(٢) آمرية التأسيس في المختلف

من الشائع أن نموذج المتحديات الأول وهي أمريكا، أمست تعاني مع الألفية الثالثة، ظاهرة انحسار الرابطة القومية الجامعة للتعدديات، تتضاءل لديها مسافة البعد المعنوي، تنسحب من تحت عباءة الشخصية المفهومية لأمة ما، لتنحصر في أضيق دائرة من حد الإثنية واللغوية أو المناطقية (الجهوية). وتمسي الدولة إطارًا فضفاضًا لشعوب مرتدة، أو مجبرة على الارتداد إلى جذور ذات النفس الأصلية وحدها. وهنا فإن المواطنية تنحلُّ كليًّا إلى الرابطة الاعتبارية وحدها وهي الجنسية، فلا يخفي فلاسفة المتحديات الأمريكان، الصعوبات الناشئة عن مواطنية مهلهلة، لا تجد لها ثمَّة مضمونًا إلا في العمل النفعي البحت؛ أي إن البحث عن هم الالتصاق بالحد المباشر أضاع فرصة التطلع إلى البعد، إلى المعنى، أو الغائية المشتركة للمتحد الأعظم الذي ترجع إليه مختلف العائلات الوطنية، أو الإنسانية ملء العالم؛ فالتوطين الأضيق في المساحة الإرثية وحدها، يبدِّد أحلام التحليق، وإعادة التوطين مرتفقًا بحصة واعية من ترحال التحليق عينه. تنتهي الأمركة إلى تصدير ليبرالية الفائض الربحي وحده، كعنوان لإعادة توطين الإنسان في أيديولوجيا العولمة.

ليس الخطر الأنطولوجي الحالي في إبطال الإنسان كمسافة معنوية تتجاوز الحد الإرثي والفيزيولوجي، ولكن هو في توطين الإبطال كما لو كان سكن المدنية النهائي. ما يؤكد أن الشر المحض ينجح في إلغاء التأشير عليه أخيرًا؛ فإن الانكفاء على الموروث وحده يلغي إمكانات التحسس بوجود مسافات أخرى مجهولة واقعة وراء الحد، الحد الموروثي فقط. ولا تتبقى إلا جاهزيات الحالة التعبيرية عما هو قائم، أو المتصور أنه هو المستمر، وسبب استمراره كذلك. صحيح أن الرومانسية اخترعت مرجعية الطبيعة، لكنها جعلتها طبيعة استدخالية استبطانية؛ فهي أغنتها بمخيلة الإنسان عما ينبغي أن تكون عليه طبيعته؛ فهذه التسمية ليست ترميزية لمواد خام أولية، بقدر ما هي صنيعة مخيلة إبداعية. وعلى هذا يرتفع أقنوم الأمة إلى مستوى المتعالي الذي لا يصلح فقط لعَقْلَنة المفهمة وحدها، بل ينقلب إلى داعية لذية نحو ممارسة التأسيس في المختلف؛ فلا يكون التعاطي مع المتعالي حالة تطابقية، بقدر ما هو ممارسة اكتشافية دائمًا. بذلك تكون الرومانسية قد أغنت، تاريخيًّا، نموذجًا في القومية، فريدًا، بل استثنائيًّا ربما؛ من حيث إنها كانت رومانسية فعالة في إنتاج حضارة غير مسبوقة في مشهدية العالم. تقوم الطبيعة عندها على آمرية التأسيس في المختلف، كجوهر هووي لا يتم اكتسابه أبدًا إلا في السعي إليه اختلافيًّا؛ فالفلسفي السياسي، في هذا السياق، هو فلسفي تكويني في البدء. ما تسرده التعبيرية الرومانسية عن «طبيعة الإنسان» يتحوَّل إلى دعوة نحو تغيير ما هو قائم، بما فيه الإرثي والاكتسابي معًا، بحجة مخالفته لهذه الطبيعة، كيما يصير متطابقًا مع سردياتها. وفي هذه اللحظة يمكن للسياسوي اليومي أن ينحت تماثيل سكونية، تدَّعي «تفسير» التعبير قبل المباشرة في «فهمه». والتفسير سرعان ما يصنِّم تمثالًا عنه، يدعوه هوية لأمة أو ثقافة. وهذا يعني أن الهوية هنا تثبت ماهية مستقرة وعالية على التغيير. ويكاد يتوقَّف عليها وحدها إنتاج الشخصية المفهومية للأمة. مثل هذه النظرة لذات النفس، لا يمكن أن تبني أمة حرة بأفعالها واختيارها لأهدافها. إنها محكومة مقدمًا بتلك السرديات عما تكون عليه هوية ثابتة، معبرة عن ماهية متصورة للأمة، تمنحها كلَّ مشروعيتها بعين أجيالها. وعلى كل حال فإن إفساح المجال أمام المخيلة الرومانسية لبناء هيئات ماهوية للأمة، حسب شطحات النخب الثقافية والإبداعية التي تتسابق على إسباغ قصوويات الكمال والتمام على هوية ذات النفس المفضلة، لا يمكنها أن تنتج مجرد شخصية مفهومية قابلة بالتساوي مع سواها. إن تصنيم الهويِّ الذاتي لا يسمح بإمكان الآخر، بإمكان تواجد الهويات الأخرى دونما إخضاعها لمعيارية النمذجة التفاضلية paradigmatisme.

لقد تحكَّمت المشاريع الجيوسياسية في مولد القومويات الغربية خلال القرنَين التاسع عشر والعشرين. وهي نفسها كانت منطوية على معيارية النمذجة التفاضلية، بحيث كانت غير قادرة إلا على إنتاج تعددية تخاصمية بين الهوايا التصنيمية. وعند ذلك فإن الرومانسيات الإبداعية في حقل التفلسف والفن، لم تستطع أن تقدم، في حقل الصراعات الأقوامية والعنصرية، إلا النمذجيات الموهومة عن كل هوية متقبلة لذاتها كليًّا، وطاردة لغيرها إطلاقًا. تلك هي الهوية الاختلافية القائمة على التسليم لا بواقع الاختلاف كتنوع في الشخصيات المفهومية بين الأمم، ولكنه هو الاختلاف المؤكد ﻟ «أحقية» الذات والطارد لغيرية الآخر، وحقه في الاختلاف على طريقته؛ فالمختلف في هذا السياق ليس هو المتنوع، ولكنه المقصي خارج «النوع» المقبول. إنه النوع المرآوي العاكس لخصائص العنصر الأبيض، ونخبته المستحقة لاحتلال قمة هرمه وحدها، كالنازية الحصرية لقمة العرق الأبيض الأوروبي، في السلالة الجرمانية، المصفاة من كل خلط أو مزج بالعروق الأخرى، حتى من داخل النوعية البيضاء الشقراء؛ فالمشروع السياسي للهوية التصنيمية سوف يجسده نموذج الدولة الأمة فوق الجميع، أو دولة الشعب المختار، كالصهيونية غير المكتفية بإنشاء دولتها إسرائيل، لكنها هي أيديولوجيا الهوية المنتشرة في كل مكان، أو المتغلغلة وراء أنظمة الدولة/الأمة، الغربية، من أوروبا إلى أمريكا. ولعل الصهيونية هي الأيديولوجيا الحصرية الوحيدة المتبقية، بعد انقضاء الدول المؤدلجة الكبرى، التي لا يظلُّ مشروعها السياسي متوقفًا على إقامة الدولة المجسدة لهويتها فقط، بل تعطيه تشكيلة الحزب العقائدي ذي الانتشارية العالمية، والمتشبث باستراتيجية التغلغل داخل مؤسسات الدول الكبرى، وأجهزتها الاجتماعية وقواها الاقتصادية، ومخططاتها الثقافية.

