(٢) نحو استراتيجية استشعار للمعنى
إن إبطال الإنسان موضوعة ما بعدية تفرض نفسها بعد استنفاد ثقافة كاملة من الاعتراض على حضارة الغرب، كانت قد نمت وتطوَّرت موازية لإنجازات تلك الحضارة، وعاصرت قطيعاتها المعرفية وتحولاتها المجتمعية، وثوراتها المفهمية طيلة مراحل الحداثة. وهي ليست موضوعةً نَدْبية ولا نادبة، على طريقة التحليلات التجريحية والتشريحية التي أنتجت مدارس ومذهبيات من العدمية ولونياتها الشفقية اللامحدودة. إن إبطال الإنسان هي حالة اللاحكم التي تبطل كل الأحكام السابقة، من تقديرية ومعيارية؛ وفي حين يمكن القول إن البربرية لم تكن مجرد حقبة لماقبل التاريخية والتاريخانية معًا، بل إنها صاحبَت التقدم الحضاري، وكانت له بمثابة توءمه السري المحجوب وراء الإنجازات السعيدة والانتصارية للعلم والتنظيم، والإدارة الإرادوية الفردانية والجمعانية، أو أن البربرية انعطفت من الإقصاء الخارجي للشعوب المتخلفة، نحو الاستبطان الذاتوي أو ما ورائية الشخصيات المفهومية المتوالية التي تلبَّستها حضارةُ الغرب، أو كما يمكن إيجاز كل التمعين الاعتراضي والندبي التفجُّعي بدلالة موضوعية: وهي أن البربرية تطوَّرت مع الحضارة من الحالة الغريزية في البدايات، إلى الحالة التفكيرية والإرادوية، بما لا يختزل المآل الحضاري كله في توصيف النظرية النقدية، انطلاقًا من أدورنو وهوركهايمر إلى هربرت مركيوز وإريك فروم، وصولًا حتى إلى هابرماس راهنيًّا. وهو التوصيف بحال ذاتي الإنتاج، كعبارة ذاتي التدمير، ذاتي التحلُّل والتفكُّك، على طريقة الكائن الحي الذي يحمل بذرة موته مترعرعةً مع شجرة حياته. ذلك أن إبطال الإنسان ليس تدميرًا له، ولكنها هي نقلة إلى كائن آخر اختلافي تمامًا. ليس ارتدادًا إلى الوحشي الخام، وليس تطويبًا للبربري المتمدين، العقلاني الإرادوي، كما لو كان أعلى إنتاج للعملية التاريخانية. كذلك فإن إبطال الإنسان ليس توصيفًا لانحراف الذاتية نحو الذاتوية، على الصعيد الفكري التمعيني، كما حاولت النظرية النقدية أن تثبته في خط موازٍ للماركسية. مثل هذه التحليلات التي لازمت المواقف النقدية، والمترجحة ما بين الاعتراض الثقافي، والعدمية المتنوعة، يمكن اعتبارها نسبية ما دامت لا تتناسى ذاكرة الأصل، وهي تعترض على الأعراض السلبية التي تعتري ذلك الأصل، كأنما يمكن استعادته من جديد.
أما على صعيد الأفكار والنزعات الاجتماعية والسياسية، فإن المشهدية العالمية أصبحت تضمُّ مقطعًا عرضانيًّا للأصوليات على مختلف جذورها، إلى جانب الثوريات وما بينهما من لونيات. لم يعُد غريبًا ولا مفاجئًا أن تتنامى جميع نزعات السحر والشعوذة والتنجيم، مرافقةً لأحدث ابتكارات المعلوماتية، وفي عواصم الغرب نفسه، وكذلك فإن تنامي الطوائفيات كأشباه أديان وتحزبات خرافية، جعلها مصاحبة للأديان التقليدية، أو أنها تنتزع منها بعض أدوارها الاجتماعية. وكذلك فإن الردات نحو بعض النمذجات العقائدية والسلوكية للإسلام، صارت تخالط مظاهر التحديث والتغرُّب التي تعمُّ البلاد العربية والإسلامية، فإن تعايش النقائض ليس دليلًا صحيًّا، تتهم بانحرافاته وعجائبه أسطورة الحداثة البعدية. ذلك أن المايحدث الفعلي هو حال فرط وانفراط التاريخ، وليس اكتمال التاريخ وتمامه. وهذا ما يؤكد ضياع أهم وعود العقلانية التاريخانية المكونة لعصب المشروع الثقافي الغربي، أي ذلك الوعد التكاملي بانتصارية الوتيرة التقدمية، وانتهاء جدلية الصراع بين العقل والواقع، باستيعاب الأول للثاني، أي بصيرورة الواقع عقلانيًّا شاملًا. بما يمكِّن من الوصول إلى ذلك الحكم المعياري، وهو أنه بعد إنجاز ذلك التطابق الأنطولوجي بين العقل والواقع، فإن كل ما قد يتأتَّى خارج هذا التطابق يمكن توصيفه باللامعقول؛ وبالتالي يُصار إلى نفيه كليًّا عن أرض الواقع، لكن المايحدث أصاب هذا اليقين بالتكسر، وحوَّله إلى آخر أوهام الغيبية الزمانية، أي تلك الزمانية الواعدة بما ينهيها. وهي تلك الآونة الدهرية التي لا يتبقَّى فيها ثمة واقع خارج العقلانية الشاملة، لتعمل على عقلنته.
