(٣) جمهورية «الإنسانية الحقوقية»
غير أن المسألة الراهنة لا تتعلق بالمضاهاة بين جرعة الطوبائية التي استطاعت دولة الرعاية أن تحقِّقها، وتحتفظ بمكتسباتها إلى ما بعد سقوط التجربة السوفياتية وانحسار المد الشيوعي القاعدي — أي على مستوى التنظيمات الجماهيرية — وبين الحدود القصووية التي جرَّب النموذج السوفياتي أن يتمسك بها، من طوبائية الحسم الاجتماعي على الصعيدَين النظري والتطبيقي معًا، بل أصبح التحدي الحقيقي الحالي يواجه في الظروف الدولية، الأساس البنيوي لدولة الرعاية، الذي هو الدولة/الأمة. إنه التحدي الذي يوقظ الهاجس الهُووي مجددًا ليس على صعيد الأفراد فحسب، ولكن على الصعيد الأممي. وذلك أن الدولة/الأمة، تلقى نفسها مستهدفة من قبل الكونية عينها، التي استظلت بها طويلًا، وكونت جاهزيتها الفكرية، ونظَّمت إيقاعها التاريخي على أنها — أي الدولة/الأمة — هي الطريق الوحيد المؤهل للانفتاح على الكونية، أو اللامتناهي، وبطريق وأسلوب المتناهي عينه. فإن الدولة/الأمة، كما ترى نفسها، أصبحت أرقى اختراع حضاري قادر على صياغة مفردات التجريب المدني السياسي: وهي «الديمقراطية»، كلغة واقعية وتاريخية، تفتِّت خاصيةَ الحسم التي تتذرع بها الطوبائية، للتغطية على استحالة معانيها: (إما أن تكون جميعها أو لا تكون.) هكذا أصبح الفكر السياسي السائد غريبًا، بتعامل مع تطوره الراهن كما لو أن الدولة/الأمة المتحققة راهنيًّا تغدو هي الوحدة المصغرة للدولة/العالم.
حيثما لا يعود العالم محتاجًا حقًّا إلى طوبائية الحكومة العالمية الهيغلية، فإنه يعمد إلى تنمية ظاهرة المؤسسات ما فوق الدولتية المنظِّمة لمختلف شئون المجتمع العالمي؛ ذلك أن مستقبل هذه الظاهرة سوف يطور ما يُصطلح عليه حتى اليوم باسم السياسة الخارجية، كمنعكس لتوازنات القوى المتنفذة داخل الدولة، إلى تلك المعيارية العالمية حقًّا، المعبرة عن المصالح العليا للإنسانية؛ بدلًا من شبكيات العلاقات الدولية، القائمة أصلًا على مبدأ الصراع الحدي ما بين الكبار فيما بينهم وضد الصغار، وما بين هؤلاء كذلك فإن انقلاب مرجعية المقياس من ارتباطها التقليدي بالدولة الواحدة كمفردة ذاتها، إلى مصلحة المجموع الإنساني، أصبحت تحتمه نوعية المشكلات التي تتخطَّى إرادات الدول، مهما كانت قدراتها التقنية والحضارية بالغة حدود التفوق على بعضها. إنها مسائل كبرى، من نوع الحفاظ على مستقبل الحياة للكوكب الأرضي، والقضاء على الفروقات الهائلة بين الأمم، والمتسارعة في تعميق هُوَّات مطلقة لن تُعبر، بين حضارات الرفاه في الشمال، وثقافويات الفقر والتخلف العلمي والاجتماعي لدى شعوب الجنوب، التي تشكل الغالبية الساحقة للبشرية، هذه المسائل لم تعُد همومًا تخص دولًا دون أخرى؛ فالكوكب الإنساني لم يتطور إلى مجرد قرية من وجهة الانتقال السريع للمعلومات والأموال فحسب، ولكنها صارت قرية، صغيرة مفتوحة على مختلف الأوبئة العولمية، كالجريمة المنظمة ونماذج الحروب الأهلية والحدودية والإقليمية، وشبه العالمية كذلك. هذا فضلًا عن سرعة انتقال مختلف بضائع التهريب القاتلة من المخدرات وتجارات الجنس والطفولة المعذبة، والأسلحة الخطيرة، والمواد الإشعاعية … إلخ.
