(١) إبراء المعنى من خطاب التسويغ
لماذا يلتقي الفكر السياسي العائد من ما وراء الدلالات الأدلجية، بالجمهورية، باعتبارها ليست نظام حكم بقدر ما هي صيغة عيش للمدنية؛ لأن هذا الفكر لم يعد باحثًا عن طوبائيات للغد، بقدر ما هو ساعٍ إلى الخروج من تاريخ تجارب الأمم الهائلة والمكتظَّة بمشاريعها الناجحة والفاشلة، حول مختلف المنظومات الفكروية التي أنتجتها نظريًّا، ثم ابتُليت بنتائجها المتعارضة واقعيًّا. حتى أصبح يمكن الحديث عن طوبائيات الماضي، أكثر مما هي طوبائيات المستقبل؛ فالتعامل مع المنظومات الفكروية اخترع تاريخًا متخمًا بالواقعية والممارسة العنفية المطلقة، ما لم يتم تذكره بعد ليس هو ما لم يأتِ بعد، بقدر ما هو ذلك الماضي نفسه الذي يغص بمختلف نماذج الطوبائيات المترامية على أرض الواقع، والمتصارمة مع صخوره، فإن أحلام الشعوب المطلقة، ومذاهب الدعوات إلى تجسيدها، وأساليب التجسيد عبر ما يسمى بالحضارات ووقائعها من أخلاق وسلوك وإبداعات وحروب، من ازدهار وانهيار، كل ذلك قد استهلك الطوبائية في إنتاجاتها الماضوية الطافحة من رفوف المتاحف، والخارجة من أبوابها إلى رحاب مدن الأمس التي لا تزال مدن الحاضر، وإلى الغد كذلك، ومع ذلك فالطوبائية لا تزال حية بعد أمواتها جميعًا.
يكاد ما نفكر فيه اليوم ليس هو إلا تفكير الأمس، وقد انتُقص منه بعده المستقبلي، وما يمكن أن نضيفه نحن هو هذا البعد نفسه، وقد تحوَّل إلى نوع من فجائية غير زمانية. نحن لسنا في دورة جديدة من نظرية العود الأبدي النيتشوية أو لعنتها. فلا نقول: إنني أتيت في بداية الطريق، وانتظرت كل الآخرين كيما يقدموا عروضهم، حتى آتي أنا في نهاية الطريق، لأقدم ما لم يقدَّم قبلي. وعلى هذا فإن عودة الفلسفة السياسية لا يمكنها أن ترجع إلى ذات النقطة التي كانت فيها ثم أُبعدت عنها؛ فالمسرح لم يعُد هو نفسه، وتمثيليات كثيرة عبرت على خشبته، وصدَّعَتها. ليس صحيحًا أن العروض تنقضي، والمسرح واقف ثابت في مكانه. حين تأتي العروض ثم تمضي، فإنها تقتلع معها أمكنتها من مكان المسرح القديم، من خشبته عينها. المائل الوحيد اليوم هو عرض المسرح بالذات، بدون كل العروض والتمثيليات التي مرَّت على خشبته. ويقال إنها ربما التصقَت بأرضيتها، وانتُزعت منها، محمَّلة معها بنثارها؛ فالمسرح يستحق أن يقدم أخيرًا عرضه الخاص الذي تؤلفه وتخرجه وتمثله خشبته نفسها. ما يعنيه هذا القول أن على الفلسفي السياسي أن يُشَخْصن معروضه الذاتي، وألَّا يبقى مُمْسرِحًا للآخرين، ومن قِبَلهم.
وإذا كانت ثمة عودة للفلسفي السياسي في هذا العصر، فهذه العودة منوطة بقدرته على انتشال نفسه من سلطة الدلالات الكبرى التي تنافست على تأويله، واحتكاره ضمن استبداد أجهزة مفهومية معينة، كلٌّ منها يغلق دارته ضد الجهاز الآخر، ومدعيًا استيعابه للحقل الفلسفي السياسي بكليته. ما فعلَتْه الدلالات الكبرى، الحصرية والحصارية، عبر تاريخ التطاحن الاستراتيجي بين القومويات والمذهبيات، هو أنها كانت تجهد في صياغة تجسيدات محددة للطوبائي، على أن تغدوَ هذه التجسيدات أصولًا لذاتها؛ فليس ثمة تجسيدٌ يعترف بأنه يصوغ تأويلًا للحقيقة، ودون أن يقطع مع الحقيقة نفسها.
لا يعني هذا أن الفلسفي السياسي هو جاهزية تعقيلية برهانية أو منطقية خالصة؛ فهو لا يصدر عن حاجة الفهم فحسب، بل يتطلَّع إلى التفاهم. يتعدَّى الفرد، وبحثه عن اليقين، إلى الجماعة وبحثها عن التوافق. ولقد نُظر في الماضي إلى أن السبيل إلى تحقيق التوافق ليس ما بين عناصر الجماعة، ولكن ما إن تقوم العقيدة حتى يصبح مجال التوافق ليس ما بين عناصر الجماعة، ولكن ما بين الجماعة، وكل عنصر فيها أو فرد من جهة، وبين العقيدة نفسها من جهة أخرى؛ وبالتالي ينعدم الحوار، لأن العلاقة بين الجماعة والعقيدة تُحصَر بطرف واحد، ولن يكون هو موقف الجماعة أبدًا؛ ذلك أن العقيدة لا يمكن أن تكون لها إلا الكلمة النهائية. إن لها خطابها الثابت، وإلا لم تُسمَّ عقيدة. وما على الجماعة إلا تقبُّل ذلك الخطاب وتكراره، بدلًا من التحاور معه. أما عودة الفلسفي السياسي فإنها ستُرتهن باسترداد قابلية الحوار إلى صميم عيش الجماعة بطريقة الأفراد الذين يؤلفونها؛ إذ إن الجماعة ليست كتلة بشرية هلامية، وليست وحدة كبرى لوحدات صغرى. فلا شيء يمكن أن يوصلنا إليها إلا من دروب أفرادها. وحتى لا تظل الجماعة اسمًا أصمَّ، لا بد أن يتكلَّم جميع أفرادها. ذلك أن الحوار هو تداول الكلام، بديلًا عن تصامت الأجساد تلقاء بعضها، وتحت قبة الاسم الجماعي الواحد.
