الحي، بعد أن صار يحتمل إضافة الإنسان إليه، وكان أفلاطون قد استدخل هذه الخارطة نحو الوجه الجواني للجسد، فأقام تراتبية باطنية، للحيوانية والإنسانية والألوهة، كهرم ذاتي لبنية الإنسان؛ وبذلك تم استدخال البربرية كانقسام في عمق الهويِّ الإنساني نفسه؛ فالمواطن الإغريقي في المدينة الإثينية (من أثينا) ليس إنسانًا بحكم العنصر أو الهُويِّ القَبْلي؛ إذ إنه ينطوي هو كذلك على البربري، فبدلًا من نشر التمايز أفقيًّا في المكان بين البشرية واللابشرية، ينتقل البعد إلى جوانية الإنسان، يغدو عموديًّا؛ ويصبح الجسد وتركيبه العضواني بنية مادية، تمسرح التمايز داخل الذات، من البطن إلى القلب إلى الرأس (العقل). وقد يختصر أرسطو هذه التراتبية التجسدية بمفهمة منطقية عقلانوية، عن طريق ابتكار ثنائية للقوة والفعل، أو المصورة والهيولى.

الكائن الحي تتحدد صورته، نوعُه بمادته، بمفردته. أما الإنسان فتنتشر المسافة بين الصورة والهيولى لديه؛ وهي مسافة المعنى التي يستحيل انغلاقها، ولكن يمكن تدميرها. وفي هذه الحالة يتحقَّق ما ندعوه: إبطال الإنسان. والتدمير يكون بطرق مختلفة، أولاها ولا شك هو إكراه الصورة على الاتحاد بالهيولى، لتشكيل دلالة محددة. وذلك بالقضاء على ذلك البعد الميتافيزيقي الذي يظل يباعد بين الهُويِّ وتحقُّقه الأخير. ذلك التحقق الذي إن وقع كان آخرَ إمكانية للهوي، وهي إمكانية الموت.

إذا كان الإنسان هو الكائن السياسي الذي لا وطن له (لا مكان ولا بعد) إلا في مكان الجماعة، أي المدينة، فهذا يعني أن الهويَّ إنما يقع دائمًا على حد المغايرة مع الآخر؛ ولذلك ليس الهوي هويةً نهائية؛ وهو يكافح حتى لا يقع تحت استبداد دلالة منجزة؛ إنه يتطلَّع إلى الدال، أي إلى تلك الصورة التي لا تكسر مسافتَها أيةُ هيولى، مهما تعالقت مع شبكياتها، وأضفت عليها من أسمائها وصفاتها.

فالمعركة الأنطولوجية، اللاتاريخانية، ليست بين إنسانوية Humanisme مُنجَزة، وبربرية متشيئة وعضوانية؛ ليست صراعًا جيو-سياسويًّا، مسرحُه أمكنة الأمم، وجغرافية توازن القوى التدميرية فيما بينها؛ إنها بالأحرى بين الكائن الإنساني، الموصوف بالأهلي والمديني، والكائن اللاسياسي، البربري وحتى الوحشي. والكائنان متعانقان متعالقان في أقنوم الإنسان الواحد، كل إنسان خارج كل تصنيف عرقي أو حضاري، لكن التاريخ كأحداث لم يستطع أن يعترف بتمايز المعركتَين. فجاءت الحضارة الرومانية لتمسرح معركة العلاقة بين المواطنية الرومانية وبين البربرية؛ في حين كان استطاع اليونان، وذلك بفضل الفلسفة وحدها، أن يستردُّوا فضاء التمايز إلى عمق الذات، أن ينتصروا لجدلية الإمكان والاستحالة مع المعنى، على تَخثُّرية الدلالة واستبداديتها التعيينية؛ أن يفكروا الهُويَّ والدالَّ ما وراء تفكُّر الماهية والدلالة. فكانت الأخيرة حضارتهم مدنية سياسية، وكانت حضارة الرومان عسكرية تسلطية. ولقد ورث المشروع الثقافي الغربي كِلا النموذجَين اليوناني والروماني. وكان أن أنتج النموذجان عنف الصراع في تكوين العقل الغربي، فكان محتاجًا إلى تجسيد بربرية خارجانية كيما يغطي بها بربرية الذاتوية المغلقة لديه؛ إذ إن إعطاء الذات القادرة حرية مطلقة لإثبات قدرتها وأولويتها على الوجود من حولها، سمح لها بإخضاع الطبيعة، واختلاق طبيعة صناعية موازية لها ومتسلطة عليها بواسطة التقانة، ثم تركها تمدُّ تسلُّطها على الإنسان نفسه؛ مما بعث تقاليد العبودية من جديد مع الحداثة، فجرى تصنيف العاجزين المتخلفين عن اللحاق بانتصارات الذات الإرادوية، في خانة البرابرة المعادين للعصر الاستعماري (التمديني). وهذا ما دفع هوركهايمر وأدورنو إلى توصيف الذات الغربية بالذات الاستبدادية٦Sujet déspotique.