أخيرًا تتهدَّد الحداثة البعدية بانفراطها إلى العولمة بدورها؛ ذلك أن العولمة تفرض نفسها كقرين للحداثة البعدية، لها منها كل مظاهر التعدديات والاختلافات، ولكن بدون معانيها؛ إذ إن العولمة تحوِّل التعدديات إلى أعراض وتنويعات فاقدة لحواملها الأصلية؛ فالعَرَضي ليس محكَّه الجوهري، ولكن عرضيٌّ آخر، وهكذا إلى ما لا نهاية. إنها سلطة البدائل التي تنسى ما تكون بديلة عنه. فتعرض ذاتها كمرايا متقابلة متعاكسة، يتخاطف بعضها ألوان وأضواء بعضها الآخر. والتمايز فيما بينها يغدو مجرد تناسل متكثر من السطوح اللماعة وحده. ولقد جرَت عادةُ توصيف العولمة بالتأحيد، لكن التأحيد ليس التشابه، بل هو ارتجاع الكل إلى العرضي، فلا تخفي الأقنعة وجوهًا، بل تحيل إلى أقنعة أخرى من جنسها. ذلك أنه في حين تحاول الحداثة البعدية أن تأتي بالأقنعة والوجوه معًا، فإن العولمة تُصَوْرن الوجوه نهائيًّا؛ فالصورة لم تعُد صورة لشيء، ولكنها هي عين شيئها.
إذا كانت الفلسفة الاختلافية قد وضعت حدًّا للذاتوية من أجل إعادة الاعتبار إلى أَحَدية الفرد، واستقلال الشيء والموضوع، واستطاعت أن ترفع بعض طقوس الأسطرة عن الدلالات، وتعيد للمعنى شيئًا من إغرائه وغوايته المعهودة، باعتباره تجسيرًا على البعد، على اللامتناهي، أو أنه يُتيح تماسًّا قلقًا مع حوافيه، في الأقل؛ فقد مهَّدت — تلك الفلسفة الاختلافية — الطريقَ أمام صعود المرآوية؛ بسببٍ من إمعان النزوع الاختلافي في تقويض مفاهيم المرجعيات، فليس صحيحًا أن تعددية الثقافات قد تُفقد الهويَّ تجوهره بما هو كلِّي ذاته، بل إن الاعتراف بتنوع الثقافات، وإعطائها فرصةَ التعبير عن خصوصياتها، يساعدها في الانفتاح على «المدنية» كمحل معياري لتنافس نتاجاتها. ذلك أن الثقافة أصبحت تعني، إناسيًّا (أنتربولوجيًّا)، رديفًا لهُوية القوم. إنها كلية محدودة بخصوصياتها مقدمًا. غير أنه قد يتعاطى القومُ مع ثقافته باعتبارها مطلقًا، لكنها على صعيد العالم إنما تؤلف أقنومًا نسبيًّا، يميل بها إلى الانقباض والانعزال. ولا يحررها من هذا الميل إلا بناء علاقة عضوية مع البعد العالمي، لا تتوفَّر إلا بتنمية جدلية معيارية جديدة بين الثقافوي، بما هو خَوْصَنة للكلي، وبين المدني، بما هو اعتراف بأولوية المعنى على الدلالة. هذا التحوُّل الكبير الذي يمكن وصفه بالانقلاب الأنطولوجي، لم يكن ليفرض مقدماته الفلسفية المختلفة، لو لم يعترف الفكر أخيرًا بأولوية السؤال الجسدي في مركزية كل تسآل وجودي.
فالجسد انتماء إنساني، لكن اللغة ارتباط دلالي جمعاني. واستعادة الجسد لعضوانيته في النوع إنما تمر عبر أنساق العبارات الخاصة بلغة القوم. فلا سبيل إلى هذه الاستعادة إلا تحت إملاءات الدالِّ اللغوي الثقافوي، الذي تُقَوْنِنُه معرفيًّا حضارة ما، تعكس خصوصية تاريخانية معينة. ليس اللغوي هو الذي يميز الإنساني، على العكس مما قالته الأفلاطونية، وكل تراث الذاتوية بعدها إلى يومنا الحاضر، بل إن البنية العضوانية، والوظائفية، والمورفولوجية للجسد هي كيانية الإنسان الأصلية. وليس اللغوي إلا إحدى الفعاليات العليا لهذه الكيانية العضوانية العينية كليًّا. وبكلمة مباشرة فإن الدماغ وأداته اللسان بجهازه العصبي ونسيجه العضلي، هو محلُّ اللغة، كصوت ودلالة؛ فالإنسانيُّ تعريفه المبدئي هو تركيبه العضواني تحت اسم الجسد، وليس الإنسان إلا صنيعةً دلاليةً، تحاول الاحتياز على مسافة لا نهائية من المعنى، لكن يأتي الدالُّ العام، ليتدخَّل وسط هذه المسافة باختراع اللغة، وجعلها محل نشوئيات لا تتناهى من الدلالات الفرعية، والكليانية. فأية إشارة جسدانية لا يمكن أن تفرض مَلْمَحها الخاص إلا من خلال تصنيف الاسم العام المعطى لها. جسد الإنسان لا تكسوه ثيابه فقط، بل هو ملفوف بطبقات من الأسماء والألفاظ. إنه مادة التصنيف الأولى، اعتبارًا من الطبِّ والفيزيولوجيا إلى مختلف التصنيفات السلوكية، والنفسية والسلالية … إلخ.