ما تعنيه عودة الفلسفي السياسي هو إمكانية الكلام نفسه، هو إمكانية ما يعنيه استرداد الكلام لذاته أولًا. لا شيء يمكنه أن يعيق تداول الأفكار إلا الأفكار نفسها، وليس بواسطة التعليل والبرهان، ولكن بتجميد التداول نفسه، فإن الفكرة التي تكفُّ عن تفكُّر ذاتها، تفقد الإحساس بوجود الأفكار الأخرى. والفلسفي السياسي لا يهدف إلى تعليق التجارب العقائدية الكبرى، ووضعها كليًّا بين معترضتَين؛ بسبب افتقادها لأسباب تسويغها الدلالي أو نجاعتها الواقعية، ولكن بسبب وصولها إلى حال العجز عن تفكُّر ذاتها. وما يؤكد هذا العجز هو أن العقيدة المغلقة لا ترفض رؤية ما يغايرها فحسب، ولكنها تفتقر إلى إمكانية أن تدرك نفسها وحدودها. ما دامت فعالية المنظومة الدلالية التي ينطوي عليها مفهوم العقيدة المكتفية بأفكارها وذاتي تسويغها، لا تنتج إلا إعادة هذا التسويغ؛ فهي إذن مُستنفدة في عملية ارتجاع كل ما ينبو عن أوالية التسويغ، إلى هذه الأوالية عينها؛ فالمنظومة تقع كلها وراء حدها؛ هو حد العالم نفسه؛ فهي تستحوذ على الموضوعية كلها، ما دام ليس في هذا العالم إلا ما تسوِّغه لنا أو ترفضه بالنيابة عنا. ومع ذلك فإن كل منظومة دلالية تسعى إلى توريط ذاتية الأفراد بالانخراط في موضوعيتها، بما يرشِّح هذه الذاتية للاندماج الكامل، أو الذوبان في المعطى المنظومي، بصورة لا يتبقَّى معها من علائم الذاتية إلا ما يمكن تصنيفُه بطريقة التزام الفرد، أو بالانحراف عنها؛ فالتسويغ لا يقبل بأقل من الالتزام. ليس التسويغ تعقيليًّا إلا من حيث استخدامه لشكلانية بعض العمليات المنطقية في استخراج الثوابت، المطلوب الانصياع لها في نهاية المطاف بدون أدنى تردُّد. والتسويغ يختلف عن المنهجية، وإن كان يدَّعي بعض إجراءاتها، لكنه لا ينفصل عن الموضوع الذي يسوِّقه، فلا يمكنه أن يقدم مَفْهمته الخاصة، بمعزل عن الدلالات التي يتلطَّى وراء أحقيتها الذاتية. إن التسويغ هو أسلوب في الإقناع، بتظهير غير دقيق لأحقية الدلالة أو لنفعيتها. ذلك أن الصياغة التسويغية لا تهتم بهذه الأحقية، بقدر ما تعتمد على إمكانياتها الخاصة في توليد الإقناع، بما تصوره فيها — أي الأحقية — على أنه يمثل الأمر الصحيح أو النافع، أو كلَيهما معًا.
عندما اقترن نشوء الوعي السياسي لدى الإغريق بفن الخطابة عند بريكليس، كان المقصود من هذه الخطابة هو فن التسويغ؛ فالخطيب السياسي هو المتفوه، أي القادر على التفوه بالكلام المنطوي هو عينه على الموضوع المعرفي الذي يسعى إلى إشهاره. ولا شك أن الكلام هنا لا يأتي برنينه الصوتي فحسب، لكنه يحمل معه الجسد المتكلم الذي يصير الخطيب المتفوه، ولقد حافظ المقول السياسي على خصائصه الخطابية إلى أن طوَّرته واستخدمته الإدلجات الكليانية خلال القرن العشرين، تحت شكل الإشهار (الدعاية) والإعلام المعاصر، إلى الحد الذي طغى فيه الطابع الإشهاري على المضمون المفهومي الذي يميز أصل الخطاب السياسي، والسلطوي نفسه لم يعد قاصرًا على علاقات القوة الرأسية بين الحكم والرعية. بل غدا انتشاريًّا، وشبكيًّا، مشتملًا تقريبًا على مختلف الصيغ القُوَوية الظاهرة والباطنة في البنية المجتمعية. فأين يبدأ السياسي وأين ينتهي بالنسبة للسلطوي؟ هل لا يزال الطموح مشروعًا؟ هل يحتمل أحقيته التي تخصه، قبل أي تفعيل تسويغي؟ إلى أي مدًى يمكن أن يُنشئ مثل هذا التساؤل نظامه المفهومي، الذي يمارس استقلاليته بمنأًى عن مختلف المنظومات الدلالية التي تخطَّفت ألوانًا منه، واستخدمَتها في إنتاج عصر كامل من صراع الأيديولوجيات الكبرى وحروبها الكونية الرهيبة؟ سوف يبقى هذا التسآل مشروعًا عند ذاته أولًا، ما دام قادرًا على انتشال نفسه من حمأة الأجوبة الماضوية التي حاولت تجسيده عبر توظيفات مهولة، سوَّدت صفحات كثيفة من التاريخ المعاصر، الحي بالرغم من موات حادثاته الفاصلة تلك؛ إذ يمكن على الأقل النظر إلى تلك التوظيفات، كما لو كانت معامل اختبارية كبرى لمنظومات فكروية، استطاعت أن تسوغ طوباويات، وتنشئ تحشيدات جمعانية، وراءها ومعها وضدها في وقت واحد. فلا يكفي إطلاق حكم معياري واحد على النازية والفاشية والشيوعية، واتهامها كلها بالتشميلية، كيما نغض الطرف عن قابلية مجتمعاتها للتحشيد والاستجابة لطاقات التسويغ المنظم، والهابطة عليها من قمم السلطة. حتى أصبح فن الدعاية قادرًا في حد ذاته على توليد انتماءات متحدية غير مألوفة، وأشبه بأديان وضعية جديدة. ومع الثورة الإلكترونية الراهنة جرى تفتيت الخطاب السياسي إلى كمٍّ هائل من المعلومات المتذرية، والمتدفقة حسب انسراعات الزمن الفعلي للإيصال؛ وهو زمن فوري لا يصبر على ثابتة معلوماتية إلا ليمحوها بأخرويات منقضية في عين لحظة إيصالها. ما أسهل حجب الاختلاف النوعي للخطاب السياسي عن سواه من تدفقات «الخبريات» النثرية التي تتناوشه من كل جانب، حتى تحيله إلى مجرد شائعة من جملة شائعاتها الأخرى؛ فإن أولى المهمات المناطة بعودة الفلسفي السياسي هي انتزاع السياسي الصرف من طوفان الخطابات المُعَنْوَنة باسمه، والتوظيفات التداولية، سواء منها التنظيري أو الإجرائي، التي دأبت على صكِّ عملاتها المشبوهة بادعاء الاستناد إلى رصيده المفهومي، وتراثه الثقافي. كيف يمكن لمعانٍ، من مثل الحرية والعدالة أو المساواة أن يعاد اكتشافها والتعامل معها، كما لو كانت كل المذهبيات والأدلجات والتوظيفات التي استخدمتها، لم تسرق وهجها، ولم تُبلِ أو تخدش رواءها الأصلي.
هنالك موضوعة قد تستبد بمخيال المثقف الصاعد إلى مرابع الألفية الثالثة؛ وهي أن دورةً كاملةً قد تحقَّقت وتم انغلاقها، تضم الطوبائية ومشاريعها الناطقة باسمها، والتي قد سيطرت على الحدث التاريخي العام، وأنتجت ما أنتجت من بدائع الحضارة وفظائعها معًا، وأنه ربما كان القرن العشرون يمثل ذروة المَسْرحة لذلك التاريخ، وانفجارها أيضًا؛ ذلك أنه هو القرن الذي اكتسبت فيه المنظومات الدلالية قدرات فائقة على استنفار الكتل الجماهيرية، وتجييش أمم وشعوب تحت راياتها. كل ذلك لأنها، هذه المنظومات الدلالية، حاولت أن تخترع مشاريع لعوالم من السعادة والرخاء والحرية؛ فهي استثمرت نزوع الجماعات إلى التغيير تحت صيغته الجذرية الشاملة. ما يعني أنه لا بد من فعل السحر نفسه بدلًا من العقلنة الواعية للأدوات والغايات، على ذات المستوى المشترك بينهما من القيمة التبادلية؛ أي إن السحر وحده هو القادر على الإنجاز الانقلابي الذي تدعو إليه منظومات دلالية أعطت تأويلات صارمة للمعاني الكلية، وأعادت صياغة تربية شاملة لمجتمعاتها على ضوء مبادئها، وشحنتها بطاقات حماسية تدفع الجماعة إلى ارتكاب أفظع الحماقات في حق الذات والغير، وهي تعتقد أنها إنما تبرهن عن ولاءاتها لحفنة من الأفكار البراقة، عن الإنسان والعالم والسيطرة على المستقبل.
