حول نظرية الجسد العاشق وتأويلاته
بين بَدْئية الجسد وبدائية الجسد
لماذا تغدو جميع موضوعات العالم قابلة للدرس والتحليل والمَوْضَعة الرقمية إلا أقرب المساحات إلينا، وهي مساحة جسدي التي أنا منها، مجرد حارس فضائي معلق فوقها في الفراغ. فليس إذن ما هو أصعب من أن أعرف نفسي، إلا أن أعرف جسدي؛ لا بد من قيام سقراط جديد للألفية الثالثة، يتيه في شوارع مدنها الحديدية مطلقًا شعاره الاختلافي: أيها الإنسان، اعرف جسدك بجسدك. لكن العبارة غير سليمة، وقد تكون متناقضة منطقيًّا. إذا صح الشعار السقراطي العريق: اعرف نفسك بنفسك، فلا سبيل أن أعرف جسدي بجسدي، إلا إذا تخلله الأنا، أو الوعي، أو الحس بمعناه الشمولي. أن أتفكَّر الجسد، فهذا دليل أن الجسد لا يمكنه أن يعرف نفسه إلا بما هو غير نفسه. وقد يكون هذا الغير هو من نوع الأقنوم المعنوي: الإنسان مثلًا أو وعيه وعقله؛ فالجسد قد يكون موضوع تفكر من قبل صاحبه، لكنه لا يكون تفكر ذاته. ها هنا تترسخ المعضلة الأساس: فأنا الذي لا شيء يمكن أن يجسمني ويعطيني ثمة قوامًا على هذه الأرض إلا جسدي، لكنه لا يعنيه شيء إن كنت أتفكره أو لا أتفكره.
كل تلك التأملات الموصوفة بالفلسفية، ومعها أو بعدها، كل التوصيفات العلمية والطبية والتشريحية والتجميلية … إلخ إنما تحدث وتقع وتتسجل في غياب جسدي. أليس هو ركيزة وجودي، ومع ذلك فإنه هو المنسي الأكبر تحت جُبَّتي. ولا يمكن اعتبار إشارات حاجاته الأولية من الطعام والشراب والنوم والمرض والإجهاد والمتعة، إلا من قبيل التذكير بالجسد الآلة، أو الفرس التي كنت أمتطيها جاهليًّا، أو السيارة التي تحملني راهنيًّا. ألست أربأ إذن أن يكون «هذا» هو جسدي؛ فالمسألة أن الأجهزة العضوية والوظيفية التي ينحل إليها الجسد، قد تؤمن ماديته وحياته، لكنها لا تعبر ياء النسبة هذه بين الجسد وجسد-ي. هذه الوظائف، على ضرورتها القصوى، وماديتها المطلقة، لا تدخل في تأسيس علاقتي القبلية بجسدي، وصفتها بالقبلية لا ترفعها إلى مصاف التجريد، بل تحملها عمق الحالة الكينونية التي تمثلها ياء النسبة تلك. إنها مجرد حرف، لكنه الحرف الذي يحمل عبء الهوية، ويظل مع ذلك خارجانيًّا عما تعنيه كهوية. حتى إن الأمر يبدو على العكس، إذ إنها تثبت اختلافي أكثر من هويتي. وربما احتاجت الهوية كيما تكون عين ذاتها، إلى ياء النسبة بصورة قبلية دائمًا وسباقة على كل قبلي. ما تأمر به ياء النسبة في جسد«ي» يفترض اختلافي السابق على تأكيد الانتساب. فما الحاجة إلى الانتساب إذا لم يكن ثمة تخالف بين ما أنا عليه، وما أصير إليه بعد أن أكتسب تأكيدي لشيء آخر هو الجسد الذي يصير جسدي. كما لو أن الجسد واقع دائمًا على مسافة من أنا الهوي. وإذ أشدد على القول إنني — أنا — هوي ذاتي، فلا أكون مضطرًّا إلى استحضار جسدي. حتى عندما أعكس سبابتي على صدري صارخًا: إنني أنا، أنا نفسي، فما أربت عليه من لحم صدري أو عظمه، لا ينشئ أسًّا في نص عبارتي. ليس ثمة لغةٌ تعتبر أن إبراز الجسد ضروري لإثبات الهُوية، سواء في التأشير أو التعبير. لا يخطرن على بال أحد عندما يتحدث عن شخص، أنه يقصد قوامه المادي، إلا إذا كان مطالبًا بتعداد ملامحه، كما أنه ليس من نحوٍ يعتبر أن الجسد هو من نوع الضمير الحاضر الغائب؛ فهو شيء خارج الهمِّ التعبيري، والسوق اللغوي. ولا يحتل أكثر من لفظه عند ورود مناسبته فحسب.
القول: أنا جسدي، فضلًا عن غرابته، وعدم قابليته للتداول اليومي، فكأنه يستحضر غائبًا، يأتي بما لا تفترضه مخاطبات الناس لبعضهم ملء الحياة اليومية. هذا فضلًا أن التأكيد الذي تنطوي عليه عبارة: أنا جسدي، يبدو لا لزوم له، وهي من التأكيدات التي لا تضيف جديدًا، بل هي تحصيل حاصل، إن لم تدفع بالمستمع لها إلى شيء من الهزء؛ فإن ديكارت عندما اهتدى إلى مبدأ التفكير كأساس لبرهان الوجود، لم يخطر بباله أن ينظر إلى المرآة أمامه، ليرى جسده قائمًا هناك قبل أي قول أو حتى أي تفكر، لكن المسألة ليسَت هي في إثبات وجودي كجسد، بقدر ما هو كإنسان، كأنما الإنسان لا يختصره جسده، ولا يدل عليه. فهذا الجهاز العضوي المادي الحار المنتصب هنا، لا يشرع في اكتساب إنسيته إلا على حساب ماديته. ولقد أصبحت هذه الحالة عادية لدرجة نسيانها الكامل؛ فالكوجيتو لا يتناسى الجسد كقاعدة للأنا أفكر فقط، بل يعلن ضمنيًّا عن ضديته له، هكذا: أنا لا أفكر إلا بمدى نسياني لماديتي.
هذه اللفظة الكبرى: الوجود، قد تعني كل شيء ما عدا بداهة الجسد، بل ربما لكون الجسد هو من بداهة الوجود، فإنه لا حاجة للإعلان عنه، لكن نص الكوجيتو المعنوي يرفض هذه البداهة أصلًا، بل لا يمكنه أن يطلق هذه المعيارية الغالية على العقلانية الكلاسيكية — أي البداهة — على شيء ما كالجسد مثلًا. ولقد كان همُّ الكوجيتو الأول التوصل أساسًا إلى إرساء علاقة التوازي المنجز بين التفكر والتوجد، بما يحتم مقايسة بداهة الأول (التفكر) بذاته، كمعادل لفعل التوجد، بطريق العلاقة المعيارية الأساس: وهي انبثاقة البداهة ما بين حدَّي التفكر والتوجد، بما يجعلهما حدًّا واحدًا، وتضامنيًّا بين طرفَي الحد الواحد. وهذه الإبستيمية أو المعلومية المشكلة للعقلانية الكلاسيكية لحداثة القرن الثامن عشر، قد جاءت ضدًّا على إبستيمية فجر الفكر الإغريقي السابق للأفلاطونية. ذلك أن أصل التفكر مع كلٍّ من بارمنيد وهيراقليط معًا، إنما يرجع إلى تولُّد الحس الدرامي بمداهمة الكونية، على حامل من المكان الكوسمولوجي نفسه، بدءًا من موقعية المادوية الجسدية للإنسان المفكر، المأخوذ بهول الكونية حوله، ولصق حواسه ووعيه.
ما أنتزعه من وساعة الهول الكوني حولي، هي حصتي الجسدية من مكانيته اللانهائية. فلست لأتخلَّى عن جسدي، قريني، وهو كل ما يتيح لي صلة ما بالقرين الكوني الذي لا يمكنني أن أنسبه إليَّ، وإن كان قرينًا يصحبني ويداهمني، ويدفع بي أكثر فأكثر إلى الاحتماء منه بقوقعة جسدي. وما القلق الميتافيزيقي إلا من ذلك الأصل الدرامي، هذا الرعب الشمولي من المداهم الكوني، المهدد كل لحظة باستلاب قريني الجسدي، حصتي الصغرى من المكانية اللامحدودة حولي؛ لذلك قيل إن أصل التفكر هو رعب الموت؛ لأنه يحرمني من حصتي من مكانية العالم، يفصلني ثانية عن القرين الآخر، الكون، بموت قريني الخاص: جسدي. إن جسدي هو علة وجودي، الذي يصير إلى غائية فنائي. ومع ذلك، فياء النسبية هذه تسمح لي بانفصالي عن مشهدية هذا المايحدث لي بين انوجادي وانعدامي؛ فللجسد تمثيليته الخاصة، وإن كنت أبدو مؤلفًا وممسرحًا لها، قسرًا عني.
