(٢) مأزق دولة العناية مع الكونيات
كل فكرٍ سياسي لا بد له من التمتع بجرعة من ينبوع التخييل الطوبائي؛ وبالتالي فإن كل تأمُّل وبحث عن الهُوية المجتمعية أو القومية أو الإنسانوية، إنما يغترف من الإناء الطوبائي كما من الإناء الوضعي. والفروق بين النظريات السياسية إنما ترجع إلى طريقة هذا العرف وكميته ونوعيته. وبقدر ما تتمكَّن خطابات النقد السياسي من كشف أساليب المذاهب التنظيرية، في التعامل مع حصة أو جرعة من المنهل الطوبائي، وتقيس درجتها وكيفيتها، بقدر ما يتمكَّن الفكر من استرداد المبادرة، والانتهاض بالجدل العام إلى ما فوق تضاريس التأويلات الأحادية لعلاقات المجتمع المدني بذاته أولًا، وبأشكال السلطة التي تحكمه تاليًا. ولقد اعتبر تيار كبير من الفلاسفة والحقوقيين أن الطوبائية قد تكون هي الرديف المسكوت عنه، تحت تلفيظ الكونية وأنساقها الفكروية غير المحدودة؛ فالكوني هو الجانب الآخر اللاحدي لكل حد مفهومي في السياق الأخلاقي والسياسي. وإن جاذبية العدالة في الأخلاق، والحرية في السياسة، مدينة لكمية اللاحَد التي تندلق وراء جرس هذَين الملفوظَين؛ فالعدالة والحرية هما من المعاني التي تشكل عملة التعامل اليومي للخطاب الفلسفي، ولا حقيقة لهذه العملة، أي لا رصيدَ لها إلا مدى ثقة الناس المتعاملين بها، على أنها تشفُّ عن الصح والخير ضد الغلط والشر؛ ذلك لأن المعنى إنما يفتح على الكلي، ويمد جسرًا مفهوميًّا ما نحو الكوني؛ فالإنسان، هذا الكائن العاقل، أي المفكر، لا يمكنه أن يمارس حقيقته تلك إلا بقدر ما ينفتح على الفكر، أي على هذه العلاقة الصعبة أو المجهولة مع الكوني، فكل ما ينير هذه العلاقة، ويحوِّلها من الاستعصاء إلى الإمكان، إنما يساهم في نسج الفعل الفلسفي؛ ولذلك لم يرَ أفلاطون سبيلًا إلى إقامة المجتمع المدني إلا في ظل الحكمة الفلسفية؛ لأن صيغة المدني إنما هي تعبيرٌ عن المجتمع العادل الذي هو القادر على التعامل مع المعاني، وابتكار سُبل ممارستها وتحقيقها ضمن علاقات الشفافية ما بين الناس. ولا تتوفر الشفافية في النسيج الاجتماعي إلا بالكشف عن الالتباسات الناجمة عن ازدواجية النية والفعل الخاص والعام؛ وذلك بقدر ما يتضح تمفصل أفعال الأفراد مع أفعال الجماعة عند تكرار ذات الظروف، بالنسبة لكلٍّ منهما؛ وبقدر ما يتمأسس هذا التمفصل عبر جاهزيات موضوعية.
فالكونية هنا تنحدر من التجريد اللاهوتي إلى المحايثة الطبيعية، وتمتلئ بمفردات التضمين الإنسانوي الذي لا يلبث أن ينقلب إلى مصدر شرعية جديدة؛ تؤكِّد جدارة الكائن الإنساني في التمتُّع بحقوقه الطبيعية، قبل أن يستلبها منه أيُّ نظام باسم شرعية أخرى مفارقة لاهوتية، أو نبالة مطلقة وراثية. وباسم هذه الطبيعة الحقوقية، أو الحقانية، يمكن لكل البشر أن يتطلَّعوا إلى تلاقٍ متكامل ومتوازن في رحاب كونية شمولية. تنظِّم هذا التطلُّع التلقائي إرادة ائتلاف، تثمر تعاقد الجميع تحت طائلة كونية الكل؛ فالجميع هنا هو المحل الموضوعي لتلاقي إرادات الأفراد حول عقد عقلاني، أخلاقي خالص، من أجل ترجمة الكونية إلى نظام حقوقي يعبر عن الصالح العام، أي إرادة الكل.