هذا التصوير لأفاعيل المعتقدات الجماعية، المعتمدة أصلًا على منظومة من الدلالات القافزة على الواقع نحو أحلامٍ تتجاوزه، معروف ومدروس نفسيًّا، واجتماعيًّا، وتاريخيًّا، لكن الجديد هو اعتبار القرن العشرين أنه كان ساحةً لمَسْرَحة هذه الإشكالية ذرويًّا، بتحقُّق أقصى المنظومات الدلالية، عُصبويةً وحسمًا، تنظيرًا مؤدلجًا، وتنظيمًا لمختلف الظاهرات الاجتماعية على ضوئها، مع الوصول إلى نهاية التنظير والممارسة؛ وأن ثمة دورة، أو انغلاقًا لحلقة هائلة، صنعها أقصى الاستبداد الدلالي الضامن، والحارس لأبرع صيغ التحشيد الجمعي، والدافع إلى ابتكار أنجع الأنظمة الإدارية، والجاهزيات التقنية السلمية والحربية، وصولًا إلى أقصى الخيبات المطلقة من مجمل الإرادويات الكليانية، عندما تسعى إلى فرض الانقلابية المطلقة، بطريقة الاستيلاء على السلطة الرأسية الممثلة بالدولة والفئة الحاكمة، المسيطرة عليها.
هل نقول إن تلك الأنظمة الكليانية كانت قاطعةً مع المعاني الشمولية أو الكونية؟ هل كانت سيطرتها على الحكم كافيةً لإنتاج تفريعات المنظومات الدلالية المسوِّغة للأهداف المعلنة التي لا تملك مجتمعاتها إلا الالتزام بها؟ أم أن الأصح هو الاعتراف بأن تلك المنظومات كانت مشحونةً بجرعات كثيفة من أحلام التغيير التي تجتاح الجماعات؛ أي إن تسويغها الحقيقي كان مشروطًا بقدرٍ من الانصياع التلقائي أو الغريزي إلى إغراء الطوبائية؛ ذلك أن كل أيديولوجيا مسيطرة تربط مصيرها بادعائها القدرة على اجتراح المستحيل، والمستحيل هو مادة الطوبائية المفضلة وتحويله إلى إمكانيات مبرمجة، تقلب أوضاع الدولة والمجتمع نحو أفضل الأحوال؛ أي كل ما يعاكس ظروفها الفعلية القائمة. ذلك ما فعلته الأديان السماوية سابقًا، وما مارسته الأيديولوجيات الوضعية طيلة القرن العشرين، سواء منها الفاشية أو الاشتراكية، أو الليبرالية والرأسمالية. فلا مندوحة لأية أيديولوجيا، من التعامل مع الطوبائية بجرعات متباينة، ضمنية أو علنية؛ وبذلك ليست الطوبائية زمانيةً وتخص بُعد المستقبل وحده، وليست من مستوًى خيالي دائمًا، ولا استحالي.
فالطوبائي لا يخترق الواقع كنزوعٍ إنساني وهمي فحسب، بل كتجارب تاريخانية كبرى. هنالك الجانب التأويلي الذي يجتذب الطوبى إلى صميم المحايثة. فإذا لم تكن الأفكار المطلقة قابلةً للتحقق في ماهياتها، فإنها قابلة للاستخدام بأشكالها دون مضمونها. والمعتقدات إجمالًا هي عملة الحياة الفردية والاتساقات المجتمعية.
من هنا يقول الفلسفي السياسي إن موضع البرهان ليس في المعتقَد، بقدر ما هو لدى المؤمنين به؛ فالسؤال الاجتماعي هنا لا يتناول صيغة اﻟ «ماذا»، بل «كيف»: كيف يعتقد الناس ولأية أهداف؟ غير أن المطمح الفلسفي يثابر على التمسك بسؤال «لماذا»، ويسعى إلى إضافته داخل التناول الاجتماعي عينه. فالمُعْتَقَد هو في نهاية التحليل منظومة دلالية. إن له شبكيته الخاصة من الأفكار التي لا يمكنها أن تعرض نفسها إلا بوصفها حقائق، أو على الأقل تنبئ عن حقائق، وتُتْبِعها بوسائل تتصور أنها تؤدي إلى انضباطها أولًا فيما بينها (أي الحفاظ على تماسكها المنطقي)، بقدر ما يتأكَّد لها هذا التماسك، فلا بد لهذا المعتقد من أن يأخذ طريقه إلى تحقيق مضمونه في الواقع. يبقى أن قدرة المنظومة على تحشيد المقتنعين بجدارتها قد تقدم الدليل «الموضوعي» على صحتها.
غير أن المعتقدات الكبرى من أديان وأيديولوجيات تحاذر أن تضع «معرفتها» موضع السؤال الإبستمولوجي، وهي ترفض تسمية عباراتها التداولية بمنظومات دلالية، ولا تقبل بديلًا عن ادِّعاء الحق المحض، لكن المسافة بين الدلالة والحق شاسعةٌ ولا يسمح صاحب الاعتقاد بفتح أي باب نحو تلك المسافة. إنه بالأحرى يتمسَّك بالاتجاه المعاكس؛ وهو المضيُّ من معتقده لتفسير كل ما عداه حتى الحق نفسه، محاذرًا وضعَ المقدمة نفسها موضع تفسير؛ فالأيديولوجيا مفتاح لكل الأبواب، ما عدا بابها الخاص. ومع ذلك لا تحلُّ مثلُ هذه الأجوبة القاطعة الإشكاليةَ التي تتساءل عما يجعل منظومةً دلالية معينة تتحوَّل إلى عقيدة جماعية، وليس إلى أية منظومة أخرى سواها، فلا بد من أن يتمتع المعتقَد بخصائص ذاتية، عائدة إلى بنية منظومته الدلالية، ومضمونها المفهومي، وليس فقط لكونه تابعًا لشروط موضوعية أخرى تتعلق بحاجات الجماعة وظروفها المادية والتاريخية. ذلك هو سؤال الفلسفي والسياسي. وتلك هي حصته من إشكالية المعتقدات الكبرى المحركة للتاريخ، والمحققة لأخطر أحداثه الماضية والمعاصرة. إنها الحصة التي تجعل موضوعها جاهزية المعتقد، بما هو ينطوي دائمًا على منظومة دلالية معينة، بصرف النظر عن أساليب التعامل معها من قبل الجماعات الآخذة بها، أو الحاجات المنطلقة منها، والأهداف الرامية إليها. ذلك أن المنظومة الدلالية لها جاهزيتها المفهومية قبل أن تنضاف إليها أية جاهزية أخرى خارجية عنها. والسؤال الفلسفي يزعم أن تركيزه على هذه الجهوية قد يغنيه عن بقية الخارطة؛ لأنها هي التي منوط بها أصلًا رسم الخارطة واختراعها.