ثنائية الحي والكائن
عندما يخاطر الكائن، فيكف عن الانشغال بالحي فيه، فإن إهمال الجسد لا يعفي من انتقامه المباشر، سواءٌ عن طريق صراخ الحاجة المادية فيه، أو اعتراض المرض، أو دنو الموت عينه. وربما كان لهذه الأسباب القاهرة عينها قامت نزعات القرار من الحس وأفخاخه، فراحت تتسع ثمة مسافة مفهومية بين الحي والكائن إلى درجة أن أصبح الثاني نقيضًا للأول، هكذا: لا يصير الإنسان إنسانيًّا إلا إذا قمع الحيواني فيه. تلك حكمة باطلة، لكنما صدقتها البشرية بنوع من السذاجة المستسلمة. والثنائية البائسة هذه سمحت للديني أن يستثمر المسافة المفهومية بين حدَّيها (الحيواني/الإنساني) لصالح الإجهاز عليهما معًا، وتتويج الروحاني فوقهما لوحده؛ فالجسد ليس معطى ذاته، لكنه صنيعة الروح، ورفيق مفروض عليها. وهي تحل فيه ليوجد ويحيا، ثم تنسحب منه، لتسلمه إلى البلى والهلاك.
ثم بعد استثمار الديني لهذه المسافة المفهومية المفتعلة، جاء الحداثوي التقنوي، ليمسح الفرق بين بيولوجيا اللحم وآلية المعدن. ولا تزال الهوة فاغرةً فاها بين الحي والكائن؛ فالمعيارية تطالب الكائن أن يحجب الحي فيه، مقترحة أواليات متناسبة مع ظروف المجتمع. فلا إبراز للكائن إلا بقدر ما يبتكر من أواليات الحجب والتقنين والمناورة، وفرضها على تلقائية الحي؛ حتى يفتقد تعبيريته الخاصة، ويدخل رطانة الاصطلاح اللغوي المبرمج.
هكذا رسخت الثنائية اعتقادًا مسيطرًا: أنه لا يكون ثمة تحقق لأحد قطبَيها: المادي، أو الروحاني إلا ضدًّا على الآخر، أو توفيقًا بينهما، بعد طول استعداء الثاني على الأول، لكن بلوغ التحقيب الأخلاقوي محطة النظرة التكاملية بينهما، لا يعني تحررًا من الثنائية، بل تثبيتًا لها تحت ادعاء تأحيد قطبيها؛ فلقد جرى دائمًا افتراض قسمة الإنسان بين الروحاني والمادوي، وترسيخ هذا الافتراض كبديهية في أساس كل نظامٍ معرفيٍّ أنتربولوجي إناسي؛ ثم انطلقت محاولات إعادة التوفيق بين حدَّي القسمة، والتغلب عليهما بمزيد من تأكيد الاستقطاب. واعتاشت الثقافة غربًا وشرقًا على انفصامها الافتراضي الذي رسخته الأخلاقويات تحت شتى تسمياتها وتعريفاتها، ولم تنجُ الحداثة من سلطة تلك البداهة الأولى المسكوت عنها، بل اخترعت مفهوم الذات، وصاغت منه أقنومًا تأسيسيًّا جديدًا، حاملًا في عمقه بذرة الانفصام المعهود، وممشهدًا، عبر تمثيليات مستحدثة مضخمة، لثنائية الذات والموضوع، الأنا واللاأنا، المركز والمحيط.
كأن الانتهاء إلى أسطرة الجسد لم يكن ممكنًا ولا جائزًا إلا عندما استنفد الجسد حيويته وأصالته عبر المعارك الدونكيشوتية المفروضة عليه، من خلف رايات الذاتوية الغازية دائمًا؛ حتى تحول إلى قبر ومدفن لجسدانيته الناصعة، السابقة على تاريخ من الإجهاض المتناوب، والتأجيل المتكرر لتحيين مولد التراجيديا الإنسانية، وتزويرها بمسرحة الميلودراما الأخلاقوية، وذلك باستحداث وتعميق الهوة بين الحيواني والإنسي، بين الحي والكائن في أقنوم الإنسان الواحد؛ مما أجبر الثقافة على مقاربة تلك الهوة من خلال اختزال الميتافيزيقيا إلى الذاتوية المعيارية، ومنعها من التعامل معها كمسافة مفهومية، تمشهد وقائع الصيرورة الإنسانية كمغايرة خلاقة دائمة للإنسية مع حيويتها المتدافعة.
يوفِّر الجسد قاعدة الحياة التي عليها أن تنتظر انبناء الكائن الإنسي على أساسها، وهو انبناء تعرض دائمًا لالتباسات التفسير بحسب التحقيب المعرفي لكل ثقافة/حضارة على حدة. غير أن هناك تسليمًا باختلاف العمارة الإنسية عن قاعدتها الحيوانية، وأن هذا الاختلاف ولَّد معيارية تمييزية بين البنيان وأصوله. وكما قلنا، فقد استمر الالتباس معقلنًا بمناورات المعيارية، حتى عندما انعطفت الحداثة نحو تغيير جذري للنظرة وللمشهد معًا. للنظر إلى مادية الإنسي كتشخيص لكينونته، وليس كغلاف حاجب لروحانيته وحافظ لها من البداد والتأذي؛ فالجسد ليس مسكنًا لسواه، وليس مقامًا موقتًا لروح شاردة، وقد يتحول بنظر غلاة التدين والتصوف إلى سجن لعقاب الروح على خطيئة مجهولة أو معلومة، ارتكبتها في حق الشريعة العلوية.
تاريخانية الجَسْدنة: من الأَسْطرة إلى المَأْسَسة
ما يمكن قوله: إن طريقة التفكر في الجسد عيَّنت تفكر الحضارة بذاتها وإنسانها، وبالعالم من حولها. ولقد كان همُّ الوعي أن يتفكَّر هذا الجسدَ الذي يحمله هو، ويستبطن تحمله له؛ فالجسد يحملني، لكنني أنا أتحمله كذلك بطريقة حياتي كلها في رفقته المحتومة، وعبر ضرورة التزامه والالتصاق به من داخل، بينما لا أدري شيئًا عن موقفه من عنائي هذا، وانهمامي به، غير أن الفرد لا يتفكَّر الجسد إلا عبر تفكر الجماعة له؛ فالهُم يتدخَّل بيني وبين جسدي، وهو ضمير غائب، لكنه الحاضر دائمًا بين المتكلم مع نفسه، أو مع المخاطب. ليس لي أن أترجم أحوال جسدي إلا عبر استراتيجية الجماعة كلها إزاء ذاتها، والعالم من حولها؛ فأوضاع الجسد الخارجية، وأحواله الباطنية خاضعة كلها للأسماء والصفات التي تؤشر قبولها أو رفضها، استحسانها أو استكراهها؛ فهي وليدة تصنيفها اللغوي، وتقييمها الأخلاقي، وتلاؤمها أو تعارضها مع العادات والأعراف.
وهكذا، إن استظهار الجسد وهو في وضعه الخام، كان من أصعب تكاليف الفكر الفلسفي. وقد ترك أمره للإبداع القصصي والشعري والفني؛ فليس معنى الإبداع في هذه السياقات إلا نجاح العمل الأدبي والفني في استظهار خامية الحالة الذاتوية والجسدانية، ما وراء التوصيفات التداولية؛ فالمبدع هو استظهار المسمَّى من تحت اسمه الشائع، بدلًا من اختصاره في ملفوظه الشائع؛ فالتمثال العاري مختلف عن كل الهيئات التي تقدمه مكسوًّا بثيابه، ومطرَّزًا بحسب موضة عصره.