لقد أراد روسو من هذا التمييز والتكامل بين مفهومَي: الجميع، والكل، أن يدعم تحت صيغة الأول سيادة الفرد على إرادته وتمتعه بحريته الطبيعية التلقائية. وأن ينفتح، تحت صيغة الثاني، مفهوم الكل، نحو الكونية الإنسانوية الشاملة؛ فالنظرية العقدية هي أول صياغة عقلانية واقعية لثقافة الأنوار الأولى، المنتصرة للطبيعة، أو لأول ثورة سياسية شمولية بهذا المعنى، في مرحلة الفجر من الثورة الفرنسية، وقد جاءت هذه الشرعة لتغدو أساس عملة الحداثة السياسية، والتجسيد الموضوعي لإمكان قيام مجتمع حقوقي تحت ظل كونية بشرية خالصة.
سوف تبقى المادة الأولى من إعلان حقوق الإنسان معبرة عن نواة الإشكالية الأصولية لكل تفكير سياسي مستقبلي؛ فهي تقول: «إن البشر يُولَدون أحرارًا ومتساوين في الحقوق. أما الامتيازات الاجتماعية فإنها تُبنى على المصلحة العامة.» والمقصود بتلك الامتيازات الفوارق الطبقية الموروثة عن نظام الإقطاع الملكي والنبالة الأرستقراطية. غير أن التناقض بين طبيعانية الحقوق والفوارق الاجتماعية، وإن لم تعُد ذات مشروعية إطلاقية مبنية على الحق الإلهي للملكية المطلقة، والحق الوراثي للنبالة النخبوية، إلا أنها ستظل مبعث مختلف صيغ التحليل والتوافقات التي تعرَّضت لها النظرية السياسية، حتى بعد نشوء البرجوازية، وانتقال المشروعية من السلطة المطلقة، إلى المجتمع، وتنامي الصيغة المدنية للمجتمع الحداثوي، في ظل الثورة الصناعية المتلاحقة؛ فلم تعُد الامتيازات وراثية، كما لو كانت ذاتَ أصول فطرية في طبيعة الاجتماع الإنساني بصورة عامة، بل نظر إليها وكأنها خارج شرعية الحق إجمالًا، وإن كانت مشمولة ﺑ «مشروعية» القانون، كحقوق الملكية الخاصة بصورة محددة.
ولقد تطور النقد المصاحب لمبالغات الفوارق الطبقية، خاصة بعد نشوء البرجوازية التجارية والاحتكارات الصناعية الكبرى، إلى معاودة التصدي لمفهوم المواطنية الثوري، المطبق بعد انهيار النظام القديم في فرنسا؛ فالرومانسية الألمانية التي بَدَت رجعية في الموقف السياسي، رفضت منذ البداية الطابع التجريدي لفكرة المواطن المعزول عن أية فردية واقعية، والمفصول عن شخصيته القومية، وتراثه الثقافي. وأما اليسار الحديث، فإنه يحلُّ إشكالية المواطن التجريدي بإعادته إلى أرض الثورة الاجتماعية، المغيرة لشروط علاقات القوة بين الطبقات والجماعات والأفراد، سواء كانت هذه العلاقات قائمةً على قوة المال أو الموقع، أو الوظيفة والدور الاجتماعي.
وبذلك تكون الهيغلية قد أنقذت الأنوار، وحررتها من صُدَف المتغيرات السياسية اليومية، ومن تأرجحات الارتفاع والسقوط للتجارب السلطوية معها أو ضدها، التي انتابت أوروبا في أوائل القرن التاسع عشر، الذي هو قرن الحداثة السياسية الأولى بلا منازع؛ ومن الهيغلية بالذات سوف تتولَّد ازدواجية الشطرَين اليساري واليميني لفلسفة ذلك القرن، وتطبيقاتهما الكبرى المتعارضة خلال القرن العشرين المغادر.
لكن ذلك لا يعني أن نمو الفلسفة السياسية كان مصاحبًا ومرافقًا لتطورات التاريخ السياسي المصنوع من خلال الدول وعلاقاتها مع شعوبها من جهة، وفيما بينها من جهة أخرى. ذلك أن الفلسفي السياسي ينيط بنفسه مهمة الإبانة عن الراهن في الحدثي أو الحادث. إنه لا يكشفه كشفًا نهائيًّا؛ لأنه بذلك لن يعود راهنيًّا، كما أنه — أي الفلسفي السياسي — لا يقسر كلَّ حدثي على إظهار جدارته بالتدليل على الراهن سلبًا أو إيجابًا. فما لا يسجله التاريخ ليس من الضروري ألا يكون قابلًا للتسجيل، والعكس صحيح كذلك. وما يبقى دائمًا قيد التسجيل أو عدمه، هو ذلك الفائض شبه الحدثي الذي لا بد منه للتأشير على الراهن، غير الحدثي، والحادث دائمًا.