والارتغاب يحمل نَبْعه معه مهما تناءت به مسافاتُ الشطح والنأي، وأوغل في توغُّل العالم ذاته، ملء عالميته؛ فإذا ما انقطع عن نبعه، تساقط إلى مجرد حاجة تمَّحي في موضوعها، وفي حين أن الاحتياج عَوَز إلى أشياء موجودة في العالم من قبل، فإن الارتغاب هو تطلع مسافيٌّ إلى ما لم يوجد فيه بعد؛ فهو اختراق لعالمية العالم، وتوغُّل في لُغزية هذه العالمية عينها بطريقةٍ تجسِّد الجسد لذاتها وحدها، وليس لسواها. وقد تكون تلك الطريقة ماهويةً في تكوينها وتعاملها مع موضوعاتها، إلا أنها ماهوية بدون ماهيات جاهزة أو سابقة على تحركها بالذات، وقلقها الحي نفسه. وهذا ما يمكن التعبير عنه بالقول إن اللغوي قد يوجد مصنوعًا في قاموس كلماته وأنساقه، أي دلالاته، لكنه يوجد صانعًا في جو الصمت والسكوت الذي يحيط بكل معجم ولسان؛ فالجسد مثلما هو مركز مختلف العمليات الفيزيولوجية الصانعة للحياة، فإنه هو كذلك قاعدة الذاتوية والأخروية في وقت واحد؛ ذلك أن الجسد هو اكتشاف الذات الأخرى كجسد مغاير أو مماثل، ممانع كعقبة أو حاجز، أم مشارك في إعادة إنتاج العالم على نسقه، أي كونه الجسدَ الآخر اللامتناهي، والفاتحَ على مسافات الفكر والحرية واللامتعين. فلا يتحول جسد الآخر إلى عقبة إلا عندما ينتصب حاجزًا لما يتخطاه. عندما يفرض ويفترض أن كل الطرق إنما تنبعث منه وتؤدي إليه، غير أن الجسد كآلة ارتغابية فإنه يفرِّخ رغباته كأجساد أخرى، أو كجسديات تتجاوزه، مغايرة له، وتستدعي الآخر ليس كعقبة، ولكنه الشبه المختلف الذي قد تمارس تغايرها معه باستمرار؛ فالعالم ليس حمَّال أوجه كثيرة، إلا لأن لي وجهًا واحدًا أضاهي به وجوه العالم كلها، التي لا أعرفها ولا تعرفني بعدُ.
غير أن اللغة التداولية ليست سوى قاموس الدلالات المتواضع عليها جماعيًّا؛ فهي محل الترميزات بعد أن فقدت صلتها بالمسميات الأصلية التي تدلُّ عليها؛ وبالتالي أصبحت تشكِّل خارطة موضوعية للحاجات المُقَوْننة حسب مرجعيات العادات والتقاليد والاعتقادات؛ فالجسديُّ المتكلم يلاقي نفسه وغيره في أنساق العبارات، وما تتضمَّنه من التبريرات التلقائية التي تنصاع لها الأجساد كما العقول. ليس ثمة عبارة توصف بالحيادية، وإلا طُردت إلى خانة اللامفهوم، فما يصدم في العبارة الحيادية هو خامتها الأولى التي تأتي قبل كل ذاكرة، وكل معيار، أو إيحاء، أو أمر تربوي ما؛ ولهذا اعتُبر أن اللغة في الأساس لغة دلالات، ولا يمكنها أن تكون غير ذلك. أما التصنيفات القاموسية التي تسرد الألفاظ وتنظم دلالاتها، فإنها بمثابة لغة تجريدية، أو نظرية. ولا تكون فاعلة إلا عبر الممارسة، أي التداول. وعندئذٍ تغدو العبارة، عبر التداول، مشبعةً بتوجهات اللفظ، والكلام، وكذلك الأمر بالنسبة للفظ الصامت، أي الكتابة؛ فاللغوي دالٌّ بالضرورة، وإلا فقد اللغوي وظيفته التداولية، أي لم يعُد قادرًا على إنجاز التواصل بين الألسنة والعقول، لكن المشكلة أن الدال — أو الإشارة، وهنا اللفظ — ليس محدودًا بدلالة جامدة، إلا في أسماء الأشياء، أو الأرقام، والمعارف العلمية. أما الكلام، فدلالة اللفظ فيه مرفقة بالصوت الإنساني وما يحمله من النبرات والانفعالات، بالإضافة إلى سياق العبارة نفسه وعلاقته بطبيعة الحوار.
