(٢) آمرية التأسيس في المختلف
من الشائع أن نموذج المتحديات الأول وهي أمريكا، أمست تعاني مع الألفية الثالثة، ظاهرة انحسار الرابطة القومية الجامعة للتعدديات، تتضاءل لديها مسافة البعد المعنوي، تنسحب من تحت عباءة الشخصية المفهومية لأمة ما، لتنحصر في أضيق دائرة من حد الإثنية واللغوية أو المناطقية (الجهوية). وتمسي الدولة إطارًا فضفاضًا لشعوب مرتدة، أو مجبرة على الارتداد إلى جذور ذات النفس الأصلية وحدها. وهنا فإن المواطنية تنحلُّ كليًّا إلى الرابطة الاعتبارية وحدها وهي الجنسية، فلا يخفي فلاسفة المتحديات الأمريكان، الصعوبات الناشئة عن مواطنية مهلهلة، لا تجد لها ثمَّة مضمونًا إلا في العمل النفعي البحت؛ أي إن البحث عن هم الالتصاق بالحد المباشر أضاع فرصة التطلع إلى البعد، إلى المعنى، أو الغائية المشتركة للمتحد الأعظم الذي ترجع إليه مختلف العائلات الوطنية، أو الإنسانية ملء العالم؛ فالتوطين الأضيق في المساحة الإرثية وحدها، يبدِّد أحلام التحليق، وإعادة التوطين مرتفقًا بحصة واعية من ترحال التحليق عينه. تنتهي الأمركة إلى تصدير ليبرالية الفائض الربحي وحده، كعنوان لإعادة توطين الإنسان في أيديولوجيا العولمة.
لقد تحكَّمت المشاريع الجيوسياسية في مولد القومويات الغربية خلال القرنَين التاسع عشر والعشرين. وهي نفسها كانت منطوية على معيارية النمذجة التفاضلية، بحيث كانت غير قادرة إلا على إنتاج تعددية تخاصمية بين الهوايا التصنيمية. وعند ذلك فإن الرومانسيات الإبداعية في حقل التفلسف والفن، لم تستطع أن تقدم، في حقل الصراعات الأقوامية والعنصرية، إلا النمذجيات الموهومة عن كل هوية متقبلة لذاتها كليًّا، وطاردة لغيرها إطلاقًا. تلك هي الهوية الاختلافية القائمة على التسليم لا بواقع الاختلاف كتنوع في الشخصيات المفهومية بين الأمم، ولكنه هو الاختلاف المؤكد ﻟ «أحقية» الذات والطارد لغيرية الآخر، وحقه في الاختلاف على طريقته؛ فالمختلف في هذا السياق ليس هو المتنوع، ولكنه المقصي خارج «النوع» المقبول. إنه النوع المرآوي العاكس لخصائص العنصر الأبيض، ونخبته المستحقة لاحتلال قمة هرمه وحدها، كالنازية الحصرية لقمة العرق الأبيض الأوروبي، في السلالة الجرمانية، المصفاة من كل خلط أو مزج بالعروق الأخرى، حتى من داخل النوعية البيضاء الشقراء؛ فالمشروع السياسي للهوية التصنيمية سوف يجسده نموذج الدولة الأمة فوق الجميع، أو دولة الشعب المختار، كالصهيونية غير المكتفية بإنشاء دولتها إسرائيل، لكنها هي أيديولوجيا الهوية المنتشرة في كل مكان، أو المتغلغلة وراء أنظمة الدولة/الأمة، الغربية، من أوروبا إلى أمريكا. ولعل الصهيونية هي الأيديولوجيا الحصرية الوحيدة المتبقية، بعد انقضاء الدول المؤدلجة الكبرى، التي لا يظلُّ مشروعها السياسي متوقفًا على إقامة الدولة المجسدة لهويتها فقط، بل تعطيه تشكيلة الحزب العقائدي ذي الانتشارية العالمية، والمتشبث باستراتيجية التغلغل داخل مؤسسات الدول الكبرى، وأجهزتها الاجتماعية وقواها الاقتصادية، ومخططاتها الثقافية.