ها هنا طريقان نحو الإنسانية الحقوقية، بما هي مضمون إمكاني للعالمية، أو الكونية المحايثة، بما هي ثقافة للمتعالي، مصرفة حسب مفردات الواقع نفسه: إما أن يتمَّ التعامل مع العالمية، كما لو كان موضوع تحقُّقها الحتمي متوقفًا على إلغاء مفردات الواقع الدولي المؤلف من المتحدات السياسية، وفي طليعتها نموذج الدولة/الأمة، بقيادة متحد الدولة الاجتماعية؛ وإما أن ينظر إلى العالمية على أنها المتحد الأشمل القابل لاستيعاب المتحدات الدولتية نفسها. وهذا يعني إمكانية تعايش تعدديةٍ من الهويات «الفرعية» مع بعضها تحت طائلة الهُوي الأشمل الذي تمثله الإنسانية الحقوقية. وهو تعايش معياري، توفره ثقافة الهوي النقدي التي ترعى سياسة كوسموبوليتية، وليست مجرد (علاقات دولية لسياسات خارجية للحكومات)، وتمارسها المنظمات العالمية ما فوق الحكومية، وذات النشأة الأهلية في أكثريتها. وربما أصبحت هذه المنظمات مستقبلًا، أحزابًا أممية نضالية، تضمُّ النخب من قادة الرأي العام العالمي والقطاعي، إلى جانب الخبراء التقنيين المجلين، في معالجة الحلول المستعصية الناجمة عن كوارث التقدم التقني اجتماعيًّا وبيئيًّا، وعن الفوارق المخيفة المتزايدة بين الشعوب وثقافوياتها المتناحرة. والحد خاصة من الانقسام الكوكبي شبه النهائي بين أبدية الفقر ونخبوية الغنى.
إن عقدة الطريقَين المؤديَين إلى طوبائية المتحد العالمي، هي مشكلة الدولة/الأمة: فإما أنها تشكل المحصلة العليا للحداثة السياسية، وغاية المطاف للفكر الفلسفي الكوني، وأن كل ما سيأتي بعدها، أو يصعد فوقها، إنما سيتكون من مادتها نفسها، سواء كان هذا الآتي المابعدي متحدًا إقليميًّا، أو قاريًّا — كالاتحاد الأوروبي، أو أنه قد يبلغ مستوًى كوكبيًّا شاملًا. وإما أنه لا سبيل إلى تجاوز عقدة الدولة/الأمة، إلا بإلغائها وإبطال خزينها الهائل من تاريخانية التقدم، ومعيارية المعاني. وذلك جريًا على قاعدة أن التوغل في «البعد» لا بد أن يبطل «الحد». وهو ما يعبر عنه، فلسفيًّا خالصًا حسب الاتجاه التقليدي، أنه لا مسوِّغ لتعقُّل المتناهي إلا بتجاوز حده في سياق اللامتناهي. غير أن الفكر الجمهوري قد بنى حداثته السياسية على المسلمة القائلة إن الأمة هي المحل الطبيعي لتكامل جماعية الحق المدني والسياسي والاجتماعي، بما يؤسس القاعدة الاجتماعية الإنسانية للديمقراطية، وضمانة مشروعيتها؛ وكما أن جمهورية الأمة الديمقراطية مؤلفة من أفرادها الأحرار، فإن العالمية الديمقراطية ستتركب من القوميات الحرة، كما لو كانت وحدات مواطنية تعددية، ضامنة لديمقراطية كونية، وبعيدة عن خطر الانزلاق نحو الشكل الإمبراطوري المحتكر من قبل أقوى أقويائه الحربويين في الماضي، والاقتصاديين حاضرًا.