وعلى هذا الأساس فالمسرح العالمي، ومع الألفية الثالثة، يشهد انبعاث الأدلجة العنصرية على حوامل دينية، بدءًا من الصهيونية، كمشروع سياسي لتصنيم الدين اليهودي في هوية الأمة المسيطرة، ما فوق عصر الدولة/الأمة المرشح للزوال، ولكن المنبعث مجددًا بطريق التصنيم الديني. وقد أمست عودة الفلسفي السياسي تواجه تجديد الشكل الإمبراطوري لتصنيم الهوية الدينية، الزاحف ما فوق الدول القومية، وداخل أبنيتها المجتمعية؛ فالنموذج الصهيوني باعث فعال على اجتذاب البروتستانتية، وتنميط تحالف موضوعي مع الأمركة، يقابله تحول الإسلام إلى مشروع سياسي عالمي كذلك، وتحركه استراتيجية المعارضة الجذرية ذات الصيغة الدفاعية، ضد الصهينة المتأمركة لمساحة القوميات الآسيوية الأفريقية. وأما الغَرْبَنة فتجد نفسها مضطرة لدفن تاريخها الإمبريالي، ومقاومة في وقت واحد، لتحدي الأمركة لها؛ متهيبة من تحوُّل اتحادها الأوروبي إلى قارة محكومة أولًا بفائض من بنية جيو-استراتيجية تنافسية مع الأمركة، ومتناقضة مع مشروعها الثقافي الأصلي ذي المطامح الجمهورية، في وقت واحد، ومتوجسة من جنوبها العربي الإسلامي كذلك، بصورة خاصة.

هجانة الدولة الأمة العالمثالثية

إن عودة الفلسفي السياسي تُواجَه بمأزق النمذجة التفاضلية paradigmatisme بين الاستحقاق الأنطولوجي الجينالوجي (التكويني) للهوي النقدي، وحامله الموضوعي المتمثل في راهنية العالمية التواصلية، وبين النكوص نحو أشكال تصنيم الهوية في أضيق صيغ التأحيد للأخصيات الثقافوية. فهناك دائمًا دعاوى عريضة للكونيات، لكنها تنطوي على أضيق الأخصيات. ومع التسليم بالعولمة كقدرية ميتافيزيقية لا مفر منها، فإن الهوية التصنيمية تعثر على إمبريالية السوق كحيز موضوعي وحيد، لإنتاج عالمية القولبة بدون قالب نهائي؛ فالصونمة في هذه الحالة، سوف تقع على شكلانية القولبة، وليس على محتوى القوالب المفتعلة. والناس في عصر العولمة ينقلبون، وهم وراء حصونهم القوموية والعقائدية والدولتية، إلى مجرد كائنات «قابليين» لمختلف عروض التنميط الفارطة، كفرط بضائع السوق بمعناها الدولي، والمصحوب بتدفق إعلام الصور والأصوات، ونمذجات الانفعال والسلوك والتعامل، وحتى التفكير، باعتبارها أمست مجرد موضات استهلاكية متشابكة مع أحدث بضائع الأشياء الاستهلاكية العرضية، والناشرة لتماثلية عالم عرضي فوري. فإن خاصية العمومي تزيف أقنوم الكينوني. وما هو الأحدث حاليًّا في العرض والنشر والتوزيع من أشباه الأشياء والأفكار والأحوال الشخصانية، إنما يغذي عصبيات التفريع والتشرذم حول أضعف المرجعيات الناتئة العارضة؛ فالأديان الكبرى في العالم الموصوف بالمتقدم، من أوروبا إلى أمريكا، تنفرط عقائدها إلى طوائفيات وفئويات وإخوانيات وباطنيات دنيوية أكثر منها دينية، ومنطوية على شرعنات وطقسنات في التحريم والتقديس، والسلوكيات الشعائرية الموصوفة بحدثنة السحر والشعوذة، ويخترعها ويتزعمها أشخاص بارعون في استنباط وتنميط الغرائبيات، ويتظاهرون بالتمتع بسلطات روحانية وماورائية، شرقية أو بدائية؛ ولكنها سريعة الظهور والزوال.

في حين أن انفراط التصنيم الهووي في العالم الثالث بخاصة، ومنه المجال العربي والإسلامي، لا يزال يتعلق بالنمذجة التفاضلية للانتماءات الأقوامية بل القبلية. ولم يستطع مفهوم المواطنة التقدم على الديني والإثني واللغوي وحتى المحلي، وما دام الفرد لم يَفُز بعدُ بقوام استقلاله المدني والإنساني؛ فالجمعاني، تحت أية مرجعية من بقايا الأصول المتوارثة، قد يجدد سلطته اللاواعية عبر أية التصاقات بعناوين حداثوية، كالتسميات الحزبية أو الثقافية. كل ذلك يجري في ظل نوعية خاصة من الدولة/الأمة، المستحدثة في حقبة الاستعمار الغربي، والمستمرة طيلة تقلبات فترات التحرير، وبناء الاستقلال الوطني، مع انطلاق صراعات العنف الجمعاني الداخلي، المنظم داخل الجيوش بخاصة، أو المقنع بالتيارات الأيديولوجية المستحدثة والمجلوبة بعدوى الانتشار العالمي، والذيوع الإعلامي للأفكار وأنماط الصراعات السياسية الوافدة.