وعلى هذا الأساس فالمسرح العالمي، ومع الألفية الثالثة، يشهد انبعاث الأدلجة العنصرية على حوامل دينية، بدءًا من الصهيونية، كمشروع سياسي لتصنيم الدين اليهودي في هوية الأمة المسيطرة، ما فوق عصر الدولة/الأمة المرشح للزوال، ولكن المنبعث مجددًا بطريق التصنيم الديني. وقد أمست عودة الفلسفي السياسي تواجه تجديد الشكل الإمبراطوري لتصنيم الهوية الدينية، الزاحف ما فوق الدول القومية، وداخل أبنيتها المجتمعية؛ فالنموذج الصهيوني باعث فعال على اجتذاب البروتستانتية، وتنميط تحالف موضوعي مع الأمركة، يقابله تحول الإسلام إلى مشروع سياسي عالمي كذلك، وتحركه استراتيجية المعارضة الجذرية ذات الصيغة الدفاعية، ضد الصهينة المتأمركة لمساحة القوميات الآسيوية الأفريقية. وأما الغَرْبَنة فتجد نفسها مضطرة لدفن تاريخها الإمبريالي، ومقاومة في وقت واحد، لتحدي الأمركة لها؛ متهيبة من تحوُّل اتحادها الأوروبي إلى قارة محكومة أولًا بفائض من بنية جيو-استراتيجية تنافسية مع الأمركة، ومتناقضة مع مشروعها الثقافي الأصلي ذي المطامح الجمهورية، في وقت واحد، ومتوجسة من جنوبها العربي الإسلامي كذلك، بصورة خاصة.
هجانة الدولة الأمة العالمثالثية
في حين أن انفراط التصنيم الهووي في العالم الثالث بخاصة، ومنه المجال العربي والإسلامي، لا يزال يتعلق بالنمذجة التفاضلية للانتماءات الأقوامية بل القبلية. ولم يستطع مفهوم المواطنة التقدم على الديني والإثني واللغوي وحتى المحلي، وما دام الفرد لم يَفُز بعدُ بقوام استقلاله المدني والإنساني؛ فالجمعاني، تحت أية مرجعية من بقايا الأصول المتوارثة، قد يجدد سلطته اللاواعية عبر أية التصاقات بعناوين حداثوية، كالتسميات الحزبية أو الثقافية. كل ذلك يجري في ظل نوعية خاصة من الدولة/الأمة، المستحدثة في حقبة الاستعمار الغربي، والمستمرة طيلة تقلبات فترات التحرير، وبناء الاستقلال الوطني، مع انطلاق صراعات العنف الجمعاني الداخلي، المنظم داخل الجيوش بخاصة، أو المقنع بالتيارات الأيديولوجية المستحدثة والمجلوبة بعدوى الانتشار العالمي، والذيوع الإعلامي للأفكار وأنماط الصراعات السياسية الوافدة.
في هذا السياق يمكن التفكير عربيًّا أن نموذج الدولة/الأمة، كان حدثًا صدفويًّا ولا يزال. وتاريخه مرتبط بالغزو الاستعماري المباشر. فليس هو بالوليد التاريخي النابع من تطور الجماعات العربية والإسلامية المتناثرة في مدن الضواحي الصحراوية أو السواحل البحرية، النهرية، ولقد حملت معظم الدول المستحدثة أسماء الجهات الجغرافية أو الإقليمية، التي رسمتها لها خارطة الغزاة الاستعماريين. ومع ذلك قامت هذه السلطة الطارئة بارتداء الخصائص الوطنية بعد التحرر السياسي، ومارست طابع الإرادوية الخالصة لبناء أقطارها، بحسب أساليب التنمية الوافدة مع هيئات الأمم المتحدة، عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، فيمكن اعتبار موجة الدولة/الأمة التي سادت مختلف أقطار آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، خلال مرحلة التحرر الوطني، بمثابة الجيل الثاني المعاصر، من سلالة الحداثة الدولتية، المؤسَّسة أصلًا في صلب التطور الغربي. وفي حين استطاعت موجة الدولة/الأمة تمزيق الهوية القومية للعرب مرحليًّا أو موقتًا، وحاولت أن تبني من الجنسيات الجغرافية ثقافوياتٍ جهوية، متطلعة إلى تثبيت أشباه كيانات