عند هذا المفترق الأخطر يتضح ما يعنيه انبثاق الهوي النقدي الذي تتحدد مهمته التاريخانية في تأسيس ثقافة التربية الديمقراطية الجديدة، وإبراز تميزها الدائم عن محاولات حَرْف الغائية الإنسانوية، نحو الأوليغارشيات الاقتصادوية التي تقررها العولمة. إنه المفترق الذي يعبر عن استعصاء الحلول السياسية الآلية التي اعتادت أن تمارسها الحكومات تحت اسم العلاقات الدولية. هذا الفضاء الدولي ما زال يمسرح انعكاسَ مصالح الحكومات الرئيسة الفاعلة، والمتصارعة فيما بينها للحصول على مناطق النفوذ بأشكالها المختلفة، وما ظهور مصطلح المجتمع الدولي في أواخر القرن الماضي، وبعد انهيار الاستقطاب الثنائي، سوى احتيال فني لفظي يخفي مقاومة شرسة، من طرف النظام الدولتي التقليدي، ضد تحيين المفهوم الجديد لنظام عالمية العالم المتصاعد، بالقوة والفعل معًا، وهو ذلك التشكيل التاريخاني المنتظر الذي يضع حدًّا لطوبائية الجمهورية الأفلاطونية، عندما يتمكن من إنتاج منافسها، العقلي الواقعي فعلًا، الممثَّل في: جمهورية الإنسانية الحقوقية، كما لو كانت تأتي بالتعويض المشخَّص عن حال الاستعصاء الطوبائي الذي بلغه التطور السياسي الدولي بدءًا من عتبة الألفية الثالثة.
لكن بينما يتجه هذا التطور تلقائيًّا نحو إقامة جمهورية الإنسانية الحقوقية هذه، على المستوى المعياري بالأقل، بما يجعلها تشكِّل توافقًا جماعيًّا خارقًا للحدود القوموية والحضارية بين الأمم، فإن الأوليغارشية الاقتصادية تنتهز فرصة الانفتاح العالمي كيما تستولي على الأمر الواقع فيه، باعتبارها سلطة مالية ما فوق الدولتية. هكذا فإن استراتيجية المستقبل ستخضع لجدلية ثنائية جديدة، بين ما تعنيه جمهورية الإنسانية الحقوقية، وما تمارسه من معيارية كونية محايثة، قادرة تدريجيًّا على تنمية «حكومة» الرأي العام العالمي المتنامي المتصاعد نحو شمولية التواصل وقوة التأثير؛ فمن شأن هذه «الحكومة» تغذية صعود السياسة الكوسموبوليتية وتحليقها ما فوق السياسات الخارجانية المفردة للدول، أو ما يسمى بالعلاقات الدولتية وتوازنات المصالح القوموية، نقول بين كوسموبوليتيا جمهورية الإنسانية الحقوقية، وجاذبيتها الطوبائية ذات الفعالية المطَّردة، في التأثير الواقعي وقيادة الوعي الأخلاقي الكوني، وبين القطب الآخر المضاد، الموصوف بالعولمي، والقائم دائمًا على خَوْصَنة الكلي لمصلحة الفردي والفئوي، والمتمثل بانتهاض العامل الاقتصادي وحدانيًّا شموليًّا، كما لو أنه أضحى هويًّا تصنيميًّا لإنسانوية مبطلة من إنسانيتها، فاقدة لذاكرتها الثقافية، المؤسسة لتراث الاعتراض وتراكمية إنجازاته التاريخانية. فما تعنيه عودة الفلسفي السياسي في لحظة الاستعصاء الأيديولوجي الراهن، هو التصدي لأعلى أشكال التأدلج الذي يفرض التسليم بحتمية وحدانية الاقتصادوي، وانتماء العقل والتاريخ قسريًّا لسلطانه الأخير، باعتباره هويًّا تصنيميًّا أحاديًّا، يختزل كونية المدنية، ويحاصرها ضمن أحد فعلائها الرئيسيين، وهو قانون السوق.
اليوم، تعلن المشهدية العالمية الخالصة عن اصطفاف غير مسبوق تاريخيًّا، لمختلف القوى الفاعلة التقليدية. والأمر الثابت الوحيد في هذه المشهدية — ويؤلف نقطة الجذب في مركزها — هي العالمية نفسها، وقد أصبحت تفرض على مختلف القوى، من فكرية وسياسية واقتصادية وعسكرية … إلخ، إعادة اصطفافها كليًّا، بالنسبة لذاتها ولما يجاورها، وما يقابلها من العوامل المغايرة، لكنها مضطرة لاختيار الموقع الذي لا تريده؛ وبالتالي فإن نقطة الجذب لا تترك أحدًا في مكانه. وهي لا تجذب نحو مركز محدد، بقدر ما هو بؤرة انتقالية كذلك.
