حول نظرية الجسد العاشق وتأويلاته

بين بَدْئية الجسد وبدائية الجسد

لماذا تغدو جميع موضوعات العالم قابلة للدرس والتحليل والمَوْضَعة الرقمية إلا أقرب المساحات إلينا، وهي مساحة جسدي التي أنا منها، مجرد حارس فضائي معلق فوقها في الفراغ. فليس إذن ما هو أصعب من أن أعرف نفسي، إلا أن أعرف جسدي؛ لا بد من قيام سقراط جديد للألفية الثالثة، يتيه في شوارع مدنها الحديدية مطلقًا شعاره الاختلافي: أيها الإنسان، اعرف جسدك بجسدك. لكن العبارة غير سليمة، وقد تكون متناقضة منطقيًّا. إذا صح الشعار السقراطي العريق: اعرف نفسك بنفسك، فلا سبيل أن أعرف جسدي بجسدي، إلا إذا تخلله الأنا، أو الوعي، أو الحس بمعناه الشمولي. أن أتفكَّر الجسد، فهذا دليل أن الجسد لا يمكنه أن يعرف نفسه إلا بما هو غير نفسه. وقد يكون هذا الغير هو من نوع الأقنوم المعنوي: الإنسان مثلًا أو وعيه وعقله؛ فالجسد قد يكون موضوع تفكر من قبل صاحبه، لكنه لا يكون تفكر ذاته. ها هنا تترسخ المعضلة الأساس: فأنا الذي لا شيء يمكن أن يجسمني ويعطيني ثمة قوامًا على هذه الأرض إلا جسدي، لكنه لا يعنيه شيء إن كنت أتفكره أو لا أتفكره.

كل تلك التأملات الموصوفة بالفلسفية، ومعها أو بعدها، كل التوصيفات العلمية والطبية والتشريحية والتجميلية … إلخ إنما تحدث وتقع وتتسجل في غياب جسدي. أليس هو ركيزة وجودي، ومع ذلك فإنه هو المنسي الأكبر تحت جُبَّتي. ولا يمكن اعتبار إشارات حاجاته الأولية من الطعام والشراب والنوم والمرض والإجهاد والمتعة، إلا من قبيل التذكير بالجسد الآلة، أو الفرس التي كنت أمتطيها جاهليًّا، أو السيارة التي تحملني راهنيًّا. ألست أربأ إذن أن يكون «هذا» هو جسدي؛ فالمسألة أن الأجهزة العضوية والوظيفية التي ينحل إليها الجسد، قد تؤمن ماديته وحياته، لكنها لا تعبر ياء النسبة هذه بين الجسد وجسد-ي. هذه الوظائف، على ضرورتها القصوى، وماديتها المطلقة، لا تدخل في تأسيس علاقتي القبلية بجسدي، وصفتها بالقبلية لا ترفعها إلى مصاف التجريد، بل تحملها عمق الحالة الكينونية التي تمثلها ياء النسبة تلك. إنها مجرد حرف، لكنه الحرف الذي يحمل عبء الهوية، ويظل مع ذلك خارجانيًّا عما تعنيه كهوية. حتى إن الأمر يبدو على العكس، إذ إنها تثبت اختلافي أكثر من هويتي. وربما احتاجت الهوية كيما تكون عين ذاتها، إلى ياء النسبة بصورة قبلية دائمًا وسباقة على كل قبلي. ما تأمر به ياء النسبة في جسد«ي» يفترض اختلافي السابق على تأكيد الانتساب. فما الحاجة إلى الانتساب إذا لم يكن ثمة تخالف بين ما أنا عليه، وما أصير إليه بعد أن أكتسب تأكيدي لشيء آخر هو الجسد الذي يصير جسدي. كما لو أن الجسد واقع دائمًا على مسافة من أنا الهوي. وإذ أشدد على القول إنني — أنا — هوي ذاتي، فلا أكون مضطرًّا إلى استحضار جسدي. حتى عندما أعكس سبابتي على صدري صارخًا: إنني أنا، أنا نفسي، فما أربت عليه من لحم صدري أو عظمه، لا ينشئ أسًّا في نص عبارتي. ليس ثمة لغةٌ تعتبر أن إبراز الجسد ضروري لإثبات الهُوية، سواء في التأشير أو التعبير. لا يخطرن على بال أحد عندما يتحدث عن شخص، أنه يقصد قوامه المادي، إلا إذا كان مطالبًا بتعداد ملامحه، كما أنه ليس من نحوٍ يعتبر أن الجسد هو من نوع الضمير الحاضر الغائب؛ فهو شيء خارج الهمِّ التعبيري، والسوق اللغوي. ولا يحتل أكثر من لفظه عند ورود مناسبته فحسب.

القول: أنا جسدي، فضلًا عن غرابته، وعدم قابليته للتداول اليومي، فكأنه يستحضر غائبًا، يأتي بما لا تفترضه مخاطبات الناس لبعضهم ملء الحياة اليومية. هذا فضلًا أن التأكيد الذي تنطوي عليه عبارة: أنا جسدي، يبدو لا لزوم له، وهي من التأكيدات التي لا تضيف جديدًا، بل هي تحصيل حاصل، إن لم تدفع بالمستمع لها إلى شيء من الهزء؛ فإن ديكارت عندما اهتدى إلى مبدأ التفكير كأساس لبرهان الوجود، لم يخطر بباله أن ينظر إلى المرآة أمامه، ليرى جسده قائمًا هناك قبل أي قول أو حتى أي تفكر، لكن المسألة ليسَت هي في إثبات وجودي كجسد، بقدر ما هو كإنسان، كأنما الإنسان لا يختصره جسده، ولا يدل عليه. فهذا الجهاز العضوي المادي الحار المنتصب هنا، لا يشرع في اكتساب إنسيته إلا على حساب ماديته. ولقد أصبحت هذه الحالة عادية لدرجة نسيانها الكامل؛ فالكوجيتو لا يتناسى الجسد كقاعدة للأنا أفكر فقط، بل يعلن ضمنيًّا عن ضديته له، هكذا: أنا لا أفكر إلا بمدى نسياني لماديتي.

هذه اللفظة الكبرى: الوجود، قد تعني كل شيء ما عدا بداهة الجسد، بل ربما لكون الجسد هو من بداهة الوجود، فإنه لا حاجة للإعلان عنه، لكن نص الكوجيتو المعنوي يرفض هذه البداهة أصلًا، بل لا يمكنه أن يطلق هذه المعيارية الغالية على العقلانية الكلاسيكية — أي البداهة — على شيء ما كالجسد مثلًا. ولقد كان همُّ الكوجيتو الأول التوصل أساسًا إلى إرساء علاقة التوازي المنجز بين التفكر والتوجد، بما يحتم مقايسة بداهة الأول (التفكر) بذاته، كمعادل لفعل التوجد، بطريق العلاقة المعيارية الأساس: وهي انبثاقة البداهة ما بين حدَّي التفكر والتوجد، بما يجعلهما حدًّا واحدًا، وتضامنيًّا بين طرفَي الحد الواحد. وهذه الإبستيمية أو المعلومية المشكلة للعقلانية الكلاسيكية لحداثة القرن الثامن عشر، قد جاءت ضدًّا على إبستيمية فجر الفكر الإغريقي السابق للأفلاطونية. ذلك أن أصل التفكر مع كلٍّ من بارمنيد وهيراقليط معًا، إنما يرجع إلى تولُّد الحس الدرامي بمداهمة الكونية، على حامل من المكان الكوسمولوجي نفسه، بدءًا من موقعية المادوية الجسدية للإنسان المفكر، المأخوذ بهول الكونية حوله، ولصق حواسه ووعيه.

ما أنتزعه من وساعة الهول الكوني حولي، هي حصتي الجسدية من مكانيته اللانهائية. فلست لأتخلَّى عن جسدي، قريني، وهو كل ما يتيح لي صلة ما بالقرين الكوني الذي لا يمكنني أن أنسبه إليَّ، وإن كان قرينًا يصحبني ويداهمني، ويدفع بي أكثر فأكثر إلى الاحتماء منه بقوقعة جسدي. وما القلق الميتافيزيقي إلا من ذلك الأصل الدرامي، هذا الرعب الشمولي من المداهم الكوني، المهدد كل لحظة باستلاب قريني الجسدي، حصتي الصغرى من المكانية اللامحدودة حولي؛ لذلك قيل إن أصل التفكر هو رعب الموت؛ لأنه يحرمني من حصتي من مكانية العالم، يفصلني ثانية عن القرين الآخر، الكون، بموت قريني الخاص: جسدي. إن جسدي هو علة وجودي، الذي يصير إلى غائية فنائي. ومع ذلك، فياء النسبية هذه تسمح لي بانفصالي عن مشهدية هذا المايحدث لي بين انوجادي وانعدامي؛ فللجسد تمثيليته الخاصة، وإن كنت أبدو مؤلفًا وممسرحًا لها، قسرًا عني.