اعتبارية، منغلقة على أنماط سلطاتها الحاكمة وغالفة لحدود شعوبها الإنسانية والمجتمعية فيما بينها، فإنها تكون بذلك قد عكست حركة التطور الهووي الغربي. فسارت زمنيًّا، أو أُجبرت على السير، من هُوي الأمة الواحدة، العضوي والتاريخي، إلى صيغة الجنسيات الجغرافية، وتفريخ أقواميات جهوية منها فحسب، أو اعتبارية ذات هيكليات دستورية وقانونية متفاصلة عن بعضها، ومتمايزة بسلطات وحكومات معترف بها من قبل المجتمع الدولي. ومن هذا الاعتراف الخارجاني تستند قطريات الدولة/الأمة نوعًا من مشروعية سياسوية، مفتقرة أصلًا إلى مضامين الحداثة المواطنية بمكتسباتها المجتمعية النضالية الثلاثة، ونعني بها الحقوق المدنية، فالسياسية، فالاجتماعية. فالدولة/الأمة العالمثالثية، والعربية في مقدمتها، ابتدأَت بالاستقلال السياسي الدولاني، وتوقَّفت عنده؛ استعصى عليها التقدم من مكسب حرية الدولة تجاه الغير، إلى حريات الأفراد تجاه دولتهم، وفيما بينهم. وعلى هذا الأساس لا يمكن المضاهاة بين الشخصية المفهومية لشكل الدولة/الأمة السابقة غربيًّا، وتلك التي عجزت عن إنتاجها شكلانية الجيل الأخير من نموذج الدولة/الأمة العالمثالثية، والعربية على الخصوص.
إن صيغة عالم عربي، متوزع بين أكثر من عشرين كيان دولتي، تكرر ذات نموذج شكلانية الدولة/الأمة سياسويًّا، بدون مضمون المواطنة المدنية ومكتسباتها من الإنسانية الحقوقية. ما أدى إلى تضاعف التعارض البنيوي بين الانتماء التلقائي إلى هويٍّ حضاري واحد، وبين إكراه التبعية لثقافويات جهوية، ممهورة بطابع أنظمة التسلُّط للجماهير وتبعيتها للتسلط السياسوي على القمم القطرية، المرتدة إلى إفراز عنصريات القومويات المحلية، وهذه بدورها تفرِّخ أضيق العصبيات الأهلية والعقائدية، من ديناويات وطائفيات. فالانغلاق نحو الأضيق في عصر الانفتاحات الأوسع والأكبر، هو المميز الوحيد لتعددية ثقافوية سالبة، وعادمة لإمكانيات التنوع المتكامل.
إن مأزق الجيل العالمثالثي مع نموذج الدولة الأمة، لا يتمثَّل فقط في الأصل اللاتاريخي الذي تحدَّرت منه معظم الكيانات الدولتية القائمة منذ عهود الاستعمار الغربي، والمستمرة إلى المرحلة الموصوفة بنشأة الاستقلالات الوطنية، لا يتأتَّى المأزق كذلك فقط من غربة هيكلة الدولة/ الأمة عن السياق التاريخي للوضع اللاهووي، واللاقومي الذي كانت عليه الأمم المستتبعة داخل إطار الإمبراطورية اللاهوتية المتحدرة من القروسطية والسابقة على تشكيل الدولة الحديثة إجمالًا؛ وهي السلطنة العثمانية، بالنسبة للحالة العربية، بل إن كل ذلك قد يشكل أسس المأزق التكويني لدول الكيانات المتقاسمة للأمة التاريخية؛ الخارجة من إطار الإمبراطورية اللاهوتية أولًا، والمتحررة ثانيًا من حقبة الاحتلال الغربي حديثًا، لكن المأزق الحقيقي هو في هذا التكوين الالتصاقي لقوام الأمة المحرومة من دولتها الوطنية المستقلة عصورًا طويلة من الانحطاط الحضاري؛ التصاق بالتحقيب الغربي الذي تكونت عبره تاريخانية الدولة/الأمة، واجتازت عبره رحلة الانتقالات أو القطيعات، ما بين عصور الهوايا المفارقة (الغيبية)، ثم الهوايا التصنيمية (الرومانسية)، ثم الهوايا الأيديولوجية الكليانية، وكلها أعمار حقيقية لتحولات الدولة/الأمة، الصانعة لمسلسل من الشخصيات المفهومية لمجتمعاتها، وصولًا أخيرًا إلى عصر المدنية الوطنية في ظل الرعاية الشاملة.