ثمة هندسة فجائية للمكان العالمي تداهم الجميع كل لحظة. وما يوصف بمركز الانجذاب، الذي هو العالمية ترميزيًّا، يبدو كالهاويات السوداء الفضائية. إنها تجذب نحو عمق فراغ لا قرار له. ذلك ما يتيح للعولمة أن تفيد من ترميزية العالمية باستثمار عنفها الجاذب، وتحريفه إلى ما يشبه ميتافيزيقا المداهمة المطلقة. من هنا يبرز الاستنجاد بالفلسفي السياسي، كما لو كان آخر وسيلةٍ لإنقاذ الوعي، ومساعدته على استرداد بقايا أمكنة فكرية آمنة وسط العواصف الهوجاء، إن الفلسفي السياسي مدعو أولًا إلى إبراز الافتراق الموضوعي بين وقت لتحيين لحظة الإنسانية الحقوقية، ووقت آخر يبدد الأول، ويستهلكه تحت طائلة التعاطي مع إغراءات العولمة، مع مرآويات التقنية التواصلية، واختلاق عوالم افتراضية من كل جنس ونوع، وصولًا إلى استنساخ الكائن الإنساني، واختلاق توائمه الربوطية؛ فالعلم المؤدلج بالعولمة، أصبح في طريقه إلى استبدال عالم الأصول، بعالم الاستنساخ. ذلك أن النسخية الفكروية تستبق النسخية الحيوية والآلية، وتسوغ مرحلتهما الاحتمالية، محولة إياها إلى حتمية قدرية، لا مهرب منها لأية هوية ثقافية، سواء كانت رومانسية أو نقدية، إن استنساخ عالم مرآوي موازٍ لعالمنا الراهن، قد يسجل أعلى استعصاء يواجهه العقل التقنوي، في محاولته إيجاد حلول فعلية وسليمة لمشكلات التاريخ البشري المزمنة والمتراكبة، في هذه اللحظة التي تتعاظم فيها الدعوات إلى استنساخ عالم افتراضي كامل، بديلًا عن المواجهة التاريخانية الموعودة لأسس التعارض بين راهنية التقدم نحو تفعيل الإنسانية الحقوقية، وبين الارتدادات نحو أضيق الولاءات ذات الجذور العضوية أو الثقافوية.
وهنا تشرع عملية إبطال الإنسان، في تهريب تاريخه، واستنساخ تماثلية لا زمنية ولا شخصية، لما كان يسمى سابقًا تنوعًا حضاريًّا، وفكرًا للسلب والإيجاب معًا، وجدلية للقيم والواقع. ذلك أن الفوز بالهويِّ النقدي ليس تحصيلًا إيجابيًّا كله، معافًى من أعراض الانحلال، من كون الإنسان الحضاري الراهن أصبح عتيقًا بالنسبة لكل الآمال والرهانات الأليمة التي استبقته ودعت إليه، ثم عندما شارفت على امتلاكه، أو هكذا خُيل إليها بالأقل، فإنها لم تحتمل مسئوليته الثقافية، فهربت من مستقبلية ذاتية التقدم، إلى الاستنساخ: أي إلى تأبيد الحالة الراهنة، بالتوقف عند النقلة نحو الإنسان — النسخة الأخرى الآنية — بدلًا من خط لا ينتهي في تقدمية الغد.