إن إبستيمية الجسد اللاقرين، المبطنة لعقلانية الحداثة الكلاسيكية، أرست انفصالية الأنا أفكر عن العالم؛ أرخت لنشوء القطبية المتعارضة بين الذات واللاذات، فكانت بذلك على طرف نقيض من فجرية الميتافيزيقا الكوسمولوجية لدى الأغارقة الأولين، وما قبل السقراطيين، حيثما كان الجسد القرين النوعي جزءًا من القرين الكوني ethnos-cosmos. وكان الموت هو النقلة المحتومة بين الجسد الكتيم والجسد الشفاف، أو الشجي داخل الكوسموس نفسه.
حين أقول: أفكر الجسد، كأنني أقول: أفكر العالم. ليس بين العبارتَين أي استقطاب أو تقابل حدي، بل هناك تآخذ، واستمرارية بينهما، كأنهما من طبيعة واحدة. مع الشعور ولا شك أن جسدي يعطيني حصتي «الخاصة» من مساحة العالم. والخصوصية هنا لا تفترض الانفصال، بقدر ما تشير إلى نبرة تنوع في اللحن الواحد. وقد يطغى اللحن في كليته على نبراته. وهذا بالذات هو السبب في تمييز الرعب الكوني، هول اللامتناهي حولي الذي يجتاحني كذرة أو ورقة شجرة، فما يولد حس التراجيديا أصلًا، ليس هو في الانفصال عن العالمي، بقدر ما هو في العجز عن تحقيق الانفصال. ما أشق أن ينجو المرء بنفسه عن المصير العام الذي يشمل كل شيء، لكن التراجيدي ليس وحيد الاتجاه، أي إنه لا يدفع إلى الفرار نحو الداخل هربًا من الخارج، بقدر ما يتمنى في الآن عينه أن يجلب هذا الخارج إليه، أن يستتبعه بجسديته، بإرادته.١
إن مولد التراجيدي يؤرخ لمولد الجسدي في الحس الإبداعي، كما في التفكر الفلسفي. وهو المولد الذي يظل ناقصًا دائمًا؛ لأنه يعطي الحد في منظور البعد؛ فهو يأتي انفصاليًّا عما كانه، ليلحق بما لم يكنه بعد؛ فالجدلي ليس بين ذات النفس، وذات الآخر، لكنه على الصعيد الدرامي، هو جدل الحدَّين تحت طائلة الثالث الآخر، الذي هو العمق الكوني، كمسرح يشمل الداخل والخارج معًا، ويطفح عنهما أيضًا. ولم يتراجع الحس التراجيدي «الكوني» إلى مجرد علاقة التناحر بين الأنا والأنت إلا مع حضارة العمل. وعند ذلك تنبثق الذات بديلة عن بدئية الجسد. هذه البدئية انحدرت كذلك عن وضعها خارج التصنيف، إلى المرتبية الدنيا من التصنيف الذي سوف يتحكم في نظام الأنظمة المعرفية للإنسانية المتحضرة، تحت تسمية الأخلاق؛ إذ يصبح الجسد هو محط الشهوات، متحدًا مع مصطلح آخر هو «النفس»، الأمارة بالسوء. أي المدانة مقدمًا. وسوف يحصره أفلاطون في منطقة البطن وما تحتها، ويجعله الدرك الأسفل من عمارة الإنسان الناهضة من الحيوانية إلى ذروة الآدامية. ويقبل العقل الأخلاقي منذ عهد أفلاطون بشطر الإنسان ناحيتَين، مشخصًا بذلك مفهمة الثنائية التي ستغدو هي نفسها وحدة العملة للعلم الجديد: المنطق، على الأقل في جانبه الإبستمولوجي. وهكذا أنجزت الأفلاطونية الانقلاب الاستراتيجي المسيطر، من بدئية الجسد إلى بدائيته. لم يعُد يشغل وظيفة البدء من كل ما هو إنساني، بل أصبح المطرود من ساحة الأقوال والأفعال الظاهرية، وإن اختفى أو جرى إخفاؤه في باطنية النوايا فحسب، حيثما جرى الإعلان عن جريمته الأصلية مع البذرة الدينية، وتم اعتقاله بعد عصور الأديان، في قفص اللاشعور الفرويدي والتحلينفسي؛ هكذا تتابع التناوب على محاكمته عبر لوائح اتهامية، لها أسماء العلوم الإنسانية من البسيكولوجيا إلى البيولوجيا، ومن الاجتماع والصحة إلى القانون والتشريع، والحجر الاستشفائي أو العقابي، أو التربوي. فإن التاريخ تحدث دائمًا عن قصص الإنسان، والشعوب والدول، لكن الجسد عاش دائمًا بدون ذاكرة فردية أو جماعية، مدونة أو ترميزية. وعلى ذلك يمكن الجزم أن إبطال الجسد سبق إبطال الإنسان، وأنه ربما أسس الأول للثاني وأوصل إليه.٢
«بدائية» الجسد، فرضت السلوكيات والمفهمات الهادفة إلى التخلص منه، والتبرُّؤ من أي تلبس ببعض التماسات مع محرماته. ولقد عوضت هذه الاستراتيجية، طيلة التحقيبات المعرفية، عن تغييب «بدئية» الجسد، والتحلل المنظم من شيئيتها المحايثة، باعتبارها هي نقطة البدء، وكل ما عداها يأتي تاليًا عليها، ومنحدرًا من ينبوعها الأوحد؛ فالخلاص من مداهمة الكوسمولوجيا، للكائن الأضعف الأعزل الأفقر، الذي هو مجرد الإنسان، إنما يكون بالتخلص من الجسد، بما هو ممثل الكوسمولوجيا في عقر دار الذات الهلوع، وهو المندوب الدائم المفروض على داخلانية سريتها المصمتة الليلية؛ فالنفس، التي هي الأمارة بالسوء، إنما تحمل صاحبها أعباء ذلك الجسد المفروض عليه، من غير إذن منه، ومن دون سيطرة على جوعه وعطشه، ونومه ويقظته، وصحته ومرضه، وبالأخص على جنسانيته الطاغية. هذه «النفس» ليست هي الروح الطيبة المانحة للحياة، وليست هي من صلب الجسد، وإن كانت أمست من عشيره الأقربين، وقد تكون النفس فريدة اللفظ والدلالة في العربية، وخاصة في حقبة الاصطلاح الديني. وبينما نجد النفس حاضرة الصخب والغضب في المشهدية الذاتية والجمعية، فقد نحيت الروح، وختم عليها تحت سلطة السر الإلهي، ما إن حكم عليها النص المقدس، كونها «… من أمر ربي!» فالنفس أقرب إلى الجسد في النص القدسي، بينما الروح تتنزَّه عن النفس والجسد معًا، وتصير إلى أمر ربها فحسب؛ إذ إنها زائرة للجسد وقت حياته، ومفارقة له وقت مماته. وكأنما النفس زائلة زوال صنوها الجسدي؛ فهي الناطقة باسمه، المعوضة عن صمته، بصخب الرغبات والشهوات. بينما تنص النفس الأفلاطونية على انقسامها الأخلاقي تراتبيًّا. وهو انقسام يناظر تراتب العقل في الرأس، مركز الحكمة (الفضيلة)، وتحته القلب مركز الشجاعة، وتحتهما معًا: البطن مركز الشهوات، من طعام وشراب وجنس. وهذه النفس فانية بجميع وظائفها، كما يؤكد أرسطو. أما الروح فيظل وجودها التباسيًّا تحاول أن تقترب من النفس، ومن طبقتها العليا العقل؛ وذلك عندما يتصفى العقل بالحكمة، ويرقى إلى مصاف المثل؛ ومتبرئًا من درن الجسد وفساد الحس، واختلاطه بالهيولى، عالم المادة الخام، يصير شافًّا، روحانيًّا، ويتعامل فقط مع الذاكرة الأنطولوجية الحافظة لكمال المثل؛ فالروح حالة عقلانية عليا. لا يمكن بلوغها إلا بمجاهدة العقل للمعرفة، لبلوغ الحكمة، ليست الروح معطًى أوليًّا كالجسد، أو النفس، بالمعنى الأفلاطوني، فلا بد من المعرفة طريقًا أوحد للحكمة، التي هي بدورها مانحة السعادة، أو طمأنينة الروح أخيرًا. على أنه ينبغي التنبه إلى أن الأفلاطونية لا تعطي بديلًا عن الكوسمولوجيا الإغريقية، لا تضع فوقها أو خارجها عالمًا أعلى، بل إن «وطن» المثل ليس عالمًا مفارقًا، حتى عندما يأتي ضدًّا حاسمًا على عالم الأرض والمادة والجسد؛ فالجدل الأفلاطوني يظل إنسانيًّا داخلانيًّا، وينتمي إلى وعي الفرد، وجدله اليومي، متقلبًا بين حاجاته الحسية المباشرة، وتطلعه إلى كمالات الوجودية؛ فالأنطولوجيا ليست بديلةً عن الكوسمولوجيا. والأولى محتاجة إلى محايثة الثانية، والانخراط في الحوار معها عبر الحياة. والكائن (أنطولوجيًّا) ليس إضافة حتمية على الحي، لكن ليس ثمة كائن دون أن يكون حيًّا. وعند القول حياة، فالجسد هو البَدْء والعمق والمنتهى.٣

ثنائية الحي والكائن

عندما يخاطر الكائن، فيكف عن الانشغال بالحي فيه، فإن إهمال الجسد لا يعفي من انتقامه المباشر، سواءٌ عن طريق صراخ الحاجة المادية فيه، أو اعتراض المرض، أو دنو الموت عينه. وربما كان لهذه الأسباب القاهرة عينها قامت نزعات القرار من الحس وأفخاخه، فراحت تتسع ثمة مسافة مفهومية بين الحي والكائن إلى درجة أن أصبح الثاني نقيضًا للأول، هكذا: لا يصير الإنسان إنسانيًّا إلا إذا قمع الحيواني فيه. تلك حكمة باطلة، لكنما صدقتها البشرية بنوع من السذاجة المستسلمة. والثنائية البائسة هذه سمحت للديني أن يستثمر المسافة المفهومية بين حدَّيها (الحيواني/الإنساني) لصالح الإجهاز عليهما معًا، وتتويج الروحاني فوقهما لوحده؛ فالجسد ليس معطى ذاته، لكنه صنيعة الروح، ورفيق مفروض عليها. وهي تحل فيه ليوجد ويحيا، ثم تنسحب منه، لتسلمه إلى البلى والهلاك.

ثم بعد استثمار الديني لهذه المسافة المفهومية المفتعلة، جاء الحداثوي التقنوي، ليمسح الفرق بين بيولوجيا اللحم وآلية المعدن. ولا تزال الهوة فاغرةً فاها بين الحي والكائن؛ فالمعيارية تطالب الكائن أن يحجب الحي فيه، مقترحة أواليات متناسبة مع ظروف المجتمع. فلا إبراز للكائن إلا بقدر ما يبتكر من أواليات الحجب والتقنين والمناورة، وفرضها على تلقائية الحي؛ حتى يفتقد تعبيريته الخاصة، ويدخل رطانة الاصطلاح اللغوي المبرمج.

ترتكز المسافة المفهومية بين الحي والكائن في المصطلح اليوناني خاصة، على التمييز بين العنصرَين النوعي ethnos، والعقلي النطقي logos؛ فالجسد يرجع إلى النوع وهذا بدوره إلى الجنس، وهو الحيوان، لكن الكائن، أو الإنسان تحديدًا، هو محمول على النوع، مما يتطلَّبه ويتجاوزه في الآن عينه. والجسدي، بدءًا من الأفلاطونية، هو الحيواني ولا شك، لكنه بما أنه يحتمل معه إمكان النفس، فإنه لا يلبث أن تشتمله ضرورة الكائن كإنسان؛ أي يرشح الحيوان كيما يصير جسدًا للإنسان، لكن فكرة الثنائية الأخلاقوية والدنيوية تعكس هذه الحركة. فتجعل أحقية الكائن تحتم على الإنسان كضرورة لذاته، تحتم عليه رد إنسية الجسد إلى أصلها الحيواني، على اعتبار أن إنسية الجسد هذه اكتسابية إضافية؛ فهي من مستوى الإمكان، وليست من ضرورة الإنسان كمفهوم؛ أي بما هو ذاتي مفهومه. لا فرق بين العلية الفاعلة والعلية الغائية في «آلة» الحيوان؛ إذ تحل مكانهما معًا الوظيفة، بينما الكائن هو مشروع الإنسي، إنه، أسيًّا، مرصود لغائية لا تعرف لها حدًّا. وقد تصور الأخلاقويون أن الجسدانية إنما تمثل وظيفة المنع والإعاقة لحركة هذه الغائية التي هي بدون غاية، عندما تفرض عليها منطق إرواء الحاجات المادوية المباشرة، بديلًا عن الارتهان لتحصيل كمال التجوهر الإنسي غير المحدود.٤

هكذا رسخت الثنائية اعتقادًا مسيطرًا: أنه لا يكون ثمة تحقق لأحد قطبَيها: المادي، أو الروحاني إلا ضدًّا على الآخر، أو توفيقًا بينهما، بعد طول استعداء الثاني على الأول، لكن بلوغ التحقيب الأخلاقوي محطة النظرة التكاملية بينهما، لا يعني تحررًا من الثنائية، بل تثبيتًا لها تحت ادعاء تأحيد قطبيها؛ فلقد جرى دائمًا افتراض قسمة الإنسان بين الروحاني والمادوي، وترسيخ هذا الافتراض كبديهية في أساس كل نظامٍ معرفيٍّ أنتربولوجي إناسي؛ ثم انطلقت محاولات إعادة التوفيق بين حدَّي القسمة، والتغلب عليهما بمزيد من تأكيد الاستقطاب. واعتاشت الثقافة غربًا وشرقًا على انفصامها الافتراضي الذي رسخته الأخلاقويات تحت شتى تسمياتها وتعريفاتها، ولم تنجُ الحداثة من سلطة تلك البداهة الأولى المسكوت عنها، بل اخترعت مفهوم الذات، وصاغت منه أقنومًا تأسيسيًّا جديدًا، حاملًا في عمقه بذرة الانفصام المعهود، وممشهدًا، عبر تمثيليات مستحدثة مضخمة، لثنائية الذات والموضوع، الأنا واللاأنا، المركز والمحيط.

إلا أن الحداثة اشتغلَت على تظهير الاستقطاب من داخل الذات، إلى مسرحتها عبر الصراع مع وضد المماثل؛ بما ترمز إليه أسطرة التوءمة بين الأخوَين قابيل وهابيل؛ فهنالك دائمًا القطب العقلانوي والأخلاقوي والتمديني، والفاتح الغازي، ومقابله القطب الخام، المادوي، المعادي، والمشيطن، والمعاند بتخلفه وانفعاليته الاستبدادية؛ فالذاتوية عقلنت حتمية التثنية المتخالفة مع المماثل، وأعطت نفسها حق الشرعنة المطلقة وفرضت على الآخر مسئولية التضحية الدائمة، وأقامت بذلك حضارة «ما قبل التاريخ» كما لو كان هو التاريخ عينه؛ افترضت طوبائية المدنية ضدًّا على تلك الحضارة، وحملتها أعباء إنجاز نهائية التاريخ وتصفية عقابيلها جذريًّا، وإشادة مملكة الوحدة ثانية بين الذات والعالم لصالح الأولى كليًّا. حتى إذا حان الاعتراف أخيرًا بالجسدنة، فلن يأتي إلا على شكل مأتمة تعويضية لجسد مخضب بجراحات التاريخ، وخزان لدفن نفايات المغامرة الذاتوية، وبدلًا من إحياء حقيقي لجسد متحضر، تجري استراتيجية أقنمته في مهرجانات الإفراط المفتعل بفنون التعرية، وتصنيمها في وثنية الجنسنة وحدها، استرضاءً لعفو، أو استعفاءً عن جريمة قتل الإنسانية للأب، لأبيها الحقيقي الذي هو أساس وجودها، ذلك الجسد المتهم الأوحد بجرائم أبنائه من دونهم جميعًا. ما أتاح للفرويدية أخيرًا أن تستثمر مأتمية دائمة لا ترقى إلى «بطولة» تكرار القتل، بقدر ما تشتغل على طقسنة الدفن لجسد، أضحى «لا شعورًا»، مجرد «لا شعور»، أمسى قبرًا مفتوحًا لتلقي جثث الانفعالات الكبرى الممنوعة التي زورتها انفصامية الثنائية الأزلية؛ وعاقبتها دائمًا بمنعها من تحقيق ذاتها، كما لو كانت أنجزت تحققها «المستحيل» ذاك، واقعًا وفعلًا.٥

كأن الانتهاء إلى أسطرة الجسد لم يكن ممكنًا ولا جائزًا إلا عندما استنفد الجسد حيويته وأصالته عبر المعارك الدونكيشوتية المفروضة عليه، من خلف رايات الذاتوية الغازية دائمًا؛ حتى تحول إلى قبر ومدفن لجسدانيته الناصعة، السابقة على تاريخ من الإجهاض المتناوب، والتأجيل المتكرر لتحيين مولد التراجيديا الإنسانية، وتزويرها بمسرحة الميلودراما الأخلاقوية، وذلك باستحداث وتعميق الهوة بين الحيواني والإنسي، بين الحي والكائن في أقنوم الإنسان الواحد؛ مما أجبر الثقافة على مقاربة تلك الهوة من خلال اختزال الميتافيزيقيا إلى الذاتوية المعيارية، ومنعها من التعامل معها كمسافة مفهومية، تمشهد وقائع الصيرورة الإنسانية كمغايرة خلاقة دائمة للإنسية مع حيويتها المتدافعة.