إن الخطاب الوحيد المخول بالتقاط الراهن، إقبالًا أو إدبارًا، هو خطاب الفلسفي السياسي القادر على تخطي المعلومي والإبستمولوجي في المتفرقات اليومية، نحو المعاينة النقدية؛ ولذلك لا يمكن التوحيد بين الفلسفي السياسي، وما يسمَّى بالسياسة اليومية كبنية فوقية في هرمية اجتماعية معينة، على الطريقة الماركسية؛ إذ إن السياسة كبنية فوقية، قد يصحُّ تفسيرها ماركسيًّا، كونها تابعةً لظروف الإنتاج وعلاقاته الموضوعية؛ وبالتالي فهي انعكاس فكروي أو أيديولوجي؛ وتجسده مؤسسات مادية ودستورية، تحرس الأمر الواقع لحالة المجتمع، وتعبر عن صياغة معينة لعلاقات القوة مع علاقات الحقيقة. أما الراهن فهو الموضوع الأحق الذي تقاس به منتجات الظروف الاجتماعية، بما فيها سياسات الأمر الواقع.
ماركس لم يتخلَّ عن معيارية «الراهن»، كمرجعية ضمنية لأساس كل نقد وجهه إلى المجتمع البرجوازي الأول المرافق لمطلع النهضة الصناعية؛ فإن الراهن بالنسبة له هو الإنسان العامل، وليس المواطن بالمعنى التجريدي؛ فالتفريق بين حقوقٍ للإنسان، وحقوقٍ للمواطن (أي العامل الموجود واقعيًّا)، إنما يعني في النهاية أن الإنسان هو البرجوازي، وهو الذي يمتلك كل الحقوق، أما البروليتاري، فإنه يمتُّ إلى تصنيف آخر، يُخرجه من مجتمع «الناس الأحرار المتساوين»؛ فالراهن الماركسي بالعكس هو البروليتاري، وهو معيار الحرية والعدالة. إنه الإنسان الطبيعي، ضد الإنسان، المواطن التجريدي، أو بالأحرى فإن الراهنية هي في المواطنية الحقيقية، وليس في تقسيمها إلى حق للمواطن المجرد ضد لا شيء للمواطن الفعلي الموجود، لكن البروليتاري هو الراهني الخاص بالحضارة الصناعية. أما الإنسان العادي، إنسان كل يوم، فسوف يظل يذكِّر بالراهني المفقود في بقية الحضارات. وباسم ذلك الراهني المفقود الموجود سوف تتنامى نظريتان للنقد الحداثوي. إحداهما المعروفة والمعروضة، كمراجعة لنقد النقد والنمو معًا عبر مراحل المشروع الثقافي الغربي، وقطيعاته المتواترة؛ والأخرى غير المعروفة تنظيريًّا على الأقل، ولكن الموجودة لدى الحضارات الأخرى، والمقموعة بسببٍ من ضحالة مواردها الفكرية ذاتيًّا، ومن صلابة ظروف الواقع المضاد موضوعيًّا، لاكتشاف ثقافة «الراهن» ما وراء الحدثيات العارضة يوميًّا.
راهنية «المواطنية» وحدثية «المواطنة»
إن أقنوم المواطنية كمفهمة مجردة، الذي طالما استثار حمية النظرية النقدية وجدَّد أسلحتها من مرحلة إلى أخرى، قد فتح أمامه، وعلى جانبَيه الأيسر والأيمن، وفي وقت واحد، ومتناوب، جبهاتٍ من المعارضات، حملتها متغيراتٌ تاريخية كبرى على الأرض طيلة القرنَين الماضيَين، وكانت البداية تتمثَّل في الحصيلة الرجعية غير المقصودة للمنعكس السياسي الذي ولدته أدبيات الرومانسية، وصولًا إلى الرد الجذري عليها، حسب التشكيل الأيديولوجي الأشمل للنقدية الماركسية والاشتراكية بصورة عامة، منذ خمسينيات القرن التاسع عشر.