إن العلاقة بين المأسسة والأقنمة متعارضة أساسًا؛ لأن المأسسة تنتج التنميط، والأقنمة تفبرك التفريد، لكن أقنوم الإنسان يستتبع تفريده كذات مفصولة عن «جنس» الأحياء جميعها، ثم في خطوة ثانية يضحي الإنسان المتمدين ضدًّا على البربري والهمجي أو الجاهلي؛ فالمأسسة تنتهي إلى جَعْل أقنمة الإنسان تنميطًا يخصُّ نوعه، ثم لا يلبث التنميط أن يعيد توزيع الإنسان إلى خانات تراتبية تحت صيغة النوع عينه؛ فالحضارة تفترض «تنافسية» الأقوام فيما بينهم بحسب الأحقية العنصرية أو الأيديولوجية، باكتساب أفضليات الإنسية، أو التمدنية كرديف لها، ما بين قبائل البشر. ولا ننسى أن مواصفات الجسد وتحالفها بين العروق، كانت في أساس العنصرة الشعبوية، قبل أن تغدوَ شريعة أيديولوجية واعية لبرهنتها وهدفيتها، وتعتنقها ثقافات عالمية وتاريخية، مبررة بها حروبها الصغرى والكبرى بين جنسياتها المتصارعة على أولوية القيادة الكونية.
وعلى هذا فالجسد لم يكن غائبًا أبدًا، بل كان تفوُّقه الكاسح بماديته المطلقة ضمن الأقنوم الإنساني، السبب الأول في اختلاق الحضارة، مقابل الجسد كذاتي الخلق. والتباين واضح هنا بين اختلاق الحضارة كإجراء إرادوي في ممارسة تخليق الجسد، بما يحجب خلقه الأصلي. ولعل مصطلح الأخلاق قد عاش دائمًا على التباس الخلق بالخلق. وفي العربية فإن عبارة الخلق تنطوي على فعل الخلق ومفعوله في آنٍ معًا. وقد يغني ازدواج الدلالة عن معارك الفطري والاكتسابي، في التفكر الإناسي والتربوي الحديث. ولو لم يتم تدجين الجسدي إلى درجة الصفر من «خلقه» الأول في ظل التحقيب المعرفي للمشروع الثقافي الغربي بخاصة، لما أمكن بلوغ هذا الحد القصووي من طمس بدئية الجسد تحت اتهام وإدانة بدائيته، ثم العمل بكل جهد معرفي، واعٍ على حل وانحلال الجسدي إلى القابلي وحده، إلى الهيولى فحسب.
تراجيديا جسدانية ميلودراما أخلاقوية
سؤال: ما هو الجسدي؟ لا يتضمن اللحم والعظم والجلد، لكنه هو سؤال الذات عما يخصها من هذا الجسد، كل تميز الإنسي عن الحيواني فيه ومعه، إنه يستطيع أن يكون جسده ولا جسده في آنٍ؛ فالإنسي يتصرف كما لو أنه بدون جسد أصلًا، ولا يسترد الشعور بالجسدي فيه إلا مع إثارة حاجاته الحيوية. ولقد اعتبر الفلاسفة أن هذه الحاجات، وحتى جدل الألم واللذة، لا يظل كل ذلك منوطًا بالجسد وحده؛ وأن اللغوي التعبيري هو الذي يتدخل في شخصنة دلالات لإشارات الحاجة، كما لأسلوب الألم واللذة، وطريقة ضغطهما على إحساس المرء؛ ولذلك فإن الرواقي الصريح قديمًا، والمنبعث حديثًا باستمرار، الذي صار اسمه الأخلاقي عامة، كان يبشر أن السعادة لا تتعارض مع الفضيلة، اعتمادًا على ثقافة الرقابة والسيطرة للإنسي على الحيواني في الكائن البشري. حتى أصبح هذا الوجود «الآخر» للذات على مسافة من تجسيدها الحيوي، وعبر تسميته بالروح أو الوعي أو الإرادة، هو الموضوع الحقيقي الجدير بأن ينوب عن الجسد وعما يتخطَّاه في وقت واحد، كموضوع للتفكر والتعاطي معه. بمعنى أنه رغم أن الجسدي هو آلة الإنسان لتحققه كل لحظة، وأداته المفضلة لبلوغ السعادة خاصة، فإن الجسدي يتحوَّل إلى نوع من العضو-القاعدة، المفروغ منه، كما لو أن الألم واللذة لا حقيقة لهما بمجرد الإحساس، إن لم يعترف بهما الإحساس الآخر، المتأنسن. لقد حرص الفكر الأفلاطوني وامتداداته الرواقية، وصولًا إلى المسيحية والحقبة الدينية على استثمار هذه الخاصية الأنطولوجية في أنسنة الإحساس، واختزال الأنسنة إلى جاهزيات وظيفية خالصة محكومة مقدمًا بهدفية الفضيلة. وهكذا مع المبالغة في التطهرية الدينية أمكن وضع كلٍّ من الجسد والفضيلة على طرفي نقيض، ما دامت بداية الرحلة الأنسنية تنطلق من تقرير «حيوانية» الجسد، لتصعد منها إلى الخير المطلق، الذي ينهي الحد بين الإنساني والإلهي. ولقد كانت حجة أرسطو في الأصل قائمة على أن الرأي العام لا يميز عادة بين الحق والخير والجمال؛ فهي مُثُل متضامنة ولا يمكن لأحدها أن يناقض الآخرين؛ فهي تؤلف المضمون المتكامل للعقل، اللوغوس.
وقد يكون اللغوي أو اللساني عامة لا يسمح بتظهير اللفظ الجسدي، ولا بتداول اصطلاحه الكينوني، وذلك خوفًا، أو تحت طائلة التورط بالتعامل مع وظائفه وأعضائه الجنسية بصورة صريحة، أو مع ما يسمَّى بالمباذل، لكن هذا التهرب اللساني من التلفيظ المادوي الصرف لا يعني أن علاقة الإنسي بجسده لم تكن محل الانهمام الأول في مختلف الخطابات الأخلاقية والنفسية، الصحية والاجتماعية، وحتى القانونية، فإن الإنسي الموعود أنشأ إنتاجه الحضاري كوسيط بينه وبين جسده، قبل أن يكون هو وسيطه مع العالم، حتى أصبحَت صفة المتحضر تطلق ضدًّا على الهمجي، اعتمادًا على الفوارق في طريقة تظهير الجسد والتعامل معه، واختلافها بين الاصطلاحَين المتضادَّين السائدَين. ولا يحدث أن يسود خطاب البحث عن السعادة إلا عندما تستطيع الأخلاق تثبيت جهاز مفهومي معين يدعي القدرة والسيطرة على بدائية الجسد، أو فوريته، بواسطة سلم من «القيم»؛ يحاول ابتكار مرجعية مشروعية، تحيد مرجعية العضوي الدموي الخاص مقابل المعياري والتسويغي العام؛ وبذلك اعتمد الخلقي دائمًا على تنشيط بدائية الجسدي ضد بدئيته؛ من أجل إلغاء هذه البدئية بالذات؛ وذلك بجعل الخلقي يقود معركة المفاضلة مع بدائية الجسد، وتوحيدها بالحيوانية. ما يتيح للخلقي أن يتدرَّأ دائمًا بدعاوى المدنية ليطرد إشارات الجسد البدئية من ساح الوعي الفردي والصراع الاجتماعي.