المقصود من كون المنظومة الدلالية تتميَّز بجاهزية مفهومية تخصها وحدها، هو أنها تحدِّد جهويَّتها بالنسبة لنفسها أولًا، دون بقية أنحاء الخارطة الإجرائية التي تنبثق هي في المركز منها. فما يميز منظومة دلالية قابلة لإنشاء مُتَّحد مجتمعي حولها، عن منظومات دلالية عادية أخرى، ليست لديها تلك القابلية، هو مدى قدرتها على التذكير بالجهة الأخرى من حدِّها الخاص، هنالك فائض الدلالة الذي يدع جاهزيتها المفهومية غير جاهزةٍ تمامًا؛ فلا يمكن الانتهاء من تعريف الحرية، ولا من تحديد الحب، ولا من أي عقد اجتماعي ينظم المساواة بين البشر. والمنظومة الدلالية التي تطمح إلى أن تصير معتقدًا هي التي تثبت دائمًا أن فائضها الدلالي ذاك هو عنصر أُسِّي، داخل في تركيب بنيتها الأصلية، لكن المزيد من المعنى هو المعنى ذاته، وعندما لا يتبقَّى للدلالة ما تعرفه من المعنى الذي تدَّعي تمثيله، فإنها تنقضي إلى جثة ملفوظاتها فحسب. لا بد للدلالة من طاقة إحالة نفسها على المعنى، لكن المعنى بالمقابل لا يحيل إلا لذاته؛ فهو فائض دلالته دائمًا. وهذا الفائض هو موضوع استثمار من قِبَل الفاعل السردي، أي ضمير المتكلم الذي يصير إلى ضمير الغائب؛ بحيث تُعزى المنظومات الدلالية إلى ضمير المتكلم الذي يُراد له أن يشكل نقطة اللغز في كل خطاب معتقدي، تبثُّه حولها. إنه لغز فعال غير سكوني، ومداهم بلغزيته عينها. لا يتقيَّد بطلب البرهان عليه أو ضده، بقدر ما يثير الشغف والاستفزاز معًا، في الإقبال عليه أو النفور منه.
«٥ + ٥» عبارة رياضية لا تستفزُّني في شيء، لكنَّ شعارًا ينادي به متظاهرون، يثيرني سلبًا أو إيجابًا؛ فالمعتقد يتكئ على منظومة دلالية، لكنه ينضحها بتوتره الخاص، مضفيًا عليها إبهامه غير الموضوعي. والقول إن المرء يلاقي نفسه في معتقده، إنما يريد أن يعبر عن لحظة التعارف الاستثنائية الحاصلة بين هُوية غائمة هائمة، مُضمَرة داخل الذات، وبين شخصية علنية تعيد إنتاج خصوصية الفرد، على مستوًى تضامني جمعي؛ فالانتقال من المعرفي إلى المعياري، من المعطى المباشر لأية دلالة، إلى الأفق القيمي وشبه المطلق، الذي تفتحه أمام الوعي، يُخرِج السرد اليومي عن حياديته الدلالية.
يصحُّ القول إن الإضافة المعتقدية إلى أية منظومة دلالية، إنما تتأتَّى من سجل آخر غيرها، ناءٍ عن المعطى الموضوعي المباشر. إنه البُعد الذي يتواجد في الناحية الأخرى، في المقلب الثاني من كل حدٍّ لها. ويمكن توصيفه على أنه البعد الطوبائي، الذي يستثير المخيلة، وليس الفاهمة فحسب في العقل النظري. هنالك أولًا البعد الذي لا صفة له كاللامتناهي. وكل محمول عليه إنما يُفقِده لا تناهيه. غير أن الحمل الطوبائي يبدو أنه لا يكسر اللامتناهي بخاصية يقينية ما، بقدر ما يعيد استدخاله في نسيج المعيوش الحي للفرد والجماعة. وهذا ما تفعله أوالية المعتقدات عادة. إنها تعقد علاقات «أهلية» بين النسبي والكلي. تجذب اللامتناهي من وحشيته الكونية، وتُكسبه حياة يومية عبر النسبي والكلي. تجذب اللامتناهي من وحشيته البطولية، مذيلة دائمًا ﺑ «تأويلاتها» الأخلاقية، المشتقة من خلال أفعال الناس إزاء بعضهم، الموصوفة بالسوية أو المنحرفة.
إن الفائض التخييلي المرافق للمُثُل والقيم لا يبني واقعًا متعاليًا فوق الفعلي وموازيًا له، بقدر ما ينقضُّ على الواقع ويخلخل نسيجه، ويخالطه كما لو كان توءمه المتواجد فيه ومعه دائمًا. وما يسمَّى بالعلاقات الأهلية إنما يقصد منها تلك الروابط التي تشد مفردات الجماعة كذرات وليس كأفراد، قبل أن تتطور الجماعة إلى المجتمع. ذلك أنه في ظل الجماعة فإن «الناس» عادة مشغولون بسرديات الناس جميعًا، ما يحبون وما يكرهون. فليس في مثل هذا السجل ثمَّة أفضليات معينة يتباين بحسب تأديتها الأفراد. والتبرير المقبول هو كونُ كلِّ فعل تفضيلي مسوِّغًا (أي ذاتي التسويغ) بصورة استباقية على مادة الفعل وشكل تأديته. وهنا لا يتمكَّن الفرد من وصف أفعاله إلا على أنها أفعال كل الناس في ذات الظروف المتكررة: «الأهل» أو «القوم» هو الفاعل الأصلي. وهو كائن سابق على تواجد الأفراد المرتجعين إليه دائمًا. وهذا الفاعل الأصلي يمتلك حكمة التراث. إنه مستودع الحميمية الأولى؛ لأنه يكرِّر رَحِم الأمِّ؛ صمتَه ودفئَه ولغزَه العريق؛ فالكلُّ العددي يسوِّغ القول المفرد. وهما معًا، الكل والفرد، متحدِّران من رحم الماضي وحده. وما كان قائمًا في الماضي سيبقى في المستقبل؛ فالجماعة لا تفاجئ نفسها بما لم يكن فيها من قبل، وإلا تعرَّضت وَحْدتُها للتخلخل؛ إذ إن الحدث غير المسبوق يطرح مشكلةً لا تعرف حلها بعد؛ فالأحفاد القادمون حديثًا إلى العالم لا يمتلكون أحداثهم بقدر ما يأتون نسخًا عن آبائهم وأجدادهم، على أن «المجتمع» حالة اختلافية عن الجماعة الأولية، يصنعها أفراد الأجيال، وتصنعهم هي بحدٍّ أدنى من الشروط المسبقة. وفي نموذج المجتمع الاستهلاكي الراهن فإن مفهوم «الأهل» يكاد يقتصر على الوظيفة الفيزيولوجية. وأما الأبناء فإنهم يستمدُّون انتماءات عارضة، وانتقالية دائمًا: من المدرسة والوظيفة والشارع والإعلام، ومن أبسط توافه الصدف اليومية التي تَعرِض للبعض دون البعض الآخر.