على كل حال، إن المواطنية صياغة حقوقية؛ وبالتالي نسبية من جهة ارتباطها بالقوانين الوضعية وتطورها، وهي كذلك تريد ألَّا تقطع موردها الفلسفي حول مفهوم الكونية. وفيما يتعلَّق بتطورها النسبي؛ فقد أصبح من المتعارف عليه أن القرن الثامن عشر قد أثبت للمواطنة كيانًا مدنيًّا مقابل التبعية اللاهوتية. ويقوم هذا الكيان على ممارسة الحريات كحقوق طبيعية، وهي: «الحريات الشخصية في التعبير والاعتقاد والعمل، والتملك.» وفي القرن التاسع عشر تحقَّقت المواطنة السياسية — كرد واقعي على المواطنية التجريدية — والمحددة لحق كل مواطن أن يكون ناخبًا ومنتخبًا للمؤسسات الدستورية القائمة، متمتعًا بالتصويت العام كسبيل لتقرير مصير الشرعية الحاكمة.
وتطورت المواطنة السياسية إبان القرن العشرين إلى المواطنة الاجتماعية، التي رصدت للمواطن حقوقًا له على مجتمعه المدني ودولته السياسية، وذلك بأن توفر لجميع المواطنين مزايا الصحة، والتعليم والعمل. إنها تترجم المواطنية المفهومية الناشئة عصريًّا في ظل دولة العناية، أي الدولة المسئولة عن توفير ظروف الحياة السليمة المعادلة لكرامة الذات الإنسانية؛ فهذه النماذج الثلاثة للمواطنية لم تتطوَّر عن بعضها نتيجة انعكاسات فكروية خالصة، لكنها اقترنت بتاريخانية مشبعة بجدليات العقل والواقع، مما أرسى للذات مفهومًا تكوينيًّا منفتحًا على هُوية نابعة من تعين الحرية تلقائيًّا، دون أن تحدَّها أية تعيينات قَبْلية ميتافيزيقية، أو وضعية قسرية بعدية، لكنها هُوية نقدية، قائمة على ما يمكن اعتباره عقلانية شفافة في نشوئها وتكاملها. ولقد احتاجت هذه الهوية قرونًا ثلاثة على الأقل من أجل أن يكتمل وعيها لذاتها؛ وهو وعي، ما كان ليتحقَّق لو لم يكن منذ البداية ناقدًا لذاته، وناقدًا لنقده دائمًا. وإن هذا النقد المتواصل والمضاعف لنفسه باستمرار، كان محايثًا لصيرورة الأحداث كبِطانةٍ ملتصقة بواقعات التاريخ، وتحولات الجماعة الإنسانية السائرة على خيار الحداثة وهَدْيها.
غير أنه، ومع ممارسة الهوية النقدية، فإنه لا يمكن القبول بتقسيم ثلاثي لنماذج المواطنية، إلا على أساس شكلاني فحسب؛ فإن استشعار الراهن كان يصاحب كل تطلع سياسي منذ القديم، بل كل تفكير يقايس بين علاقات الواقع (القوة) وعلاقات الحقيقة. وقد تكون هذه المقايسة ينبوعًا دائمًا للطوبائية، لكن الفلسفي السياسي كان يحاول أن يشد الطوبائي من غربته المستحيلة، ويجعله أهليًّا، أي قريب المنال من الوعي والإرادة؛ فإن دولة العناية التي فازت بها ثقافة الجمهورية في أوروبا الغربية، واستطاعت أن تصوغها ضمن أنظمة اجتماعية مؤسسية راسخة، وجعلتها بديلًا عن الثورة الماركسية، المتأججة خاصة خلال الحرب الباردة، لم تكن وليدة تلك الظروف فحسب، بل استمرت كامنة في أصول الحداثة السياسية منذ بداية عصر الأنوار، لكنها كانت أشبه بالمدينة الفاضلة، والجمهورية الأفلاطونية، وكانت محتاجة إلى هذا القدر الكبير من شاعرية الكونية في تصور الإنسانية العادلة والسعيدة، وقد كان يمكن لهذه الكونية أن تظل حلمًا إنسانويًّا معلقًا في الفراغ فوق ظلامات التاريخ وعبودياته المختلفة، لولا أن فاز التراكم الحضاري أخيرًا بمنفذ نحو الواقع، ينتقل منه الفكر الطوبائي إلى مصارعة يومية ضد حدود العقبات الأساسية المعيقة لانطلاق عصر أنواري، ولا يكف عن التجدد مع اكتشافه لمزيد من الظلمات أمامه، والظلامات الملازمة للإنسان التاريخي؛ فالمواطنية في لحظاتها التحقيبية الثلاث كمواطنة محايثة: المدنية فالسياسية فالاجتماعية، لا يمكن القول إنها وصلتنا الآن، وقد حلَّت جميع إشكالاتها ضمن نماذجها تلك، ثم عبر الانتقالات المفهومية التي تجاوزتها؛ فهي لا تزال تحتلُّ مركز الاهتمام والتحليل في كان مقاربة فلسفية سياسية أو حقوقية، وتواجه استعصاءات الأسئلة الفكرية الكبرى، كما لو كنا أمام لوح، ممسوحة منه كلماته السابقة، أو أحداثه المنقضية.