في هذا السياق يمكن التفكير عربيًّا أن نموذج الدولة/الأمة، كان حدثًا صدفويًّا ولا يزال. وتاريخه مرتبط بالغزو الاستعماري المباشر. فليس هو بالوليد التاريخي النابع من تطور الجماعات العربية والإسلامية المتناثرة في مدن الضواحي الصحراوية أو السواحل البحرية، النهرية، ولقد حملت معظم الدول المستحدثة أسماء الجهات الجغرافية أو الإقليمية، التي رسمتها لها خارطة الغزاة الاستعماريين. ومع ذلك قامت هذه السلطة الطارئة بارتداء الخصائص الوطنية بعد التحرر السياسي، ومارست طابع الإرادوية الخالصة لبناء أقطارها، بحسب أساليب التنمية الوافدة مع هيئات الأمم المتحدة، عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، فيمكن اعتبار موجة الدولة/الأمة التي سادت مختلف أقطار آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، خلال مرحلة التحرر الوطني، بمثابة الجيل الثاني المعاصر، من سلالة الحداثة الدولتية، المؤسَّسة أصلًا في صلب التطور الغربي. وفي حين استطاعت موجة الدولة/الأمة تمزيق الهوية القومية للعرب مرحليًّا أو موقتًا، وحاولت أن تبني من الجنسيات الجغرافية ثقافوياتٍ جهوية، متطلعة إلى تثبيت أشباه كيانات اعتبارية، منغلقة على أنماط سلطاتها الحاكمة وغالفة لحدود شعوبها الإنسانية والمجتمعية فيما بينها، فإنها تكون بذلك قد عكست حركة التطور الهووي الغربي. فسارت زمنيًّا، أو أُجبرت على السير، من هُوي الأمة الواحدة، العضوي والتاريخي، إلى صيغة الجنسيات الجغرافية، وتفريخ أقواميات جهوية منها فحسب، أو اعتبارية ذات هيكليات دستورية وقانونية متفاصلة عن بعضها، ومتمايزة بسلطات وحكومات معترف بها من قبل المجتمع الدولي. ومن هذا الاعتراف الخارجاني تستند قطريات الدولة/الأمة نوعًا من مشروعية سياسوية، مفتقرة أصلًا إلى مضامين الحداثة المواطنية بمكتسباتها المجتمعية النضالية الثلاثة، ونعني بها الحقوق المدنية، فالسياسية، فالاجتماعية. فالدولة/الأمة العالمثالثية، والعربية في مقدمتها، ابتدأَت بالاستقلال السياسي الدولاني، وتوقَّفت عنده؛ استعصى عليها التقدم من مكسب حرية الدولة تجاه الغير، إلى حريات الأفراد تجاه دولتهم، وفيما بينهم. وعلى هذا الأساس لا يمكن المضاهاة بين الشخصية المفهومية لشكل الدولة/الأمة السابقة غربيًّا، وتلك التي عجزت عن إنتاجها شكلانية الجيل الأخير من نموذج الدولة/الأمة العالمثالثية، والعربية على الخصوص.

إن صيغة عالم عربي، متوزع بين أكثر من عشرين كيان دولتي، تكرر ذات نموذج شكلانية الدولة/الأمة سياسويًّا، بدون مضمون المواطنة المدنية ومكتسباتها من الإنسانية الحقوقية. ما أدى إلى تضاعف التعارض البنيوي بين الانتماء التلقائي إلى هويٍّ حضاري واحد، وبين إكراه التبعية لثقافويات جهوية، ممهورة بطابع أنظمة التسلُّط للجماهير وتبعيتها للتسلط السياسوي على القمم القطرية، المرتدة إلى إفراز عنصريات القومويات المحلية، وهذه بدورها تفرِّخ أضيق العصبيات الأهلية والعقائدية، من ديناويات وطائفيات. فالانغلاق نحو الأضيق في عصر الانفتاحات الأوسع والأكبر، هو المميز الوحيد لتعددية ثقافوية سالبة، وعادمة لإمكانيات التنوع المتكامل.

إن مأزق الجيل العالمثالثي مع نموذج الدولة الأمة، لا يتمثَّل فقط في الأصل اللاتاريخي الذي تحدَّرت منه معظم الكيانات الدولتية القائمة منذ عهود الاستعمار الغربي، والمستمرة إلى المرحلة الموصوفة بنشأة الاستقلالات الوطنية، لا يتأتَّى المأزق كذلك فقط من غربة هيكلة الدولة/ الأمة عن السياق التاريخي للوضع اللاهووي، واللاقومي الذي كانت عليه الأمم المستتبعة داخل إطار الإمبراطورية اللاهوتية المتحدرة من القروسطية والسابقة على تشكيل الدولة الحديثة إجمالًا؛ وهي السلطنة العثمانية، بالنسبة للحالة العربية، بل إن كل ذلك قد يشكل أسس المأزق التكويني لدول الكيانات المتقاسمة للأمة التاريخية؛ الخارجة من إطار الإمبراطورية اللاهوتية أولًا، والمتحررة ثانيًا من حقبة الاحتلال الغربي حديثًا، لكن المأزق الحقيقي هو في هذا التكوين الالتصاقي لقوام الأمة المحرومة من دولتها الوطنية المستقلة عصورًا طويلة من الانحطاط الحضاري؛ التصاق بالتحقيب الغربي الذي تكونت عبره تاريخانية الدولة/الأمة، واجتازت عبره رحلة الانتقالات أو القطيعات، ما بين عصور الهوايا المفارقة (الغيبية)، ثم الهوايا التصنيمية (الرومانسية)، ثم الهوايا الأيديولوجية الكليانية، وكلها أعمار حقيقية لتحولات الدولة/الأمة، الصانعة لمسلسل من الشخصيات المفهومية لمجتمعاتها، وصولًا أخيرًا إلى عصر المدنية الوطنية في ظل الرعاية الشاملة.

لكن نموذج الدولة/الأمة في جيلها العالمثالثي المستحدث، والعربي والإسلامي على الخصوص، يبلغ راهنيًّا ذروة مأزقه التكويني. ولا يتجلى ذلك فقط في فشل تجربته الممتدة طيلة النصف الثاني من القرن العشرين، وعجزه عن إنتاج شخصيته المفهومية الواعية لإشكالية الوصل والفصل مع تحقيب المشروع الثقافي الغربي، بل في تحول ارتدادي لنموذج الدولة/الأمة نحو تَصْنَموية السلطة الفوقية، وانصبابها في قَوْلَبة الإرادوية المطلقة، المنفصلة رأسيًّا عن شعوبها، وأفقيًّا عن راهنية العصر العالمي حولها؛ فهي أقرب ما تكون إلى إطلاقية الملكيات غير الدستورية السابقة على الشروع في إنجاز التحقيب الحقوقي، حسب إيقاع الحقوق المدنية فالسياسية فالاجتماعية. بل عاشت نمذجة الدولة/الأمة هذه، على رأسمال ترميزي مكتسب من جدلية التحرر/التبعية تلقاء القوى السياسية الدولية، والغربية ثم الأمريكية ثم الصهيونية الإقليمية الوافدة، والتي كان بعضها، من الحقبة الأوروبية، هو صاحب هذا النمط من اصطناع الدولة الهجينة، ما جعلها محتاجة إلى اختراع هوايا ذات صبغة جغرافية جهوية خالصة، محتاجة إلى تبرير سلطاتها المطلقة المستمدة من القوى العسكرية أو القبلية أو الطائفية، بمشروعية الأمر الواقع المفروض وحده، لكن هجانة هذا النمط من الدولة المفترض أنها صانعة أممها الإقليمية الجديدة، تقف تمامًا على طرف نقيض، في عصر الهُوي النقدي، مع توجُّه الدول القارية، مثل أوروبا وأمريكا، نحو صيغة الوحدة القائمة على سرعتَين: الاعتراف بالدولة القومية وخصوصياتها من جهة، وبناء الاتحاد الدستوري الشامل لتعددياتها الثقافوية. في حين أن الدولة العربية القطرية تجيء ضدًّا على الوحدة التلقائية للأمة التاريخية من جهة، وتعمل على إفراز أقواميات الأقطار المتفاضلة المتناحرة. ما يتعارض كذلك في الوقت نفسه مع حركة الدولة العصرية الآتية من تعددية الأقوام التاريخية، المتفاصلة والمتمايزة ما بين موروثاتها، ولكن المتجهة نحو المتحدات الدستورية الكبرى، تحت إيقاع الانتماء المتناظر إلى نفس التحقيب المنتج للحداثة السياسية، والمحقق لأفضلية المشاركة في إنضاج ثمرات المدنية وإبداعية التمتع بها، لأفضليتها تلك على ميراث الهوية التصنيمية ذات الأصول العرقية فحسب.