وفي حال التفكير الصامت، فإن سيولة الدلالات، وانسراعاتها الفائقة في المتخيلة، تختزل كل حد ثابت للدلالة، وتدفع إلى تشكيل أطياف من شبه أفكار سائبة غائمة؛ فالإنسان يكلِّم نفسه صامتًا، لكنه لا يستخدم ألفاظًا بمعنى الكلمة. وفي سياق التأمل والتخاطب الذاتي الصامت، فإن أشباه المعاني تتغلَّب على البنى الدلالية لألفاظ غير منطوقة، وهي تحيا حياة دماغية، خلوية وسرية، وفي الدماغ وعصبياته العضوانية، ينبني جوهر الكائن المتميز الذي اسمه الإنسان؛ فالإنسان يُحال إلى جسده، إلى دماغه. وهو تعريفه المادي كأساس لكل تعريف أنطولوجي وماهوي؛ أي إن الجسد ليس حامل الإنسان، والدماغ ليس حامل الدلالات والمفاهيم والمعاني، ليس قاعدة العقل، لكن الجسد ودماغه، هو-هما معًا: الإنسان.
والآن، إذا كان تطور التقانة قد اخترق حدود الخلويات المعلوماتية وأنشأ الحاسوب، فما ذلك إلا لأن الإنسان أضحى يتطلَّع إلى قرينه الآلي موجودًا على مسافة منه. إنه يبدأ باختراع الدماغ الشبيه، لعلَّه يصل إلى إبداع الجسد الشبيه، لكن المسألة ليسَت على هذه البساطة. ذلك أن التقانة واصلةٌ مع منطلق الألفية الثالثة ومن عتبتها بالذات، إلى بناء الحاسوب الذي قد يمتلك انسراعات تقرِّب من بعض انسراعات الدماغ في حدودها الدنيا. وقد تنجح التقانة في استنساخ الإنسان، على طريقة النعجة «دولِّي». بما يمكن أن نشهد قريبًا كائنًا حاسوبيًّا معدنيًّا، يقف إلى جانبه كائن استنساخي عضواني، لكن الإنسان الصانع لشبيهَيه هذَين: المعدني (الرقاقي) والاستنساخي العضواني، سوف يظل هو الكائن الآخر، الأصل، الذي يملك بالإضافة إلى كل أشباهه الآن وغدًا، وبالاختلاف الجذري عنهم جميعًا، يملك كونه الإنسان، وحينئذٍ لن يتبقَّى له ثمة تعريف إلا أنه كائن المعنى.
إن استراتيجية استشعار المعنى كانت دائمًا وراء تجهيز المجتمع ببرامج عقائدية، قد تأخذ صورة أساطير الأولين ثم الأديان ثم الأيديولوجيات الحديثة. هناك دائمًا خط الخارج الذي ينظم بؤرة الداخل ويستوعبها. والخط ليس هو النقطة. إنه البعد ما بين نقطة الانطلاق ونقطة الانتهاء. والإنسان ملزم بالتعامل مع الخارج كخط يناظره ويوازيه دون أن يتَّحد به. فلا صلة مباشرة للكائن الحي بين منطلق ولادته، ومنتهى عمره، ولكنها هي الصلة مع هذه المسافة الممتدة بين الحدَّين، وهي مسافة الحياة نفسها التي تجعل كل ما هو جوانيٌّ لديَّ مجسَّرًا على البراني، دون أن يبلغ أبعد ما في هذا البراني؛ فالانطواء على الذات لا يتحقق إلا بالنسبة لما هو خارجي عنها. والخارجي ليس هو كذلك إلا لأنه يهدِّد الذات بحتمية الانفتاح عليه، والاندلاق كليًّا إلى هاوياته. هنالك عَوَز وجودي لطلب الأبعد، حتى ما هو أقصى من العالم الخارجي، ويقابله في الحال احتياج قاهر للانطواء على الأقرب، لتلبية الانجرار إلى ما يتخطَّى عمق الذات، إلى ما بعد جوانيتها؛ فالانطواء والانتشار حركةٌ تبني وتيرة الجسد، وتؤسس تعامل الإنسان مع ذاته والعالم. هذا التعامل لا ينفكُّ عن سؤال الاستشعار للمعنى: ما هو، وأين هو، وكيف يُتاح لي ألَّا أحيا أية حياة فحسب، بل تلك التي أستحقها، وتكون جديرة باستحقاقي لها؛ ولذلك فالإنسان كائنٌ سياسيٌّ في جوهره لأنه باحث باستمرار عن علاقة الجدارة المتبادلة بينه، ككائن المعنى، والعالم باعتباره يظل أرضًا بكرًا، من كنوز دلالاتٍ تفتقد دالَّها الموحِّد دائمًا.
فالمدنيُّ إستطيقي جمالي واقعيًّا، والثقافوي أخلاقي أيديولوجي ترميزيًّا. أما الفني الجمالي فلا يتعرَّف على نفسه أنه كذلك إلا متأخرًا بعديًّا؛ فهو لا يأتي إلى التاريخ، إلى العالم، إلا عندما تبطل مشاريع النمذجات الكليانية، ويصبح كلُّ ما كان إرادويًّا وقصدويًّا أفعالًا تلقائية؛ ويفاجئ وجودها كل معرفة وتعريف لها سابق، فينتهي صراع القوى ضد بعضها، وتمسي القوة قُوويةً على ذاتها ومع ذاتها أولًا. تتحرَّر القوة من حتمية تحوُّلها إلى سلطة للذات، وتسلُّط على الآخر. تعود إلى الجسد مرجعيته البدئية باعتباره قوة على الحياة وللحياة أولًا، وينبوعًا للرغبات، بما هي فيض امتلاء، وعلامة انتشار لكل أبعاد الجسد الذاتية خارج حدوده اللحمية العظمية، وحاجاته الآنية.