لحظة استفهام؟
تلك هي أزمة الفردية المغرقة في عقيدة التمفرد بلا حدود، والتي تقدم لنا في نهاية التاريخ ذلك الإنسان الشفاف، العديم الشكل واللون، الذي لا يعود يشبه آدميًّا له طعم ورائحة، وجه ولسان. بمعنى أن أعلى ثمرة للتطور (المدني) قد تفقد الأصل الغائي الذي انطلقت منه، وراهنت على بلوغه. أليس تراكم الأفكار والخطط، والمثل، والبرامج، يزيد في حساسية النقص وتخطئة الذات، ويغدو مجتمع الكمال متجاوزًا في كماله، أو كونيته دائمًا. ويصير الفرد بدون الآخر نهائيًّا، ما دامت ذات الكمال أضحت اشتغالًا عبثيًّا على هوي بدون نهاية، لا يمكنه أن يتوقف عند هوية محددة؛ إذ إنه في تسلسله عبر نمذجةٍ تكرُّ إلى ما لا نهاية، تصبح الهوية تشكيلًا آنيًّا موقتًا قابلًا للاستبدال بغيره؛ وهكذا، ألا يتعادل في النهاية الهُوي مع اللاهوي، ويصير كل تشكيل موازيًا لإلغائه؛ ألا تكون مثل هذه الحصيلة من فرط الهوي، متحققة بسبب من المبالغة في تركيزه، بل بعلة تجاوزه، المهووس بتحصيل ما ينقصه، ولا يكتمل بدونه؛ ألا تكون هذه الحصيلة قد وضعت حدًّا لهاجسية الاختلاف، بعد أن أمسى الاختلاف لا يتعلق بالآخر المحايث للذات، ولكنه بالذات والذات الأخرى في ذاتها؟ فالفرد الإلكتروني ليس له آخر؛ لأنه هو عين كل آخر. والبشر الافتراضيون، لن يحققوا نقلة داخل الإنساني؛ إنهم يمحون ذاكرة وجود الإنسان عينه؛ فالكائن الإلكتروني القادم لن يعرف له ماضيًا أو مستقبلًا؛ لأنه يظل هو عين ذاته. إنه كائن خارج البشري، خارج الزمني.
وهكذا، فالهويُّ النقدي، يقضي على تعارضه الذاتي، تأبيد الهوية في الكائن الإلكتروني؛ فلا تعود القضية بين المتخلف والمتقدم، ولكن في قابلية الاستبدال إلى ما لا نهاية: إنه الكائن التقني المنسوخ دائمًا عن المنسوخ. فلا مثال ولا نموذج له إلا نفسه، التي ليست هي عينًا لشيء معين؛ فالنسخة لا يأتي قبلها ولا بعدها إلا النسخة. ليس أمام البشري التقني إلا مثيله التقني المطابق له تمامًا. فلماذا التواصل، وماذا يمكن أن يقدمه التقني مما لا يعرفه التقني الآخر. مصير الاختلاف النسخي هو في الكم، ولن يكون ما بين الواحد والآخر، نوعيًّا واختلافيًّا.
هل يندرج «نقد» الهوي النقدي في مرتبة الحال الثالثة ما بين الهويِّ التنويري والهويِّ النقدي الذي يصاحب الدولة الاجتماعية. إنه لا يجازف بمغادرة ذاكرة الأول، بل يعمل على استحضار مكتسباته، وتجديد تفعيلها حسب عقبات العصر التقني وتحدياته الثقافية؛ كما أنه لا يدع الثاني، أي الهوي النقدي، مسترسلًا في تجاوز هذه المكتسبات، وفي تصنيم التجاوز وحده كقَدَر مسلَّط على كل هُوي، حتى لا يسقط أسير الانتماء الواحدي. ذلك هو قدر من فرط التجاوز وإفراطه؛ إذ يغدو هدفًا لذاته؛ فإن الحذر من التعلق بأي مثل، يسوِّي بين المُثُل وأضدادها؛ لذلك فإن نقد الهوي النقدي يحاول أن يحميه من ذاته. وفي النهاية لا تخشى الحرية إلا من الحرية. ها هنا تبرز المهمة المستحيلة لاستعادة الفلسفي التاريخي، التي لا بد منها مع ذلك ورغم استحالتها، ما دامت من مرتبة المعنى؛ إذ تنيط بنفسها أن تنهض بشرعية الفكر فوق مشروعيات إنجازات أفكاره المتحققة هي عينها. فالإبداع مدعو دائمًا إلى العمل خارج عاداته. وهذه الدعوة نفسها تخاطر بأن تستحيل كذلك إلى مجرد عادة.