غير أن هذه التكونات المتحدية داخل المجتمع المدني لا تعيقه عن طرح تربية المواطنة، كولاء حيادي وشامل؛ حيادي بالنسبة للانتماءات الخصوصية لكل جماعة على حدة، وشامل للجماعات كلها، بما يجعلها تعيش ثقافيتها الخاصة بدون تعارض مع الولاء لوطن الجميع؛ فالمواطنية ارتباط بوحدة الأرض ونظام الجمهورية، لكن التجربة الأمريكية، وإن كانت رائدة في هذا المنحى، فإنها لا تزال تعطي الأفضلية لخصوصية جماعة واحدة بعينها ذات ارتباط إتني، أنغلوسكسوني، وعنصري أبيض، ديني بروتستانتي، وتفضل تعميم سياسته على المتحدات الأخرى تحت مصطلح جماعي تسميه: طريقة أمريكا في الحياة، وهي عبارة عن منظومة دلالية، من طبيعة افتراضية، مالكة لتسويغها الخاص، وأقرب ما تكون لأيديولوجيا شعبوية من حيث الممارسة والامتداد، لكنها نخبوية ومركزية، ومؤسَّسية من حيث علاقتها بالتركيب الهرمي والبنية النظامية، في الفكر التوجيهي والممارسة النمذجية.
فالأمركة لا تترجم مواطنية قائمة، بقدر ما ترعى منظومة دلالية ضمنية، ينجم عن ممارستها التطبيقية التفصيلية نظامٌ تفاضليٌّ يجرِّد المواطنية القائمة، من حياديتها الأصلية، ويُلصق بها لصقًا «طريقة الحياة الأمريكية»، باعتبارها الممارسة الوحيدة الصالحة لتحقيق المواطنية داخل الدولة، والنمذجة المتعالية فوق بقية الشعوب خارجها.
ما نريد قوله هو إن انبثاق إشكالية المتحدات الثقافوية داخل المجتمع المدني الحديث، يعيد إلى بؤرة التساؤل الفلسفي فكرةَ التطور الحلقي أو الدائري بدلًا من الخطي الطولاني. ومن خصائص الدوران الحلقي هذا هو أنه ينتشل العمق إلى السطح، والمغمور إلى المظهور. وأنه يستخدم نموذج الدوامة بدلًا من المجرى المُنسرِح، والحركية الشاقولية الصاعدة الهابطة بدلًا من التخطِّي الأفقي الوحيد الاتجاه نحو الأمام. والمجتمع الأمريكي ليس وحيدًا في هذه المشهدية العالمية، بل تكاد معظم الدول تعاني داخلها من تعددية الثقافويات، وغلبة ثقافوية معينة على البقية. ما يُبرز من جديد أزمةَ النموذج السلطوي السائد تحت مصطلح الدولة/الأمة.
فهذا النموذج لم يعُد يغطِّي كافة التنويعات والتناقضات البنيوية التي تنتاب الكيانات الدولتية المعاصرة، شرقًا وغربًا. وقد كان قائمًا على الاعتقاد أن الدولة الحديثة، بما هي إطار قانوني وموضوعي، قادرة على رعاية وحدة المجتمع واتساق فعالياته فيما بينها، بصرف النظر عن متحداته الإتنية والثقافوية المتحالفة. ذلك أن الدولة الحديثة تنظم فعاليات المجتمع من خلال المؤسسات، دون أن تظلَّ مجرد سلطة عليا للتحكم في إرادات الأشخاص وعقولهم، كما هو نموذج الحكم المطلق. ومع ذلك فإن عودة المتحدات الإثنية الثقافوية إلى البروز في مقدمة المجال العام، كلاعب رئيسي عضوي يتجاوز شبكيات المؤسسات الوضعية المدنية، الضابطة والمنضبطة، أوضحت محدودية الدولة في صياغة وحدة قسرية تدمج كافة التكوينات الفعلية في بنية واحدة من طبيعة افتراضية، ويحرسها البناء القانوني للدولة فقط.
أصبحت إشكالية العلاقة بين المتحدات ببعضها، ومع الأجهزة الإدارية للدولة، تدفع إلى المزيد من انكماش سلطة المركز أمام الأطراف والجهات جغرافيًّا، وإزاء المرجعيات المتحدية المتوزعة في أنحاء النسيج السكاني والحقوقي.
من هنا فإن بناء النظرية السياسية الحداثية منذ الربع الأخير من القرن العشرين، أصبح مرتبطًا بالبحث عن تلك الصيغة التوافقية بين النزعة نحو المدنية التي تسير نحوها المجتمعات المتقدمة، وبين واقع التعدديات الثقافوية الذي لم يعُد بالإمكان تجاهله، لا بالقمع ولا بعدم المبالاة؛ فالمجتمع لا يتخطَّى «جماعاته» لكنه يوازيها ويحاورها. وحينما تبدو أمريكا الأولى في اختراع النمط الأحدث للمجتمع الخليط، فإنها عانت من نظريات طوبائية، تسوِّغ الاندماج، بدءًا من صيغة «السلطة» المقرة بتوزع جماعاتها دون أية روابط عضوية، بل إنشائية ووضعية تساعد على صناعة الإطار العام، وصولًا إلى طوبائية الأمركة التي لم تعد تقنع أساتذة النظرية السياسية في كبرى جامعاتها. فدخلنا هكذا في حقبة جديدة تمامًا، محورها التفكر في العلاقة بين تعددية الواقع الإثني واللغوي والديني للدولة الحديثة، والبنية المفترضة للدولة القادمة المفتوحة الحدود على الآفاق العالمية. وفي غمرة هذا التفكر هبطت نظرية العولمة من مصدر اقتصادوي سياسوي أولًا، ومن حاجة استراتيجية لوضع الدولة الأمريكية بعد زوال الاستقطاب الاشتراكي الرأسمالي. وكان من المنتظر أن يحتضن التفكر الفلسفي التعددي العولمة، لولا أنه يشعر كأنما العولمة بدعة توشك على اغتصاب حركيته الخاصة لحساب مصالحها الإجرائية، وقد راحت تداهمه من غير مقدماته العقلانية، وأنها ربما تعدَّت على أطروحاته واستغلتها بوسائل التواصل الإلكتروني وأزمانه الفعلية، وتمكَّنت من استخدامه كجاهزية فكروية مرصودة لفرض التسويغ.
باختصارٍ فإن الغرب بشطرَيه الأوروبيِّ والأمريكيِّ، منهمٌّ اليوم بسؤال ما بعد نموذج الدولة/الأمة؛ فالأمركة لم تستطع أن تحلَّ مع ذاتها مشكلة دولة كبرى عجزت عن إنتاج أمة، والمجتمع المدني حلم أوروبي، وهو طوبائية «البعد» المتميز بالراهنية لأنه يلامس «الحد» الواقع، ويفتح على عديد الطرق في التعامل مع اللامتناهي؛ فالنبضة الفاصلة بين الطوبائي المفارق، والطوبائي المحايث، هي كالفارق بين أقنوم الهُويَّة التصنيمية أو المصنَّمة وبين الهُويَّة النقدية؛ فالأولى ترتصُّ كلها خلف حدها؛ وبالتالي تضطر إلى إلغاء الاعتراف بكل ما عداها. أما الثانية، الهوية النقدية، فإنها لا ترى لذاتها حدًّا إلا في مدى اكتشافها لحدود سواها وتجاوزها؛ وبالتالي فإن سير المجتمع المدني نحو إلغاء الحدود، يُثبت قدرته في جَعْل الطوبائي نفسه يتكلم لغة الراهن الفعلي. أليست طريقة التعبير عن الجوهر تُعيد إنتاج تجوهره، وإن بغير طريقته؛ فالهُويَّة النقدية، خواصُّها الحقيقية هي أنها بدون خواص؛ ذلك أنها محتاجة دائمًا إلى إعادة تعريف نفسها على ضوء متغيرات الاعتراف بها. وعلى هذا الأساس، فإن القومية الحداثية هي نوع من دال انتقالي تابع لهُويَّة نقدية لا تكفُّ عن إنتاج دلالات فائضة عن منظوماتها وأنساقها الشائعة.