بينما تصنع الذاتويةُ (الثقافوةُ) من الجماعة نسخًا للفرد الواحد الذي تتصوره مبدأً أخلاقويًّا كليانيًّا، فإننا نجد، على العكس، أن أفعال التذويت تنتج أفرادًا لانهائيين، كلٌّ منهم يحاول أن يصير نموذجَ نفسه غير المحسومة، ماهويًّا أو تنميطيًّا؛ فالتذويت مبدع أساليب في وجود الفرع كمعنًى لا برهاني، وليس مصنِّف أنماط. نحن إزاء: «فن لذات العين، هو نقيض تمامًا لذات العين» كما يقول فوكو؛ لأن صيغ التذويت تنسج تمفرديات بدون ذات؛ إذ تغدو الذات في هذه الحالة هي أسلوب الشخص في تعامله مع كائنه الإنساني، أو كائن المعنى الذي يسكن جسده، ويحمله معه إلى أجساد الآخرين، ليُثير فيها عما فيها من كائنات المعنى كذلك، ويتخاطب معها بالدلالات الجاهزة، وعندما يتخطَّاها أيضًا، نحو التقاط أساليبها في تعاطيها الشخصي معها.
ليس الفلاسفة والمبدعون الحداثيون هم من كبار الأسلوبيين فقط، والباحثين عن كائن المعنى في تعاطيهم مع ذاتهم والآخرين، بل إنهم هم من يحتملون أولًا جسدهم، ولا يقبلون قمعه، والفرار منه؛ وبالتالي فإن الفيلسوف النيتشوي يتحول إلى فنان؛ إذ إنه يتفلسف فنيًّا، لأنه يكتشف أن احتمال الجسد إنما يتطلب أرقى أسلوب إبداعي في تفكر الجَسْدَنة بما هي احتمال الحياة بكل هولها وفرحها الضاحك، وعبثيتها الأخيرة. فإن كان التجسُّد هو الفعل الوحيد الذي عن طريقه يعطي الإنسان ثمة معنًى للعالم الذي يستقبل جسدي، فذلك لأن العالم هو أصلًا بدون معنًى، كما لو كان الإنسان كائنًا بدون جسد. وما التفلسف في المحصلة سوى طريقةٍ أو أسلوبٍ في معاودة الاعتراف بهذه الواقعة، وهي أنه ليس على الفيلسوف أن يمنح العالم معنًى، إلا لأنه أي العالم، بدون معنًى أصلًا، وسوف يظل كذلك، أي على هذه الحال، بعد كل محاولة تمعين. غير أن التمعين يجبر كل موضوع يتناوله، على أن يتأتَّى ونظامه معه، حتى وإن كان ذلك النظام هو بعض أسلوب من اللانظام الشامل المسيطر.
غير أن الإنسان يحتاج، ولا شك، إلى نقاط ارتكاز، سواء في سلوكه الفردي أو الاجتماعي. وتلعب الأفكار، ثم العقائد والأنظمة السياسية دور القاعدة، أو ما سوف يسمَّى بالمرجعية العقائدية، أو الشرعية؛ فالشرع هو الطريق، وكل طريق له بداية ونهاية. وكل ما بينهما ينبغي أن يكشف عن أصله في البداية وعن غايته في منتهاه، وهكذا يستريح العقل إلى اليقين، ما إن يضبط أفكاره، وأفعال صاحبه الإنسان، بحسب تلك المرجعيات، ويبني عليها كل ما هو جديد ومستغلق. هذه الشيمة تعكس بنية النظام العام الذي لا يكاد يخلو منه أي مجتمع، بصرف النظر عن تصنيفه الحضاري. ولقد اعترف العلم بتوفر نوع من أنظمة الانضباط والاتباع، وتوزيع المهمات البيولوجية والعملية، لدى كل الأنواع الحيوانية التي تعيش ضمن أشكال جماعية ثابتة أو موسمية، من مجتمع القردة إلى النمل والنخل وأنواع الطيور والأسماك والحيتان … إلخ، حتى مالت المدارس ذات التأويلات الأصولية إلى اعتبار التجمع نزوعًا غريزيًّا مرتبطًا بالتغيرات الهرمونية في الجسم الحيواني نفسه؛ فالتجمع الذي لا يقوم إلا على انتظام محدد لا يؤكد فقط أن الإنسان هو أعلى الحيوانات في ممارسة الحياة الجماعية، لكن هذه الممارسة نفسها هي فطرة أولية؛ والثقافة من ثم تعمل على تطويرها إلى خيارات جماعية تنقلها من خامة الجسد العضوي، إلى خامة الجسد المعنوي للجماعة، وهنا ينطلق الاختلاف النوعي بين الشكل الوحشي أو البدائي للعيش الجماعي، والشكل الموصوف بالحضاري. وفي أسفل السلم الحضاري يقع التصنيف البربري، ليصعد إلى الثقافوي؛ ومن ثم إلى المدني، على أن تبقى صفة «الوحشي» خارج هذا التصنيف.