سؤال المدينة عن الأخلاق

يمكن اعتبار نظرية الثقافويات التعددية، الصاعدة راهنيًّا في كندا والولايات المتحدة، نوعًا من تجاوز الشكل التصنيمي للهوية الأمريكية؛ فهي تحاول أن تحتلَّ ريادة ما بعدية للأمركة التقليدية، بعد أن دأبت هذه الأمركة على طمس مجتمع الخلائط القومية والعرقية، على مستوى السلطة أو النظام العام التأحيدي، مع الاعتراف به على المستوى السكاني فحسب، ثم إعادة إخضاعه لقانون التنميط السلوكي، ما يعني إعادة تطويع مجتمع الخلائط للنمذجة بدون نموذج نهائي. في حين أن الثقافوية التعددية تحاول أن تحرر الخليط من هذه الهوية الفوقية. وتدفع بفكرة مواطنة الأرض، المكان، بدلًا من مواطنة التماثلية تحت سلطة النمطية بدون نمط نهائي. وهكذا يغدو انفراط الهوية التجريدية غاية للتعددية الثقافوية. والمقصود من الهوية التجريدية هي تلك التي تفرض على الهويات الإثنية داخل مجتمع الخليط، متجاهلة الأصول الإنسانية المباشرة لكل جماعة ثقافية وعنصرية؛ فالثقافوية التعددية تنطلق من واقع اللاعدالة في توزيع الاعتراف بتفرع الهويات القاعدية، حسب شخصياتها الاعتبارية، وما تقدره كل هوية إثنية أو ثقافوية لذاتها، من استحقاق أخلاقي إنساني، يحفظ لها تمايزها بالخصوصية الثقافية ضد استبداد التمييز العمومي. ها هنا يبرز الرهان الأعمق للهوية النقدية، وهو إعادة طرح مسألة الهُوي على صعيد أنطولوجي حداثوي، يستبدل لغة الماهويات الميتافيزيقية والقبلية، المتفاصلة والمتصارعة أبديًّا، بلغة الاستحقاقات الأخلاقية؛ فيلتقي من جديد الفلسفي السياسي بالأخلاقي، وتمارس الهويةُ النقدية إشكاليةَ هذا اللقاء بما يعنيه من استحضارٍ لثقافة العدالة كمصدر أوحد لكافة المعايير.