يوفِّر الجسد قاعدة الحياة التي عليها أن تنتظر انبناء الكائن الإنسي على أساسها، وهو انبناء تعرض دائمًا لالتباسات التفسير بحسب التحقيب المعرفي لكل ثقافة/حضارة على حدة. غير أن هناك تسليمًا باختلاف العمارة الإنسية عن قاعدتها الحيوانية، وأن هذا الاختلاف ولَّد معيارية تمييزية بين البنيان وأصوله. وكما قلنا، فقد استمر الالتباس معقلنًا بمناورات المعيارية، حتى عندما انعطفت الحداثة نحو تغيير جذري للنظرة وللمشهد معًا. للنظر إلى مادية الإنسي كتشخيص لكينونته، وليس كغلاف حاجب لروحانيته وحافظ لها من البداد والتأذي؛ فالجسد ليس مسكنًا لسواه، وليس مقامًا موقتًا لروح شاردة، وقد يتحول بنظر غلاة التدين والتصوف إلى سجن لعقاب الروح على خطيئة مجهولة أو معلومة، ارتكبتها في حق الشريعة العلوية.

تاريخانية الجَسْدنة: من الأَسْطرة إلى المَأْسَسة

ما يمكن قوله: إن طريقة التفكر في الجسد عيَّنت تفكر الحضارة بذاتها وإنسانها، وبالعالم من حولها. ولقد كان همُّ الوعي أن يتفكَّر هذا الجسدَ الذي يحمله هو، ويستبطن تحمله له؛ فالجسد يحملني، لكنني أنا أتحمله كذلك بطريقة حياتي كلها في رفقته المحتومة، وعبر ضرورة التزامه والالتصاق به من داخل، بينما لا أدري شيئًا عن موقفه من عنائي هذا، وانهمامي به، غير أن الفرد لا يتفكَّر الجسد إلا عبر تفكر الجماعة له؛ فالهُم يتدخَّل بيني وبين جسدي، وهو ضمير غائب، لكنه الحاضر دائمًا بين المتكلم مع نفسه، أو مع المخاطب. ليس لي أن أترجم أحوال جسدي إلا عبر استراتيجية الجماعة كلها إزاء ذاتها، والعالم من حولها؛ فأوضاع الجسد الخارجية، وأحواله الباطنية خاضعة كلها للأسماء والصفات التي تؤشر قبولها أو رفضها، استحسانها أو استكراهها؛ فهي وليدة تصنيفها اللغوي، وتقييمها الأخلاقي، وتلاؤمها أو تعارضها مع العادات والأعراف.

وهكذا، إن استظهار الجسد وهو في وضعه الخام، كان من أصعب تكاليف الفكر الفلسفي. وقد ترك أمره للإبداع القصصي والشعري والفني؛ فليس معنى الإبداع في هذه السياقات إلا نجاح العمل الأدبي والفني في استظهار خامية الحالة الذاتوية والجسدانية، ما وراء التوصيفات التداولية؛ فالمبدع هو استظهار المسمَّى من تحت اسمه الشائع، بدلًا من اختصاره في ملفوظه الشائع؛ فالتمثال العاري مختلف عن كل الهيئات التي تقدمه مكسوًّا بثيابه، ومطرَّزًا بحسب موضة عصره.

أن أفكر الجسد يعني أن ألتقيه في برية عُريه الكامل؛ ذلك هو الفارق بين التمثال كحجر بين الأحجار، وبينه كتمثال لأفروديت مثلًا. والمبدع الفني يصف، يصور، يموسق الجسد، يشعرنه، لكنه لا يفسره. العلم هو الذي يأخذ على عاتقه هذه المهمة، ما إن أخذت حادثة المرض والألم تدفع الثقافات، مهما كانت ابتدائية وأسطرية، إلى اجتراح التفاسير، واكتشاف العلاجات الموهومة أو السحرية وصولًا إلى تطوير المأسسة، في حقل العلاج للجسد البيولوجي والنفسي، وفي حقل التأديب والمعاقبة والعزل، للجسد الناشز أو «الآثم» أو المعتوه.٦ فنبتت مؤسسة السجن ربما أسبق من مؤسسة المستشفى العام، أو «الميرستان» للمجانين. حتى يمكن اعتبار أن الحضارة هي مشروع المأسسة، منصبًّا على موضوع واحد هو الجسد، تحت طائلة تخليصه من بدائيته، وانتزاعه من عريه الأصلي، واستدخاله تحت أقنمة «الإنسان». كأنما أضحى الإنسان جثمان الجسد. لا يبدأ الإنسان، إلا حيثما ينتهي الجسد إلى مجرد جثمان.

إن العلاقة بين المأسسة والأقنمة متعارضة أساسًا؛ لأن المأسسة تنتج التنميط، والأقنمة تفبرك التفريد، لكن أقنوم الإنسان يستتبع تفريده كذات مفصولة عن «جنس» الأحياء جميعها، ثم في خطوة ثانية يضحي الإنسان المتمدين ضدًّا على البربري والهمجي أو الجاهلي؛ فالمأسسة تنتهي إلى جَعْل أقنمة الإنسان تنميطًا يخصُّ نوعه، ثم لا يلبث التنميط أن يعيد توزيع الإنسان إلى خانات تراتبية تحت صيغة النوع عينه؛ فالحضارة تفترض «تنافسية» الأقوام فيما بينهم بحسب الأحقية العنصرية أو الأيديولوجية، باكتساب أفضليات الإنسية، أو التمدنية كرديف لها، ما بين قبائل البشر. ولا ننسى أن مواصفات الجسد وتحالفها بين العروق، كانت في أساس العنصرة الشعبوية، قبل أن تغدوَ شريعة أيديولوجية واعية لبرهنتها وهدفيتها، وتعتنقها ثقافات عالمية وتاريخية، مبررة بها حروبها الصغرى والكبرى بين جنسياتها المتصارعة على أولوية القيادة الكونية.

وعلى هذا فالجسد لم يكن غائبًا أبدًا، بل كان تفوُّقه الكاسح بماديته المطلقة ضمن الأقنوم الإنساني، السبب الأول في اختلاق الحضارة، مقابل الجسد كذاتي الخلق. والتباين واضح هنا بين اختلاق الحضارة كإجراء إرادوي في ممارسة تخليق الجسد، بما يحجب خلقه الأصلي. ولعل مصطلح الأخلاق قد عاش دائمًا على التباس الخلق بالخلق. وفي العربية فإن عبارة الخلق تنطوي على فعل الخلق ومفعوله في آنٍ معًا. وقد يغني ازدواج الدلالة عن معارك الفطري والاكتسابي، في التفكر الإناسي والتربوي الحديث. ولو لم يتم تدجين الجسدي إلى درجة الصفر من «خلقه» الأول في ظل التحقيب المعرفي للمشروع الثقافي الغربي بخاصة، لما أمكن بلوغ هذا الحد القصووي من طمس بدئية الجسد تحت اتهام وإدانة بدائيته، ثم العمل بكل جهد معرفي، واعٍ على حل وانحلال الجسدي إلى القابلي وحده، إلى الهيولى فحسب.

ماذا يشغل الفردَ في حياته اليومية سوى إرواء حاجات الجسد، من طعام وشراب ونوم، ومعها رغبات المسرَّة واللذة ودفع الألم، والانتصار على الأمراض والإرهاق والشيخوخة. إذا كان الجسد هو آلة الإنسان، فإنها هي شغله الشاغل، مهما ارتقت ميوله العليا، وتشابكت مع مصالح وتطلعات الشخصيات الأخرى المعنوية التي يكتسبها الفرد، ويحاول التمظهر من خلالها، لكن هذا الانشغال القسري الذي يسجل إيقاع الحياة، هو المحرض الأساسي كذلك ضد علاته الأولى؛ فقد يبدو أن للجسد سلطانًا قاهرًا من خلال تطلباته المادوية الخالصة، وما يمكن أن تُبتنى عليها من أنظمة السلوك والقيم والتعامل مع الذات والآخر، والجماعة. فالشهوات لا حد لها، وإن الاستسلام لها يتهدد توازن الفرد مع بيئته، ويدمر قاعدته الجسدية نفسها؛ ولذلك سريعًا ما برزت الفلسفات الداعية إلى إحباط النزوع الشهوي ومقاومته، بالحد منه وتنظيمه. وكانت الأفلاطونية سباقة إلى تقعيد مبادئ الرقابة العالية على النوازع الدنيئة. وتخصصت الأبيقورية في ابتكار أنظمة الرقابة الذاتية، وجعل الفرد حكيم نفسه؛ فالجري وراء المتعة الآنية يقاومه إغراء الطمأنينة. والأفضل من تكبد فعل اللذة وعواقبها، هو الامتناع الإرادي عن الفعل، والانصراف إلى تأمل رخاصته للتفوق على غوايته المباشرة. بناءً على هذه القاعدة الأولية أصبح بمقدور الفيلسوف الأبيقوري أن يبتكر مفهومًا جديدًا للسعادة، لا يتضمن دفع الألم الناجم عن الامتناع، أو «ألم» اليأس من بلوغ الحدود القصوى للنزوع الشهوي؛ فهو يرغب في إلغاء الرغبات، في تصحير جسده إلا من الحاجات التي يصنفها، حكيم الحديقة الأبيقورية، طبيعية وضرورية، كإطعام البطن بالخبز الحاف وحده، وإروائه بالماء، وإطاعته ساعة يحين نومه الليلي، لكن التفنُّن بشهوات الطعام والشراب والرفاه، يخرج هذه الحاجات عن كونها طبيعية وضرورية. أما الجنس فهو طبيعي لكنه ليس ضروريًّا، ويمكن ليس تقنينه فحسب، بل إبطاله. يبقى أن طمع الإنسان بالثروة والجاه والسلطان والاعتبارات الاجتماعية، ليس طبيعيًّا ولا ضروريًّا، ويمكن العيش من دون وعثاء هذه الدنيوية جملة وتفصيلًا؛ فالحكيم السعيد هو المتمتع بحالة الأتراكسيا L’Atraxie الامتناع عن الفعل؛٧ بدلًا من الخيبات الكبرى المتأتية عن استعصاء كمال الارتواء من أية نزوات ليست طبيعية ولا ضرورية، بدلًا من صحراء اليأس أو القنوط ما بعد الملذات القصوى، فإن تصحير النفس من نوازع هذه الملذات مقدمًا، قد يوفر على قصداء الحدائق الأبيقورية معارك الذاتوية المريضة بالشهوة المطلقة، وتأكيد ذات النفس، وانتزاع الاعتراف بها عن غير طائل حقيقي ودائم، ما عدا أوهام الغرور الدنيوي العابر.
لكن أبيقور لم يكن أفلاطونيًّا، هاربًا من خداع المتع الصغيرة، إلى تعويضها بطلب الهداية إلى عالم براق من المثل المفارقة على طريقة أفلاطون، كما أنه لم يكن سباقًا إلى طلب التعويض عن دار الفناء بدار البقاء، كما سيغدو — هذا التعويض — تأسيسًا جوهريًّا للخطاب الديني فيما بعد؛ فهو القائل إنه «ينبغي التأمل والبحث في الأسباب المنتجة للسعادة عندما نتملك منها، أما حينما تفتقد السعادة، فإننا سنفعل كل شيء من أجل تحصيلها.»٨
كأنما التأمل في أسباب السعادة المكتسبة يجنِّبنا خطأ البحث عنها في غير سياقاتها الطبيعية، لكن ما يقصده أبيقور من السعادة، ليست تلك النشوة الديونزوسية العارمة التي تفجر في الكائن مكامن حيويته البدئية، بل ربما كان الأمر على العكس تمامًا من كل ما كان يقصده الفلاسفة اللذيون الباحثون عن غبطة المتعة والفوز بالفرح أينما وجدوه؛ فالأتراكسيا ليسَت هي الامتناع عن الفعل فحسب، بل قد تكون كذلك كاشفةً عن لذة الامتناع، عن تلك الطمأنينة التي تجعل الإنسان البحار يجرب الانسحاب من مصارعة الموج إلى التأمل في صخبه من عتبة الشاطئ. في حين أن اللذيين (السينيكيين Les Cyniques) لا يجهرون بطلب المتعة فحسب، ولكنهم لا يرون طريقًا لتحرر الفرد إلا بإطلاق تلذيذ الجسد، وإشهار طقسنة ديونزوسية معارضة تمامًا لشريعة العَقْلَنة الأبولونية، كما أرست قواعدها الأصولية، أكاديمية أفلاطون؛ فالإنسان مرصود أولًا للسعادة وليس ثمة وسيلة إليها إلا بمعاقرة اللذة المباشرة، أي بتوسط الجسد. إن الإقرار بواقع الجسد، بماديته المباشرة، مقدمة ضرورية لمنحه أحقيته على صاحبه، وبالنسبة له. وإن الوعي أو العقل بالمعنى الشائع ليس طرفًا نقيضًا خارجًا عن مملكة الجسد، بل هو منارة داخل شرنقته، وتضيء دواخل الجسد ودهاليزه الغامضة.
لقد حاول الرواقيون أن يوحدوا هذه المنارة الذاتية، بمراس الإرادة؛٩ ذلك أن السعيد ليس هو المستسلم لنوازع الارتواء المادي المباشر، والاستعلاء الاجتماعي، بقدر ما هو المراقب لسلوكه والبارع في قيادة نفسه، والقادر على تحجيم الانفعالات الطائشة؛ فالرواقي ليس هو الأبيقوري الخائف مقدمًا من الألم، بما يمنعه من ارتكاب أية مغامرة في اقتناص المتعة، بل هو المواجه لأسبابه والمتعامل مع وقائعه، والقادر أخيرًا على الإمساك بتلابيبه.