لقد شُغل التمدُّن بهموم التحكم بالجسد، كسبيل وحيد لإمكان إرساء علاقات مقوننة بين أفراد المجتمع. وأصبح انتظامُ التعايش بين الأفراد والجماعات دليلَ التمدن الأساسي على إمكانية ضبط علاقة الإنسان بجسده. ومنذ القديم حاذر الإغريقيون أن يفتعلوا صراعات غير مجدية مع الجسد. حتى الأفلاطونية لم تبارح مقياس التوازن كأساس لراحة النفس، وسعادة البدن في وقت واحد. وذلك تحت هذه الحكمة الأولية، وهي أنه ينبغي على الفيلسوف أن يستغني عن الملذات المشروطة من أجل الملذات غير المشروطة، لكن السؤال الحداثوي الذي يطرح نفسه إزاء إشكالية التجسد، هو كالتالي: هل يمكن تفكر الجسد دون افتراض انقسامه القَبْلي بين الروحي والمادي. ذلك الانقسام الذي شغل الأقدمين، واستبدَّ بحوارات أفلاطون البارزة؛ مما مهد للتفكير الديني قسمة العالم كذلك إلى الدنيا والعليا، وإطلاق جدلية المحايثة والمفارقة رأسيًّا دائمًا. ومع ذلك فإن الجسدي لا يفقد واقعيته بقدر ما تتضاءل معياريته لدى الإغريق عامة. ولقد تابع التفلسف ارتباطه بالحكمة، هذا الفن التربوي المتميز، المختص بإعادة صياغة الجسد، من كونه طبيعة حيادية أصلًا، إلى تكوينه طبيعة طابعة، شافَّة عما يكونها داخلها، عن تلك «الروح» التي تنير قفصها اللحمي الساجن لها، ولكن المنتمي كذلك إلى تنويرها؛ فالحكيم الإغريقي — على حسب التعليم الأفلاطوني، ثم الأبيقوري والرواقي المنحدرين عنه، ما بين الإفراط والتفريط — وقع في وهم قسمة الكائن بين جسده وروحه، ثم قضى عمر «مدنيته» في إعادة اللحمة ما بين المتضادَّين، ولم ينقذه من إحراجه سوى القفزة من تفلسف الحكمة إلى عَقْلَنة الإيمان.
لماذا العودة دائمًا إلى الأفلاطونية؛ لأنها مسرحت أسس المشكليات الفلسفية. وكل ما جاء بعدها أضحى انتقائيًّا لأحد أدوار تلك المسرحة مقابل البقية، وتركيزًا عليه من دون سواه، لكن إثنينية الجسد بصورة خاصة عكست إشكاليتها المسكوت عنها، على مختلف قضايا الفكر، والحضارة. وقد شغلت الأفلاطونية بذات الفخ الذي نصبته لذاتها، ولكل تاريخ الفلسفة بعدها، والدين والثقافة عامة؛ فالاستقطاب الروحاني المادي، أعطى نفسه حقَّ الأولوية في طرح القضايا واقتراح الحلول، وجعل من ذاته مفتاح مفاتيح الفهم والتأويل كلها، دون أن يسمحَ لأحدها أن يغامر بطرح بداهة الاستقطاب، ولماذا ينبغي التسليم بها دائمًا، واستخدمها في مساءلة سواها من كل قضايا الفكر والممارسة، دون وضع هذه المسلَّمة قيد الاستفهام الجذري الواضح. ما يؤكد أن اختراع أقنوم الروح كان إبداعًا أفلاطونيًّا بالدرجة الأولى. وفائدته الأولى أنه أعطى للتفكُّر موضوعه المفضل المتقارب من طبيعته، وأراحه من مداهمة الواقع المادي المجسم، اعتبارًا من البدن الملتصق به، وسمح للفكر أن يحافظ على هويته مع ذاته دون اضطراره إلى الاصطدام بلغز ما هو خارجي عنه.
أما المسيحية فإنها تتعامل مع الشعري الأسطوري، ولا ترى حرجًا في عودة الروح إلى الملأ الأعلى خالدةً بعد تجربة السقوط في الجسد، والانتصار على خطيئته الأولى، عندما رضي بالانغماس في معاقرة فساد الأرض؛ فالسعادة الحقيقية ليست من هذا العالم الحسي المباشر، وأنه لا بد من المكافحة لبلوغ حال الغفران. لا وجود للسعادة بمنأًى عن إدانة الخطيئة الأولى. لن يصل الخاطئ إلى بر الأمان، إلا عندما يقوم بتضحية جسده طلبًا للغفران. صحيح أن سان بول وعد المؤمنين بعودة جسد المسيح، بإمكان تجسد المسيح ثانية، لكن بعدما تتطهَّر الإنسانية من وعثاء خطاياها كليًّا، أو بعد أن تبلغ الإنسانية حد الخطيئة المطلقة، الشر المحض، فلا يتبقَّى أمامها إلا الزوال الكارثي (الأبوكاليبسي)، والنداء على الحقيقة المسيحية مقابل التنازل عن جسد الخطيئة في سبيل الاتحاد مع جسد المسيح. ذلك ما سوف يقال عنه في لغة الحداثة بموت التراجيدي ثمنًا للطوبائي الميلودرامي. ذلك أن التراجيدي ليس مهمومًا على الإطلاق بمغادرة جسده، ولا بمكافحته مدانًا قبليًّا بخطيئة أصلية أو طارئة. بل إنه لا يرى له مكانًا في أمكنة الأرض إلا أرض جسده، التي يمتلكها وحده بدون تطويب من أحد، ولا شرعنة عقارية من أية مؤسسية غيبية أو وضعية.
لكن امتلاك الجسد لا يقع من طرف المالك وحده؛ فهو كذلك يمتلك مالكه بطريقة ما؛ لأنه يجتاح صاحبه بفيض من الرغبات التي تتأجج كشهوات مصحوبة بمشاعر النقص والتحرق إلى الارتواء، والبحث المرهق عن موضوعات الارتواء. وهو الأمر الذي غدا يخيف الفكر اليوناني في خريفه. ودفعه إلى بناء فلسفات سلبية من نوع الأتراكسيا الأبيقورية، حيثما تغدو الحكمة فنًّا تربويًّا، غرضه ترويض الجسد، واستتباعه لنظام حمية شهوية، تعوضه عن اندفاعات ما سوف تسميه السيكولوجيا الحديثة بجهاز الغرائز.
إن إشكالية تدبر العقل العملي للجسد حسمَت توصيفه كمحل لجهاز الغرائز، وكانت، ولا تزال، في الصميم من كل ما حملته ثقافات البشرية المدعية لحفظ التطور والحضارة، من خلال تسمية الأخلاق، وصنوها الأديان، ووريثتها الأحدث ألا وهي أساليب التسويغ التأدلجي. ما يعني اختلاق الصراع ما بين الجسد ونقيضه الروح. وهو مادة الميلودراما المضخمة لإشكالية الطوبائي، مقابل نقيضها المتمثل في أنطولوجيا التراجيدي. فالاختلاف بينهما ليس عرضًا نظريًّا؛ إذ إن الطوبائي لا يستطيع أن يرى إلى الإنسان إلا من خلال النظرة المعيارية التي تقسم الكيان الإنساني إلى الجسدي، وتجعله موطن البدائية، أي «الحيوانية»، وإلى الروحي، وتخصه بكونه مقر البدئي أو الأصلي؛ هذا ما يفسر غياب أية استقلالية للجسد في مباحث الأخلاق من الفلسفات الكلاسيكية الكبرى.
من كانط إلى هيغل، مرورًا باسبينوزا، فإن الخلقي يجرد الجسدي من غائيته الخاصة، ويتناوله عبر غيابه المادي، وتحت عباءة السيكولوجي في أحسن الأحوال. ولا نقول إن الفينومينولوجيا قد دشنت ولادة الجسد لأول مرة في صيغته المباشرة بكل معنى الكلمة، بل جعلته كذلك مطبة لخروج الذات إلى العالم. لم يستطع هوسرل، وشارحه المعاصر المتميز ميرلو-بونتي أن يؤسس صيغة: أفكر الجسد صنوًا لصيغة: أفكر العالم، بل وسيلة لها. ذلك أن انشغال الفلسفي بالمعرفي، وفي الصميم من تيارات الحداثة نفسها، حسم أمر الجسد، وحصره في وظيفة الجسد الناقل لمادة المعرفة، عن طريق حواسه.
بحثًا عن لحم الفكر الشفاف: السعادة
لكن المابعدية الهيدغرية التي لا يمكن ارتيادها إلا بمخاطبة الريادة الأصلية للنص الهيدغري بالذات، لا بد لها من أن تخاطر بنقل عبارة البداهة التأسيسية: الكائن — في — العالم، من نهج الوصف التحليلي كممارسة فينومينولوجية الأصل، إلى التطهير التمعيني، لتعود تلك البداهة تسآلًا أسيًّا، على الشكل الآتي: كيف أفكر الجسد/أفكر العالم. أو: ما يعني أنني أفكر الجسد/أفكر العالم؛ فالجهد الإرادوي بارز هنا. ويتعلق بمفرد المتكلم، الذي هو المعني البدئي بتحمل جسده، وأن يمخر به عباب العالم؛ فأية بداهةٍ بدئية يمكن أن تحل محل لحم الجسد وصخر الأرض. ذلك ما يستبق اللغوي، ويشده إلى ثقالته كلما استخفه التجريد والتجنيح، لكن اللغوي يبني كذلك لحم الفكر، الشفاف. إنه لا يقدم انفعالات الجسد مقطوعة عن أسمائها. وأسماء الانفعالات قد تسبق أسماء الأفكار؛ فالحب والكره، الغضب والحنو، اللطف والشبق، الفرح والسعادة، ليست مفردات للجسد صامتة، إنها مصحوبة بالتصويت الذي يبلور الحرف فالكلمة، وقد يركب الجملة المفيدة، وحتى غير المفيدة؛ فاللغة النظامية ليست جسدًا لفظيًّا موازيًا لجسد اللحم والحس الباطني، فحسب، لكنها تصير كيانًا كثيفًا غير شافٍّ عن الجسد الذي ولدت هي مع أحاسيسه وترميزاته.