وحول هذه النقطة المركزية من التقاء الفلسفي السياسي الحداثوي بالأخلاق (العدالة)،١ يمكن فهم النزعات الفلسفية الجديدة حول تجديد الليبرالية، كما هي في نطاقها الأنغلو-سكسوني، وجناحه الأمريكي خاصة. ولقد كان كتاب جون راولز «نظرية العدالة» هو المحور الفلسفي الأول الذي صدرت عنه، معه أو ضده، أو تحويرًا عليه، شبكة الآراء والمذاهب المتنوعة حول الحداثة السياسية من منطلق فلسفي أخلاقي عريق، ويلتقي مع ينابيع الفكر الأوروبي، منذ أصوله الإغريقية، وصولًا إلى أعلى تقاليد الفكر الأخلاقي التي أرساها فيلسوف النقد الحديث، كانط. ذلك أن نظرية العدالة تحاول اقتحام معقل الأطروحات الليبرالية التقليدية المنحدرة أصولها من هوبز وبنتام ولوك وستيوارت ميل، في الوطن البريطاني الأم قبل ظهور الشكل الأحدث الملائم لنشأة الرأسمالية الأمريكية، مع أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وذلك عند تأسيس «البراغماتية» الذرائعية الشهيرة، وقد أصبحت بمثابة الهوية المميزة لمجمل الشخصية الثقافية الأمريكية. فإن الراولزية يمكن اعتبارها على هذا الأساس، أول خروج فلسفي على حدود الذرائعية. وقد يرى البعض أن راولز يسعى إلى التوفيق بين مدرستَي القارتَين القديمة الأوروبية، والحديثة أمريكا؛ أي إن سؤال نظرية العدالة ينبغي له أن يتمحور حول التمفصل البنيوي بين المعرفي الأخلاقي الذي يميز ثقافة القارة الهرمة، وبين المصلحي العملي الذي طبع أصلًا الفكر البريطاني، ثم احتل قمة الذرائعية الأمريكية وتفرعاتها، لكن الجديد في هذه التفرعات هو الاختلاف الواضح الذي أضافه مفهوم ذلك التمفصل، والذي هو جديد فكر راولز وتميزه البارز في المشهدية الفلسفية ما وراء الأطلسي، ثم امتداد نفوذه وارتداده إلى عمق أوروبا، وتفاعله مع الفكر الألماني ثم الفرنسي.
في الواقع ربما تنبع ميزة هذا الفيلسوف، ليس من محاولته التوفيق بين عفوية الحرية ونظامية العدالة، بين أن يكون الأفراد أحرارًا دونما قيد، وبين أن يتقبلوا تقنين هذه الحرية حسب مواصفات العدالة، وإن أدى التقنين إلى عَقْلَنة الحرية وردها إلى حاجة التلاؤم مع المصلحة للعدد الأكبر. مثل هذا التوجه نحو التوفيق بين هذَين الأقنومَين الأكبرَين للفرد والجماعة، الحرية والعدالة (المساواة)، ليس غريبًا على التراث الفلسفي، لكن الجديد بالنسبة لراولز هو قدرته الفكرية على صياغة مفهمة توفيقية، غدت قادرةً على زعزعة قلعة الذرائعية الأنغلو-أمريكية، ونجحت في إقناع النخبة المفكرة بصوابية المحاولة الجادَّة، وبما تفتحه من ممرات ضرورية بين ثقافتَي ضفتَي الأطلسي، لكن هذا الصدى الإيجابي دفع إلى توليد شروحات وتنميات، تصنَّف ذات اليمين أو اليسار سياسيًّا، كثيرة وغنية، بما فيها تلك التيارات المعارضة كذلك لهذه الليبرالية المعدلة أوروبيًّا. فمثلًا يقوم مفكر زميل لراولز هو فريدريك فون هايك F. V. Hayek٢ داعيًا إلى «الليبراليتية» كمعارضة لليبرالية راولز، التي تنكر على الدولة أي تدخل في شئون أفرادها الأحرار ما عدا وظيفتَي حفظ الأمن، ورعاية العقود بين أصحاب المصالح، أي اعتماد السوق أساسًا للعقلانوية المطلقة التي تدَّعي الرأسمالية حق احتكارها الحصري. تتراجع هكذا شخصية الدولة إلى مجرد مؤسسة اجتماعية عادية كغيرها من مؤسسات المجتمع. وهي الفكرة التي تلتقي عندها ثنائية الدولة الرعائية والدولة الحيادية، بالرغم من تاريخ تعارضهما الطويل الذي قسم الفكر السياسي للقرنَين الماضيَين، أي زوال الدولة في قمة التطور المدني. ذلك أن الدولة الرعائية هي الموكول إليها وضع التنظيمات الاجتماعية الآيلة في النهاية إلى رد مختلف سلطاتها العليا إلى مؤسسات المجتمع المدني صاحبة القرار، والقائمة على تنفيذه كما تشريعه، بما يغني عن توسط الدولة كأجهزة سلطوية، وانتفاء الحاجة تدريجيًّا إلى وكالتها القسرية، مع نمو نضج الذات الإنسانية الحرة، لكن الليبراليتية المستحدثة لا تصبر على المجتمع حتى يبلغ نهاية تطوره المدني ذاك، بل تعجل بدفن الدولة قبل الأوان؛ فهي تقيم برهنتها على نوع من طوبائية أخرى، لا تقلُّ تفاؤلية عن الأنوارية الحداثوية، ومفهومها المركزي عن حتمية التقدم، فتعتبر أن إطلاق الحرية للسوق الرأسمالية سوف يؤدي إلى جعل كل فرد رأسماليًّا نسبيًّا. وعلى هذا الأساس يرى هايك، أن ليبراليته ليست سوى دفاع عن الحريات الأساسية ضد النزعات الجمعية أو الاشتراكية، التي لن يكون تدخُّلها في حركة السوق سوى نوع من الكليانية المعادية للحرية، مكررًا بذلك أبسط الأفكار اليمينية الشائعة وأكثرها ابتذالًا. (ولا ننسى أن أكثر مؤلفات هذا الباحث وأهمها قد صدرت خلال الحرب الباردة.)
لكنَّ طرافة هذا الفكر الليبرالاتي، أن هايك لا يشغله التعارض بين الحرية والعدالة، كما هو مألوف في المحاجة الليبرالية المعتادة، بل هو التعارض بين الحرية والأمن. وفي رأيه أن تدخل الدولة لا ينطوي على توزيع العدل الاجتماعي كما تدعي، بقدر ما تمارس سلطوية المتحكمين بأجهزتها، نوعًا من الرقابة على حريات الأفراد، ينتج عنها عقد العلاقات الشخصية بين المتنفذين وبعض المنتفعين من وراء دواعي المصلحة العامة، وموضوعيتها المفترضة؛ وبذلك تتحوَّل الدولة نفسها إلى مؤسسة شخصانية أو خاصة. وتعقد تلك العلاقات الفردية مع المنتفعين بالسلطة لتسهيل مصالحهم على حساب مصالح المجموع، فتنشأ عن هذه العلاقات نمطية الدولة الموصوفة بالزبونية clientélisme. (وقد يرجع اجتراح هذا المصطلح إلى هايك قبل أن يشيع في أدبيات نقد الدولة الكليانية بصفة عامة)، لكن ما يمكن أن تلاحظه الهوية النقدية-الناقدة في هذا الصدد، هو أن الخوف من المس بأمن الفرد، عن طريق التدخُّل الدولتي في حريته باسم تنظيمها، لا يبرر تحييد أية أطراف ثالثة تتدخَّل ما بين طرفَي العملية التبادلية، من أجل استباق كل تجاوز لشروط حرية التبادل نفسها، ولا يمكن ضبط التجاوز إلا بإعادة ربط السياسة الاقتصادية نفسها، بمسألة العدالة، أو حق الأفراد في التمتُّع المشروع بعدالة التوزيع التي تعبر عن مساواة الاستحقاق كمبدأ حاكم لمنطق العلاقات الإنسانية في الجماعة، قبل أية علاقات تفريعية أخرى، اقتصادية وحتى سياسية.
ومع ذلك يبدو أن الليبراليتية، على طريقة مؤسسها فريدريك فون هايك، ليست بعيدة عن هذا الربط بين الاقتصادي والاجتماعي، وإن كان هذا الربط جاء بأسلوب تحرير الحرية نفسها من أية ضوابط أو إكراهات، قد تنصب عليها من خارج أقنومها بالذات، لكن الحرية هنا ليست مفهومًا ميتافيزيقيًّا، بقدر ما هو توصيف معرفي إجرائي. إنه ينبني على تلقائية الحراك الاجتماعي، أو ما يدعوه هذا المفكر بفعالية الأنظمة، التلقائية. فهذه الفعالية إنما تشتغل بفضل قانون الاصطفاء الذي يحدد لها قواعد تحركها حسب منظور، قيمي تفاضلي في حد ذاته، يقاس بمدى ما يوفره من حظوظٍ لاستمرار المجتمع وبقائه، وبما يمكِّن مؤسساته القائمة من متابعة هذا الهدف على كافة الأصعدة العملية، وهذه التلقائية صورها كارل بوبر من خلال فكرة حول «المهندس الذاتي» داخل البنية الاجتماعية، التي تذكر بأطروحة آدم سميث الشهيرة حول اليد الخفية التي تنظم التوازنات الاجتماعية تلقائيًّا، دونما حاجة إلى أية تدخلات إرادوية من قِبَل السلطات الحاكمة أو المتنفذة. وكل هذا إنما يصبُّ في التنديد المنظم بالنزعات التاريخية، وتطبيقاتها الأيديولوجية التي تتعسف السيولة الطبيعية، وتناصر اللاحتمية العفوية التي تنقاد بموجبها شبكات الحراك الاجتماعي، وكان أحد المؤدلجين الكبار لهذه اللاأيديولوجية، هو كارل بوبر بدون منازع، وخاصة خلال أوج الحرب الباردة في أوساط القرن العشرين،٣ لكن هايك تصدَّى للتاريخانية من خلال نقدية معرفية مختلفة اعتمدت مهاجمة العقلانوية التي تسلسل الأوضاع الواقعية من مبدأ منطقي متعالٍ، ولا تجد له تسويغًا إلا بقدر ما تخترع من علاقة تطابقية بين الوقائع ومبدئها المجرد ذاك، أشبه بعلاقة النتائج بالعلل المتقدمة عليها.
وهايك يطلق على هذه العقلانوية، بعد وصفها بالبدائية كذلك، مصطلح الإنشائية الكلية. فأي بناءٍ فكروي من طراز هذه الإنشائية لا يمكنه أن يستوعب تراكيبية الواقع وتعقد الظاهرات الاجتماعية، أو يعادلها. وهكذا فإن منطلق النظرية الاجتماعية كما يراها هايك، إنما يكون «في اكتشاف أن وجود البني الانتظامية [للمجتمع]، هو نتيجة لفعل العديد من البشر، لكنها ليست نتيجة لمخطط إنساني.»٤ فالتدخل الوحيد الذي يوكله هايك للإنسان هو أن يدع قانون الاصطفاء «الطبيعي» يعمل عمله — وهنا يصير هايك تاريخيًّا اجتماعويًّا بالرغم من نقده للتاريخانية — يعمل عمله بدون حتى أدنى تعديل طارئ على انسيابيته قد يعطل نجاعته. وبالطبع فإن الساحة المثلى لإنتاجية هذا القانون هي السوق وحدها.
يصرُّ هايك على موقفه النقدي من الليبرالية البراغماتية، ومن الليبرالية الأخرى المعدلة أخلاقيًّا كما جاء بها جون راولز. وربما أصبحت الليبرالية التي تصف نفسها بالجديدة، والحاملة لألوية العولمة الراهنة، تستمدُّ مفهمتها المعرفية من هذا المفكر بالذات، من أجل إشادة أيديولوجية سياسية كليانية. هناك ثلاثة مبادئ تحدد الجسم المعرفي (الإبستمولوجي) لنقدية هايك، وتؤسس مذهب الليبراليتية liberalitisme. أولها هو استرداد مفهوم مطلق للحرية لا توفره إلا فردانية لا محدودة، والثاني هو تحييد الدولة لمنع المس بحرية الفرد؛ لأن كل تدخل هو تهديد لأمنه الخاص، وانتقاص من حريته المطلقة. والمبدأ الثالث هو نقل اصطفائية التطورية الداروينية، من مجالها الحيوي إلى الساحة الاجتماعية، أي إن هناك نوعًا من تاريخانية أخرى، أنثربولوجية، تتكفل بالحراك الاجتماعي أفقيًّا عبر آنات الزمن، وعموديًّا داخل الهرمية الاجتماعية، وإن هذه الاصطفائية — وتترجم إلى التنافسية الاقتصادية — هي التي تتكفَّل بإدارة صراع الحريات، وليس المصالح وحدها، وإقامة معادلات التوازن التلقائي بين الأفراد. أما معالجة مشكلة العاجزين عن دخول معارك التنافس تلك أو المتساقطين في محصلاتها، فإن على المجتمع، وليس الدولة مجددًا، أن يتكفل برعاية أحوالهم المعيشية، عن طريق مؤسسات خيرية، تماثل غيرها من المؤسسات الإنتاجية المخصخصة أصلًا. شرط أن يكون هذا «التدخل» لا شأن للسوق به، إنتاجًا وتنظيمًا؛ لأنه يخلُّ بطابع السوق الأصلي المميز، هو التحرك اللاشخصي. فما يرفضه مذهب الليبراليتية هو الاعتراف باجتماعية الحق؛ لذلك فالتضامن الجماعي يعتمد على أريحية الفرد دونما أية إكراهات فوقية، من قبل الدولة خاصة. هكذا تتوقف معالجة الفقر على عطاءات الأفراد، مع تجاهل لكل النقد الفلسفي العريق الموجه ضد هذا النوع من التبرع الطوعي الذي يمس الكرامة الإنسانية، ولا يبني أية نظامية موضوعية لحلول مستقرة ودائمة. فإن استبعاد أية مؤسسة تعتمد مبدأ الحق العام في إعادة التوزيع لبعض الفائض من استحقاقات الأفراد المنتجين، على غير المنتجين، إنما ينكر أن أسباب الفقر ليست فردية بقدر ما هي عائدة إلى تقصير المجتمع نفسه في توفير فرص نجاح عادلة أمام جميع أفراده.
إن إلغاء مبدأ اجتماعية الحق يظل هو القاسم المشترك لمختلف النزعات الليبرالية قديمها وحديثها؛ وبذلك لا يجدد هايك في أساس البنية المعرفية لليبرالية التقليدية، بقدر ما يتدرَّأ وراء إطلاقية الحرية الفردية، بما يقربها من جوهر ميتافيزيقي متعالٍ، مبالغ في الوقت عينه من خطر التدخل في شئون هذه الحرية، وجعله خطرًا على «أمن» الفرد عينه. وهو بذلك إنما يعتمد بصورة غير مباشرة على إدانة الواقع، كما كان قائمًا في ظل الدول الكليانية التابعة للنموذج السوفييتي في أيام هايك نفسه، لكن إلى جانب الاعتراضات على لاأخلاقية هذه الليبراليتية، التي تكرر ذات الاعتراضات المسوقة، قبلها دائمًا، ضد الليبرالية الأنغلو-أمريكية السائدة، فإن هايك اعتقد أنه ربما حقق إضافة برهانية إلى «عقلانية» الليبرالية التقليدية؛٥ وذلك باستخدامه جاهزية المفهمة الخاصة بتطورية داروين في اختراع صيغة جديدة لإبستمولوجيا الليبرالية التقليدية، مما يسمح بإطلاق مصطلح آخر عليها، هو الليبراليتية، لكن هايك لا يتجنَّب في هذه الحركة، النقد المعتاد للمذهب الأصلي، بل يضيف إليه مجمل الاعتراضات المعروفة، على التطورية الحيوية منذ إطلاقها في مجال التأويل الحيوي لداروين، وتطبيقها على المجتمع الإنساني مع سبنسر.