الهُويُّ النقديُّ: سؤال الحد عن فائض البُعد
ليست الهوية النقدية بدعة غريبة، ولا هي عنوان مرحلة تحقيبية تخصُّ تاريخًا حضاريًّا معينًا. إنها بالأحرى حالة فكرية، تنبع من ذلك الجانب من علاقة الالتباس بين محدودية المنظومة الدلالية وأفق المعاني التي تدَّعيها، دون قدرة على تجسيدها بصورة نهائية، فتحل هي مكان المعاني المفترضة، أما لحظة الهُويَّة النقدية فلا تحين إلا عندما يتعلم المجتمع من دروسه التاريخية، حقيقةَ الإبدالات المتتابعة بين المنظومات الدلالية والمعاني؛ بحيث يسمح الوعي التجريبي للأمة أن تميز بين ما يحدُّ كل معتقدٍ لها، وبين ما يتجاوزه من المُثُل التي يدعيها. وهذا يتطلب انفتاحًا متناميًا للفكر القومي على الفلسفي السياسي؛ ذلك أن هذه العبارة تحتوي أقنومَين هما السياسة والفلسفة؛ والأولى تُعرَّف بالفكر الباحث في الوسائل، والثانية، الفلسفة، هي علم الغايات. والأقنومان معًا الفلسفي السياسي، كواحد، إنما يسعى إلى تفكر الوسيلة على ضوء الغاية، والغاية على ضوء «إمكان» الوسيلة؛ فالنقدي إنما ينبثق بين حدَّي هذه الصيغة، وإذا ما ابتكرت ثقافةُ المجتمع عقيدة ما، أي منظومة دلالية، فلا يصحُّ لتلك المنظومة أن تلتصق بالمجتمع بديلًا عن هُويته؛ لأن أية منظومة دلالية ليست سوى أداتية انتقالية نحو ما يتخطَّاها: وهو ذلك الفكر الآخر المتطلع إلى المعاني، أو إلى الدال الطوبائي نفسه الذي لا تمنع استحالته الواقعية من استشعار الفكر لأحقيته المعيارية، وضرورته المفهومية. وعلى أساس هذا المنحى، فإن الهوية النقدية لا تعكس نموذجًا منجزًا كله، بقدر ما تربط كل تعريف لهُويها بمدى الاعتراف به، فلا مندوحة من وجود الهويِّ الآخر وتعدده؛ فالهويُّ النقدي هو سؤال الدلالة عن فائض البعد المجاوز لكل حدٍّ.
وهكذا كان تكاثر الهوي، أي تواجد الأمم كعنصريات متنافسة فيما بينها، مصدرَ قلق متواصل على تماسك كل هُوي بالنسبة لذاته، فكان الآخر مصدرًا للخوف والتهديد. وكانت «وسيلة» الدفاع عن الذات تحتم إزالة الآخر. ومن هنا عرفنا تاريخ الإنسانية محكومًا دائمًا بصِيَغ توازن القوى واختلافها بين الأمم، كوحدات عنصرية في البداية، ثم عبر المشاريع الثقافية (الحضارية) التي تنتجها تلك الوحدات، وقد راحت تكون أممًا متمايزة فيما بين شخصياتها المفهومية، أي ما تعرفه عن هُويها، وما تقبله وترفضه مما لدى الهُويِّ الآخر؛ فالتاريخ سجَّل صراعات الإنسانية بين وحداتها العنصرية والقومية، على أساس أنها علاقات قوًى؛ ودرس وحلَّل إنتاجاتها باعتبارها تخصُّ مشاريعَها الحضارية المعبرة عن تراثاتها القومية؛ لكنه قلما تعرض التاريخ لحفريات (أركيولوجيا) تلك الثقافات من منظور علاقتها بالحقيقة، في حين أن الفلسفيَّ السياسي يهمُّه هذا المركَّب من علاقتَي القوة والحقيقة، مع انحياز علني، إلى جانب علاقة الحقيقة. وتبدو الهُوية النقدية توافقية مع هذا الانحياز، ولكن دون إهمال للقطب الآخر من المركب التاريخي، الذي بدونه يفقد المركب صفته التاريخية، وينحلُّ إلى مجرد نمذجات تاريخانية معلقة في فراغ التحقيبات الفوقية والمفتعلة، فليست الهوية النقدية ثمرة مثالية آتية في نهاية التحقيب التطوري: إنها لحظة راهنية تتمرَّد على توزيعات التحقيب؛ تتدخَّل في آنات الأزمنة الثلاثة الماضية والحاضرة والمستقبلية؛ إنها تجسر على البعد في كل حدٍّ لا يهمل ما يتجاوزه في المقلب الثاني مما يحدُّه ويحدِّده.
ولقد قِيسَت الحضارات بمدى تحسُّسها بالكوني اليونيفرسالي، وقدرتها على التعبير عنه خلال منظورها المدني، وإبداعاته التي يمكن إضافتُها إلى رصيد الإنسانية عامة، وتلك هي صورة تبسيطية مألوفة في تداولات التاريخ التسجيلي، لكن الفلسفي السياسي لا يرفض المتداوَل في هذا الشأن، بل يجعله منطلقًا وموضوعًا لسؤاله المختلف، كالآتي: كيف أدارت هذه الحضارة، أو تلك، مركب العلاقة مع القوة والعلاقة مع الحقيقة؛ ما هو شكل هذه الإدارة، وجاهزيتها العملية، واستراتيجيتها الحيوية التي وجهتها؟ ذلك أن الكوني صامت، ليس له لغةٌ يخاطب بها الآخرين. والحضارات هي التي تقدم ذاتها كوكالات ناطقة باسمه، ما دامت كل واحدةٍ تطرح مشروعها الثقافي كما لو كان جواب الكوني الوحيد عن سؤاله لذاته، ولا جواب سواه. وتحت طائلة هذه الوكالة الحصرية والقسرية التي يخترعها المشروع الثقافي لنفسه، تحديدًا للكوني، فإنه يضطر إلى قلب مسيرته من تنمية خيارٍ لهُويةٍ ممكنة إلى ماهية تأحيدية، تبني مؤسستها التخييلية، كمرآويةٍ منشغلة فقط بانعكاسات سطوحها على بعضها. ما يعني تحللًا للمركَّب المدني القائم على التوازنات الصعبة بين العلاقة مع القوة، والعلاقة مع الحقيقة، وهبوطًا إلى مستوى علاقاتٍ للقوى فيما بينها فحسب، وغيابًا لعلاقة الحقيقة بما هي كذلك، وحلول منظوماتٍ دلاليةٍ مكانها، ذات ادِّعاءاتٍ تصنيمية بالاحتياز على الحقيقة كل الحقيقة.