إن البربريَّ الذاتيَّ ليس هو الوحشي البري؛ ذلك أن الوحشي هو من جدل العقل نفسه، وليس من نقائضه، وهو ليس ذلك الحيوان البدائي الثاوي في العمق الجينالوجي التاريخي للكائن الإناسي، ليس هو جحيم الغرائز الفالت من كل عقال ورقابة، بل قد يصير من ممارسة العقل عينه. وليس نقد العقلانوية الذي ميَّز ثقافة ما بعد الحداثة خاصة، إلا اعترافًا (حضاريًّا)، ولو جاء متأخِّرًا جدًّا، بأولوية البربرية الذاتوية على بربرية الآخر؛ أي إن هناك حركة إنهاضٍ جديد للمسافة المعنوية، للبعد المفهومي بين الصورة والهيولى، أو بعبارة أكثر راهنية بين «أيديولوجيا» الدلالة و«فلسفة» المعنى. هنالك انتهاض للدالِّ من تحت حطام الدلالات المنهارة، ورفعه مجددًا ما فوق تاريخ مرعب من نماذج البربريات الإرادوية، التي تسلم أوامر تنفيذها طيلة عصر الحداثة، رواد الحضارة التقنوية المجلون على أندادهم من بقية الثقافات، الهازجون ببطولات التقدُّم وفتوحاته الكبرى الرهيبة.

لقد تركَّزت النظرية النقدية على موضوعة أساسية تعتبر أن عصر التنوير الذي اكتشف العقلانية، ورفعها فوق السحر وأشكال الغيبيات، انتهى به الأمر مع صعود البرجوازية إلى أَسْطَرة العقل نفسه، إلى ابتكار عبادة العقل كأسطورة ذاته، لكن أسطورة الحساب والدقة تحمل في الوقت عينه سبب ذاتي التدمير. وهو ذلك الخط النقدي الذي أرسى حدوده الأولى كانط، ثم حاول تطبيقه هيغل على التاريخ، لكنه انتهى إلى تجديد العقلانية المطلقة، بتبرير كل نواقص التاريخ وسلبياته ضمن الحركة الجدلية التي جسدت مفهوم الكلية التقليدي، وأعطته حركية الزمان وميزة التراكم؛ فالجزئي يبرِّره الكلي. ومهما جاء الحدث الجزئي بربريًّا، وحتى وحشيًّا، فإن انضمامه إلى ركب الجدلية، يجعله لحظة ضرورية من ناحية وقوعها المحتوم، وقابلة للتجاوز من ناحية أخرى. وهكذا فإن إخضاع الطبيعة، ولو أدَّى إلى تدميرها، ضروري من أجل خلق الطبيعة الثانية الموازية، أي التاريخ المنجز، المتحقق والمحقق لكل إمكانيات الصيرورة، في ذلك التركيب الأعلى الآتي في نهاية الجدل، وهو تطابق العقل والواقع، بمعنى أن يغدوَ الواقع نفسه عقليًّا شاملًا. فمن الواضح أن الاعتراف العقلاني بالسلب يقوم على استدخاله في صميم حركة الواقع، وجعله عاملًا مؤسسًا للإيجاب نفسه. بكلمة أخرى لن تبقى البربرية خارجانية ونقيضة للمدنية، بل تغدو لها وظيفة إيجابية من خلال الكلية الجدلية. وليس السلب سوى حيلة للتاريخ ومن مكره، كيما يحقق إيجابه الإمكاني. وعلى هذا الأساس فإن إزالة سكان أمريكا الأصليين تصبح أمرًا عقلانيًّا لا مفر منه؛ من أجل بناء حضارة «العالم الجديد». وهكذا فإن السيطرة على الطبيعة برَّرت كذلك السيطرة على أحيائها وشعوبها «المتخلفة»؛ فالوجه التدميري للمشروع المديني ليس الوجه الخطأ. وارتكاب الشر ليس خللًا آنيًّا، ولا صدفة عارضة. وليس صدفة كذلك أن اقترن التنوير باستعمار ثلثَي العالم، واتحدت صناعةُ الحرب مع كل قفزةٍ من قفزات التقانة و«التقدم الحضاري».