مع كل هذه النوعية من إمكان النقد الموجه إلى مشروع تجديد الجسم المفهومي لليبرالية، بدءًا من راولز وزميلَيه هايك وتوجيك — كما سنعرض لهذا الأخير تاليًا — فإن انتشار ما أصبح يسمَّى بالليبرالية الجديدة بعد انهيار المعسكر الشرقي، إنما يعود إلى ذلك الحدث السياسي غير المتوقع، وهو غياب القوة السياسية القائمة عالميًّا والداعمة للأيديولوجيا المناقضة، أي الاشتراكية، أكثر من كونه مبنيًّا على جاهزية إقناع بمفاهيم، قادرة حقًّا على تبرير تطبيقاتها السياسية والاقتصادية، كما نرى اليوم؛ فقد أمست القوة الدولية التي تناصر العولمة هي برهانها المباشر، أو «تسويغها» الأشد حسمًا للجدل الفكري؛ ولذلك يلحُّ أنصار العولمة على كونها أمرًا واقعًا ومحتومًا، بما يضع حدًّا لجدل التبرير والتبرير المعاكس، ما دام الأمر الواقع هو المسوِّغ الأفعل في هذا الموضوع، وعلى هذا الأساس، فإن الليبرالية الجديدة الممتطية لفرس العولمة، بقدر ما تدعي أنها تضع حدًّا لطوبائية التكامل بين الحرية، والعدالة بمعنى المساواة، فإنها تؤسس لعقيدة الأمر الواقع كنهاية للأيديولوجيا؛ في حين أن القدرة الاستثنائية على الاصطفائية «السحرية» التي تُعطى للسوق وحده، تتطلَّب إطلاق العنان للتطورية بصورتها التلقائية؛ إنها بذلك تُضفي عقلانوية جديدة على حركة السوق، وتجعل المبادرة موكولة لقانون المنافسة المطلقة، الذي برهنت تجربة الرأسماليات خلال القرنَين المنصرمَين على استحالة إطلاقيته؛ لأنه لا يلبث أن تقبض على ناصيته الاحتكارات الكبرى. وهو الأمر الذي تنتهي إليه عولمة الاقتصاد الجديد، كما تبرزه وقائع الاندماجات الحاصلة بين معظم الشركات العملاقة العابرة للقارات، بحيث إنه في نهاية هذا الشوط يئول اقتصاد العالم كله إلى حفنة من المتمولين الخرافيين، الذين يمسكون بالقرارات المصيرية الكوكبية؛ يؤسسون بذلك حكومة المال، أي سلطة الأوليغارشية المطلقة ما فوق الدول جميعها، أو حكومة اللاحكومات وحدها. وهذا ما يعبر عنه فلسفيًّا بكونية المال بديلًا عن كونية الإنسانية الحقوقية. وانتصار الأولى أو إمكانه، واندحار الثانية أو إمكانه كذلك هو موضوع النداء على عودة جديدة للفلسفي السياسي. وهي عودة ليست اختيارية ولا نظرية، لكنها من نسيج أمر واقع آخر يتولَّد ضدًّا على هجمة هذه السيرورة العولمية، وبصورة تلقائية كذلك، وسابقة على التخطيط الإرادوي.