وفي هذه الحالة لا يمكن للهوية إلا أن تكون هي كذلك تأحيدية، كالماهية التي تحاول أن تكون دليلها الوحيد، وباعث إرادتها على التحقُّق الزماني.
لا يمكن أن تُفهَم الهويةُ النقدية إلا على أساس التجربة الحداثية الكبرى، التي انطلقَت سياسيًّا على الأقل من الثورة الفرنسية، وإعلان شرعة حقوق الإنسان، وقد طبعت مسيرة القرنَين التاسع عشر والعشرين، عَبْر ثنائية المفهوم الثوري للأمة، والمفهوم الرومانسي المناقض له، وهي لم تكن مسيرة الفلسفي السياسي فحسب، بقدر ما جسَّدت حضارة الحداثة الغربية وتحاورها العضوي والكياني والعقلي مع المدنية. فالمفهومان تقاسما فكر هذَين القرنَين، وممارستهما العملية في وقتٍ واحد؛ الأول، وقد وُصف بالثوري لعلاقته المباشرة مع حدث الانقلاب الكياني الشامل، المقترن بحادثة السقوط الأول لما يسمَّى بالنظام القديم السائد في أوروبا، وخاصة في فرنسا. وجاء تحقيقًا سياسيًّا لمبادئ الأنوار في جانبه الفكري على الأقل، وأحداثه الأولى قبل انحلاله في حقبة الإرهاب المظلمة التي عادت كذلك بالويل والثبور على أفكار الأنوار نفسها، ومهدت لظهور الرومانسية كحركة حنينية لكل ما يناقض تلك الأفكار. شكَّلت نقدًا لنقد الأنوار الموجه إلى الثقافة القروسطية.
والمفهومان، الأنواري والرومانسي، لم يأتيا متواليَين زمنيًّا فقط، بل استمرَّا متعاصرَين، ومتصارعَين على الإمساك بالمصير الغربي والعالمي معًا. أنتجا معًا ثقافة الحداثة وأخلاقيتها المتعارضة، وكانا مسئولَين بالتكافل والتضامن عن انتصارات تلك الثقافة وكوارثها السياسية والحربية غير المسبوقة تاريخيًّا؛ وفي كل منعطف ثقافي وسياسي من قصة الحداثة للقرنَين السابقَين، كان المفهومان يُصدران عن ذاتَيهما منظومات دلالية، هدفها تسويغ الحدث العام واستباقه تنظيريًّا أو عَقْلَنته موضوعيًّا وهو واقع حار، ثم العمل على تبريره إلى درجة المساهمة في نقده والترويج لتجاوزه، في مرحلة انقضائه وانكشافه عن نتائجه المادية المباشرة وغير المباشرة.
ذلك أنه بناءً على تصوُّر المجتمع لشكل دولته التي تنظِّم شئونه العملية، وتجسِّد آماله الحضارية بما هي تعبيرٌ عن شخصيته المفهومية؛ فقد انقسم المشهد السياسي خلال القرنَين السابقَين إلى تعارضية التيارَين الأنواري والرومانسي، مع محاولة التوفيق بينهما نظريًّا دونما نتيجة واضحة حتى اللحظة الحاضرة.
وقد يمكن الكشف عن العلَّة دائمًا، فيما يتعلق بظروف التطور التاريخي والثقافي المحيطة بالتجربة الغربية كلها. غير أنه، وعلى ضوء الطرح الذي اعتمدناه، يمكن إرجاع الإشكالية السياسية بصورة عامة إلى صعوبة التحكم بطرفَي المعادلة في كل فعل جماعي، بين ما هو تجسيدٌ مباشر لعلاقة القوة، وبين ما هو تطلُّع إلى علاقة ملاءمةٍ مع الحقيقة، كما يتمثَّلها المجتمع وَفْق لحظته التاريخية المرافقة.
ربما كانت التجربة الغربية أهم وسط نموذجي لانقلابات النظرية السياسية، وجدلها اليومي الحاد مع التطورات الحداثية، وداخل تحولاتها الرئيسية الكبرى. ولقد أصبح من المألوف لمؤرِّخي فكر النظرية السياسية، التسليمُ بالاعتبار القائل إن ثنائية الأنوار والرومانسية لا تزال تغذي شكلانية الفهم والتأويل لمجمل إنتاجات عصر الحداثة، وطرق رؤيته لمعانيها ودلالاتها، وابتكار أنظمة السلطة والحكم المسئولة عن تجسيدها، والسهر على تنفيذ آلياتها. وبالرغم من أن هناك تراثًا تراكميًّا هائلًا ولا يزال ينمو باطِّراد، من التأويلات والتحليلات المتشعبة حول هذه الثنائية، فإن الفلسفي السياسي يتشبَّث بجاهزية المفهمة المؤسِّسة لقطبَي الثنائية، ويرصد فيها من عصر إلى آخر، ما يخصُّ ذاتي التنمية، والانتماء إلى مفاهيم كلٍّ من قطبَي الأنوارية والرومانسية. ولا ننسى أن هذَين القرنَين أو الثلاثة الأخيرة من الألفية الثانية، قد ضمَّت جميع مدارس الفلسفة بصورة عامة الموصوفة بالحديثة والمعاصرة، قبل تصنيفها مذهبيًّا إلى المثالية والواقعية، وسياسيًّا إلى اليمين واليسار. وهي في جملتها ألَّفت عصور الحضارة والمدنية بمعانيها المتطورة، ووقائعها التاريخية والأنثربولوجية.
ويمكن الدخول إلى عموميتها من هذا المبدأ الباحث عن ابتكارات الفكر والتاريخ معًا، لما نسمِّيه بالمنظومات الدلالية، الكاشفة عن الصيغ المختارة لتوازنات علاقة القوة مع العلاقة بالحقيقة. ولقد قدمت الفلسفات والأنظمة السياسية، وكلٌّ منهما حسب لغته ومنهجه، انعكاسات تنظيرية، مفهمية، خلقية وتربوية وقانونية، عن تصوراتها لوقائع القوة والحقيقة، وإن كانت تحت تسميات اصطلاحية، اكتسبَت ذاتي سلطتها على الأفهام والعقول، دون اضطرارٍ لكشف الأصول الأولى المنعكسة هي عنها؛ ونعني بها ذلك الخضم المجهول من صراعات الحرية إطلاقًا والعدالة إجرائيًّا؛ فالمنظومة الدلالية السائدة في عصر أو مجتمع، هي صيغة توافقية لمفهمة الصراع الدائر، لقيادته، حين غلبتها الموقتة عليه، أو لتبريره عندما تغدو من حصائله، وإضافةً على ناتجه الموضوعي المنجز.
كان يمكن للرومانسية الصاعدة بسرعة تُقارب أحلام اليأس والطوبى الشاعرية، أن تحتكر ساحة رد الفعل الثقافي والاجتماعي، كردٍّ رجعي أو ارتجاعي على خيبة الكونية الإنسانوية، وأن تحول «تقدم» الحداثة الخطي إلى دائرة مغلقة متناوبة بين الحينية شبه الدينية إلى القروسطية التاريخية، والامتثال للحنينية الجمالية المنبثَّة عن الرومانسية المعاصرة، غير أن ولادة اللحظة النقدية مع كانط، فضلًا عن إنقاذها لفكر الأنوار من أن يدفن مع تجاربه الأولى في إنشاء الدولة الثورية، فإنها استطاعت أن تعيد ترجمة علاقات القوة في الواقع على ضوء العلاقة بالحقيقة، فنقلت العقلانية الكلاسيكية الأولى، عند مفكِّري الأنوار، إلى عقلانية نقدية ترى نفسها والعالم من خلال هُوية نقدية، تقع على مسافة معرفية دائمًا من كل ميتافيزيقيا ماهوية جوهرية.