ليس هدف الهويِّ النقدي أن يفرَّ من أمراض الهوية الشائعة، من خطر الانزلاق الثقافي نحو الثقافوية، والتصنيم الذاتوي، فحسب، لكنه هو الحذر أيضًا من أن تغوص عبارةُ الهُوي النقدي، في لفظه النقدي وحده؛ وذلك على حساب ما تبقى من معاني الهوية والانتماء؛ ولهذا فإن إضافة النقد إلى عبارة الهوي النقدي، إنما يُقصد منه وَضْع العملية ككل، بحدَّيها: الهوي النقدي، تحت طائلة نقد آخر خارجي عن أفاعيل التقاء الحدَّين، وجدليتهما الخاصة فيما بينهما. من هنا ينبغي ألَّا نتصور أن عودة الفلسفي السياسي في هذا المنعطف من الفكر الما-بعدي، إنما تتوقف على اكتشافها لأعجوبة الهوي النقدي. ليس هذا الكشف سدة المنتهى؛ إذ إن الهويَّ النقدي، عندما يفوز بأرقى وعي، من حرية فهم الفهم عينه، موغلًا في هدم الأنصاب الجاهزة، وأساليب الهدم معها، فإنه لن يوفر نفسه مما لم يوفره عن الآخرين. لا بد أن يغدو عرضة للمساءلة الشمولية من قبل ذاته عينها؛ هذه هي الحالة الأشد راهنية — وخاصة بالنسبة لسؤال الهوي العربي، والعالم الثالث عمومًا — والمتجلية في انبجاس نقد للهوي-النقدي، خارج صيغة اللقاء هذه ما بين الحدَّين، ومستقل عن جدلية أفاعيلهما المتبادلة بينهما. نحن هنا إزاء ضرورة فكرية غير مسبوقة، وسط صراع المفاهيم حول أقنوم الهوية — وهي مستنفدة في معظمها — من أجل استعادة الفلسفي السياسي، وتشغيل فعاليته الأصلية، بما هي نقد مستقل حتى عن الهوي النقدي؛ وذلك كيما لا يقع هذا الأقنوم في مسلسل انفراط الدلالات، مع عجز متنامٍ عن بلوغ ضواحي المعنى؛ إنه العجز المؤدي هو عينه، إلى استمرار الانفراط العبثي، وتلك هي الحلقة المفرغة التي انتهى المشروع الثقافي الغربي إلى السقوط بين براثنها، دون منجاة عقلانية، إرادوية، واضحة حتى الآن.
إن نقد الهوية النقدية، قبل أن يصيبه انحراف التسلسل الهووي إلى ما لا نهاية، فإنه يتشبَّث بمنهجية غير واضحة المعالم بعد، لكنها تنطلق من مبدأ يقول: إنه قد يمكن التحرر من الهويات، ولكن ليس من الهويِّ نفسه. أي إنه مهما أصاب مفهوم الهوية البلى والاهتراء، فإنه لا مناص من الشكل كيما يبرز المضمون؛ فالهوي ليس حاجة إجرائية ومرتبطة بظروف نشأة الأمم وتطوراتها، فحسب؛ لكنه أشبه بالجوهر الفلسفي الذي تتحد فيه الماهية مع محمولاتها، أي توصيفاتها وتفريعاتها، التي تظل إمكانيات كامنة فيها قبل تبريزها الواقعي.
الهويُّ هو صانع الهويات، وهو أول المتنكرين لبعضها، لحساب بعضها الآخر. إنه تعبير عن حاجة كلِّ ما هو ذاتوي لأن يظل هو عين ذاته، لا بمعنى الثبات والجمود، بقدر ما هو بطريقة أن الثابت الوحيد في التغير هو التغير عينه؛ ومن هنا جاء مصير التنافر المحتوم بين ميل الهوية إلى الاستقرار، ونزوع الهوي إلى المفارقة الدائمة؛ إذ لا يكاد يستقر على حال، كما لو أن أية حال لن تستنفد حالَه. ومثل هذا الوضع ليس في طاقة أي مجتمع أن يحتمله؛ ولذلك أصيب المشروع الثقافي الغربي بما يشبه حركات الإنكار المتوالية لثقافويات هوياته المتكلسة على بعضها، سواء انخرط هو فيها عبر ماضي تحقيباته وتكرار بعضها، أو تجلَّت هي لدى قوميات تراثية أخرى، آل إليها إحباط العصرنة في العالم الثالث.