تلك هي النظرة القائلة بأن التقدم هو ذاتي التدمير كذلك، وأن الذات الاستبدادية هي صنيعة التقدم بقدر ما كانت صانعته، وكلما اغتنى التقدم بإنجازاته تعاظم تمسُّكه بذاته والحفاظ على إنِّيته من تهديد الآخر، كأنما العقلانية تجذِّر الخوف والرعب من كل ما يختلف عنها. ها هنا تقهقر مسافة المعنى، ليقوم استبداد الدلالة وحده. ذلك أن أرقام الأرباح تفرض دلالاتها المحدودة الصارمة، وتطرد في الوقت عينه أبعادها المعنوية، فإن «أوليس» في أسطورة الأوديسة، يسدُّ آذان صحبه بالشمع حتى لا يستمعوا إلى أغاني عرائس البحر؛ كيما يحفظ نفسه وجنده، ويمضي قدمًا في تنفيذ مهام رحلته في اكتشاف المجهول. وهكذا كما يقول هوركهايمر، «فإن قصة هوميروس تحافظ على الرابطة بين الأسطورة والسيطرة والعمل.»٧ ونذهب نحن إلى القول إن فتوحات المشروع الثقافي الغربي اعتمدت هذه القواعد الثلاثية في معظم إنجازاتها الكبرى؛ ذلك أنه لا بد في كل إنجاز عقلانوي من تضخيم الهدف إلى درجة أسطرته سلبًا أو إيجابًا، كالعدو إن كان سلبًا، وكالمصلحة والمنفعة إن كان إيجابًا. ولا بد من السيطرة على مراحل التنفيذ، بوضع الحلول للعقبات، وإتاحة الفرص للإمكانيات ومنع احتمالات الصدفة والخطأ، وما يعنيه هذا السلوك من الحسم المطلق، وتحويل البشر والأشياء إلى وسائل لإنجاز الهدف. وكذلك لا بد ثالثًا من العمل الدءوب، من توفير أقصى الجهود وتنظيمها، واستغلال طاقات أصحابها إلى أقصى حد. وهنا تفقد مسألة الحياة والموت، الحب والحقيقة، العدالة والحرية، معناها. وتوظِّف أشباهها المعدَّلة في خدمة صيغة الدلالة المفروضة على مجمل المشروع، باعتباره أسطورةَ الأساطير كلها في عين قادته ومنظريه، مما يتطلَّب أعظم التضحيات بالنسبة للذات، وأفجع الكوارث النازلة بالآخرين.