أفكر الجسد لا يعني إعادة استملاكه ذاتويًّا، فليس من ذات قادرة على احتوائه، ولا من علم قادر على ترسيم حيويته، لكن ما إن أستتبعه بياء النسبة (جسد-ي)، حتى يصير هذا الشيء الذي لا أتملَّكه ولا أحيط به، يصير هو مكاني مع ذلك، وأنتزعه من مكان العالم كله، ليغدو من كياني الخاص: ليس حاويًا لكياني ولا حاملًا له، ولكنه هو عينه. حينئذٍ في هذه الحالة، فإن أية معرفة «موضوعية» تصنف أحوال جسدي، تقبض عليه تحت وطأة استراتيجية بيولوجية — كالطب والعلاج والحمية وأوامر الصحة — أو استراتيجية سلوكية، قانونية، ومن علم العادات والقيم، إنما تجد أن عليها أولًا، حذف ياء النسبة من عبارة: جسد-ي؛ فالبحث عن السعادة تحت وطأة الاستراتيجيات الخارجانية الكليانية، يصبح معادلًا للبحث عن الحرية.
إن الحكمة الفلسفية المعاصرة ليست أبيقوريةً أو مسيحيةً أو كانطية؛ لأنها لا تخشى من فعل الجسد، لا تُقَوْنِنه كانطيًّا، لا تجعله أداة طيعة لواجب متفق عليه من قبل الجماعة، لا تريد الحكمة المعاصرة أن تصنم السعادة في الاشتهاد والاستهلاك، لكنها تطلب الجسد الحر؛ فأن يكون الجسد هو حريته الخاصة، هذا يعني أن يكسر قواقع الهويات التي تفتعله تحت هذا القالب أو ذاك، منطلقًا في انسراع الهويِّ وحده؛ أي في كل ما يتيح للجسدي أن يمارس ذاتي انتمائه، عبر توغلاته في فجائيات العالم من حوله؛ فالخُلقي (بضم الخاء) يرتدُّ إلى الخَلقي (بفتح الخاء)؛ كل صلة حرة بالجسد، تعيده إلى هويه الأصلي كخلق أولًا، سابق على كل تخليق. وهي صلة ليست طوبائية، لا تجيء بالواسطة، بارتكاب القيم والعادات، والانصياع إلى الاستراتيجيات العمومية؛ إنها اتصال تراجيدي، يضعني في ينبوع الفعل وليس على ضفافه. ذلك أن الجسدي إنما هو شاهد خلقي البدئي. كل أماراته، كل أفعاله هي كذلك مخلوقاته. وليس من خلق إلا وهو فعل تراجيدي، يتنازعه معًا الوجود والعدم المتأنيان، الحاملان إشارة ولادته.
يفكرني جسدي: أي أنه يلغي مسافة المفارقة بين ذات فاعلة وموضوع منفصل. وعلى هذا يستطيع الفكر أن يصير لحميًّا دمويًّا، وتغدو السعادة عند ذلك هي لحظة تجنيح الجسد كفكرة ذاته عينها، وتؤخذ الفكرة هنا صنو الرغبة، وهما معًا يبتكران عصفور الحرية؛ فلست حرًّا لأنني أعشق، بل أعشق لأنني حر. ما دام الجسد يكتسب تلذيذه الكلي بتلامسه البدئي مع جسد العالم، فإن هناك فعل خلق وإنجاب للفرح، باعتبار الفرح أعلى مكافأة للكائن حين الظفر باستشعار لماح بالكينونة وهي في انسراع انسحابها. ما يمنح الجسد رعدة التراجيدي ورهبته، بالوصل مع لحم الآخر المجهول، أو وهمه، والانفصال عنه. وتكرار هذه الواقعة حتى تصبح إيقاعًا رتيبًا من الجذب والنبذ، لكنه يؤكد دائمًا فجائية العلاقة بين الحي والإنسي معًا في البدن الواحد، وإزاء بدن الآخر، وهما واقعان معًا تحت طائلة التقاط كينونة، وهي على حال انسحابها الدائم.
في الفعل العشقي يتأجَّج الجسد بقطبَيه: الحي المتدفق بكامل عليته الفيزيائية العضوية، والكائن الإنسي المعلق والمؤول بغائيات التحقيبات المعرفية السائدة في هذه الحضارة أو تلك. ولعل التحقيب الغربي قد كان أنجح من سواه في صياغة نمذجة ذاتية الارتقاء، بدءًا من اللذِّي المحض، إلى اللذِّي ذاتي الانضباط؛ وذلك مع اختراع فضيلة التسامي الأفلاطوني، والمؤسس لتربية الامتناع الطوعي، ثم الردة نحو التلذيذ في حده الأدنى مع التعشق الأبيقوري، والإرادوية الرواقية، وصولًا إلى تربية المنع الغيبي وتدنيس الجسدي، مع المسيحية والأديان المفارقة، لكن الحداثة الأنوارية تطلق التطهرية المضادة، سواء من أخلاقوية المنع المفارق، أو الامتناع المحايث. يصبح الجسد هو مركز «الطبيعة» وشاهدها المباشر، والطبيعة هي لقيا العقلانيات، الأولى الناشئة، والمرجعية البديلة عن مركب المنع/الامتناع القروسطي.
كان الامتناع عن تفكر الجسد قرينًا للامتناع عن تفكر الطبيعة. كان العالم بلا أرض، بدون طبيعة، وكانت الروح معلقة في بقعة من فراغ ما، فوق الجسد، تحاذر الدخول إليه، كيما لا تصبح هي والنفس رديفَين، أو توءمَين متعارضَين؛ أحدهما يلامس جوانية الجسد، والآخر يذكره بالمفارقة والإقصاء؛ فالروح لا تريد أن تكون نفس الجسد، ولكنها بدونها لا تعرف كيف تكون نفسها. إن التباس الروح بالنفس، كالتباس الجسد بالطبيعة فيه، وفي جذر العالم؛ كلاهما يطرح محلًّا للجسد: إما فوقه عموديًّا (بالمفارقة) وإما إزاءه خارجيًّا أفقيًّا (بالمحايثة).
من أجل التخلص من هذه الإشكاليات الأنطولوجية طرحت حكمةُ الأقدمين أقنوم السعادة كتعويض فردوي وفوري، باحث أصلًا عن محل للجسد في جسدانيته عينها: أنا الفرد، أي فرد، كيف أكون سعيدًا بلقاء فردي فحسب. عند ذلك لا يجد الفرد ثمة ركيزة له وحده، سوى هذا القوام من اللحم والعظم، الذي هو بدنه. أخص ما يخص الفرد هي رعشة الفرح التي تنبثق من عمق جوانيته وتنتشر مع دفقات دمه، باعثة فيه حس التصالح، في لحظة، مع كل شيء. هذا النوع من الرضا عن ذات النفس، وعما يجعل حدسها الصامت يعلن اعترافًا سريًّا، غير مصرح به، عن حال القبول بالحياة كما هي؛ لأنها تلك الحياة التي منحتني امتياز السعادة. وهو امتياز يمدُّ النفس بشعور من غبطة الاستحقاق لجائزة السعادة، والتنعم بنعمائها في آنٍ. كما لو أن السعيد يغبط نفسه على نيلها، وينعم بحميمية المنحة بينه وبين ذات النفس؛ فهي بعض لقياه لما كان باحثًا عنه دائمًا؛ إذ يظل للسعادة طابع المنحة الفجائية، مهما بلغ شعور صاحبها بامتلاك استحقاقها. حتى إن الاستحقاق عينه قد يجفف من حرارة اللُّقيا، ويكسر من فجائيتها، ما إن يصير إلى واقع فعلي، وإن كان واقعًا فراريًّا هو الآخر؛ بمعنى أن السعادة إن هي إلا في توقعها وانتظارها قبل حدوثها، وفي تذكرها والحنين إليها، بعد انقضائها، أكثر مما هي في واقعها الافتراضي.