إن كان الغرب ينعم بثمرات التحقيب باحثًا عن الأسس الدائمة لدمج اللحظات الثلاث في مفهوم المدنية الكونية، فإنه يخوصن هذه الكونية؛ بمعنى أنه يعتبرها من تصوره، وكفاحه وراءها، واكتسابه أخيرًا لجنتها من الحرية. فالانتقالية الحضارية من تحقق المواطنة المدنية، والبناء عليها للمواطنة السياسية، والبناء على المرحلتَين معًا، للتركيبية العليا تحت اسم المواطنة الاجتماعية، تبين عن عقلانية النمو الإنساني، وخط «التقدم» الثابت الذي تصنعه حضارة ما لذاتها، وتكاد تكون فريدة نموذجها؛ ولهذا فهي مغلقة على تجاربها. إنها تؤكد بذلك اختلافيتها المطلقة عن جميع تجارب الأمم الأخرى السابقة لها والمصاحبة لها. حتى هذه المصاحبة، فإنها عاجزة عن الاستمداد من هذا الاختلاف، كأنما المدنية، بالرغم من جاذبيتها العارمة لكل الإنسانية، إلا أنها غدت من استحقاق نُخبتها المتفوقة؛ فهي ليست للتصدير إلى سواها، وغير قابلة للتقليد من قِبَل الغير. ها هنا يقال عن العصر الحاضر، إنه، وبالرغم من كل مطامح العالمية وسطوة تشويهها بالعولمة، فهو يشخصن الاختلاف الجذري للواحد مقابل الآخر-الكل. يستعيد تفرقة المدنية الإغريقية الفريدة عن بربرية الكل، ما عدا شعبها.
الراهن غربيًّا، هو أَغْرَقةُ المواطنية الأوروبية (جعلها إغريقية)؛ وأما عودة الفلسفي السياسي إلى مركزية التفكير والحوار والإنتاج لدى النُّخب، إنما تقوم على اعتقاد ضمني أن المشروع الغربي وحده منذورٌ لابتعاث وتجسيد مدنية أثينا. كأنما التاريخ الفاصل بين أثينا الفعلية قبل ألفَين وخمسمائة عام، وأثينا الغرب المعاصر، قد أوغل أولًا في انحطاطه دون ذلك المثال الأول، ثم عاود الصعود بفضل عقلانية الغرب المحققة للقطيعات الحاسمة، المميزة لقصته مع ذاته، من دون سواه. فمن دون القطيعة مع الغيب اللاهوتي، ثم مع هرمية المجتمع الاستبدادي، ثم مع ليبرالية الرأسمالية الخام الأولى الفالتة من كان عقال، لما أمكن ابتكار المواطنية في مثلث حقوقها المدنية، والسياسية والاجتماعية، وذلك بحسب أيديولوجيا الغَرْبَنة. فهل انتهى جدل العقل والواقع، واكتملت سيرورة التاريخ ببلوغ هذا الشوط العظيم من انتظام الحرية في مجتمع المثال الديمقراطي، على طريقة الغرب الأوروبي؟ هذا السؤال، لسنا نحن الذين نجيب عنه، بل هو المشروع الثقافي الغربي عينه. فإن عودة الفلسفي السياسي، هي إشعار أولي بالتباس النهاية، وانتقاص القصة الفريدة من خاتمتها السعيدة. ذلك أن دولة العناية التي تنيط بمفهومها وجاهزياتها، إدارة المواطنة في المدنية الراهنة، استطاعت أن تنقذ مجتمعاتها من المد الشيوعي خلال الستينيات من القرن العشرين، عندما قامت بابتكار نظام من الحقوق الاجتماعية يتمفصل مع إكراهات الواقع الاقتصادي للرأسمالية، ولا يضطر إلى تعليق الحقوق السياسية، وحقوق الشخص الإنساني في الاعتقاد والتعبير والعمل والتملك (كما هو الحال في ظل التجربة الاشتراكية آنذاك) … فإن «العناية» التي غطت مختلف الحاجات الأساسية للفرد والجماعة، من الأمن والصحة، والتعليم والعمل، قد أرست نموذج مجتمع الوفرة والرفاه، كما لو أن نظام الرعاية قد انتزع لذاته حصة وفيرة من وعود الطوبائية من المستحيل، وحولها إلى مفردات من وعود مع: الممكن، والإرادوي، والواقعي. إنه حلم الجمهورية العادلة لذاتها وبذاتها، ولكن ليس للآخر، ذلك هو حدها الذي يحفظ جسدها، ويضع «البعد» خارج حدوده كلها. إن دولة العناية لا تلبث حتى تصطدم بالبحر العالمي حولها. إنها تجسر على كونية كيفية تخصها وحدها، وتهمل كونية للنوع والكم الإنساني، بأزليته التكوينية وأبديته المستقبلية.