العَقْلَنة ليست هي الفكر، وحتى عندما تؤدي العَقْلَنة إلى العلم، فإن العلم لا يفكر، بحسب حكمة هيدغر المعروفة؛ ذلك أن العلم يقدم معارف تقتصر على تأدية دلالات محددة بموضوعاتها؛ فهو يعمل على المتناهي الذي لا يحيل إلا إلى متناهٍ مماثل له؛ فاللامتناهي في الرياضة يُستخدم كوظيفة آنية، كما لو كان عددًا آخر. وكما يرى فيتغنتشتاين، فإن اللامتناهي هو موضوع وصفٍ أو توصيف، وليس موضوع فَهْم؛ ولذلك حُكم على اللامتناهي منذ الإغريق باللامعقولية؛ لأنه يؤدي إلى فَرْط للعلل غير محدود. واعتبره المنطق الصوري خارجًا عن إدراك الإنسان؛ فالمعرفة المنطقية هي المعرفة بالحد، أي تلك التي تأتي بالدلالة الموازية للعبارة المعرفية، بينما الفكر يبحث عن البعد فيما يتجاوز الحد؛ أي إنه يشرك وعيه الإنساني بمسئولية الحصائل الناجمة عن كل كشف علمي، ها هنا ينطلق الفكر إلى أفق الإنسان باعتباره هو الهدف. وكما حدَّد كانط، فالإنسان هو الغاية؛ وبالتالي فإن كل إنتاج معرفي أو سلوك اجتماعي أو قرار سياسي لا يلقى مشروعيته من مدى نجاعته المباشرة، لكنه ينبغي أن يتم عرضه على محكمة الغائية الشاملة، أي تجاوز الحد كتعريف مغلق، وفتحه، وانفتاحه على مسافة المعنى. وهذا الانفتاح ليس معياريًّا؛ لا يقيس العبارة بقيم مفارقة، منفصلة عن حركة الفكر عينه. فما يحقق مشروعية المعنى هو المزيد من تمعينه؛ فلقد وضع أفلاطون الخير فوق المُثُل كلها، أي فيما يتجاوزها دائمًا. أي إنه ليس من حقيقة أو فكرة إلا وهي على صلة أسية، وأنطولوجية بعلو الخير ومحايثته معًا؛ فالعالم هو إتيقي بقدر ما هو كينوني. وقد يكون هذا النوع من إثبات اليقين يرقى إلى نظرة هادفة إلى أَنْسَنة العالم. وهذا صحيح، لكنه يقين يؤكد أنه لا يمكن للإنسان أن يتعامل مع محيطه القريب وحتى البعيد إلا إتيقيًّا خُلقيًّا، وأنه لا يمكن للفكر أن يعزل صحة الفكرة عن صلاحها؛ فالفكر ليس محايدًا. وتلك هي بذرة تعارضه مع العقلانوية، لا يتوقَّف الفكر عند دلالة الموضوع، بل يريد أن يرى من خلاله الطريقة الشيئية التي ينوجد الشيء بحسبها. وعلى هذا الأساس ينظر الفكر إلى المدنيَّة ليس بما أنتجته من منافع للإنسان، ولكن بما جنى منها، من خسائر كذلك.

إذا كان لوي ديمون مؤسسًا للتفاؤل الحداثوي عندما يجد، إناسيًّا، أن الحداثة عنت ظهور الفردانية واستقلالية الفرد، بعد أن كان الفرد إما ذرة اسمية غارقة في كتلة المجموع، أو أنه مرتفع به ما فوق العالم، متمثل من خلال الواحد الأحد، لكن الفرد لا يمسي أحاديَّ نفسه مع مدنية المجتمع الاستهلاكي، بل إنه يواجه عدمية جديدة مع التأحيد: يفقد حسَّ المعنى، ويفقد حس الفقدان عينه في المآل الأخير، وذلك هو المدخل إلى إبطال الإنسان. ذلك هو عنوان التحول إلى البربرية المعاصرة؛ إذ إن البربري ليس حالة مضادة للإنساني، ليس انحلالًا له، ولا حقبة منقضية من ما قبل تاريخه، بل إنه الوجه الآخر لتقدمه، الملاصق والمحايث لتاريخانيته؛ ذلك أن البربري لا يدري أنه ليس الإنسان، بل يصرُّ على تأكيد أن إنسانيته، إنما هي واقعه الفعلي، الذي هو بربريته القائمة حقًّا هنا والآن. وفي هذا السياق يجيء شارل تايلور، الفيلسوف الأمريكي الذي نذر فكره لتفكيك الذاتوية وتاريخانيتها المحايثة، وهو يستوحي ولا شك مآل الأمركة التي جسَّدت منعطف الذاتوية الأشد حسمًا في تاريخانيتها؛ إنه المنعطف الذي أعطى إشارة ذاتي التدمير، إذ انقطع الإنسان عن التعاطي مع آفاق المعنى، تحت وطأة المجتمع الفردوي. فلم يلقَ الإنسان حريته في نهاية الرحلة الذاتوية، بل عاد إلى جهل معنى الحرية؛ فحين تنهض «أيديولوجيا السوق» فوق حطام كل الأيديولوجيات المثالوية، والموصومة بالكليانية التسلطية كمحصلة لتجاربها المنهارة، يغدو الأمر كما لو أن حضارة المعنى هي التي تشهد نهايتها حقًّا؛ أي عندما تنقلب إلى الحضارة المدمرة لذاتها بذاتها، كما صورت ذلك العبارة القائلة إنها الحالة التي تشهد الهجوم الشاقولي للبرابرة، بمعنى أن وضع ذاتي الانتكاب إنما يهبط من ذروة المدنية الراهنة على كامل هيكلتها المفهومية؛ فالبرابرة الحقيقيون ليسوا هم من متخلفي العصر وهوامش الجغرافية الحضرية، بل هم فاعلو المدنية الراهنة وعملاؤها اليوميون.