إن سيكولوجية للسعادة قد تريح من فلسفة للسعادة؛ لأن قصة للأحاسيس والانفعالات السابقة والمرافقة واللاحقة بفرح السعادة، قد تغني عن مواجهتها كمختبر لتراجيديا الانهمام بالذات، وهي على حد التماس، الانفصال والاتصال، بين بدئية الجسد وبدائيته، بين جدية المعاناة لزخم الانهمام بالذات، وبين التقاط هناءات الاغتباط المجاني. فالفلسفي لا يكف عن الانشغال بتلك المسافة المفهومية الالتباسية بين محدودية الفرد، فيما تمثله بدائية جسده كحدٍّ للحيوانية في أساس تكونه العضوي، وبين بعد اللامحدودية في الهوي الإنساني الذي يحمل الفرد إشاراته الأولية؛ فقد يستطيع كائن الإنسان أن يطامن حاجات الكائن الحيوان فيه، ويغدو بذلك كائنًا ارتوائيًّا، سعيدًا بالتقاء حاجاته مع موضوعاتها المباشرة، لكنه في الوقت عينه لا يمكنه أن يحد من رغباته، بما هو الكائن الباحث عن الاعتراف بما حصله من «مزايا» الهويِّ الإنساني ومكتسباته من الأفضليات، في حومة ذلك الصراع الأزلي ما بين الكائنات الأخرى، المشكلة لغاب الجماعة، أو المجتمع المدني، الموصوف بالحداثوي.
كانت تقف السعادة كقطب مضاد، في الثقافة الكلاسيكية، لكلية المفاهيم الأخلاقية. كأنما الخير العام، وحتى الخاص، لا يجيز قيمة للسعادة بجوار قيمة للفضيلة. ثمة حرب شرسة بين الغيرية تجاه الكل، والأنانية تحت طائلة السعادة الخاصة؛ فهل لا يزال الرأي القائل إن السعيد هو الأناني، كأنما السعيد يخص نفسه بما ليس متاحًا لسواه؛ وبذلك تصبح إتيقا البحث عن السعادة تابعةً لمنطقة: أفكر الجسد، بمعزل عن منطقة: أفكر العالم. وكان لهذه الإتيقا ممثلوها ودُعاتها في مفاصل الحضارة، وفي لحظة الازدهار، كما في مرحلة ما قبل الاحتضار؛ فالفاسقون والزاهدون تقاسموا حدَّي التطرف. وكلا الصنفَين يتعاملان مع الجسد تحت حاكمية حاجاته، وليس رغباته، بمعنى أن إطلاق الحاجات إلى أقصاها، أو كبتها حتى النهاية، حصرا الإتيقا في نطاق اقتصاد الجسد اللحمي، ولم يتعرَّفا إلى الجسد الإنساني، فكانت علاقة كلٍّ منهما قاصرة على «بدائية الجسد»، ومانعة ﻟ «بدئية الجسد»، وعاجزة عن استحضارها، معيقة لازدهارها.
على هذا الأساس، يبدو أن الحداثة الغربية الخارجة من تطهرية القروسطية، أطلقت القطب المضاد للتقشف المسيحي، بإعلان حاكمية اللحم وحدها خارج أوامر الدناسة والطهارة. ومنذ القرن الثامن عشر شرع التفلسف في استرداد استحقاق الجسد على أساس تأهيل مفهوم للطبيعة، مقتطعة هي نفسها من التصور الإغريقي القديم حول العالم باعتباره كوسمولوجيًّا؛ فالجسدي هو وكيل الطبيعة — الكوسمولوجيا لدى ذات النفس. وإن إعادة الانسجام مع/داخل هذه الكونية الأزلية، يفترض إعادة تصالح ذات النفس مع حاملها الجسدي، بما هو حصتي أنا الفرد العرضي، من هذه الطبيعة — الكوسموس — التي تتجاوزني؛ ومع ذلك فهي تحتاجني لأعرفها وأعترف بها. وبذلك تتقدَّم من جديد حساسية التراجيدي في الفهم والمعاناة الفردية والجماعية، على الطوبائي المفارق. وتبرز لدى مجتمعات النخب الثقافية والطبقية احتفاليات تلذيذ الجسد، كطقسنات أقرب إلى مجون الوثنيات. ويتم اكتشاف الفلسفات قبل السقراطية، من مدخل إتيقا الانهمام بالذات، بديلًا تفاضليًّا عن الأخلاقوية المقننة. فبعد أن أطلق حكيم ذلك العصر فولتير شعار تلك الإتيقا قائلًا بصريح العبارة: «إن المهمة العظمى والوحيدة لنا هي أن نحيا سعداء.» فإنه لم يكن يرد بذلك على تطهريات المسلك الديني المتحكمة في أخلاقوية المفارقة، فحسب، بل قصد أن يعين المنعطف التاريخاني الذي كان على ثقافة الأنوار أن تتحول إليه، والمتمثل في تأسيس إتيقا الانهمام بالذات، بمفردة الإنسان، بأقنوم جسدانيته وفوريتها المباشرة؛ ما إن أنجز عصر النهضة شرعة حقوق الإنسان في صيغة الكل، وبقيَ عليه ترجمتها إلى صيغة المفرد، كما لو أن إتيقا السعادة لا تأتي إلا في نهاية الشوط الانقلابي، إلا كجائزة عليا لاحقة بالمكتسبات المفهومية والجمعية؛ فالفرد السعيد هو المعادل الواقعي المشخص لأية غائية أنطولوجية لا تريد الاكتفاء بكونها محط تلك الغائية التي هي بدون غاية.
ما يمكن قوله إن السعادة في التحليل الأخير ليست سوى حالة تصالح لذات النفس مع نفسها؛ وهي ليست تلك الحالة التي يرتضيها التاريخ بما هو تراجيدي، وإن كان واعدًا بها، مكافأة سكونية تحل ما بعد الصخب والغضب لكينونة فائرة، غير كائنة إلا بانسحابها عينه. السعادة استراحة المحارب بعد هول المعارك كلها. إن هي إلا طوبائية التاريخ، خاتمة طريقة ما بين ضفتَي الإنساني والبربري. جائزة تطابق العقل مع الواقع، أو تصيير الواقع على مثال ما يريده العقل لنفسه وللعالم. أن يربح التاريخ كماله في نهايته، فهذا يعني انتصار أخلاقوية اليوطوبيا على تراجيديا الكينونة الممتنعة أصلًا على منطق النهايات، والمتأججة دائمًا في حدود ما قبلية أية نهاية.
السَّعْدَنة: آمرية السعادة
أراد شوبنهور أن ينجوَ بالإنسان عن هذا الصراع؛ ألا يقر للصراع بأن الذات هي محله الأساسي، بل يباعده عنها، ويجسمه، على مسافة ميتافيزيقية منها، عبر مفهوم سوداوي للحياة كإرادة جبارة وعمياء، آخذة كل حي في طريقها، ومعه الإنسان؛ لا راد لها، ولا هدف إلا بقاؤها، باستخدام الأحياء، وفي مقدمتهم الإنسان، كوسائل لاستمرارها العبثي، فأقصى ما يرد به الإنسان الفيلسوف، هو تمزيق كل طبقات الأوهام الخادعة التي دأب على نسجها طيلة حضارته البائسة ليحجب بها الوجه القبيح عن هذه الإرادوية، ويجمل الحياة، كيما يتحمَّل أهوالها، من مختلف آفات الوجود الاجتماعي، والفيزيائي من ألم ومرض، وشيخوخة حتى الموت الأخير. جهد المرء حتى يبلغ أبسط حدود السعادة السلبية، هو في وعي قانون الصراع المفروض، والتخفيف ما أمكنه من مفاعله التدميرية على سلامته، وطمأنينته الانعزالية. هيغل كان يجذر الإنسان في حمأة الصراع، وشوبنهور يكافح من أجل إبعاده عنه، وأما نيتشه فهو يتقبل الحياة، لا كضحية لها، حسب شوبنهور، ولا كعقل متدبر للاعقلانيتها، كما عند هيغل، ولكن كفارس مكافح للتمكن من قيادتها، كبطل مبدع في تراجيديتها البدئية. ﻓ «الإنسان الأخير» هو خالق السعادة، لا يلتقيها كصدفة من صدف الحياة، ولكن كخالق لها.