هذه الهيكلة السيميائية، تقبع خلفيةً مشتركةً للفكر السياسي باتجاهاته الواعية وغير الواعية. وقد انخرط تاريخ هذا الفكر في توزيع التصنيفات على المجتمعات والحضارات، ومارس دائمًا أحكام المضاهاة فيما بينها، بالارتجاع إلى التصنيفات الثابتة في لوحة التقييم الأصلية، غير المعلن عنها. ولم يظهر ما يسمَّى بالفلسفة السياسية، إلا عندما أمكن التوصُّل إلى مواجهة هذه الخلفية السيميائية، وإخراجها إلى ساحة السؤال، وإعمال التحليل في عمق مكوناتها المسكوت عنها؛ فالفلسفة السياسية ليست توصيفية، ولا معيارية، بمعنى أنها لا تهتم بالعقائد والمذاهب والأنظمة القائمة عليها، لا تكتب مورفولوجيا لها، ولا تاريخًا لوقائعها الفكروية والحَدَثية، مثلما لا تضاهي بين نماذجها والقيم المنطوية عليها. إنها بالأحرى تحاول استخلاص — معنى — السياسي من كتلة دلالاته المسردة أو المضمرة. ذلك أن سؤال المعنى في حدِّ ذاته هو معاودة اكتشاف السياسي، من حيث إنه ترميز آني وواقعي عما تعنيه الأنطولوجيا بوصفها صيرورة استراتيجية لذاتها. إذ إنه لا يكفي الإنسان أنه يحيا فحسب أية حياة، بل إنه مسكون بسؤال الكيف واللماذا. والسؤال لن يكون تقليديًّا، ومستعادًا آليًّا. بل إنه سيحمل فورية كل فرد، ولهجة لسانه، إضافة إلى حيوية لحمه وعظمه الخاص. إنه السؤال والسر؛ لأنه يتعلق بعزلة الفرد، ووحدته مع مصيره. وهو أشبه ما يكون بعودةٍ إلى السؤال الماهوي، سؤال الماهيات، لكن ما إن نجدِّد قبولنا بتعريف الإنسان أنه كائن سياسي، حتى نعيد ربط الماهية بالمحايثة، وتصبح حقول المحايثة الواسعة مجالاتٍ واقعية تجريبية لفك أُسار السر الفردي من عزلة جسده الصغير المحدود؛ فالإنسان كائن سياسي؛ لأنه الكائن الباحث عن هويته فيما يتعداه دائمًا؛ وبالتالي يصير الهُويُّ فعلًا متعديًا، وليس فعلًا لازمًا. إنه الفعل الذي يلتزم بالتعدِّي. يدوِّر المربع ولا يربِّع الدائرة، أي إنه لا يسكن هندسة إقليدية، بل هندسة فضائية.
الهوية النقدية
الإنسان كائن سياسي لأنه كائن المعنى، والسياسة ليست سوى استراتيجية المعنى؛ ذلك أن الإنسان لا يعيش أو يقوم بالمفرد ولكن بالمجموع، والعلاقة مع المجموع، وما بين المجموع، تتطلَّب وجود الكل حسبما يفهمه كل أحد عن أحاديثه وجمعانيته، فما يهندس شبكية هذه العلاقات هو الفكر السياسي؛ لأنه يوحِّد فوضى الدلالات بالمعنى الذي يعيد صياغة هذه الشبكية بما يتمناه ويتصوره الفرد لإنسانه، كما لو كان إنسان البشرية كلها. فليس ثمة فلسفة إلا وهي تضع نفسها على طريق الفكر السياسي، وتجديده، إنما بغير لغته المباشرة؛ لأن الفلسفي الحقيقي يكسر قشور الدلالات المتصلبة، ويفتح خواءاتها المعتمة على آفاق المعنى. ليس ذلك إلا لأن الدلالة ليست خاوية أصلًا، بل ما دامت شرنقة فإنها تضم يعسوبًا، ولن يتحول إلى فراشة إلا عندما يستطيع تمزيق الشرنقة ومبارحتها إلى الفضاء الأوسع.