تراجيديا جسدانية ميلودراما أخلاقوية

إن ميلاد التراجيديا الحقيقية يقع على هذا المفصل ما بين العيد الديونزيوسي والمأتم الأبولوني. وإذا كان نيتشه صاحب الرؤيا التراجيدية الأصلية، قد أعلن دائمًا انحيازه إلى ديونزيوس ضد نقيضه أبولون، إلا أن أساس التراجيدي هو العنف الحيوي الذي يشبك كلًّا من اللذة والألم معًا.١٠ أي إن الأصل هو الجسدي المباشر لبدئيته كتجسيد للحياة الفوارة والموارة بكل نقائضها. وقد يكون الرواقي في كل زمن، وليس في عصره الروماني فقط، هو القابض على المفتاح التراجيدي لأنه يفترض أولوية الصراع بين مبدأ اللذة ومبدأ الواقع؛ لأن الإنسان مشتق من مادة حيويته، ما يجعل من الإرادة تمثل أرقى تصعيد للحيوية، بما يقارب الوعي، الذي عليه في النهاية أن يعبر عن وحدة الإنسان، جسدًا وروحًا، في مواجهة الواقع، وإسقاط تراجيديته الذاتية على موضوعيته المداهمة.
ومع ذلك فإن النيتشوي ليس رواقيًّا معاصرًا، ليس الإرادوي العقلاني في عصر التقنية. إنه بالأحرى داعية الإرادوي التراجيدي، الذي لا يرضى بمحالفة الشيطان على طريقة فاوست، بل قد يحالفه وهو يخالفه، والعكس بالعكس في الحين عينه. وذلك بكل بساطة لأن مولد التراجيديا يكرر حادثته عند كل مفصل وجودي جسدي، على حد مبدأي اللذة والواقع،١١ لكن تكرار التراجيدي لا يكرر نفسه، بل يعطي نفسه تراجيديًّا، اختلافيًّا، دائمًا في كل مرة. وساحة التكرار التراجيدي هو الجسدي وحده بلا منازع؛ لأنه لا يقدم الفرح نفسه، ولا الألم نفسه، حتى يظل باحثًا عن ذلك الثبات العصي ما وراء اختلاف أحواله عينها؛ أي إنه من طبيعة الجسد رغم استقراره البيولوجي، إلا أنه لا يقدم عطاء الحب نفسه، ولا النشوة عينها، ولا يوقع الألم اللاحق، كالألم السابق؛ فالجسد ليس هو الثابت ولا المتغير، ولكنه هو العلاقة، الراهنة الحاضرة أبدًا، بكل من الثابت والمتغير فيه معًا. وتلك هي هويته الخاصة التي تظل خارج كل الهويات التفريعية للأهوال والأفعال الأخرى الصادرة عنه، أو المقترنة به؛ فهو موطن الهوي المجهول لكل ما يلحق به من هويات أحواله المعلومة أو المحجوبة.

سؤال: ما هو الجسدي؟ لا يتضمن اللحم والعظم والجلد، لكنه هو سؤال الذات عما يخصها من هذا الجسد، كل تميز الإنسي عن الحيواني فيه ومعه، إنه يستطيع أن يكون جسده ولا جسده في آنٍ؛ فالإنسي يتصرف كما لو أنه بدون جسد أصلًا، ولا يسترد الشعور بالجسدي فيه إلا مع إثارة حاجاته الحيوية. ولقد اعتبر الفلاسفة أن هذه الحاجات، وحتى جدل الألم واللذة، لا يظل كل ذلك منوطًا بالجسد وحده؛ وأن اللغوي التعبيري هو الذي يتدخل في شخصنة دلالات لإشارات الحاجة، كما لأسلوب الألم واللذة، وطريقة ضغطهما على إحساس المرء؛ ولذلك فإن الرواقي الصريح قديمًا، والمنبعث حديثًا باستمرار، الذي صار اسمه الأخلاقي عامة، كان يبشر أن السعادة لا تتعارض مع الفضيلة، اعتمادًا على ثقافة الرقابة والسيطرة للإنسي على الحيواني في الكائن البشري. حتى أصبح هذا الوجود «الآخر» للذات على مسافة من تجسيدها الحيوي، وعبر تسميته بالروح أو الوعي أو الإرادة، هو الموضوع الحقيقي الجدير بأن ينوب عن الجسد وعما يتخطَّاه في وقت واحد، كموضوع للتفكر والتعاطي معه. بمعنى أنه رغم أن الجسدي هو آلة الإنسان لتحققه كل لحظة، وأداته المفضلة لبلوغ السعادة خاصة، فإن الجسدي يتحوَّل إلى نوع من العضو-القاعدة، المفروغ منه، كما لو أن الألم واللذة لا حقيقة لهما بمجرد الإحساس، إن لم يعترف بهما الإحساس الآخر، المتأنسن. لقد حرص الفكر الأفلاطوني وامتداداته الرواقية، وصولًا إلى المسيحية والحقبة الدينية على استثمار هذه الخاصية الأنطولوجية في أنسنة الإحساس، واختزال الأنسنة إلى جاهزيات وظيفية خالصة محكومة مقدمًا بهدفية الفضيلة. وهكذا مع المبالغة في التطهرية الدينية أمكن وضع كلٍّ من الجسد والفضيلة على طرفي نقيض، ما دامت بداية الرحلة الأنسنية تنطلق من تقرير «حيوانية» الجسد، لتصعد منها إلى الخير المطلق، الذي ينهي الحد بين الإنساني والإلهي. ولقد كانت حجة أرسطو في الأصل قائمة على أن الرأي العام لا يميز عادة بين الحق والخير والجمال؛ فهي مُثُل متضامنة ولا يمكن لأحدها أن يناقض الآخرين؛ فهي تؤلف المضمون المتكامل للعقل، اللوغوس.

ليس ذلك إلا لأن القيم الثلاث متآلفة من حيث الشكل، لكن بلوتارك Plutarck، قد يسلم بهذه الحجة على مستوى الشكل، لكي يعود ويجاهر بتعارضها على صعيد التطبيق؛ فإذا كان من المفترض — شكلانيًّا — أن كل ما هو جميل ينبغي عليه أن يكون حقًّا وخيرًا في عين الحالة، إلا أن التجربة اليومية قد تقدم الجميل دون أن يكون فاضلًا دائمًا، ولا حتى حقيقيًّا. وعلى هذا فالذي ليس وسيلة السعادة، إن كانت السعادة لا تعني سوى طمأنينة الأتراكسيا أو امتناع الفعل.١٢

وقد يكون اللغوي أو اللساني عامة لا يسمح بتظهير اللفظ الجسدي، ولا بتداول اصطلاحه الكينوني، وذلك خوفًا، أو تحت طائلة التورط بالتعامل مع وظائفه وأعضائه الجنسية بصورة صريحة، أو مع ما يسمَّى بالمباذل، لكن هذا التهرب اللساني من التلفيظ المادوي الصرف لا يعني أن علاقة الإنسي بجسده لم تكن محل الانهمام الأول في مختلف الخطابات الأخلاقية والنفسية، الصحية والاجتماعية، وحتى القانونية، فإن الإنسي الموعود أنشأ إنتاجه الحضاري كوسيط بينه وبين جسده، قبل أن يكون هو وسيطه مع العالم، حتى أصبحَت صفة المتحضر تطلق ضدًّا على الهمجي، اعتمادًا على الفوارق في طريقة تظهير الجسد والتعامل معه، واختلافها بين الاصطلاحَين المتضادَّين السائدَين. ولا يحدث أن يسود خطاب البحث عن السعادة إلا عندما تستطيع الأخلاق تثبيت جهاز مفهومي معين يدعي القدرة والسيطرة على بدائية الجسد، أو فوريته، بواسطة سلم من «القيم»؛ يحاول ابتكار مرجعية مشروعية، تحيد مرجعية العضوي الدموي الخاص مقابل المعياري والتسويغي العام؛ وبذلك اعتمد الخلقي دائمًا على تنشيط بدائية الجسدي ضد بدئيته؛ من أجل إلغاء هذه البدئية بالذات؛ وذلك بجعل الخلقي يقود معركة المفاضلة مع بدائية الجسد، وتوحيدها بالحيوانية. ما يتيح للخلقي أن يتدرَّأ دائمًا بدعاوى المدنية ليطرد إشارات الجسد البدئية من ساح الوعي الفردي والصراع الاجتماعي.

لقد شُغل التمدُّن بهموم التحكم بالجسد، كسبيل وحيد لإمكان إرساء علاقات مقوننة بين أفراد المجتمع. وأصبح انتظامُ التعايش بين الأفراد والجماعات دليلَ التمدن الأساسي على إمكانية ضبط علاقة الإنسان بجسده. ومنذ القديم حاذر الإغريقيون أن يفتعلوا صراعات غير مجدية مع الجسد. حتى الأفلاطونية لم تبارح مقياس التوازن كأساس لراحة النفس، وسعادة البدن في وقت واحد. وذلك تحت هذه الحكمة الأولية، وهي أنه ينبغي على الفيلسوف أن يستغني عن الملذات المشروطة من أجل الملذات غير المشروطة، لكن السؤال الحداثوي الذي يطرح نفسه إزاء إشكالية التجسد، هو كالتالي: هل يمكن تفكر الجسد دون افتراض انقسامه القَبْلي بين الروحي والمادي. ذلك الانقسام الذي شغل الأقدمين، واستبدَّ بحوارات أفلاطون البارزة؛ مما مهد للتفكير الديني قسمة العالم كذلك إلى الدنيا والعليا، وإطلاق جدلية المحايثة والمفارقة رأسيًّا دائمًا. ومع ذلك فإن الجسدي لا يفقد واقعيته بقدر ما تتضاءل معياريته لدى الإغريق عامة. ولقد تابع التفلسف ارتباطه بالحكمة، هذا الفن التربوي المتميز، المختص بإعادة صياغة الجسد، من كونه طبيعة حيادية أصلًا، إلى تكوينه طبيعة طابعة، شافَّة عما يكونها داخلها، عن تلك «الروح» التي تنير قفصها اللحمي الساجن لها، ولكن المنتمي كذلك إلى تنويرها؛ فالحكيم الإغريقي — على حسب التعليم الأفلاطوني، ثم الأبيقوري والرواقي المنحدرين عنه، ما بين الإفراط والتفريط — وقع في وهم قسمة الكائن بين جسده وروحه، ثم قضى عمر «مدنيته» في إعادة اللحمة ما بين المتضادَّين، ولم ينقذه من إحراجه سوى القفزة من تفلسف الحكمة إلى عَقْلَنة الإيمان.