ما يعني أن السعادة ليست جائزة سكونية للناجين من وعثاء الألم والنقص والمرض، ومن إحباطات الآمال المغدورة، لكن السعيد هو الذي يختار العيش في عين العاصفة ذاتها، ويتجنح بأهوالها ذاتها. لا يتجنَّب بأسها عليه، بل يتبناه ويضاعف من شدته، لكي يكتشف في ذاته منهل الإمكانيات المجهولة. يشتق من ضعفه أسبابًا لذلك النوع الخاص من القوة التي لا تنتسب إلا لذاتها؛ فالعيش في الخطر، إنما هو كالرقص على حبال ممتدة فوق ذُرى الكينونة وهاويات العدم في وقت واحد. إن السعادة هي الانخراط الإرادي في عنف الاقتدار، إنها ارتداد واعٍ كلي إلى صميم المعاناة دونما حساب لمنفعة أو ضرر، دون استباق للنتائج المعطِّلة لمقدماتها. والقول نعم للحياة! يعني أن الإنسان الفيلسوف قبل المنازلة، واستجاب للتحدي المطلق. وما تبقَّى من مشاقِّ العيش اليومي ولذائذه العابرة، ليست سوى بعض نفايات على دروب المنازلات الكبرى التي اختارها حكيم التراجيديا الحداثوية المستمرة.
صحيح أن السعيد الحقيقي الذي اختار عين العاصفة مقرًّا كينونيًّا له، ليس هو إنسان كل يوم. إنه استثناء القاعدة، ورافض مقدمًا لأية منظومة من أوامر السلوك العام، ما دام منشغلًا أصلًا بتفجير بركانه الخاص، الذي سيقذف حممه ويشق دروبه النارية بقوة صخوره اللاهبة عينها؛ فالعيش على حافة الهاوية من كل إمكانية مطلقة، لا يمكن نقده كما لو كان نوعًا من ميلودراما المبالغة والتطرف، والإنسان المتفوق ليس هو الجبار المتعسف؛ بقدر ما أسيئت تأويلات شرعة الاقتدار النيتشوية هذه، بقدر ما صار يعاد تدشين أفكاره عند كل مفصل جديد من تطورات الثقافة المعاصرة. ذلك أن التعاطي مع الحداثة كملحمة إنسانية قبل أية بنائية على أرض الواقع والتاريخ، لا يمكن تأطيره تحت أية عناوين نظامية نهائية. كل ما فعله نيتشه أنه تفكَّر الجسد — تفكر العالم على طريقته الخاصة. غير أنه استطاع ولا شك أن يعيد تأسيس التراجيديا الإغريقية، لا كحدث تاريخي، أو نوع أدبي أو فني، ولكن كطريقة انهمام ذاتي بالعالم، لا يمكن نسخُها ولا تقليدُها أو تعميمُها. أو أدلجتها ونشرها كشرعة للجميع. تلك هي نخبوية نبيلة، ومع ذلك فإنها تذكر الإنسان بجاذبية البحث عن طريق آخر للاتصال ﺑ «الهوي» ما فوق، ما بعد كل هوية مباشرة.
عندما يضحَّى بتاريخانية الحكمة، بما هي قصة تفكر الواحد عبر خضم الصيرورة عينها، لا عاليًا فوقها، ولا متذريًا مبددًا بين ذراتها، ولا محازيًا موازيًا لها؛ ليس أصلًا، ولا غاية لها؛ عندما يحال بين الحكمة والفرح، في هذه الحالة يغدو سؤال الذات عن «جسدها السعيد» قرينًا لسؤال العدالة عن أفراح الناس بحريات الناس؛ سؤال الزمن السرمدي عن تفكر الظهيرة «النيتشوية»؛ لكن، بديلًا عن كل هذا، ماذا يعني أن تحشر السعادة أخيرًا — في «نهاية التاريخ»، تحت «آمرية» السعادة! ما هذه الآمرية الحمقاء في لحظة النداء على ذلك المصطلح الراقص: «حكمة الناس الحداثويين». أليس هذا ما يؤكد أن مجتمع المدنية النخبوية لم يعد يتعرف على السعادة إلا بما هي أمر يومي لسلوك الأفراد مع ذواتهم الخاوية، وتجاه أقرانهم الأشباح: ألا يعني هذا أن الأخلاق المنفعية، المنتصرة بفرض خيار المجتمع الاستهلاكي، كتعويض دارويني عن استبداد «الأزمة التضحوية»، استطاعت أن تطرد السعادة من إتيقا الفرح، واستبدلتها بمسرحة الإنسان الحيواني، نسيًا منسيًّا لذاكرة الحيوان الإنساني.
أن يرفض المفكر الحداثوي التعامل مع هذه السعدنة الطارئة، وأن يفضل عليها حزنه الخاص، الشخصي: ذلك أن المرء لا يرى نفسه مشمولًا بنموذج السعادة الآمرية أو المفروضة. كأنما المجتمع المنشغل ﺑ «دعاية» السعادة إلى الفرح، بتعميم مظاهر الانشراح بدلًا عن الغبطة الصامتة، إنما يسعى إلى تغليب نمط السلوك، على منفذه؛ فإن استغياب الذات من تعميمات السعدنة، أضحى يعادل إخفاء الجسد عن صاحبه. فلا يتعلق الأمر بكون يوطوبيا السعادة قد تحققت أو أشرفت على التحقق، وأن هذا التحقق عينه هو الذي يصيبها بالابتذال، ويغرقها في العادية اليومية، بل إن المثقف الغربي أضحى عاجزًا عن رؤية ذاته فيما يعرض عليه من مسرات الواقع الرفاهي مجتاحًا لكل أمكنته العمومية والخاصوية، إلى درجة أنه لم يعُد يصدق الطوبائية إلا في مرحلتها الوهمية، وليس عندما تدَّعي إعادة إنتاج عالمه، حسب وصفاتها المتداولة.
وقديمًا أعلنت الحكمة الإغريقية أنه لا يقين مع عالم الظواهر؛ ليس ذلك لأن هناك باطنًا آخر يجب البحث عنه، بل لأن الباطن عينه ليس هو إلا ظاهري آخر جرى تدجينه أو إخفاؤه، أو إزاحته موقتًا عن مسرح الفعل والانفعال المباشرَين؛ فالسعادة هي أكثر هذه المظاهر جاذبية للإنسان اليومي، إلى درجة أنها تنسيه إغواء الخفي من أسرار النفس والعالم. وربما أصبح حكيم العصر هو الذي يتأبَّى أن يغدوَ آلة لإنتاج اللذائذ والمتع. وقد يفضل على هذا المصير الحيواني الخالص أن يكون داعية للحرية، باعتبارها شرطًا للفرح الحقيقي.
إن الكائن الفرح في هذا العصر هو الفرد المتمتع بسيادته على نفسه. تلك السيادة التي تشعره بامتلاك جسده صنوًا معادلًا امتلاكه لإرادته. كأن الفرح بلقيا الذات دون أية إعاقة، أو بالتغلب على أية إعاقة، لا يكتفي بتوليد إحساس الاعتزاز بامتلاك الاقتدار فقط، أو أن الحر ليس مرتهنًا باعتراف الآخر فحسب، بقدر ما هو ثمرة اعتراف الفرد بذاته أولًا، كونه حائزًا على احترامه لنفسه. ما يعني أن الحر أضحى مستحقًّا لإنسانيته عند ذات النفس، قبل أن يكون منتظرًا لاعتراف الآخر باستحقاقه. وينبغي القول كذلك بالمقابل إنني لست حرًّا لأن الآخر مستعبد أو حزين. فالحرية الحداثوية لا تقبل جدلية السيد والعبد، لا بين الأفراد، أو بين المجتمعات، بل هي جدلية الحر مع الحر، تلك التي تمنحني الفرح الحقيقي. فلا يتم فرح الفرد إلا بأفراح الآخرين.