وفي اللحظة الراهنة تفرض العلاقة بين الكلي والنوعي أولويتها على الفكر السياسي العالمي، عبر إشكالية التمفصل بين مفهوم الإنسان العام، وإنسان النوع، أو التنوع الثقافوي، من إثني وحضاري، وعرقي عنصري وعقائدي أو ديني أو طوائفي. هذا الغنى اللامتناهي في الخصوصيات، يُغرق المشهديةَ العالميةَ في غابة من المفارقات والتناقضات، بحيث يكاد يصعب التفريق بين ما هو تمايز رئيسي مسيطر، أو ثانوي عارض؛ فالإنسان العام أو الكلي يُفترض قيامه كجوهر وماهية قبلية، وما على «الأنواع» الإنسانية الأخرى إلا أن تكتشفه في ذاتها، أو تطبِّق خصائصه المعروفة؛ وذلك بصرف النظر عن اختلاف الأنواع، أو الثقافات. فلم يفعل إعلان «حقوق الإنسان» مع الثورة الفرنسية، ومن قبلها في أمريكا وإنكلترا، سوى إطلاق هذه الحقيقة الكلية، باعتبارها من مرتبة «المعنى» الذي يتجاوز الدلالات الخاصة، العنصرية والعقائدية، لكن هذا المعنى ينحلُّ إلى مجرد ماهية تجريدية، معلقة فوق تاريخ من التمييزات المضادة لأبسط خصائص ذلك الإنسان الأعلى، المدعو إليه في مقدمة كل حملات الاستعباد ثم الاستعمار، التي كتبت التاريخ الآخر للحداثة الغربية. كما لو أن رفع شعار الإنسان كماهية مطلقة قد يبرِّئه من تاريخ العنف المنظم الذي يجري تحته على الأرض. ها هنا الماهية الإنسانية المرفوعة عاليًا تقطع كل صلة لها بالتاريخ الواقعي، تمسح من خارطة العالم جدلية المعنى والدلالة، وتحل مكانها ازدواجية الخطاب الذي طبع ثقافة الحداثة وسلوكها السياسي داخل مجتمعاتها، وإزاء الخارج الغريب، وخاصة منه المبعد المقصي عن المركزية الإثنية.
بين الماهية المطلقة للإنسان وبين الاختلافات الثقافية للشعوب، يبرز إلى ساحة الفكر ما بعد الحداثوي مفهومُ الهوية الاختلافية، وكأنه حدٌّ ثالث لا ينكر تعارض الحدَّين الأولَين، ولكنه ينفي حتمية اختيار أحدهما ضدًّا على الآخر؛ فالهوية الاختلافية، وليس الخلافية، تُتيح فرصة للثقافة النوعية كيما تقدم خصوصيتها على أساس من الكل الذي تنتمي إليه، وهو الإنسانية.
ولعل أهم سؤال يتناول الصميم من هدف تجديد الفلسفة السياسية، هو ذلك السؤال الذي لا يستطيع أن يمر بسهولة بالكثير من المصطلحات التي تغصُّ بها أدبيات الشائعات الفلسفية، وصنوها التأويلات السياسية، والتي تدور حول فكرة الاختلاف عينها؛ ذلك أن تداولها المتناهي في كل محفل حواري، من لقاء الثقافات والحضارات، إنما يتعمد استخدامها، هي وقاموسها من المترادفات والمشتقات، وكأنها بداهات مباشرة، ولكن قاموس الاختلاف جعبة من البداهات، بقدر ما هو غابةٌ من الالتباسات. ولقد أثبتت تحولات العصر، منذ نهاية الألفية الثانية، أن الجاهزيات اللفظية التي استخدمت من أجل تحليلها أو فهمها، أثبتت أنه لا علاقة لها بالجسم الحدثي الذي يتفجَّر بوقائع غير منتظرة، ويفتح تحتها بؤرًا مليئةً بأفخاخ الدلالات المستهلكة التي لا تفيد شيئًا في إضاءة عوادي الزمن، بقدر ما تخفي أو تضاعف من لغزيتها الأصلية.
وحتى لا نذهب بعيدًا وراء ذلك الفيض المندلق من اللفظيات التبريرية، المصاحبة لابتكارات التواصل والتقانة الإلكترونية، وأدلجيات العولمة، فإن هناك مفهومًا مركزيًّا هو الهوية الاختلافية، لا يزال ينتظر حصته من الاهتمام من قبل الفلسفة السياسية، بعد أن تشرَّدت حدوده بين مختلف الخطابات الانتهازية. وبالمقابل فإن الفلسفة السياسية الآتية تستشعر أن جدَّتها المنشودة، إنما تتقاطع مع التصدي لهذا المفهوم بالذات. وسوف يؤلف هذا التقاطع محكًّا برهانيًّا حاسمًا لكلَيهما معًا؛ فالهوية الاختلافية عبارة تعارضية في متنها الأصلي. ومع ذلك فقد أصبحت تشغل مركزية سؤال الفلسفة السياسية، المنشغلة بهمِّ التجديد، بتغيير رؤيتها لذاتها، وليس بتفكيك ألغاز العالم المستجدة حولها فقط.
هل تبدو الهوية الاختلافية حلًّا توفيقيًّا أو تركيبيًّا. بين الهُوية ذات الثقافوة المغلقة على الذات التراثية للشعب أو للأمة، وبين الكلية أو الكونية التي يتجرَّد في وساعتها مفهومٌ للإنسان، متجاوزٌ لمختلف الفروقات للأنواع من الثقافاويات والبشرويات المنضوية تحته؟ كأنما الهُوية الاختلافية التي تقرُّ بمبدأ التعددية هي أيضًا لا تريد أن تتنازل كذلك عن أهم ما ترتكز إليه قضية الهوية، وهي الوحدة والشمول في آنٍ واحد. ولقد حل المنطق الأرسطي هذه المشكلة منذ القديم، عندما اعتبر أن الهُوية صيغة إجرائية للماهية. ذلك أنه ليس ثمة هُوية لا ترتكز أصلًا إلى ماهية. ولا تعني الهوية أكثر من بقاء الماهية ثابتة في خصائصها المكونة، للتمييز ما بين الأساسي منها والعرضي؛ فالأمم تنتمي إلى ماهية واحدة هي الإنسان، أو الإنسانية، لكنها تتمايز فيما بينها من حيث الخصائص من الدرجة الثانية، أو العرضية. وعند ذلك يمكن قبول مبدأ تعدُّد الهويات عينها، دونما تجاوز لوحدة الماهية، أو ثباتها.