فشلت الإمبراطورية الرومانية في ترجمة نفسها إلى جمهورية أفلاطونية، وانسحب مشروع التمدين من إقامة التوازن بين الوطني الروماني والبربري داخل/خارج الإمبراطورية، كانعكاس لقسمة الجسد ذاته بين روح لا تعرف كيف تقود كائنها الفرد، والفرد الذي لا يدري كيف يمفهم «ناموس» التعددية بين الجماعات المتباينة تحت قبة الإمبراطورية العنصرية؛ الأولى في تاريخ المدنية الغربية، والواقع فإن انهيار الناموس الروماني كان إعلانًا سياسيًّا رهيبًا عن عجز العدالة الأرضية، عن فشل آدم في استعادة شقَّيه هابيل وقابيل، إلى وحدته الجسدية الأولى. ما اضطره إلى استنفاد أبوته في إعادة اندماجه بالأبوة اللاهوتية العليا. هذه الترميزية الأسطرية تكشف عن استعصاء أي تعويض عن إثنينية الجسد، عن تلك القسمة التي فرضت نفسها كبداهة تأسيسية غير قابلة للمراجعة في ذاتها، والمفترضة لتأويل الجسدانية كفعل تجسيد من قبل جوهر متعالٍ ومتغاير عنها، ولا طريق له إلى المحايثة إلا عبر افتراض القسمة، ثم محاولة رأبها بواسطة فعل التجسيد الروحاني ذاك.١٣

لماذا العودة دائمًا إلى الأفلاطونية؛ لأنها مسرحت أسس المشكليات الفلسفية. وكل ما جاء بعدها أضحى انتقائيًّا لأحد أدوار تلك المسرحة مقابل البقية، وتركيزًا عليه من دون سواه، لكن إثنينية الجسد بصورة خاصة عكست إشكاليتها المسكوت عنها، على مختلف قضايا الفكر، والحضارة. وقد شغلت الأفلاطونية بذات الفخ الذي نصبته لذاتها، ولكل تاريخ الفلسفة بعدها، والدين والثقافة عامة؛ فالاستقطاب الروحاني المادي، أعطى نفسه حقَّ الأولوية في طرح القضايا واقتراح الحلول، وجعل من ذاته مفتاح مفاتيح الفهم والتأويل كلها، دون أن يسمحَ لأحدها أن يغامر بطرح بداهة الاستقطاب، ولماذا ينبغي التسليم بها دائمًا، واستخدمها في مساءلة سواها من كل قضايا الفكر والممارسة، دون وضع هذه المسلَّمة قيد الاستفهام الجذري الواضح. ما يؤكد أن اختراع أقنوم الروح كان إبداعًا أفلاطونيًّا بالدرجة الأولى. وفائدته الأولى أنه أعطى للتفكُّر موضوعه المفضل المتقارب من طبيعته، وأراحه من مداهمة الواقع المادي المجسم، اعتبارًا من البدن الملتصق به، وسمح للفكر أن يحافظ على هويته مع ذاته دون اضطراره إلى الاصطدام بلغز ما هو خارجي عنه.

فاختراع الروح حدد مركزًا آخر جوانيًّا وحميميًّا، مقابل عالم الظاهر والنقص والتغير والمداهمة. وكان برهانه الأول على أحقية هذا المركز واستقلاله عن ضده، أن الفكر يجد في ذاته تطلعًا إلى كل ما يضاد عالم المادة. وقد يكون بلوغ السعادة هو التعريف المتفوق في جاذبيته، كآخر مطامح الإنسان؛ إذ إن فجر الوعي الإنساني كان سعيًا للتخلص من وعثاء العيش وهمومه المعايشة؛ فالاحتياج لما لا يمتلكه الجسد في أجهزته ومادته العضوية، حتم تبعية الفرد المطلقة إلى حيثما توجد موضوعات هذا الاحتياج. ومن حال تبعية المرء إلى قانون إرواء حاجاته الأساسية، إلى حال تنويع هذه الحاجات وتعقيدها، ينتقل الجسد من طلب إرواء الحاجات بأبسط موادها، إلى السعي وراء المتع واللذائذ في ذاتها، وإن لم يتطلبها احتياجه العضوي أصلًا. ومن هنا كان على الفكر أن يتصور مركز استقطاب آخر اختلافي؛ فلقد اتهم الجسدي بأنه فخ التبعية للخارج بلا منازع. في حين أن الفوز بسلام الداخل هو من شأن قوة أخرى لا يمكن للجسدي أن يوفرها، إن لم يعمل على مقاومتها وإبطال فعاليتها، فاختراع الروح يحقق هذه النقلة «الحضارية» إلى استفهام تلك القوة الأخرى، وافتراض محل لها، هو الداخل مقابل الخارج. حتى يغدو الجسد نفسه جزءًا من هذا الخارج المكروه والمطرود والمهاب، وليس مجرد جسر للعبور نحوه فقط. وينبثق هكذا عالم للداخل وحده، مملكة للسر وراء أسوار اللحم والعظم، وينشأ قاموس اصطلاح من نوع أخاذ، لا يتطلب مرجعيات لأسمائه وصفاته سوى الارتجاع إلى حال ذات النفس مع نفسها. ولقد كان دعاها أفلاطون لأول مرة بحال تأمل المثل، رموز الكمال والتمام، مقابل عوامل النقص والفساد والزوال، لكن سعادة الأوهام العلوية ليست متوفرة بدون إعداد من نوع خاص لجاهزية الجسد، التي لا بد لها أن تقر بتوءمتها المحتومة مع مركز القوة الأخرى المختلفة التي سوف يغدو اسمها الروح؛ فالمثل الكاملة لا يكتشفها إلا ما يكون من جنسها. والروح إذن مشروع صعود دائم نحو الملأ الأعلى، الذي لا يمكن أن يحتمله الجسد، ولا بد أن يستوطن مستوًى آخر من الكونية؛ فالأفلاطونية اجترحت مادة المصطلح لما سوف يبني لغة الدين فيما بعد، لكن امتيازها الأول يظل متعلقًا بهذا الإلحاح على دور الفكر، أو ذلك التعقُّل البرهاني الذي يناط به مفهمة الوجود الإنساني؛ إذ يظل الملأ الأعلى هو محل الكوني غير المنفصل عن الإنساني. وجدل الصعود والهبوط داخل الكهف الأرضي هو صميم تجربة الإنسان مع ذاته أولًا.١٤
إن كانت ثقافة الإثنينية أفلاطونية الأصل، إلا أنها لم تأخذ كامل أبعادها إلا مع هيمنة المسيحية التي جسمت فكر الانفصال بين الدنيوي والعلوي، وفرضت جغرافية مواقعية استنادًا إلى أطروحة التجسيد عينها؛ إذ إن المسيح يعد أتباعه بعودة جسده المحتومة في مستقبل الإنسانية، لكنه لن يكون جسد الإنسان الواقعي، بل هو الكائن الآخر المتعالي، الذي سيقبل بشرط التجسد، لكن إلهيًّا فقط. ولن يحدث هذا إلا في مستقبل العالم فحسب؛ فالجسد الفاني ينتظر إعادة إحيائه بفعل التجسد الإلهي. أما التعلُّق بالجسد الفاني فهو حكم على صاحبه بالحرمان من الانبعاث، وأبدية الموت. أفضلية الروح تأتي من دورها التعويضي عن الموت الحتمي. وقديمًا قيل إن التفلسف هو تأمل الموت. والإغريق حاولوا اعتراض الموت داخل سياق الحياة نفسها، وليس فيما يتبعه أو يتجاوزه. وحتى أفلاطون لم يستطع أن يجزم بخلود روح أستاذه سقراط، بعد تجرُّعه السم تنفيذًا لحكم الإعدام، رغم تشوقه النفسي إلى مثل هذا الأمل، فكان أرسطو أكثر حزمًا عندما اعتبر أن الروح مائتة مع جسدها.١٥

أما المسيحية فإنها تتعامل مع الشعري الأسطوري، ولا ترى حرجًا في عودة الروح إلى الملأ الأعلى خالدةً بعد تجربة السقوط في الجسد، والانتصار على خطيئته الأولى، عندما رضي بالانغماس في معاقرة فساد الأرض؛ فالسعادة الحقيقية ليست من هذا العالم الحسي المباشر، وأنه لا بد من المكافحة لبلوغ حال الغفران. لا وجود للسعادة بمنأًى عن إدانة الخطيئة الأولى. لن يصل الخاطئ إلى بر الأمان، إلا عندما يقوم بتضحية جسده طلبًا للغفران. صحيح أن سان بول وعد المؤمنين بعودة جسد المسيح، بإمكان تجسد المسيح ثانية، لكن بعدما تتطهَّر الإنسانية من وعثاء خطاياها كليًّا، أو بعد أن تبلغ الإنسانية حد الخطيئة المطلقة، الشر المحض، فلا يتبقَّى أمامها إلا الزوال الكارثي (الأبوكاليبسي)، والنداء على الحقيقة المسيحية مقابل التنازل عن جسد الخطيئة في سبيل الاتحاد مع جسد المسيح. ذلك ما سوف يقال عنه في لغة الحداثة بموت التراجيدي ثمنًا للطوبائي الميلودرامي. ذلك أن التراجيدي ليس مهمومًا على الإطلاق بمغادرة جسده، ولا بمكافحته مدانًا قبليًّا بخطيئة أصلية أو طارئة. بل إنه لا يرى له مكانًا في أمكنة الأرض إلا أرض جسده، التي يمتلكها وحده بدون تطويب من أحد، ولا شرعنة عقارية من أية مؤسسية غيبية أو وضعية.

لكن امتلاك الجسد لا يقع من طرف المالك وحده؛ فهو كذلك يمتلك مالكه بطريقة ما؛ لأنه يجتاح صاحبه بفيض من الرغبات التي تتأجج كشهوات مصحوبة بمشاعر النقص والتحرق إلى الارتواء، والبحث المرهق عن موضوعات الارتواء. وهو الأمر الذي غدا يخيف الفكر اليوناني في خريفه. ودفعه إلى بناء فلسفات سلبية من نوع الأتراكسيا الأبيقورية، حيثما تغدو الحكمة فنًّا تربويًّا، غرضه ترويض الجسد، واستتباعه لنظام حمية شهوية، تعوضه عن اندفاعات ما سوف تسميه السيكولوجيا الحديثة بجهاز الغرائز.

إن إشكالية تدبر العقل العملي للجسد حسمَت توصيفه كمحل لجهاز الغرائز، وكانت، ولا تزال، في الصميم من كل ما حملته ثقافات البشرية المدعية لحفظ التطور والحضارة، من خلال تسمية الأخلاق، وصنوها الأديان، ووريثتها الأحدث ألا وهي أساليب التسويغ التأدلجي. ما يعني اختلاق الصراع ما بين الجسد ونقيضه الروح. وهو مادة الميلودراما المضخمة لإشكالية الطوبائي، مقابل نقيضها المتمثل في أنطولوجيا التراجيدي. فالاختلاف بينهما ليس عرضًا نظريًّا؛ إذ إن الطوبائي لا يستطيع أن يرى إلى الإنسان إلا من خلال النظرة المعيارية التي تقسم الكيان الإنساني إلى الجسدي، وتجعله موطن البدائية، أي «الحيوانية»، وإلى الروحي، وتخصه بكونه مقر البدئي أو الأصلي؛ هذا ما يفسر غياب أية استقلالية للجسد في مباحث الأخلاق من الفلسفات الكلاسيكية الكبرى.

من كانط إلى هيغل، مرورًا باسبينوزا، فإن الخلقي يجرد الجسدي من غائيته الخاصة، ويتناوله عبر غيابه المادي، وتحت عباءة السيكولوجي في أحسن الأحوال. ولا نقول إن الفينومينولوجيا قد دشنت ولادة الجسد لأول مرة في صيغته المباشرة بكل معنى الكلمة، بل جعلته كذلك مطبة لخروج الذات إلى العالم. لم يستطع هوسرل، وشارحه المعاصر المتميز ميرلو-بونتي أن يؤسس صيغة: أفكر الجسد صنوًا لصيغة: أفكر العالم، بل وسيلة لها. ذلك أن انشغال الفلسفي بالمعرفي، وفي الصميم من تيارات الحداثة نفسها، حسم أمر الجسد، وحصره في وظيفة الجسد الناقل لمادة المعرفة، عن طريق حواسه.