غير أن ذلك لم يمنع من أن تقع النظرية السياسية فيما بعد، بين قطبَي مفهومَين عن الهُوية القومية، التي تحقق صياغة الدولة الحداثوية. وهما المفهوم الطبيعوي الذي يخصُّ الأمة بعبقرية تاريخية تثبت اختلافها النوعي حديًّا، وتجعله ماضيًا تراثيًّا، ينحدر منه كلُّ مستقبلٍ حضاري لها، والمفهوم الإرادوي الذي ينيط بالدولة ودستورها، إنشاءَ المجتمع المتغير المطلوب. وقد أصبح المفهومان يُعرفان تحت مصطلحَي: الأمة/الدولة، الدولة/الأمة. ويؤسِّسان معًا أدبيات النقاش الحداثوي للنظرية السياسية.
غنيٌّ عن البيان أنه ترجع إلى روسو فكرة أن انبناء الأمة كمجتمع حداثوي، لا يتحقَّق إلا عن طريق عقدٍ بين الأفراد؛ فإذا كانت الطبيعة قد كونت الجماعات الإنسانية، حسب خصائصها الأقرب إلى جاهزيتها الدموية (العرق والقوم) والجغرافية (الأرض والمناخ)، والتواصلية الأولية (أية لغة وثقافوة للتفاهم المبدئي)، فإن الإرادة الباحثة عن الصالح العام، في ظل التقدُّم، هي التي تدفع العقل الفردي الجماعي إلى اختيار نوع الكيان، وشكل نظامه، وصياغة الهيئة الثقافية السياسية التي ينبغي أن يتحدد كيان الأمة على صورتها ومثالها. وهكذا فإذا كان روسو لم يتحدَّث عن طبيعة سابقة، إلا أنه افترض حدًّا أدنى من الجماعية الواعية القادرة على تصور هذا العقد الذي يضع حدًّا لتصادم الإرادات الفردية، ويصوغ بنيةً قانونية لتحديد علاقات القوة والحقيقة في النسيج الفردي، والكيان الاجتماعي والتنظيم الدولتي، فما سوف يُسمى بالمجتمع المدني هو صناعة عقلانية حضارية، وجهد إرادوي، فردي جماعي، لا تمليه أية هوية ميتافيزيقية، ولا تُنتجه بالضرورة طبيعة قبلية، أو تُبدعه عبقرية متعالية، لتثبيت شخصيةٍ للأمة محروسة أولًا باختلافيتها التمييزية. مما قد يمنح الأمة حقوقًا زائدة تتفرَّد بها. ويطفح عن حدودها الفعلية طلب المزيد مما سوف يُدعى من حدود المجال الحيوي، التي تتخطَّى مساحة الوطن الأصلي. وتفيض بقوة الأمة المتميزة، نحو الاحتياز على أوطان الآخرين (الاستعمار)؛ فالنموذجان: الأمة/العبقرية، والأمة الإرادوية تقاسما فعليًّا النظرية السياسية فكريًّا، والصراع المادي على مستوى الأحداث التاريخية الكبرى التي سجَّلت قصة الحداثة الغربية، وشكَّلا مثالَين للتحليل والاقتداء كذلك بالنسبة لدول العالم الأخرى الناشئة.
لقد ترعرع نموذج الأمة/العبقرية خاصة، في جو الرومانسية التي عمَّت الآداب الغربية خلال العقود الأولى من القرن التاسع عشر، فلم تستطع المثالية الألمانية التميُّز الواضح عن أطروحات الرومانسية؛ وقد عكس بعضها الأصداء الفلسفية لما تعنيه أفكارٌ من نوع أزلية الجوهر القومي، لتبرير أولوية التراث، التي تكرِّسه باعتباره المطرح المميز لمملكة الهوية، والرحم العضوية الأولى لنشأة روح الأمة؛ بما يعني أن الأمة قد بلغت كمال تكوينها في سابق الأزمان والأحوال، وأن زمانها الحاضر والمستقبل، ليسا سوى انبعاثات باهتة للأصول التي أخرجت مفهوم الهُوية نهائيًّا من سياق الصيرورة التاريخية، وضمَّنَتْه هدفًا مسبقًا لكل ما سوف يتقدَّم عليه؛ فالرومانسي طوبائي معكوس: إن له وجهًا لا يلتفت إلا إلى الخلف. وهو بذلك إنما يستعير شرعة الكمال البدئي، ومعها «ثقافة الخطيئة الأولى»، التي ألقت بالأمة في جحيم النقصان المتنامي، لكن المثالية الألمانية لا تسلِّم بعجز الأمة عن محاولة استدعاء مجيد لكمالها. وليس من سبيل إلى ذلك إلا بتصميم «إرادوي» على إعادة تكوين الأمة، حسب مثالها البدئي أو هُويتها المتعالية، ولكن على مستوى تحديات العصر، وباعتبار أن إرادة التكوين الجديد تصنع حتميتها الخاصة من بداهتها العقلانية الخالصة، ضد حتمية ظروف النقص والمقاومة المضادَّة التي تعانيها داخليًّا وخارجيًّا.
وهكذا تنتزع المثالية، مع هيغل، حصتها من طوبائية إرادوية تكافح تمادي الرومانسية الأدبية في نزعة الانسحاب من العالم، وانكماش الفرد داخل شرنقته المظلمة، إلى درجة تحول الأمة من الجماعية المستنيرة إلى التذرية الفردية الأسيانة، فإن الهيغلية أدخلت فكرة التاريخ إلى علاقات المعاني فيما بينها، وفرضت حركية التكوين على المفاهيم والوقائع معًا، ورأت أنه ليس من أمة بدون دولة وأن الدولة، وليس المجتمع المدني، هي الضامن الوحيد لتجسيد تكويني مفتوح لجوهر الأمة. وهكذا اعتُبرت الهيغليةُ في نظر الفلسفة السياسية، أنها النزعة الفلسفية الإنجازية التي تشكل المركَّب الموضوعي التاريخي لكلٍّ من النظرية العقدية، والنظرية الطبيعوية وامتداداتها إلى الرومانسية، الفردية والشعرية. ويتجسَّد هذا المركَّب من النقيضَين، في شكل الدولة، التي لا حقيقة لأية مجتمع أو أمة أو تاريخ بدونها، كما يريدنا هيغل أن نعتقد.
مقالات عديدة ودقيقة تعرض لمختلف أطروحات الليبراليين الجدد وأنصار النزعات المتحدية، وتمس نقاط التقاطع والجدل فيما بينهما.
والكتاب عني بأفكار الشباب الأولى التي كانت أقرب إلى الرومانسية الألمانية الشائعة، التي تحاول التوفيق بين العقلانية والحساسية، وتفسح مجالًا رحبًا للمؤثرات الدينية والشاعرية الأدبية.
Eugène Fleischmann: La philosophie politique de Hegel, Tel, Gallimard.