كل هذا يفترض أن ثمة دالًّا واحدًا هو بمثابة الجد الأعلى الذي ينحدر منه الجنس البشري، ومنه تتفرع الأنواع إلى عروق وألوان، وإلى ثقافات وحضارات. ولقد تمت أسطرة الجد دينيًّا، أو الأب الأكبر. وكان اسمه الاصطلاحي هو آدم. والحقيقة فإن طروحات مبدأ التعددية إنما جاءت نتيجة الرغبة الأكيدة في طي صفحة التصنيف السلالي للأقوام والحضارات. ومع الحداثة أصبح من المألوف إقصاء الماهية، لكن دون التخلِّي عن الهُوية. بالمقابل جاءت مركزية الذاتوية الغربية تحصينًا متناميًا للهوية، لكن دون الكف نهائيًّا عن الحنين إلى الماهيات عبر التفنُّن في ممارسة الاندماجات بين الظاهر والباطن. كأن التمسُّك بالهُوية الظاهرة يعيد تأسيس الماهية الباطنة، لحساب الهُوية.
غير أنه إن كان يصحُّ تسييد مبدأ الهوية في مجال الأشياء والطبيعة، فإنه في سياق الدلالات الإنسانية، أو التاريخ عامة، إنما تعتري الهويةَ متغيراتٌ كثيرة، لا تسمح برفع نموذج صوري من نوع: «أ» هي «أ»؛ فهي قد تصير إلى «أَ»، «أً»، «أً». لا يمكن القول عن شعب أو مجتمع أنه هو عينه دائمًا وفي مختلف الأحوال، حتى الفرد فهو موضوع أحوال وتحولات تنال نفسه كما جسده، كما علاقاته في وسطه. هنا الهوية اختلافية، والعين متغيرة؛ ولذلك عندما يبرز مصطلح الثقافة كتعبير عن خصوصية تراثية وقومية ومجتمعية، فإنها تغدو أقربَ ما تكون إلى هوية متحركة. ومع تشكُّل الأمم الحديثة كان التشبُّث بالهوية الثقافية يرتفع إلى مستوى نحت ماهيةٍ كلية ثابتة لها، وتنحدر منها تاريخانية الأمة. ولا شك فإن تنافس الأمم الكبرى مع التطور الصناعي في الغرب، قد رفع من مبدأ الهُوية القومية إلى مستوى مبدأ كلي، بحيث يخصُّ تاريخ هذه الأمة دون سواها. ولقد شكَّلت العودة إلى التراث غداءً رومانسيًّا دائمًا لثقافة قوموية مزدوجة، من ناحية تثبت نسبة الأفضليات إلى الشخصية القومية، ومن ناحية ثانية تعطي لهذه الأفضليات حاملًا واحدًا هو الإنسان، لكنه في التحليل النهائي يغدو المقصود هو ذلك الإنسان الذي يخصُّ هذه الحضارة دون سواها؛ فالانتساب الماهوي باحث دائمًا عن الكليات، شرط أن تخضع هذه الكليات إلى خَوْصَنة ملكية واحدة، تعود فقط إلى ثقافة قوموية، تحتكرها أمة معينة دون غيرها.
ولقد عاشت أوروبا عصرًا ذهبيًّا من التنافس على ادِّعاء الكليات، ونسبتها إلى أقوامياتها المتنافسة، وخاصة ما بين شعوبها الكبرى المتحرِّكة وراء أمثلة التقدم في كل مجال، وعرف هذا العصر تحت اسم نشوء القوميات والدولة الحديثة. وقد شهد القرنان الماضيان، التاسع عشر والعشرون، أعنف نتائج الصراعات الثقافية التي غدت تُعرف بالعنصريات، وغذَّت حروب الاستعمار، والتنافس على ثروات العالم وأوطانها، ثم الانتقال إلى نمط الحروب العالمية فيما بين الإمبراطوريات الاستعمارية.
يعتبر هذا المفكر من المبشرين بما بعد الحداثة فلسفيًّا. وهو يعتقد أن الفراغ يحررنا من التجوهر الماهوي، ويجعلنا نعيش متعة المتغيرات العرضية: كل شيء عرضي، وأبعد ما يكون عن التراجيدي والكارثي. غير أن «عصر الفراغ» كان تمهيدًا لانحدار ما بعد الحداثة إلى عولمية الإعلام.
يعتبر هذا المفكر من المبشرين بما بعد الحداثة فلسفيًّا. وهو يعتقد أن الفراغ يحررنا من التجوهر الماهوي، ويجعلنا نعيش متعة المتغيرات العرضية: كل شيء عرضي، وأبعد ما يكون عن التراجيدي والكارثي. غير أن «عصر الفراغ» كان تمهيدًا لانحدار ما بعد الحداثة إلى عولمية الإعلام.