وعلى هذا يمكن القول إنه مثلما غلب الهم الأخلاقي على التناول الجسدي لدى الفلسفات القديمة، فإن الحداثة لم تستطع أن ترى فيه إلا جسرًا موصلًا أو معيقًا أو مقولبًا لمادة المعرفي. حتى بدا أن الاحتفال بالجسد كلقيا حداثوية قائمة بذاتها، كان أشبه بالافتتان الذوقي، متوترًا بفرح الاختراق، والتجرؤ على اقتراف الطرافة، وأقرب ما يمكن وصفه بارتكاب المدنس نكاية بالمقدس، وحتى الفيلسوف الوجودي المعاصر، فإنه جعل زمانية الذات تجرف بطريقها مكانية الجسد. ومع أن بروز الأقنوم الزماني، واحتلاله أولوية التعرف إلى الذات المحايثة المتروكة في العالم لمصيرها الفردي وحريتها المفروضة، قد عكس طريق التفلسف التقليدي المهتم بالكلي على حساب الجزئي، فأعطى فرد الإنسان، أولويته على الإنسان نفسه؛ إلا أن هذا الفرد لا يزال يستعصي عليه الاكتفاء بما يوفره له جسده من مكانيته الخاصة، من حيزه الجسدي؛ فالمكانية لا تحوز على حقيقتها «العرضية» إلا من خلال مقولة الزمكانية. والفرد لا يحس أنه هو مكانه/جسده، بقدر ما يتكئ عليه ليتناول شيئًا آخر سواه. فإن هيدغر لم يستطع أن يتعرف على مفردة فلسفته، تحت مصطلح الدازاين، إلا من حيث إن الدازاين هو أصلًا كائن الزماني في العالم. ولو لم يأتِ هذا الكائن إلى العالم، لما أتى الزمان إليه، ولبقي العالم مجرد مكانية صماء، لكن الدازاين لم يحفل بمكانيته الجسدانية الخاصة، كحاملة ومؤسسة لوجدانيته.١٦
فما يزال الوجودي الهيدغري متوقفًا عند تسآل: أفكر العالم، دون أن يعبأ بالتسآل الأول الصامت: أفكر الجسد. لم يقارب هيدغر بدئية الجسد/العالم، إلا من خلال قبلية المصطلح: الكائن — في — العالم. إذ كان متشبثًا بأطروحة هوسرل التأسيسية. وهي أن كل تفكير إنما ينطلق من بداهة هذه الواقعة: الكائن — في — العالم. وذهب هيدغر إلى أقصى هذه البداهة، بأن أثبت أن الفكر الصحيح، المستحق لاسمه ذاك، لا يبني صرحه فوقها وعليها فحسب، بل يجعلها معيارًا لبداهة أي تسآل، وأي تفكُّر يأتي تاليًا عليها. فهل إن الجسدي وصله حقه؟ ليس تمامًا. ذلك أن التحليل الوجوداني existential لا يستطيع التعامل مع تلك البداهة إلا من خلال حركيتها الزمانية، التي لا تأتيها إلا من خلال حدها الأول من أقنوم «الكائن» — في — العالم، أي من الكائن. وهي العبارة التي تبقى على تخارجها مع حدها الثاني (العالم)، بالرغم من تناسجها البدهي معه. لا مناص إذن من أن نقارب الجسدي ما وراء لفظية أخرى، متعلقة بالسياقة الزمكانية لكامل العبارة، إن أردنا التوقف عند صياغتها الوجودانية، وتمعينها الخصب الذي استغرق فلسفة الكينونة بكل غناها الإبداعي لدى فيلسوف القرن العشرين بلا منازع: مارتن هيدغر.١٧

بحثًا عن لحم الفكر الشفاف: السعادة

لكن المابعدية الهيدغرية التي لا يمكن ارتيادها إلا بمخاطبة الريادة الأصلية للنص الهيدغري بالذات، لا بد لها من أن تخاطر بنقل عبارة البداهة التأسيسية: الكائن — في — العالم، من نهج الوصف التحليلي كممارسة فينومينولوجية الأصل، إلى التطهير التمعيني، لتعود تلك البداهة تسآلًا أسيًّا، على الشكل الآتي: كيف أفكر الجسد/أفكر العالم. أو: ما يعني أنني أفكر الجسد/أفكر العالم؛ فالجهد الإرادوي بارز هنا. ويتعلق بمفرد المتكلم، الذي هو المعني البدئي بتحمل جسده، وأن يمخر به عباب العالم؛ فأية بداهةٍ بدئية يمكن أن تحل محل لحم الجسد وصخر الأرض. ذلك ما يستبق اللغوي، ويشده إلى ثقالته كلما استخفه التجريد والتجنيح، لكن اللغوي يبني كذلك لحم الفكر، الشفاف. إنه لا يقدم انفعالات الجسد مقطوعة عن أسمائها. وأسماء الانفعالات قد تسبق أسماء الأفكار؛ فالحب والكره، الغضب والحنو، اللطف والشبق، الفرح والسعادة، ليست مفردات للجسد صامتة، إنها مصحوبة بالتصويت الذي يبلور الحرف فالكلمة، وقد يركب الجملة المفيدة، وحتى غير المفيدة؛ فاللغة النظامية ليست جسدًا لفظيًّا موازيًا لجسد اللحم والحس الباطني، فحسب، لكنها تصير كيانًا كثيفًا غير شافٍّ عن الجسد الذي ولدت هي مع أحاسيسه وترميزاته.

وهكذا فحين يكون تسآلي: كيف أفكر الجسد؟ فإنني لا أبحث عن معادله اللفظوي ولا الفكروي، بقدر ما أود أن أعيش الحس في حده المادوي، كما لو كان بعده المعنوي، دون أن أفصله أو أقطعه عن مكانيته، عن محله اللحمي. أن أفكر الجسد يأمرني ألَّا أجعله أسير معرفتي عنه، بقدر ما أترك له حرية أن يعلمني كل لحظة عما لم تختزله بعدُ ألفاظ القاموس اللغوي. في حين أن العلوم التي تقاسمت مساحات الجسد، من الفيزياء العضوية إلى السيكولوجيا، إلى التحلينفسي والطبي والفيزيولوجي إلخ، وحتى القانون، حاولت أن تأسر الجسد تحت وطأة استراتيجيات حيوية، منعته من أن يتكلم لغته البدئية الفجائية؛ وراحت تخضع فوريته إلى تقعيد التصنيف والتفسير العلي الصارم.١٨ فلا يعود لي جسد«ي»، بل هو جسد المعلومات فحسب؛ وبذلك لا أفتقد خصوصيته فقط، ولكنني أنا الذات، أغرق في عمومية جسد لا أعرفه.

أفكر الجسد لا يعني إعادة استملاكه ذاتويًّا، فليس من ذات قادرة على احتوائه، ولا من علم قادر على ترسيم حيويته، لكن ما إن أستتبعه بياء النسبة (جسد-ي)، حتى يصير هذا الشيء الذي لا أتملَّكه ولا أحيط به، يصير هو مكاني مع ذلك، وأنتزعه من مكان العالم كله، ليغدو من كياني الخاص: ليس حاويًا لكياني ولا حاملًا له، ولكنه هو عينه. حينئذٍ في هذه الحالة، فإن أية معرفة «موضوعية» تصنف أحوال جسدي، تقبض عليه تحت وطأة استراتيجية بيولوجية — كالطب والعلاج والحمية وأوامر الصحة — أو استراتيجية سلوكية، قانونية، ومن علم العادات والقيم، إنما تجد أن عليها أولًا، حذف ياء النسبة من عبارة: جسد-ي؛ فالبحث عن السعادة تحت وطأة الاستراتيجيات الخارجانية الكليانية، يصبح معادلًا للبحث عن الحرية.

إن الحكمة الفلسفية المعاصرة ليست أبيقوريةً أو مسيحيةً أو كانطية؛ لأنها لا تخشى من فعل الجسد، لا تُقَوْنِنه كانطيًّا، لا تجعله أداة طيعة لواجب متفق عليه من قبل الجماعة، لا تريد الحكمة المعاصرة أن تصنم السعادة في الاشتهاد والاستهلاك، لكنها تطلب الجسد الحر؛ فأن يكون الجسد هو حريته الخاصة، هذا يعني أن يكسر قواقع الهويات التي تفتعله تحت هذا القالب أو ذاك، منطلقًا في انسراع الهويِّ وحده؛ أي في كل ما يتيح للجسدي أن يمارس ذاتي انتمائه، عبر توغلاته في فجائيات العالم من حوله؛ فالخُلقي (بضم الخاء) يرتدُّ إلى الخَلقي (بفتح الخاء)؛ كل صلة حرة بالجسد، تعيده إلى هويه الأصلي كخلق أولًا، سابق على كل تخليق. وهي صلة ليست طوبائية، لا تجيء بالواسطة، بارتكاب القيم والعادات، والانصياع إلى الاستراتيجيات العمومية؛ إنها اتصال تراجيدي، يضعني في ينبوع الفعل وليس على ضفافه. ذلك أن الجسدي إنما هو شاهد خلقي البدئي. كل أماراته، كل أفعاله هي كذلك مخلوقاته. وليس من خلق إلا وهو فعل تراجيدي، يتنازعه معًا الوجود والعدم المتأنيان، الحاملان إشارة ولادته.

أي تعريف حداثوي للسعادة عليه أن يعيد إلى الجسد أساسًا عريه الأصلي. عليه أن يطلق براءة صيرورته، لحمه الجديد، من تجديد فعل خلقه لذاته ولأفعاله. عليه أن يخترع تلك الإتيقا الفورية، شبه المستحيلة، التي تعلم الروح كيف تستحيل إلى هوي الجسد، الذي يقضي على التعارض بين بدئيته وبدائيته. يجعل سعادته فعل اكتشاف لبدئيته في أرض بدائيته عينها، لعله يتاح أخيرًا الإنسان المهموم بالسعادة أن يشارك في بناء نظرية الجسد العاشق،١٩ عندما يشرع في تهجي الأنا أفكر الجسدي على أطلال الأنا أفكر الديكارتي. عندما يقرأ الروح مكتوبة بلحم البدن وعصبه.
ذلك هو التحدي التراجيدي؛ إذ أصبح الإنسان الحداثي يواجه أخيرًا الإشكالية الحاسمة التي فر منها سؤال الفكر المعقلن عصورًا طويلة، وهي: كيف يمكن للفرد أن يشتق الفعل الحر من فاعله المادي الأول، الذي هو الجسد، أو ذلك الجهاز العضوي المحكوم بشبكيات حتمياته الطبيعية، الفيزيائية الكيميائية، كيف يمكن للفكر أن يزدهر من اللافكر. هذه الآلة البدنية أليست هي كل الإنسان، ولولاها أين كان الإنسان. فكيف يحق له أن يتجاهلها بأكاذيب اللغة، وكيف يمكنه أن يعدمها تحت أوامر الكلمات وحدها، وأين يمكن للمعنى أن يوجد لو لم تَلُكْه قطعة اللحم، المسماة باللسان؟ هذا الجزيء اللحمي الصغير، الذي يسمى هو كذلك جسد الصوت؛ لحم اللوغوس البدئي السابق على العبارة القدسية: في البدء كانت الكلمة. ما يستدعي قلب العبارة الافتتاحية: أفكر الجسد، إلى: يفكرني جسدي؛ عبارة اختتامية، وذلك على طريقة فرويد عندما رفع حدود الموضعة عن عضو الجنس، ليطلق أطروحة تلذيذ الجسد كله بما هو مكان الحساسية بلا خارطة مورفولوجية. وبعده خطا لاكان نحو الاختراق التحلينفسي الأهم، جاعلًا الجسد كله مساحة اللاشعور، بدلًا من حصاره في منطقة الغموض من اللاجسدية الوهمية الواقعة خلف الجسد، أو أنها هي خلفيته داخله.٢٠

يفكرني جسدي: أي أنه يلغي مسافة المفارقة بين ذات فاعلة وموضوع منفصل. وعلى هذا يستطيع الفكر أن يصير لحميًّا دمويًّا، وتغدو السعادة عند ذلك هي لحظة تجنيح الجسد كفكرة ذاته عينها، وتؤخذ الفكرة هنا صنو الرغبة، وهما معًا يبتكران عصفور الحرية؛ فلست حرًّا لأنني أعشق، بل أعشق لأنني حر. ما دام الجسد يكتسب تلذيذه الكلي بتلامسه البدئي مع جسد العالم، فإن هناك فعل خلق وإنجاب للفرح، باعتبار الفرح أعلى مكافأة للكائن حين الظفر باستشعار لماح بالكينونة وهي في انسراع انسحابها. ما يمنح الجسد رعدة التراجيدي ورهبته، بالوصل مع لحم الآخر المجهول، أو وهمه، والانفصال عنه. وتكرار هذه الواقعة حتى تصبح إيقاعًا رتيبًا من الجذب والنبذ، لكنه يؤكد دائمًا فجائية العلاقة بين الحي والإنسي معًا في البدن الواحد، وإزاء بدن الآخر، وهما واقعان معًا تحت طائلة التقاط كينونة، وهي على حال انسحابها الدائم.

في الفعل العشقي يتأجَّج الجسد بقطبَيه: الحي المتدفق بكامل عليته الفيزيائية العضوية، والكائن الإنسي المعلق والمؤول بغائيات التحقيبات المعرفية السائدة في هذه الحضارة أو تلك. ولعل التحقيب الغربي قد كان أنجح من سواه في صياغة نمذجة ذاتية الارتقاء، بدءًا من اللذِّي المحض، إلى اللذِّي ذاتي الانضباط؛ وذلك مع اختراع فضيلة التسامي الأفلاطوني، والمؤسس لتربية الامتناع الطوعي، ثم الردة نحو التلذيذ في حده الأدنى مع التعشق الأبيقوري، والإرادوية الرواقية، وصولًا إلى تربية المنع الغيبي وتدنيس الجسدي، مع المسيحية والأديان المفارقة، لكن الحداثة الأنوارية تطلق التطهرية المضادة، سواء من أخلاقوية المنع المفارق، أو الامتناع المحايث. يصبح الجسد هو مركز «الطبيعة» وشاهدها المباشر، والطبيعة هي لقيا العقلانيات، الأولى الناشئة، والمرجعية البديلة عن مركب المنع/الامتناع القروسطي.

كان الامتناع عن تفكر الجسد قرينًا للامتناع عن تفكر الطبيعة. كان العالم بلا أرض، بدون طبيعة، وكانت الروح معلقة في بقعة من فراغ ما، فوق الجسد، تحاذر الدخول إليه، كيما لا تصبح هي والنفس رديفَين، أو توءمَين متعارضَين؛ أحدهما يلامس جوانية الجسد، والآخر يذكره بالمفارقة والإقصاء؛ فالروح لا تريد أن تكون نفس الجسد، ولكنها بدونها لا تعرف كيف تكون نفسها. إن التباس الروح بالنفس، كالتباس الجسد بالطبيعة فيه، وفي جذر العالم؛ كلاهما يطرح محلًّا للجسد: إما فوقه عموديًّا (بالمفارقة) وإما إزاءه خارجيًّا أفقيًّا (بالمحايثة).