لكن نموذج الدولة/الأمة في جيلها العالمثالثي المستحدث، والعربي والإسلامي على الخصوص، يبلغ راهنيًّا ذروة مأزقه التكويني. ولا يتجلى ذلك فقط في فشل تجربته الممتدة طيلة النصف الثاني من القرن العشرين، وعجزه عن إنتاج شخصيته المفهومية الواعية لإشكالية الوصل والفصل مع تحقيب المشروع الثقافي الغربي، بل في تحول ارتدادي لنموذج الدولة/الأمة نحو تَصْنَموية السلطة الفوقية، وانصبابها في قَوْلَبة الإرادوية المطلقة، المنفصلة رأسيًّا عن شعوبها، وأفقيًّا عن راهنية العصر العالمي حولها؛ فهي أقرب ما تكون إلى إطلاقية الملكيات غير الدستورية السابقة على الشروع في إنجاز التحقيب الحقوقي، حسب إيقاع الحقوق المدنية فالسياسية فالاجتماعية. بل عاشت نمذجة الدولة/الأمة هذه، على رأسمال ترميزي مكتسب من جدلية التحرر/التبعية تلقاء القوى السياسية الدولية، والغربية ثم الأمريكية ثم الصهيونية الإقليمية الوافدة، والتي كان بعضها، من الحقبة الأوروبية، هو صاحب هذا النمط من اصطناع الدولة الهجينة، ما جعلها محتاجة إلى اختراع هوايا ذات صبغة جغرافية جهوية خالصة، محتاجة إلى تبرير سلطاتها المطلقة المستمدة من القوى العسكرية أو القبلية أو الطائفية، بمشروعية الأمر الواقع المفروض وحده، لكن هجانة هذا النمط من الدولة المفترض أنها صانعة أممها الإقليمية الجديدة، تقف تمامًا على طرف نقيض، في عصر الهُوي النقدي، مع توجُّه الدول القارية، مثل أوروبا وأمريكا، نحو صيغة الوحدة القائمة على سرعتَين: الاعتراف بالدولة القومية وخصوصياتها من جهة، وبناء الاتحاد الدستوري الشامل لتعددياتها الثقافوية. في حين أن الدولة العربية القطرية تجيء ضدًّا على الوحدة التلقائية للأمة التاريخية من جهة، وتعمل على إفراز أقواميات الأقطار المتفاضلة المتناحرة. ما يتعارض كذلك في الوقت نفسه مع حركة الدولة العصرية الآتية من تعددية الأقوام التاريخية، المتفاصلة والمتمايزة ما بين موروثاتها، ولكن المتجهة نحو المتحدات الدستورية الكبرى، تحت إيقاع الانتماء المتناظر إلى نفس التحقيب المنتج للحداثة السياسية، والمحقق لأفضلية المشاركة في إنضاج ثمرات المدنية وإبداعية التمتع بها، لأفضليتها تلك على ميراث الهوية التصنيمية ذات الأصول العرقية فحسب.