العولمة وصراع الكونيات
ليس هناك مابعدية للدولة/الأمة، أو دولة الرعاية، سوى الأمة/العالم. ولقد كان التفكير الكوسموبوليتي منذ استعادته مع بداية الحداثة السياسية، يتعرَّض دائمًا إلى انتقاده بالتجريد في خطابه، وبالطوبائية في أهدافه، والاستحالة في وسائل تحقُّقه. فالكوسموبوليتي يتحدث عن الكونية باعتبارها ليست صالحة فحسب على مستوى انتماء الأمم أو المجتمعات إلى شمولية الإنسانية الحقيقية، باعتبار الإنسان هو المحل الطبيعي للحق بصرف النظر عن ثقافوياته: أي خصوصيات أقوامه وحضاراتها المختلفة، بل إن الكونية ليست كلية بالمفهوم فقط، ولكنها هي كذلك في شموليتها للجميع. وهكذا فإن تطورات القرن العشرين عبر تشكيل الإمبراطوريات الكليانية، حاولت أن تعقد تمفصلات واقعية بين ما تفهمه عن مثال الكوسموبوليتيا، وبين أيديولوجياتها الشمولية، باعتبارها منظوماتٍ دلاليةً تحتكر قراءات معينة للكونية على شكل تسويغات معَقْلَنة، لكن هذه المحاولات انتهت إلى أن كل أيديولوجيا، أنتجت من نفسها مركزية فكروية تدَّعي الاحتياز على الكونية وحدها. وأما العالم كمجال حيوي لإنسانية حقوقية، فإنه يتساقط ما تحت شبكية التوازنات الدولية؛ بحيث تتناهش أممه صراعات علاقات القوة على حساب علاقات الحق والحقيقة، فلم توصف الخطابات الكوسموبوليتية بالطوبائية إلا بسبب الخيبات المتراكمة، الناجمة عن صعوبة ابتكار التمفصل، بين تاريخ للأفكار حول الكونية، وبين تاريخ آخر للوقائع السياسية اليومية.
لكن المشروع الثقافي الأوروبي يستطيع الادعاء أنه، بعد أن حققت مجتمعاته نموذج الدولة الاجتماعية (دولة الرعاية)، فإنه أضحى متوجهًا نحو تجسيد نوع من كونية نسبية، من خلال توحيد قارته؛ وبذلك تنهض أوروبا، دون بقية العالم، بكونيتها التي تغدو خصوصية جديدة لها، وتجدد نزعة المركزية الغربية التقليدية لديها، على شكل استثناء؛ فالمدنية ليست من نصيب الإنسانية ككل. وهي استثناء تاريخاني تفوق على التاريخ العام. وخلال المد الاستعماري في القرن التاسع عشر وحتى أواسط القرن العشرين؛ فقد كان خطاب المركزية الأوروبية لا يسقط «الضواحي» من صورة العالم الذي يقوده الإنسان الأبيض، (متحملًا أعباء تمدينه) كما يدعي دائمًا. غير أن ثمة تصورًا مرآويًّا استمر يداعب مخيلة بعض المثقفين المنشغلين بالاستراتيجيات الحضارية. يعتبر أن التقدم الأوروبي قد ينوب عن المجموع الإنساني، لكنه يصبُّ في مصلحته، عند نهاية المطاف، لكن المتقدم سرعان ما ينسى المتخلف وراءه، خاصة عندما يزداد تسريع الأول، وتقهقر الثاني أكثر. لهذه الأسباب وحدها فإن مدنية المستقبل سوف تتابع وتضاعف من انفصالها عن البربرية المحتومة؛ وبالتالي فإن كلية «الكونية» ليست للجميع. إن «النوع» الإنساني سيغدو «جنسًا» لأنواع أخرى مستحاثة، يعلوها جميعًا نوع فريد يخصُّ الإنسانية الظافرة بالمدنية، بينما هناك أنواع شتى أخرى ستبقى خارج هذه المقولة كأمر محسوم.