قد يكون من السهل متابعة مثل هذه الأفكار، وكأننا نجدد طقسًا طوبائيًّا قديمًا، لكن تلك هي مهمة الفلسفي السياسي، وذلك هو معنى عودته، وتدخله المتجدد في صميم إشكالات العصر كلما استعصت المخارج، وراحت أنظمة تجدد الاستبداد، بطرق وأشكال مختلفة، تختلق الحلول الخطأ للإشكاليات الصحيحة، لا يعني هذا أن الفلسفي السياسي هو باعث الطوبائي، عندما تستعصي أمور المجتمع على كل حل أو تحليل موضوعي قادر على اكتشاف الحلول الممكنة، لكنه هو المذكر بإمكان التصالح بين منطقة لإتيقا الحرية العشقية، ومنطقة متداخلة مع الأولى ومتشابكة مع ضواحيها، وهي الحرية الاجتماعية؛ فالفلسفي السياسي هو المحذر دائمًا من أن تترك للطوبائية الواقعية، أي الموضوعة قيد التحقق العملي، فرصة أن تشوه الطوبائية المخيالية أو المفهومية، وتحولها إلى سلعة دعاوية.
أن يُحب الإنسانُ الحبَّ، ذلك هو حق الحرية عليه. وعندئذٍ تصبح حريته ليست آمرًا أخلاقويًّا فحسب، بل كأنها هي صوته من جنته الخصوصية من الفرح. ذلك الفرح الذي يتخطى في وقت واحد كلًّا من اقتصاد المتع اللذية، وأحلام السعادة الكاملة. ولا ننسى أن خيبات الأمل الجماعية المصابة بها إنسانية اليوم، ما بعد انهيار الأيديولوجيات الكبرى، ساعدت على إشاعة قاعدة الحلول الخاطئة للمشكلات الصحيحة. فإن إدانة المخيال الطوبائي بإنتاجات المدعين لمهمات تنفيذه وممارسته، قد أعادت الاعتبار إلى الحرية السلبية المكتفية بمكافحة الشر دون القدرة على إشادة الخير. ما يؤدي إلى انقطاع الأفراد والجماعات عن استيحاء الهوي الكلي، والانخراط في صراع الهويات الصغرى حتى يمسي الفرد السعيد أو المجتمع المرفه حالة استثنائية، في حين تتخبَّط الأكثريات فيما يشبه معارك طواحين الهواء، ويتابع المجتمع النخبوي احتماءه وراء شعارات المدنية، كما لو كانت المدنية هي استحقاق الفائزين بجائزة «نهاية التاريخ» وحدهم، من دون بقية قبائل الإنسانية التي يثبت عجزها، عصرًا بعد عصر، عن الاهتداء إلى إقامة ذلك المعبر الصعب بين المشكلة الصحيحة والحل الصحيح، وليس الحل العبثي. ومع ذلك فهذه المدنية بالذات لم تقدم إلى مجتمعاتها إلا أشباه الحلول كأجوبة على أسئلة المدنية، بما هي يوطوبيا السعادة للواحد كما للكل. وهكذا يعود الفكر الفلسفي إلى موقف الإنكار لما يصنع له تحت هالة مفاهيمه عن حقوق الإنسان، وقد اغتصبتها استعاراتها الإعلامية أو المرآوية، على صعيد الواقع والممارسة. إذا كانت هذه السعادة أضحت مجرد رشاوى المجتمع الاستهلاكي لضحاياه، فهي أمست كذلك من نوع تلك الرشوة القسرية التي لا تدع مجالًا لاختيارها أو رفضها، بل تسوق بضاعتها التشويقية كآمر أخلاقوي حداثوي، يضع حدًّا لثقافة البحث عن أسئلة السعادة الأصلية، بما هي استحقاق المدنية لمفهومها عن الهوي الإنساني، وليست سبيلًا إلى تمييزية جديدة ما بين الأمم والثقافات. إن الاحتجاج على «السعدنة» باسم الفرح الحقيقي يؤكد أن عصر المدنية لم يَحِن أوانه التاريخي بعد، بالرغم من كل صخب المجتمع التقنوي الإنتاجوي، الذي تتحفنا به مرآوية الترويج لجنة المتع اللعبية؛ تعويضًا عن أية «عدن» أيديولوجية، مفارقة أو محايثة؛ فالإنسان «العولمي» صار محكومًا عليه بالسعدنة شاء أم أبى، ما دامت مدنية السوق تشنُّ على الناس إرهاب «السعدنية» كآمر مطلق لا مفر منه. غير أن العلموي في الواقع هو الذي يشنُّ على نفسه إرهاب السعدنة، متطوعًا في تبنِّي مصير الضحية تحت قناع الجلاد الذي تستعيره لوجهها البائس. فإذا كانت الاشتراكية ثارت قديمًا على سادية الرأسمالي، إلا أن العولمة شرعت مازوشية الضحية، وبذلك أبطلت تقاليد التمييز بين السيد والعبد. جعلت الجميع عبيدًا للسيد المجهول دائمًا، والمرموز له سابقًا بالتسميات المفارقة، وصولًا إلى السيد المتجسد والمجرد والأعظم الأخير، وهو السوق، بالحرف الكبير، لكن حصيلة كل ذلك ليست نصرًا ﻟ «بدائية الجسد» على «بدئية الجسد» فحسب، بل هي واحد من أعراض نسيان نسيان الكينونة، وربما كان من أخطرها، إذ يثبت الفصل النهائي بين الدلالة والمعنى، ويجعل الثاني دلالة إضافية أخرى على الأولى؛ محولًا كل تذكر للمعنى ضربًا من النسيان، من الدرجة الثانية، يصبُّ في دعم ذلك النسيان شبه المطلق، من الدرجة الأولى. فلا مبالغة بالقول إن مهرجانية السعدنية الغازية لمختلف أمكنة المدنية النخبوية الراهنة والرائجة، لا تكشف فقط عن إرهابية المنطق السعدني، الذي يتقن مقايضة الإشكاليات الصحيحة بالحلول العبثية، ولا تفضح عهرية السعدنة المشاعة والمعممة ضدًّا على ندرة الفرح، واستثنائية الحرية فقط، بل تسعى هذه المهرجانية إلى الختم على آخر تمرين قد تمارسه الإنسانية الأحقية في وعي الأزمة التضحوية ما فوق السادية والمازوشية معًا. ذلك الهدف الاستحالي الذي قد يحين أوانه المفهومي، لكن تطرده وتطارده مهرجانية السعدنة الباهظة.
إلى متى!
Paul Ricœur Philosophie de la volonté, l, Aubier, 1949, p. 21.
La République, Les lois, Timée, Le Banquet.
Jean Laplanche, Jean-Bertrand Pontalis: Vocabulaire de la psychanalyse, PUF, 1967.
-
Ovide: L’art d’aimer et reméde de l’amour.
-
Épictète: Manuel sur la tranquillité de l’âme.
-
Marc-Aurèle: Pensées pour moi-même, GF-Flammarion.
M. Heidegger: I, L’Eternel Retour du Même, pp. 201–367, ed. N.R.F.
M. Heidegger: I, L’Eternel Retour du Même, pp. 201–367, ed. N.R.F.
T. H. Irwin: Le Bonheur, in Revue de Métaphysique et de moral, No. 4, 1989.
Robert Mauzi: L’Idée de Bonheur au XIII, ed. Albin Michel.
M. Heidegger: Questions I De l’essence de la verité, N.R.F.
Gilles-Gaston Granger: La théorie aristotélicienne de la science, ed. Aubier, 1976.
G. Deleuze: Mille plateaux, ed. Minuit, 1980.
Logique du sens, ed. Minuit, 1982.
يستخدم اللاشعور هنا بمعنى غياب الجسد تحت وطأة اللغة؛ فإن لاكان يعتقد أن اللغة تدعم ذاتًا بدون جسد. والمقصود هو نسيج الدلالات التي تعطي صياغة عمومية لأحاسيس الفرد ونزعاته؛ بحيث يعجز عن التعبير عنها، ما دام لا يستطيع خلق لغته الخاصة. ومع ذلك فإن هذا الفيلسوف النفسي متعدد الجوانب والآراء، ولا تزال تكتشف له أبعاد جديدة مع متابعة نشر محاضراته وكتاباته الشخصية، لكن يبقى سلسلة «كتابات» المرجع الأساسي لمختلف نواحي تفكيره وتطوراته الفنية.