سؤال المدينة عن الأخلاق
يمكن اعتبار نظرية الثقافويات التعددية، الصاعدة راهنيًّا في كندا والولايات المتحدة، نوعًا من تجاوز الشكل التصنيمي للهوية الأمريكية؛ فهي تحاول أن تحتلَّ ريادة ما بعدية للأمركة التقليدية، بعد أن دأبت هذه الأمركة على طمس مجتمع الخلائط القومية والعرقية، على مستوى السلطة أو النظام العام التأحيدي، مع الاعتراف به على المستوى السكاني فحسب، ثم إعادة إخضاعه لقانون التنميط السلوكي، ما يعني إعادة تطويع مجتمع الخلائط للنمذجة بدون نموذج نهائي. في حين أن الثقافوية التعددية تحاول أن تحرر الخليط من هذه الهوية الفوقية. وتدفع بفكرة مواطنة الأرض، المكان، بدلًا من مواطنة التماثلية تحت سلطة النمطية بدون نمط نهائي. وهكذا يغدو انفراط الهوية التجريدية غاية للتعددية الثقافوية. والمقصود من الهوية التجريدية هي تلك التي تفرض على الهويات الإثنية داخل مجتمع الخليط، متجاهلة الأصول الإنسانية المباشرة لكل جماعة ثقافية وعنصرية؛ فالثقافوية التعددية تنطلق من واقع اللاعدالة في توزيع الاعتراف بتفرع الهويات القاعدية، حسب شخصياتها الاعتبارية، وما تقدره كل هوية إثنية أو ثقافوية لذاتها، من استحقاق أخلاقي إنساني، يحفظ لها تمايزها بالخصوصية الثقافية ضد استبداد التمييز العمومي. ها هنا يبرز الرهان الأعمق للهوية النقدية، وهو إعادة طرح مسألة الهُوي على صعيد أنطولوجي حداثوي، يستبدل لغة الماهويات الميتافيزيقية والقبلية، المتفاصلة والمتصارعة أبديًّا، بلغة الاستحقاقات الأخلاقية؛ فيلتقي من جديد الفلسفي السياسي بالأخلاقي، وتمارس الهويةُ النقدية إشكاليةَ هذا اللقاء بما يعنيه من استحضارٍ لثقافة العدالة كمصدر أوحد لكافة المعايير.
مع كل هذه النوعية من إمكان النقد الموجه إلى مشروع تجديد الجسم المفهومي لليبرالية، بدءًا من راولز وزميلَيه هايك وتوجيك — كما سنعرض لهذا الأخير تاليًا — فإن انتشار ما أصبح يسمَّى بالليبرالية الجديدة بعد انهيار المعسكر الشرقي، إنما يعود إلى ذلك الحدث السياسي غير المتوقع، وهو غياب القوة السياسية القائمة عالميًّا والداعمة للأيديولوجيا المناقضة، أي الاشتراكية، أكثر من كونه مبنيًّا على جاهزية إقناع بمفاهيم، قادرة حقًّا على تبرير تطبيقاتها السياسية والاقتصادية، كما نرى اليوم؛ فقد أمست القوة الدولية التي تناصر العولمة هي برهانها المباشر، أو «تسويغها» الأشد حسمًا للجدل الفكري؛ ولذلك يلحُّ أنصار العولمة على كونها أمرًا واقعًا ومحتومًا، بما يضع حدًّا لجدل التبرير والتبرير المعاكس، ما دام الأمر الواقع هو المسوِّغ الأفعل في هذا الموضوع، وعلى هذا الأساس، فإن الليبرالية الجديدة الممتطية لفرس العولمة، بقدر ما تدعي أنها تضع حدًّا لطوبائية التكامل بين الحرية، والعدالة بمعنى المساواة، فإنها تؤسس لعقيدة الأمر الواقع كنهاية للأيديولوجيا؛ في حين أن القدرة الاستثنائية على الاصطفائية «السحرية» التي تُعطى للسوق وحده، تتطلَّب إطلاق العنان للتطورية بصورتها التلقائية؛ إنها بذلك تُضفي عقلانوية جديدة على حركة السوق، وتجعل المبادرة موكولة لقانون المنافسة المطلقة، الذي برهنت تجربة الرأسماليات خلال القرنَين المنصرمَين على استحالة إطلاقيته؛ لأنه لا يلبث أن تقبض على ناصيته الاحتكارات الكبرى. وهو الأمر الذي تنتهي إليه عولمة الاقتصاد الجديد، كما تبرزه وقائع الاندماجات الحاصلة بين معظم الشركات العملاقة العابرة للقارات، بحيث إنه في نهاية هذا الشوط يئول اقتصاد العالم كله إلى حفنة من المتمولين الخرافيين، الذين يمسكون بالقرارات المصيرية الكوكبية؛ يؤسسون بذلك حكومة المال، أي سلطة الأوليغارشية المطلقة ما فوق الدول جميعها، أو حكومة اللاحكومات وحدها. وهذا ما يعبر عنه فلسفيًّا بكونية المال بديلًا عن كونية الإنسانية الحقوقية. وانتصار الأولى أو إمكانه، واندحار الثانية أو إمكانه كذلك هو موضوع النداء على عودة جديدة للفلسفي السياسي. وهي عودة ليست اختيارية ولا نظرية، لكنها من نسيج أمر واقع آخر يتولَّد ضدًّا على هجمة هذه السيرورة العولمية، وبصورة تلقائية كذلك، وسابقة على التخطيط الإرادوي.