في هذا المنعطف الاستراتيجي الراهن، يهبط اختراع العولمة كتحصيل حاصل لواقع افتراضي «مرآوي» مقابل الواقع الواقعي عقلانيًّا؛ ذلك أن العولمة تطرح نفسها كحل لإشكالية التعارض بين عمومية الكونية، واستثنائية المدنية. فإن الإنسانية الحقوقية كمضمون للكونية، تغدو جائزة استثنائية لمن يستحقُّها، وإعجازًا لمن يعجز عنها.
هل أصبحت الدولة الاجتماعية وحدة العملة اليومية التي يمكن أن تُصرف، على أساس معياريتها، مفاهيم الكونية؟ مثل هذا التساؤل لم يكن ليطرح لولا أن اندلاع عواصف العولمة قد شكل أهم خطر تواجهه الدولة الاجتماعية. ذلك أن حلم المدنية كخاتمة سعيدة لنخبة الإنسانية المستحقَّة لها، يداهمه فجأة تصدُّر الاقتصاد العالمي من جديدٍ واجهة القوى والعوامل الكبرى الممسكة بمصائر المجتمعات، وفي مقدمتها مجتمعات النخب المدنية المعاصرة. ذلك أن الدولة الاجتماعية لا تستطيع أن تطلق قوى الرأسمال الوطني لديها دون أن ترفع، عن حدودها كافة، تدابير الكينزية الحمائية (نسبة إلى كينز الاقتصادي). وفي الأساس قامت الدولة الاجتماعية حسب النمط الأوروبي الغربي خاصة، على إمكانية التمفصل بين ليبرالية رأسمالية محدودة، وإجراءات حمائية لحقوق المواطنة المرفهة أو السعيدة. غير أن هذه المعادلة الدقيقة من تمفصل النقيضَين، الحماية الاجتماعية والليبرالية الاقتصادية، هي التي تواجه استعصاءها الأكبر مع عولمة السوق، الخارجة عن حدود كل دولة اجتماعية؛ إذ غدت المنافسة العالمية تمسك بمصائر الاقتصادات القومية. حتى يذهب البعض إلى اعتبار أن الشأن الاقتصادي الدولي أصبح يحتكر القرار السياسي؛ أي إن الدولي يملي على القومي والوطني سياساته المتعلقة بشئون مجتمعاته نفسها، وبعد أن كان من شأن العلاقات الدولية أن تعكس إرادات الدول المشتبكة داخلها، فقد أضحت هذه العلاقات هي الآمرة الناهية في السياسات الخارجية للدول، كما في أمورها الداخلية الرئيسة. وبالرغم أن الدولة الاجتماعية لم تكن لتدَّعي أنها قد تخلَّصت تمامًا من أكلاف التمفصل الدقيق بين ليبرالية رأسمالية وطنية، ونظام تأمينات اجتماعية شاملة ورفيعة المستوى، يغطِّي موارده من الضرائب التصاعدية المقتطعة من حصة أرباح الرأسمال الفردي، إلى جانب حصة لا يستهان بها من دخول الأفراد العاملين جميعًا، إلا أن انتقال مركز الثقل إلى مبدأ التنافس الدولي المحرر من أية قيود، سوف يطيح، ولا شك، بمعادلات التوازن الدقيق والصعب التي نجح مجتمع الرفاه الأوروبي في إقامتها بين حرية الرأسمال الفردي وأكلافه الاجتماعية؛ فالنظام الضرائبي الذي أصبح بمثابة العقد الاجتماعي العصري لدولة الرفاه الاستهلاكي شبه المطلق، هو الذي غدا مركز الهدف الأول الذي تسعى إلى الإطاحة به أيديولوجيا آمرية السوق، التي تدَّعي أن الفوز بحرية مطلقة لقوانين السوق وحده، كفيل بإقامة نظام جديد من العدالة على نطاق عالمي، يستوعب الأنظمة الدولتية بعد أن تصير أشبه بفروع وروافد له، جزئية، داخل أوسع مجال كوكبي.