ليس انتهاض إشكاليات الهوية إلا إشارة الفلسفي السياسي العائد، مؤذنًا بالتقاط بعض رموز لما يعتمل في الضمير الإنساني، أو هذا اللاوعي الكوكبي الباحث هو نفسه عن زمنه الفعلي، وضدًّا كذلك على كل العدة الخرافية لما يسمَّى بالزمن الافتراضي — أو المرآوي في مصطلحنا. إن يقظة الهويِّ لدى قبائل الإنسان جميعها، والفاعلة منها خصوصًا، قد يمكن قراءتها فكريًّا على أساس أنها اعتراض كينوني على اغتصاب نهاية التاريخ المنتظرة، كتحقيق للقاء التعددي التنوعي مع كونية محايثة وقابلة للتعامل معها من قبل الشخصيات المفهومية للحضارات، المحكومة أخيرًا بحتمية الانفتاح، وانتهاز، أو ابتكار العلاقات مع هذا الكوني بطريقة الذاتي النسبي، والمنفتح نظاميًّا وواقعيًّا على الكلي لدى كل آخر. وكيف يتفعل هذا الاغتصاب … إنه الاستيلاء على شكلانية الكلي في الكوني، وإخضاعه لحساب أضيق خوصنة، تمثلها سلطوية المال وحدها، وما يعنيه المال من تعارضه الأسي مع الهوي؛ فالمال هو عنصر اللاعنصر، وهو مفهوم اللامفهوم. وهو أعلى أخطار المدنية على جوهرها. ويبلغ اليوم، مع الليبرالية الجديدة، أعنف تهديداته؛ إذ إنه موشك على إنجاز آخر فصل في الجدلية الحضارية، وهو عزل منطق علاقات السلطة بما هي قوة للعنف الخام فحسب، عن بقية خواص القوة القووية، بما هي قوة للعدالة والحرية والحقيقة. وقد أصبحت عملة «العنف الخام»، في عملية الاغتصاب الدهرية هذه، تتصرف على أساس جرعات متصاعدة الكم والكيف، من اندماج السياسة بالمال، من ظاهرة المزيد من «تسيس» المال، و«أمولة» السياسة.

ما وراء لاشخصنة المال تختفي تراثات الشخصنات الاستقطابية للجماعات والأفراد كما للدول، على المدى الأرحب الذي شغلته هذه الشخصنات الاستقطابية، وأنتجت هويات تمييزية ما بين الثقافات؛ فأجهضت بذلك محاولات حضارية كبرى، لتغليب التمايز التنوعي على الاستقطاب التمييزي، ولكن حيوية هذه المحاولات هي التي تواجه، في عصر السوقية الفالتة اليوم، خاتمتها غير السعيدة. بمعنى أن نهاية التاريخ التي يحين تحيينُها الثقافي راهنيًّا، بما هي إنجاز أعلى لكفاحية منطق القوة القووية ضد خَوْصَنة العنف الخام لثمار التاريخ، لا يتم اغتصاب حدثيتها الحتمية فحسب من أرض الواقع، بل يجري، بكل تصميم إرادوي، اجتثاث ذاكرتها كحضور متناوب خلال تجارب الثقافات الكبرى، وقمع ذاكرة حضورها المحتوم راهنيًّا، ووقائع تغييب هذا الحضور الفعلي في وقتٍ واحد.

حينما يتسابق دعاة الليبرالية الجديدة، أو الليبراليتية كما ابتكرها هايك، إلى ادعاء نقل العقلانية من «ميتافيزيقا» الإنسانوية إلى «تلقائية» التطورية المجتمعية، المتمثلة حصرًا في تنافسية السوق، يصير المقصود هو إلغاء تنافسية كلٍّ من الحرية والعدالة على احتياز الحقيقة إلى جانبه ضد الطرف الآخر، أو تكاملًا معه، ومحو تراث هذه الجدلية الكبرى، المؤلِّفة لعقلانية الأسس والمعايير وتغييراتها المتنامية. وهذا ما تدلُّ عليه «نظرية إبطال الإنسان»، تلك النظرية يعاد بناؤها، معرفيًّا أولًا، على أساس تعطيل فعالية المضاهاة ما بين المنظومات الدلالية التي تعطى للأفكار والوقائع، من منطلق التسويغ غالبًا، أو التبرير لمامًا ونادرًا؛ وذلك حسبما تدَّعيه كل منظومة دلالية عادلة من أفضلية تمثيلها للمعنى أو للحقيقة المنشودة، وهي كانت دائمًا ترميزًا لمعنى الإنسان في ذاته. والإشكالية في تجارب هذه المضاهاة المستمرة كانت تنبع من قدرة الفكر على السلب بهدف برهنة الاعتراض؛ والقدرة كذلك على سلب السلب، بهدف مفهمة المغايرة، وابتكار المركب. ولقد قدم تراث الفلسفة السياسية خاصة بروفيلات حادة، متفاضلة ومتكاملة بالثراء البرهاني وإبداع المفاهيم المتراكبة، عن قصص هذه المضاهاة ومآثرها المعرفية وتجاربها التمارسية المتعارضة. وما يمكن اختصاره هنا هو أن نظرية إبطال الإنسان تهدف إلى تعطيل أهم ما اكتسبه الفكر؛ وهو: استطاعته في كل مفترق معرفي، على انتهاض ثقافة المطيعة مع أحداثه الفكروية عينها، كما لو كانت تؤرخ لتمارينه الصعبة على المعرفة، مع الحقيقة وضدها؛ إذ إن محاولة إبطال الإنسان إنما تقوم بالضبط على انتزاع كل هذه الجاهزية المعرفية من لدن الفكر وحامله الوحيد الإنساني، وتلقي بها إلى ميكانية السوق، بحيث لا يتبقى ثمة شاهد ما على المايحدث، الذي يؤول إلى عدم الحدوث، ما دام ممتنعًا — وتلقائيًّا كذلك — عن إنتاج أية مشهديات يمكنها الانتظام خارج شيئية ميكانيته الخاصة.