ليس انتهاض إشكاليات الهوية إلا إشارة الفلسفي السياسي العائد، مؤذنًا بالتقاط بعض رموز لما يعتمل في الضمير الإنساني، أو هذا اللاوعي الكوكبي الباحث هو نفسه عن زمنه الفعلي، وضدًّا كذلك على كل العدة الخرافية لما يسمَّى بالزمن الافتراضي — أو المرآوي في مصطلحنا. إن يقظة الهويِّ لدى قبائل الإنسان جميعها، والفاعلة منها خصوصًا، قد يمكن قراءتها فكريًّا على أساس أنها اعتراض كينوني على اغتصاب نهاية التاريخ المنتظرة، كتحقيق للقاء التعددي التنوعي مع كونية محايثة وقابلة للتعامل معها من قبل الشخصيات المفهومية للحضارات، المحكومة أخيرًا بحتمية الانفتاح، وانتهاز، أو ابتكار العلاقات مع هذا الكوني بطريقة الذاتي النسبي، والمنفتح نظاميًّا وواقعيًّا على الكلي لدى كل آخر. وكيف يتفعل هذا الاغتصاب … إنه الاستيلاء على شكلانية الكلي في الكوني، وإخضاعه لحساب أضيق خوصنة، تمثلها سلطوية المال وحدها، وما يعنيه المال من تعارضه الأسي مع الهوي؛ فالمال هو عنصر اللاعنصر، وهو مفهوم اللامفهوم. وهو أعلى أخطار المدنية على جوهرها. ويبلغ اليوم، مع الليبرالية الجديدة، أعنف تهديداته؛ إذ إنه موشك على إنجاز آخر فصل في الجدلية الحضارية، وهو عزل منطق علاقات السلطة بما هي قوة للعنف الخام فحسب، عن بقية خواص القوة القووية، بما هي قوة للعدالة والحرية والحقيقة. وقد أصبحت عملة «العنف الخام»، في عملية الاغتصاب الدهرية هذه، تتصرف على أساس جرعات متصاعدة الكم والكيف، من اندماج السياسة بالمال، من ظاهرة المزيد من «تسيس» المال، و«أمولة» السياسة.
ما وراء لاشخصنة المال تختفي تراثات الشخصنات الاستقطابية للجماعات والأفراد كما للدول، على المدى الأرحب الذي شغلته هذه الشخصنات الاستقطابية، وأنتجت هويات تمييزية ما بين الثقافات؛ فأجهضت بذلك محاولات حضارية كبرى، لتغليب التمايز التنوعي على الاستقطاب التمييزي، ولكن حيوية هذه المحاولات هي التي تواجه، في عصر السوقية الفالتة اليوم، خاتمتها غير السعيدة. بمعنى أن نهاية التاريخ التي يحين تحيينُها الثقافي راهنيًّا، بما هي إنجاز أعلى لكفاحية منطق القوة القووية ضد خَوْصَنة العنف الخام لثمار التاريخ، لا يتم اغتصاب حدثيتها الحتمية فحسب من أرض الواقع، بل يجري، بكل تصميم إرادوي، اجتثاث ذاكرتها كحضور متناوب خلال تجارب الثقافات الكبرى، وقمع ذاكرة حضورها المحتوم راهنيًّا، ووقائع تغييب هذا الحضور الفعلي في وقتٍ واحد.