إذا كانت أوروبا احتاجت إلى ثلاثة قرون كيما تفوز بالحزم الثلاث للحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية على التوالي، فإن «بقية العالم» — ومنها العالم الثالث بخاصة — محتاجة إلى الفوز بها كحزمة واحدة وعبر كثافة زمنية؛ ما دام أنها لا قدرة لها على تكرار إيقاعية التحقيب الحضاري الذي يخصُّ تاريخانية الغرب. فلا بد من الاعتراف أن الغرب فاز بتحقيبيته هذه، بالأصالة عن نفسه وبالوكالة عن تاريخانية الإنسانية الشاملة، ما دامت قطيعاته المعرفية قد استمدَّت دائمًا قوتها على ممارسة الهويِّ النقدي من شرعية الإنسانية، بما هي محل الكونية، أي هذا الوطن الروحي لحضارات كل الأمم، على اختلاف هوياتها القوموية والتراثية، لكنها كونية تتغير ألوانها، أو تتضح ظواهرها، بحسب مفاهيم التأويلات التي تُضفيها أو تعكسها عليها ظروف الحراك الاجتماعي للأمم الناهضة. وهي اليوم هذه الأمم السبَّاقة إلى اكتشاف التقانة والتمفصل فكريًّا وبنيويًّا مع ابتكاراتها؛ ولذلك يصير للكونية تأثير الثقافة القادرة أكثر من سواها على استلهام استحقاقاتها، وتشكيل منظوماتها المعرفية، وتحديد أهدافها السياسية؛ كما لو أن الكونية المستحيلة نفسها، غدَت قادرةً على مخاطبة الرأي العام بلغة الممكن، دون أن تتخلَّى عن لا محدوديتها، أو طوبائيتها؛ وحيثما تُترك للهوي النقدي مهمة التأشير على الفوارق بين التأويل والتسويغ إزاء المتغيرات المجتمعية الكبرى؛ فالطوبائي لا يمكنه أن يقبل بمنطق الاحتمالات، إنه يقدم وجبة أوهامه كاملة محسومة لا تتسامح مع المعارضة أو المراجعة، لكن شدَّة الحسم تتناسب عكسًا مع سلوك النزاهة إزاء الحقيقة. من هنا فإن فاشيات القرن العشرين، على جبهة اليمين أو اليسار في أوروبا، أشادت لأتباعها عمارات طوبائية شاهقة مغلقة النوافذ والأبواب على تصنيمية العرق والعنصر، أو الطبقة والحزب والثورة، فكان جسر العبور الأوروبي من حقبتي الحقوق المدنية والسياسية، نحو الحقوق الاجتماعية، قد كلَّف بناؤه أهوالَ القرن العشرين بحروبه العالمية الثلاثة، الأولى والثانية، والحرب الباردة. فلم يكن من السهل استتباب نموذج الدولة-الأمة إلا بتحقيق دولة العناية، أي الفوز بالحق الاجتماعي محروسًا ومرتفقًا، ضرورة، بالحقوق المدنية للأفراد، والحقوق السياسية للأفراد والمجتمع معًا؛ فالتجربة السوفياتية اكتفَت بالحقوق الاجتماعية، منقوصة منها قاعدتاها التاريخيتان، وهما الحقوق المدنية والحقوق السياسية. في حين أن الغرب الأوروبي تملَّك من زاويتَي المثلث، واستعصى عليه إغلاقه بالزاوية الثالثة، أي المحصلة المنتظرة، المتجسدة في بناء الدولة الاجتماعية، لكن لم يجد هذا الاستعصاء حلًّا نسبويًّا عن طريق إضافة الوظيفة الرعائية إلى دولة القانون، إلا تحت ضغط الخوف من الاجتياح الشيوعي ديمقراطيًّا للكتل العمالية في الغرب الأوروبي؛ ولم يتم ذلك إلا في أوج الحرب الباردة. فإن إقرار تشريعات التأمين الاجتماعي، بشروطه السمحة والشاملة لحاجات الفرد والأسرة، المعيشية الأساسية، قد أعطى للديمقراطية السياسية بعض ما يعادلها من الديمقراطية الاجتماعية، وهو الأمر الذي ساهم في تثبيت مسيرة عقلانية، راحت تتكامل معالمها المدنية أكثر فأكثر، في الغرب الأوروبي، مقابل تهافت النموذج الطوبائي للتجربة السوفياتية، المتمثل في عجزه عن مقاومة انجراره نحو بيروقراطية الإدارة وفاشية السلطة، واندماجه مع آليتَيهما كليًّا، دونما أي تمايز عنهما في نهاية المطاف.
Kant, Critique de la faculté de juger, Trad, Alain Renaut, Ed. Aubier. pp. 430-431.
وانظر كذلك أحدث تحليل عن الكوسوموبوليتية والسلام العالمي كما جاء بها كانط، وراهنيتها الحالية، في هذا الكتاب:
S. Chanvier, Du droit d’être étranger. Essai sur le droit cosmopolitique kantien, Ed. L’Harmattan, 1996.