ليست نظرية إبطال الإنسان حديثة؛ لقد ابتدأت مع بدايات الوعي الفلسفي، وها هي تصل معه إلى نهاياته القصوى. منذ القديم كانت مداهمة الوجود للكائن الإنساني الضعيف، تدفعه إلى أن يعلق مصائره على كل ما ليس إنسانيًّا. كل المختلقات الخرافية ثم الأسطورية، أُعطِيَت قدرات خارقة، تزيد من ضعف الإنسان ورخاصته تجاهها؛ فالتفسير الديني حاول أن يعلل ضآلة الإنسان بما هو أعلى منه كينونة، وحتى إنسانية صاعدًا به إلى أرفع السموات؛ فالإله يتمتَّع بصيغ المبالغة إلى أقصاها في الصفات والمزايا، مقابل ابتلاء الإنسان بأدناها وأقصاها نحو الأسفل. ومع أقصى التطور المعرفي تساقط تفسير الإنسان باللاإنساني، إلى ما هو الأقصى في شيئيته، والأبعد نأيًا واستقلالًا في أواليته، وهو السوق، فمن ذروة الإله إلى هوة السوق وما بينهما من بدائل الإنسان، تارة هي الطبيعة الماوية، ثم الطبيعة الحية كالمجتمع، إلى المدينة ومؤسساتها، كالدولة والطبقة والمدنية نفسها، وكلها وسائط خارجانية، لكنها تغدو مرجعيات للإنسان — ودائمًا من دونه — هذه الذرة اللاشيئية السابحة في محيط الحجوم وكل الأشياء الأخرى، الأكبر والأهم والأفعل.

بين التصعيد السماوي، وتعليله اللاهوتي، والانحدار إلى شيئية السوق وعنفه المالي المطلق، فإن رحلة تأويل الإنسان باللاإنساني دائمًا بلغت الشوط الأقصى، الموائم لتشكيل معطيات التأسيس المعرفي لنظرية إبطال الإنسان. وحين يتجلَّى تميُّز السوق كمرتجع للمرجعيات كلها التي رافقت تأويل الإنسان باللاإنسان، فإن هذه الظاهرة إنما تريح الفكر التداولي من محاولات التوفيق بين أقنومَي الحرية والمساواة تحت طائلة الحقيقة، معلنة بذلك عن انهيار ازدواجية الفلسفي «مع» السياسي، المنشغل بعمليات التوفيق وتجاوزها نحو التلفيق، أو إشهار اليأس من تكرار المحاولات. إذن ليس كالسوق محلًّا أرحب لإشهار المخفي الأعظم طيلة التاريخ، خاصة أن الإشهار عينه أصبح يتمتع بأنجع أولياته مع ثورة الاتصالات وتقنيات الزمن الفعلي (temps réel). وما يُشهرُه في لحظة نهاية التاريخ الراهنة، ليس اليأس فحسب من تقاليد التوفيق أو التلفيق، بين أقنومَي الحرية والعدالة، بل الانتهاء من هذه العلاقة الأقنومية بين جناحَيها، أي التخلُّص من أولويتها المعيارية نفسها كهمٍّ أسي لأحقية مدنية الإنسان بما هي استحقاقه الفريد. إنه إشهار فك الارتباط بين الفلسفي والسياسي، وإلغاء وصلة «المعوية» بينهما، بما يعبر عنه من طلاق محتوم بين السياسة «اليومية» والأخلاق، في التداولية العمومية، الرائجة فكرويًّا ودوليًّا.
لكن «نظرية إبطال الإنسان» لم تعُد تكتفي باحتفالات هذا الطلاق العولمية، بل تنزع إلى إلغاء الطرف الثاني، أي المعياري، وليس إبعاده أو تهميشه فقط، وتعطيل ذاكرته، وذلك بإسقاط إشاراته من أية مشهدية للشأن العام. كأنما لن تأتي نظرية إبطال الإنسان أو تكتمل إلا بعد إنزال حادثة الإبطال عينها في لحم الواقع وعظمه. وعندئذٍ لن يكون مجيئها ذاك كنظرية، سوى مأتم متأخر، وبعد فوات الأوان. ذلك ما تراهن عليه في العمق أيديولوجيا سياسوية تنسجها العولمة، وتنشرها تغطيةً وتسويغًا لإمساكها ببوصلة التوجهات الرئيسية للعلاقات الجيوسياسية في العالم.٦ خلاصة هذا الرهان، هو أن إشهار نظرية إبطال الإنسان إنما يأتي تأكيدًا لواقع، وذلك عكسًا للنظريات الداعية عادة لنماذج تغيير مستقبلية، بحجة أن هذا الواقع لم تعد ثمة حاجة ما إلى تغييره مقدمًا؛ ذلك لأنه لم يعُد له بدائل، فما سيتولد بعده، لن يكون سوى تفعيل له كنتائج، صادرة عنه وحده كمقدمات. ويلاحظ هنا هذا التقصد شبه الخرافي، في إضفاء حتمية أقرب إلى قدرية ميتافيزيقية، بل دهرية أو دهرانية، على سيرورة واقع نهائي واختتامي، ويُرمز له بعنوان أوحد: العولمة. كل ذلك يؤكد أن عصر الأدلجة الأحادية لم ينتهِ مع الحرب الباردة، وأنه ثمة ما هو أدهى من كل كارثيات قرن الأدلجة العسكرية (العشرين)، وهي تلك الأدلوجة الأخرى النامية التي راحت تمنح نفسها سلفًا حقَّ مَنْع بدائلها المستقبلية الجائزة، وليس فقط حق الإجهاز على كل ما سبقها. أليست تلك أسوأ الخاصيات التي ابتنت ورافقت نشوء وانهيار أدلجات التاريخ القريب والبعيد، متمثلة في تبسيط الواقع وإخضاع خضمه اللامحدود إلى وصفات نموذج تأحيدي إرادوي، ويخص دائمًا مصلحة أقلوية جديدة صاعدة إلى مطمح الاستيلاء على العالم، بطريق اختلاق منظومات دلالية، واستخدامها في خوصنة الكليات لحساب الأخصيات، وباسم أوسع التعميمات والتشميليات، بدءًا من أكثر سوابقها الماضوية، والمتمادية إلى أوسع المشهديات العالمية اليوم كما في الأمس، مع الفارق أن أيديولوجيا السوق لا تنظِّر لإبطال الإنسان، بقدر ما تقرره كأمر واقع غير قابل للاعتراض عليه، لانفقاد الأمر الواقع الآخر، الذي لن يعود إمكان تصوره إلا لا واقعيًّا كذلك، وحتى إشعار آخر.
١  J. Rawls, Théorie de la Justice, Seuil.
٢  F. Hayek, Droit, législation et liberté, p. 43.
الكتاب مترجم عن الإنكليزية إلى الفرنسية، وكان صدوره الأول في لغته عام ١٩٧٣م، وهو في ثلاثة مجلَّدات.
٣  K. Popper: La misère de l’historicisme, ed. Plon, Paris, 1957, p. 67.
٤  F. Hayek, Droit, législation et liberté, p. 43.
٥  يتعرَّض المفكر البارز جان بيير دوبوي إلى مناقشة الليبرالية الجديدة، وخاصة ليبراليتية هايك، بصورة شاملة واعية، في كتابه المرجعي في هذا الموضوع:
Jean-Pierre Dupuy: Le Sacrifice et l’Envie. Le Libéralisme aux prises avec la justice sociale, ed. Calmann-Lévy, 1992, pp. 241–291.
٦  يبرز هابرماس من بين فلاسفة العصر كرائد حقيقي لفكرة الجمهورية العالمية، ضدًّا على إكراهات الاعتبارات الجيوسياسية السائدة. وأوضح كتاب له يعرض لهذا الطموح الراهن هو:
Y. Habermas: L’intégration républicaine, Essais de théorie politique, ed. Fayrad.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