من أجل التخلص من هذه الإشكاليات الأنطولوجية طرحت حكمةُ الأقدمين أقنوم السعادة كتعويض فردوي وفوري، باحث أصلًا عن محل للجسد في جسدانيته عينها: أنا الفرد، أي فرد، كيف أكون سعيدًا بلقاء فردي فحسب. عند ذلك لا يجد الفرد ثمة ركيزة له وحده، سوى هذا القوام من اللحم والعظم، الذي هو بدنه. أخص ما يخص الفرد هي رعشة الفرح التي تنبثق من عمق جوانيته وتنتشر مع دفقات دمه، باعثة فيه حس التصالح، في لحظة، مع كل شيء. هذا النوع من الرضا عن ذات النفس، وعما يجعل حدسها الصامت يعلن اعترافًا سريًّا، غير مصرح به، عن حال القبول بالحياة كما هي؛ لأنها تلك الحياة التي منحتني امتياز السعادة. وهو امتياز يمدُّ النفس بشعور من غبطة الاستحقاق لجائزة السعادة، والتنعم بنعمائها في آنٍ. كما لو أن السعيد يغبط نفسه على نيلها، وينعم بحميمية المنحة بينه وبين ذات النفس؛ فهي بعض لقياه لما كان باحثًا عنه دائمًا؛ إذ يظل للسعادة طابع المنحة الفجائية، مهما بلغ شعور صاحبها بامتلاك استحقاقها. حتى إن الاستحقاق عينه قد يجفف من حرارة اللُّقيا، ويكسر من فجائيتها، ما إن يصير إلى واقع فعلي، وإن كان واقعًا فراريًّا هو الآخر؛ بمعنى أن السعادة إن هي إلا في توقعها وانتظارها قبل حدوثها، وفي تذكرها والحنين إليها، بعد انقضائها، أكثر مما هي في واقعها الافتراضي.

إن سيكولوجية للسعادة قد تريح من فلسفة للسعادة؛ لأن قصة للأحاسيس والانفعالات السابقة والمرافقة واللاحقة بفرح السعادة، قد تغني عن مواجهتها كمختبر لتراجيديا الانهمام بالذات، وهي على حد التماس، الانفصال والاتصال، بين بدئية الجسد وبدائيته، بين جدية المعاناة لزخم الانهمام بالذات، وبين التقاط هناءات الاغتباط المجاني. فالفلسفي لا يكف عن الانشغال بتلك المسافة المفهومية الالتباسية بين محدودية الفرد، فيما تمثله بدائية جسده كحدٍّ للحيوانية في أساس تكونه العضوي، وبين بعد اللامحدودية في الهوي الإنساني الذي يحمل الفرد إشاراته الأولية؛ فقد يستطيع كائن الإنسان أن يطامن حاجات الكائن الحيوان فيه، ويغدو بذلك كائنًا ارتوائيًّا، سعيدًا بالتقاء حاجاته مع موضوعاتها المباشرة، لكنه في الوقت عينه لا يمكنه أن يحد من رغباته، بما هو الكائن الباحث عن الاعتراف بما حصله من «مزايا» الهويِّ الإنساني ومكتسباته من الأفضليات، في حومة ذلك الصراع الأزلي ما بين الكائنات الأخرى، المشكلة لغاب الجماعة، أو المجتمع المدني، الموصوف بالحداثوي.

كانت تقف السعادة كقطب مضاد، في الثقافة الكلاسيكية، لكلية المفاهيم الأخلاقية. كأنما الخير العام، وحتى الخاص، لا يجيز قيمة للسعادة بجوار قيمة للفضيلة. ثمة حرب شرسة بين الغيرية تجاه الكل، والأنانية تحت طائلة السعادة الخاصة؛ فهل لا يزال الرأي القائل إن السعيد هو الأناني، كأنما السعيد يخص نفسه بما ليس متاحًا لسواه؛ وبذلك تصبح إتيقا البحث عن السعادة تابعةً لمنطقة: أفكر الجسد، بمعزل عن منطقة: أفكر العالم. وكان لهذه الإتيقا ممثلوها ودُعاتها في مفاصل الحضارة، وفي لحظة الازدهار، كما في مرحلة ما قبل الاحتضار؛ فالفاسقون والزاهدون تقاسموا حدَّي التطرف. وكلا الصنفَين يتعاملان مع الجسد تحت حاكمية حاجاته، وليس رغباته، بمعنى أن إطلاق الحاجات إلى أقصاها، أو كبتها حتى النهاية، حصرا الإتيقا في نطاق اقتصاد الجسد اللحمي، ولم يتعرَّفا إلى الجسد الإنساني، فكانت علاقة كلٍّ منهما قاصرة على «بدائية الجسد»، ومانعة ﻟ «بدئية الجسد»، وعاجزة عن استحضارها، معيقة لازدهارها.

على هذا الأساس، يبدو أن الحداثة الغربية الخارجة من تطهرية القروسطية، أطلقت القطب المضاد للتقشف المسيحي، بإعلان حاكمية اللحم وحدها خارج أوامر الدناسة والطهارة. ومنذ القرن الثامن عشر شرع التفلسف في استرداد استحقاق الجسد على أساس تأهيل مفهوم للطبيعة، مقتطعة هي نفسها من التصور الإغريقي القديم حول العالم باعتباره كوسمولوجيًّا؛ فالجسدي هو وكيل الطبيعة — الكوسمولوجيا لدى ذات النفس. وإن إعادة الانسجام مع/داخل هذه الكونية الأزلية، يفترض إعادة تصالح ذات النفس مع حاملها الجسدي، بما هو حصتي أنا الفرد العرضي، من هذه الطبيعة — الكوسموس — التي تتجاوزني؛ ومع ذلك فهي تحتاجني لأعرفها وأعترف بها. وبذلك تتقدَّم من جديد حساسية التراجيدي في الفهم والمعاناة الفردية والجماعية، على الطوبائي المفارق. وتبرز لدى مجتمعات النخب الثقافية والطبقية احتفاليات تلذيذ الجسد، كطقسنات أقرب إلى مجون الوثنيات. ويتم اكتشاف الفلسفات قبل السقراطية، من مدخل إتيقا الانهمام بالذات، بديلًا تفاضليًّا عن الأخلاقوية المقننة. فبعد أن أطلق حكيم ذلك العصر فولتير شعار تلك الإتيقا قائلًا بصريح العبارة: «إن المهمة العظمى والوحيدة لنا هي أن نحيا سعداء.» فإنه لم يكن يرد بذلك على تطهريات المسلك الديني المتحكمة في أخلاقوية المفارقة، فحسب، بل قصد أن يعين المنعطف التاريخاني الذي كان على ثقافة الأنوار أن تتحول إليه، والمتمثل في تأسيس إتيقا الانهمام بالذات، بمفردة الإنسان، بأقنوم جسدانيته وفوريتها المباشرة؛ ما إن أنجز عصر النهضة شرعة حقوق الإنسان في صيغة الكل، وبقيَ عليه ترجمتها إلى صيغة المفرد، كما لو أن إتيقا السعادة لا تأتي إلا في نهاية الشوط الانقلابي، إلا كجائزة عليا لاحقة بالمكتسبات المفهومية والجمعية؛ فالفرد السعيد هو المعادل الواقعي المشخص لأية غائية أنطولوجية لا تريد الاكتفاء بكونها محط تلك الغائية التي هي بدون غاية.

ما يمكن قوله إن السعادة في التحليل الأخير ليست سوى حالة تصالح لذات النفس مع نفسها؛ وهي ليست تلك الحالة التي يرتضيها التاريخ بما هو تراجيدي، وإن كان واعدًا بها، مكافأة سكونية تحل ما بعد الصخب والغضب لكينونة فائرة، غير كائنة إلا بانسحابها عينه. السعادة استراحة المحارب بعد هول المعارك كلها. إن هي إلا طوبائية التاريخ، خاتمة طريقة ما بين ضفتَي الإنساني والبربري. جائزة تطابق العقل مع الواقع، أو تصيير الواقع على مثال ما يريده العقل لنفسه وللعالم. أن يربح التاريخ كماله في نهايته، فهذا يعني انتصار أخلاقوية اليوطوبيا على تراجيديا الكينونة الممتنعة أصلًا على منطق النهايات، والمتأججة دائمًا في حدود ما قبلية أية نهاية.

السَّعْدَنة: آمرية السعادة

قد يكون الجسد فاز أخيرًا مع عصر الأنوار بحصته من الاعتراف ببدئيته، دون أن يأتي هذا الاعتراف ضدًّا على «بدائيته» بالضرورة. أصبح تلذيذ الجسد حاصل تحصيل لمفهوم عن التحرر، لا يقتصر على إدانة سلطان الأمر الواقع السياسي والاجتماعي، بما هي مراكز استلاب لحقوق الإنسان الأولية، بل أصبح فرد الإنسان داعية تلقائية لإقامة مشروعية للجسد السعيد موازيًا للعقل الحر والمجتمع العادل. هكذا، عندما تصل دروب التحرر إلى قمتها، يشرع زرادشت نيتشه بالنزول من جبله مبشرًا ببطولة الفرح، بإله يرقص، بدلًا من الإله الذي مات. زرادشت يتخطى السعادة إلى إتيقا الفرح، واللفظان غير مترادفَين، وغير متكاملَين؛ فالفرح النيتشوي مؤسس للتراجيديا، في حين أن السعادة تلازم اليوطوبيا، وتلك هي النقلة الصعبة بين أخلاقوية النفعية المنشئة لحضارة الرأسمالية، وبين فلسفة للثورة الدائمة، التي لا ترى فرصة حقيقية لتصالح ذات النفس مع نفسها، في ظل عالم مستعصٍ على إرادة العَقْلَنة المقترنة بعدالة التوزيع في الحريات الفردية والجماعية، كما في المنافع الخاصة والعامة. ذلك أن كل ثمرة للتقدم في ذلك الاتجاه، كانت تغتصبها تلك الأقلية التي ينطبق عليها معيار السعادة السادية، كما عبر عنها الكونت دو ساد نفسه، عندما اعتبر أنه لا سعادة للفرد إلا بمقدار ما يقارن نفسه بمشهد البؤساء.٢١ وعلى هذا فإن سلالة من عصابات «الأقليات السعيدة» المتوالية على قيادة المجتمعات، والغربية خاصة، قد أجازت لنفسها فرض قانون التضحية القسرية أو الطوعية على الأكثريات، كيما تحتكر هي متعة التمتع بحرمان هذه الأكثريات، مما كان يمكنها هي أيضًا التنعم به، ولكن لأمر ما اقتنعت بدور الضحية الدائمة طيلة المعارك الحاسمة التي قطعتها المنازلة الكونية بين أقوياء الأمر الواقع وضعفائه، بالإكراه الطوعي.
ذلك التعبير السلبي عن السعادة باعتبارها لا تأتي إلا ضدًّا على تعاسة الآخرين، وأن السعيد يهمُّه أن يعرف أنه لا يتمتع برفاهه الخاص إلا لأن الآخرين المحرومين منها عجزوا عن تحصيلها، قد أفسح هذا التعبير لبروز مفهمة أخرى أساسها صراع السيد والعبد، واعتباره المحرك الأنطولوجي المركزي لإشكالية الاعتراف؛ فالفرد لا يكافح من أجل السعادة، بقدر ما يهمه تحقيق الذات واعتراف الآخر به، سواء بالإكراه أو بطواعية ناجمة عن الاستحقاق؛ فلقد انتهت الفلسفة اليونانية، مع الرواقية خاصة، إلى تمجيد الإرادوية باعتبارها المحصلة الأخلاقية لسلطة العقلانية على سلوك الأفراد. يغدو المعرفي الإرادوي «سعيدًا» بفرض استقلال ذاته لخصوصيتها، ما يجبر الآخر على الاعتراف به واحترامه.٢٢ ولقد استعادت الحداثة تراث الإرادوية، وجعلتها بديلًا موازيًا لحصول الجماعة على حيزها الخاص؛ وذلك بتغيير مُطَّرد لشروط حياتها، لم يلبث أن أصبح المضمون الفعلي لمصطلح التقدم. وعلى هذا الأساس فإن الفلسفات السياسية حاولت أن تترجم الحداثة إلى مشاريع تنظيمية لعلاقات الناس فيما بينهم. ذلك أن كل خطاب سياسي لا يمكنه إلا أن يدعي التوجه نحو الجماعة؛ فالسعادة الحقيقية ناجمة عن تحقق شروط الخير العام. والفرد السعيد حقًّا هو المنخرط واقعيًّا في مشروع تأسيس وتغيير مطَّردين للظروف الموضوعية المشتركة من قبل الجماعة، الساعية إلى ضمان سعادة أفرادها من خلال صلاحة الحياة العامة؛ فلا خطاب للمدنية المعاصرة منفصل عن أطروحة الفرد السعيد المتصالح مع سعادة أقرانه. فهل أصبح التفكير المديني قادرًا حقًّا على تجاوز صراعية السيد والعبد،٢٣ وذلك بتأمين ركائز موضوعية ثابتة لتحقق الذات بما يجعلها تستحق اعتراف الآخر، الذي هو الجماعة الإنسانية من حولها. تلك هي المصطنع حول انبعاث الأدلجات الاقتصادوية والتقنوية المصاحبة لها، ما يخص تحديدًا وسائل الاتصال والميديا الفورية؛ فهل لا يزال هم السعادة مقروءًا بحروفه الذاتية، أم أن هناك خطابات كثيرة ومتناقضة، تتخطف ملامحه، وتصوغها بما يباعدها عن إشكالياتها الأصلية. ألا ينهار كل صخب هذا العالم إزاء تمتمة الفرد العادي هنا وفي كل مكان: وأنا ماذا يهمني من كل هذا!
قد يكون شوبنهور أحد أهم فلاسفة الحداثة الذين لم يضحوا بمقولة الفرد إكرامًا لأية مشاريع كليانية، يتوهمها العقل المطلق للاحتياز على المحايثة بعد انهيار أعمدة المفارقة العلوية.٢٤ وفي حين كان هيغل مشغولًا بإعادة هندسة العمارة التاريخية تحت سلطان العقلانية، كان شوبنهور يحاول استباق مستقبل العمارة الهيغلية، وكل نسخة أخرى عنها ستجاورها أو تتجاوزها، وذلك بالإصرار على تمزيق أوهام الميغالوتيميا الذاتوية التي بدأت بالاستيلاء على محركات المشروع الثقافي الغربي. هذا لا يعني أن العقلانية تجرد الفرد من أيقونته، بل على العكس فإن هيغل جعل الجماعة على غرار الفرد؛ فهي الباحثة كذلك عما يجعل واقعها يرقى إلى مستوى طموحاتها. وقد يرجع إلى هيغل فضل هذه الإضافة الحاسمة على مفهوم الطبيعة المعتمد أصلًا لدى أصحاب العقد الاجتماعي، بدءًا من رائده الأول جان جاك روسو. وهذه الإضافة تتمثَّل بكون الفرد لا يصغي فقط إلى ميوله الطبيعية، بل يريد أن يرى لذاته انعكاسًا إيجابيًّا لدى أنداده؛ فالانصياع إلى الآمر الطبيعي يتضمن كذلك أقوى طموح إلى تحقق الذات، بما يؤكد للفرد حاجة الآخر إليه، سواء من كان أقرب الناس إليه، إلى أبعد الآفاق الاجتماعية كذلك. حتى إن مفهوم الحق إنما ينطوي على هذا النوع من تنظيم العلاقة البدئية بين ما يطلبه الفرد من الجماعة، ما يخصُّ اعتباره لذاته، وما تطالبه الجماعة به من إقرار بمصالحها العامة مقابل اعترافها باستحقاقاته لديها، من طبيعية ومدنية. ومع ذلك تظل للسعادة نكهتها الشخصية. وقد يكون الفن أقرب إلى استشعار حرية هذه الحميمية للفرد، مع غاية نوازعه، وشجونه الخاصة، لكن الفلسفي لم يعُد يمكنه أن يضرب صفحًا عن هذا الغاب الكثيف والصامت الذي يلف الجسد ﺑ «حالة» الشخص، ويبرز الشخص كائنًا إنسانيًّا كذلك له فرادته غير القابلة للاستبدال بسواها. وعلى هذا الأساس شق هيغل طريقه إلى مقولة الاعتراف القائمة أصلًا على افتراض قبلية الصراع، لكن بدلًا من أن يكون الصراع على طريقة هوبز من أجل مجرد البقاء المادي والجسدي، فقد أصبح صراعًا من أجل البقاء للأفضل؛ فالمعياري يقترن بالوجودي المادي الخام، بل يتلبسه، ليصيرا معًا إلى تحريك الأنطولوجيا كصيرورة تراجيدية، تحايث الصراع في سياقها عينه، وتمارسه كواقع مضطرم باحث دائمًا عن غائية في ذاته بدون غاية.