١  Charles Taylor, Les sources du moi, La formation de l’identité moderne, ed. Seuil, 1998.
٢  استعمل هيدغر لفظة التفكيك La déconstruction لأول مرة كتَعْرِية للمعاني الميتافيزيقية Les notions من أشباه الأفاهيم التي تلتصق بها، فشرع منهج العودة بالمعنى إلى أصله في الإغريقية القديمة. وبالطبع كان أهم هذه المعاني هو الكينونة، التي أرجعها إلى مركزية التفلسف الحداثوي بعد غياب طويل، ثم إن التفكيك غدا منهجًا إعلاميًّا، أي تداوليًّا مع جاك دريدا، وشاع بعد ذلك في النقد الأدبي الأنغلوسكسوني؛ وبدأ رحلة ابتذاله من ترجمة المصطلح عن الإنكليزية خاصة، إلى العربية، حتى غدا لا يعني شيئًا. ونحن هنا نرد له بعض استعماله الأصلي. انظر خاصة حول ما تعنيه تفكيكية هيدغر بالعودة إلى الملفوظ اليوناني:
Martin Heidegger: Essais et conférences, Préface, par Jean Beaufret, et voir: Dépassement de la métaphysique, ed., Tel, Gallimard.
٣  استثمر «فوكوياما» سيميائية التاريخانية، كما قدَّمها هيغل، كيما يفترض نهاية لها تتجسد بالديمقراطية، أو الأممية الرأسمالية بالأحرى، بديلًا عن الأهمية الاشتراكية، كما أصر على حتميتها كارل ماركس، انظر كتابه: نهاية التاريخ والإنسان الأخير، ترجمة مركز الإنماء القومي، تحت إشراف ومراجعة مطاع صفدي. انظر المقدمة النقدية.
٤  Luc Boltanski et Eve Chiapello: Le nouvel esprit du capitalisme, N.R.F., Gallimard, 1999.
أحدث كتاب في نقد الرأسمالية الجديدة، بجهاز مختلف من المفاهيم والتحليلات المتجاوزة لمراحل النقد السابقة، المتداولة عبر النقد الفلسفي والاجتماعي التابع للأيديولوجيات السائدة، خاصة خلال المرحلة ما بعد ٦٨.
٥  يعتقد مؤرخ الفلسفة اللامع جان-فرانسوا ماتيه، بعد إنجازه لأهم موسوعة فلسفية حداثوية، أن عليه أن يقول كلمته حول مآل الإنسان الأخير نحو البربرية الداخلية كعلامة على إفلاس الكوني عبر التغاء عالمية العالم المعاصر:
Jean-François Mattéi: La Barbarie intérieure, Essai sur l’immonde moderne, ed., PUF, 1999.
٦  M. Horkheimer et The. Adorno: Dialectique de la raison, Fragments philosohiques, Gallimard, Tel, 1989, p. 19.
٧  M. Horkheimer: Principes philosophiques, p. 33.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