حينما يتسابق دعاة الليبرالية الجديدة، أو الليبراليتية كما ابتكرها هايك، إلى ادعاء نقل العقلانية من «ميتافيزيقا» الإنسانوية إلى «تلقائية» التطورية المجتمعية، المتمثلة حصرًا في تنافسية السوق، يصير المقصود هو إلغاء تنافسية كلٍّ من الحرية والعدالة على احتياز الحقيقة إلى جانبه ضد الطرف الآخر، أو تكاملًا معه، ومحو تراث هذه الجدلية الكبرى، المؤلِّفة لعقلانية الأسس والمعايير وتغييراتها المتنامية. وهذا ما تدلُّ عليه «نظرية إبطال الإنسان»، تلك النظرية يعاد بناؤها، معرفيًّا أولًا، على أساس تعطيل فعالية المضاهاة ما بين المنظومات الدلالية التي تعطى للأفكار والوقائع، من منطلق التسويغ غالبًا، أو التبرير لمامًا ونادرًا؛ وذلك حسبما تدَّعيه كل منظومة دلالية عادلة من أفضلية تمثيلها للمعنى أو للحقيقة المنشودة، وهي كانت دائمًا ترميزًا لمعنى الإنسان في ذاته. والإشكالية في تجارب هذه المضاهاة المستمرة كانت تنبع من قدرة الفكر على السلب بهدف برهنة الاعتراض؛ والقدرة كذلك على سلب السلب، بهدف مفهمة المغايرة، وابتكار المركب. ولقد قدم تراث الفلسفة السياسية خاصة بروفيلات حادة، متفاضلة ومتكاملة بالثراء البرهاني وإبداع المفاهيم المتراكبة، عن قصص هذه المضاهاة ومآثرها المعرفية وتجاربها التمارسية المتعارضة. وما يمكن اختصاره هنا هو أن نظرية إبطال الإنسان تهدف إلى تعطيل أهم ما اكتسبه الفكر؛ وهو: استطاعته في كل مفترق معرفي، على انتهاض ثقافة المطيعة مع أحداثه الفكروية عينها، كما لو كانت تؤرخ لتمارينه الصعبة على المعرفة، مع الحقيقة وضدها؛ إذ إن محاولة إبطال الإنسان إنما تقوم بالضبط على انتزاع كل هذه الجاهزية المعرفية من لدن الفكر وحامله الوحيد الإنساني، وتلقي بها إلى ميكانية السوق، بحيث لا يتبقى ثمة شاهد ما على المايحدث، الذي يؤول إلى عدم الحدوث، ما دام ممتنعًا — وتلقائيًّا كذلك — عن إنتاج أية مشهديات يمكنها الانتظام خارج شيئية ميكانيته الخاصة.
ليست نظرية إبطال الإنسان حديثة؛ لقد ابتدأت مع بدايات الوعي الفلسفي، وها هي تصل معه إلى نهاياته القصوى. منذ القديم كانت مداهمة الوجود للكائن الإنساني الضعيف، تدفعه إلى أن يعلق مصائره على كل ما ليس إنسانيًّا. كل المختلقات الخرافية ثم الأسطورية، أُعطِيَت قدرات خارقة، تزيد من ضعف الإنسان ورخاصته تجاهها؛ فالتفسير الديني حاول أن يعلل ضآلة الإنسان بما هو أعلى منه كينونة، وحتى إنسانية صاعدًا به إلى أرفع السموات؛ فالإله يتمتَّع بصيغ المبالغة إلى أقصاها في الصفات والمزايا، مقابل ابتلاء الإنسان بأدناها وأقصاها نحو الأسفل. ومع أقصى التطور المعرفي تساقط تفسير الإنسان باللاإنساني، إلى ما هو الأقصى في شيئيته، والأبعد نأيًا واستقلالًا في أواليته، وهو السوق، فمن ذروة الإله إلى هوة السوق وما بينهما من بدائل الإنسان، تارة هي الطبيعة الماوية، ثم الطبيعة الحية كالمجتمع، إلى المدينة ومؤسساتها، كالدولة والطبقة والمدنية نفسها، وكلها وسائط خارجانية، لكنها تغدو مرجعيات للإنسان — ودائمًا من دونه — هذه الذرة اللاشيئية السابحة في محيط الحجوم وكل الأشياء الأخرى، الأكبر والأهم والأفعل.
الكتاب مترجم عن الإنكليزية إلى الفرنسية، وكان صدوره الأول في لغته عام ١٩٧٣م، وهو في ثلاثة مجلَّدات.
Jean-Pierre Dupuy: Le Sacrifice et l’Envie. Le Libéralisme aux prises avec la justice sociale, ed. Calmann-Lévy, 1992, pp. 241–291.
Y. Habermas: L’intégration républicaine, Essais de théorie politique, ed. Fayrad.