ما يسمَّى بالنظام الدولي قديمه وحديثه، ليس هو إلا ارتهانًا لغابة من القومويات، مسوِّغة بنظام هويات متفاصلة ومتغالقة، ولا تبيح تواصلًا بين قلاعها إلا عبر جسور السياسات الدولتية الرسمية. ليس المجتمع العالمي الراهن سوى هذا المجتمع الدولتي، في حين تظل الأمة محجوبة عن بعضها وراء دروع الشبكة الحكومية. وهذا ما أبقى على الكوسموبوليتيكا مرادفة لليوطوبيا، ليس بطريقة أنها هي الجنة الموعودة، بقدر ما هي كذلك بطريقة الاستحالة التخييلية. هذا العالم المؤلف من نسيج الهوايا المتعارضة، هو الحاجز الحقيقي المانع من انبناء سياسة كونية تعتمد منطق الهوي، متفوقًا بنجاعة موضوعية على السياسات «الواقعية» لمنطق الهوايا الدولتية، ما أوصل العالمية إلى فخ السياسات الجغرافية كبديل عن وقت تحييني لنهوض السياسة الكونية (الجيوبوليتكا ضد الكوسموبوليتيكا). وينبغي أن نحذر من الخلط الشائع بين مصطلح السياسات الخارجية للدول والسياسة الكونية؛ فهذه الأخيرة تهدف إلى ابتكار سياسة «داخلية» هي في نطاق العالم كله. وفي ظل هذه السياسة يتخلَّص أقنوم المواطنية من تهمة التجريد؛ إذ تغدو علاقته بالهويِّ الكوني، أي الإنسانية الحقوقية، ممارسة محايثة، لا تعيقها حدود الهوية الدولتية، ولا انفصام الكوكب بين شماله وجنوبه تارة، وشرقه وغربه تارة أخرى. يصير المواطن العالمي هو المواطن المحلي والقومي العادي. تصبح الثقافويات بذلك — أي الهويات القطاعية من عنصرية ودولتية — تنويعات تعريفية على الهوي الشامل: الإنسانية الحقوقية.
لا بدَّ لثقافة الهوي النقدي أن تركز اهتمامها الأساسي على نكران أي نموذج قبلي يُعطَى للكلي، أو الكوني. أي ليس هناك حضارة معينة لا تزال تفترض أنها تشكل نموذجًا استباقيًّا؛ وبالتالي متفوقًا، على الحضارات الأخرى، وأنه ليس على الآخرين سوى اللحاق بها، واتباع ذات خطواتها. وعلى هذا فإن الإنسانية عينها ليست مثالًا استباقيًّا لتغدو بمثابة العلة الغائية لمختلف الأمم؛ فالعصر الأنواري فقد تفاؤلية الهوية الرومانسية بحتمية التقدم، وهيمنة غائيته المطلقة المؤسسة على شبه يقين ديني، ينقل جنة السماء الموعودة إلى مستقبل التاريخ البشري، محققًا ضرورةَ بلوغه كمالَ التوافق بين أغصان الشجرة الواحدة.
قد يعذر مفكر كبير من مثل رينان الذي استنبط أيديولوجيا حتمية التقدم ببلوغ الكونية الإنسانوية؛ كان من أبرز دعاة التفاؤلية الساذجة لجيل نهاية القرن التاسع عشر. ولم يَعِش حتى يرى بأم عينَيه أهوال الاستعمار الذي امتدحه، وكوارث القرن العشرين التي جناها «الإنسان الأبيض» على نفسه هذه المرة، ولم يستطع أن يحصرها بالإنسان الملون في الجنوب والشرق مع حركة استعماره، كأول شكل لعولمة الاستغلال تحت يافطات العالمية السعيدة، المصاغة حسب النموذج الأوروبي آنذاك، والمتذرعة بأدلجة الإنسان الأبيض، كرمز عنصري عن حصرية العلة في تفوقه، مسوغًا بذلك «شرعية» سيادته على بقية البشر.
Ibid., p. 124.