أراد شوبنهور أن ينجوَ بالإنسان عن هذا الصراع؛ ألا يقر للصراع بأن الذات هي محله الأساسي، بل يباعده عنها، ويجسمه، على مسافة ميتافيزيقية منها، عبر مفهوم سوداوي للحياة كإرادة جبارة وعمياء، آخذة كل حي في طريقها، ومعه الإنسان؛ لا راد لها، ولا هدف إلا بقاؤها، باستخدام الأحياء، وفي مقدمتهم الإنسان، كوسائل لاستمرارها العبثي، فأقصى ما يرد به الإنسان الفيلسوف، هو تمزيق كل طبقات الأوهام الخادعة التي دأب على نسجها طيلة حضارته البائسة ليحجب بها الوجه القبيح عن هذه الإرادوية، ويجمل الحياة، كيما يتحمَّل أهوالها، من مختلف آفات الوجود الاجتماعي، والفيزيائي من ألم ومرض، وشيخوخة حتى الموت الأخير. جهد المرء حتى يبلغ أبسط حدود السعادة السلبية، هو في وعي قانون الصراع المفروض، والتخفيف ما أمكنه من مفاعله التدميرية على سلامته، وطمأنينته الانعزالية. هيغل كان يجذر الإنسان في حمأة الصراع، وشوبنهور يكافح من أجل إبعاده عنه، وأما نيتشه فهو يتقبل الحياة، لا كضحية لها، حسب شوبنهور، ولا كعقل متدبر للاعقلانيتها، كما عند هيغل، ولكن كفارس مكافح للتمكن من قيادتها، كبطل مبدع في تراجيديتها البدئية. ﻓ «الإنسان الأخير» هو خالق السعادة، لا يلتقيها كصدفة من صدف الحياة، ولكن كخالق لها.

ما يعني أن السعادة ليست جائزة سكونية للناجين من وعثاء الألم والنقص والمرض، ومن إحباطات الآمال المغدورة، لكن السعيد هو الذي يختار العيش في عين العاصفة ذاتها، ويتجنح بأهوالها ذاتها. لا يتجنَّب بأسها عليه، بل يتبناه ويضاعف من شدته، لكي يكتشف في ذاته منهل الإمكانيات المجهولة. يشتق من ضعفه أسبابًا لذلك النوع الخاص من القوة التي لا تنتسب إلا لذاتها؛ فالعيش في الخطر، إنما هو كالرقص على حبال ممتدة فوق ذُرى الكينونة وهاويات العدم في وقت واحد. إن السعادة هي الانخراط الإرادي في عنف الاقتدار، إنها ارتداد واعٍ كلي إلى صميم المعاناة دونما حساب لمنفعة أو ضرر، دون استباق للنتائج المعطِّلة لمقدماتها. والقول نعم للحياة! يعني أن الإنسان الفيلسوف قبل المنازلة، واستجاب للتحدي المطلق. وما تبقَّى من مشاقِّ العيش اليومي ولذائذه العابرة، ليست سوى بعض نفايات على دروب المنازلات الكبرى التي اختارها حكيم التراجيديا الحداثوية المستمرة.

صحيح أن السعيد الحقيقي الذي اختار عين العاصفة مقرًّا كينونيًّا له، ليس هو إنسان كل يوم. إنه استثناء القاعدة، ورافض مقدمًا لأية منظومة من أوامر السلوك العام، ما دام منشغلًا أصلًا بتفجير بركانه الخاص، الذي سيقذف حممه ويشق دروبه النارية بقوة صخوره اللاهبة عينها؛ فالعيش على حافة الهاوية من كل إمكانية مطلقة، لا يمكن نقده كما لو كان نوعًا من ميلودراما المبالغة والتطرف، والإنسان المتفوق ليس هو الجبار المتعسف؛ بقدر ما أسيئت تأويلات شرعة الاقتدار النيتشوية هذه، بقدر ما صار يعاد تدشين أفكاره عند كل مفصل جديد من تطورات الثقافة المعاصرة. ذلك أن التعاطي مع الحداثة كملحمة إنسانية قبل أية بنائية على أرض الواقع والتاريخ، لا يمكن تأطيره تحت أية عناوين نظامية نهائية. كل ما فعله نيتشه أنه تفكَّر الجسد — تفكر العالم على طريقته الخاصة. غير أنه استطاع ولا شك أن يعيد تأسيس التراجيديا الإغريقية، لا كحدث تاريخي، أو نوع أدبي أو فني، ولكن كطريقة انهمام ذاتي بالعالم، لا يمكن نسخُها ولا تقليدُها أو تعميمُها. أو أدلجتها ونشرها كشرعة للجميع. تلك هي نخبوية نبيلة، ومع ذلك فإنها تذكر الإنسان بجاذبية البحث عن طريق آخر للاتصال ﺑ «الهوي» ما فوق، ما بعد كل هوية مباشرة.

تبرز أهمية هذا الخيار الصعب والاستثنائي مع بلوغ الحداثة المعاصرة حالة الانتشار كخلقية عامة، أقرب إلى إتيقا اجتماعية، تعطي لنفسها حق الآمرية بالسعادة، كما لو كانت واجب الواجبات، في ظل مدنية لخواص الإنسانية، الذين، كما اعتقدوا، قد استحقُّوا جوائز إنجازهم لكمال التاريخ، بعد أن خاضوا مختلف معارك تثقيف الذات، وتأهيل المجتمع عقلانويًّا. ذلك أن إعادة توحيد السعادة باللذية المباشرة والفورية، لم تعد أيديولوجيا إيتكية مواربة، بل علنية لعصر الرفاه الاقتصادوي، والبحبوحة الاستهلاكية، الشاملة لقطاعات أكثرية من المجتمع الغربي. ما تعنيه «شرعة» آمرية السعادة،٢٥ أن الناس الذين هم سعداء بالفعل، وكأنهم يمتثلون لأمر يومي وواقع عام، أصبحوا «ضجرين» كذلك من استهلاكية — هذه — السعادة، من شيوع ثقافة: الحرث — في — العدم. إن وفرة المتع المباشرة أفقدتها أية متعة من هذا الصنف المبذول والمباشر، لذعتها الخاصة؛ إذ إن إشباع الحاجات الأولية إلى درجة التخمة بموضوعاتها المتناسخة عن بعضها إلى ما لا نهاية، لم يفسح مجالًا أوسع وأغنى لابتكار الرغبات، وتنويع آفاقها، بقدر ما إن الحاجات نفسها تعدَّت على مساحة الرغبة، واغتصبتها من تراجيدية المغامرة، مستعصية عنها بمرآوية الميديا السمعية البصرية. ما يضعنا راهنيًّا أمام السؤال: ماذا يعني أن نفكر السعادة اليوم تحت طائلة اغتصاب المرآوية لوعود الحداثة؟ وهل ثمة نوع جديد من سعادة باطلة تكاد تغتصب مساحة التراجيديا ما بين بدائية الجسد و… بدئيته، لصالح تلك البدائية وحدها؟ فيغدو الهم الحصري لنظرية إبطال الإنسان ألا تكتفي بتجذير الحدود والسدود نهائيًّا ما بين حدَّي عبارة «الميتافيزيقا الجديدة»: الأفكر الجسد — الأفكر العالم، بل تتعدَّى السد والحد بينهما لتلغي نسيان الفصل، بنسيان ذلك النسيان عينه.

عندما يضحَّى بتاريخانية الحكمة، بما هي قصة تفكر الواحد عبر خضم الصيرورة عينها، لا عاليًا فوقها، ولا متذريًا مبددًا بين ذراتها، ولا محازيًا موازيًا لها؛ ليس أصلًا، ولا غاية لها؛ عندما يحال بين الحكمة والفرح، في هذه الحالة يغدو سؤال الذات عن «جسدها السعيد» قرينًا لسؤال العدالة عن أفراح الناس بحريات الناس؛ سؤال الزمن السرمدي عن تفكر الظهيرة «النيتشوية»؛ لكن، بديلًا عن كل هذا، ماذا يعني أن تحشر السعادة أخيرًا — في «نهاية التاريخ»، تحت «آمرية» السعادة! ما هذه الآمرية الحمقاء في لحظة النداء على ذلك المصطلح الراقص: «حكمة الناس الحداثويين». أليس هذا ما يؤكد أن مجتمع المدنية النخبوية لم يعد يتعرف على السعادة إلا بما هي أمر يومي لسلوك الأفراد مع ذواتهم الخاوية، وتجاه أقرانهم الأشباح: ألا يعني هذا أن الأخلاق المنفعية، المنتصرة بفرض خيار المجتمع الاستهلاكي، كتعويض دارويني عن استبداد «الأزمة التضحوية»، استطاعت أن تطرد السعادة من إتيقا الفرح، واستبدلتها بمسرحة الإنسان الحيواني، نسيًا منسيًّا لذاكرة الحيوان الإنساني.

ألم تصل التخمة بألعاب اللذائذ التقنوية إلى الحد الذي يمكن أن يحس مثقف غربوي إزاء من يسائله: أراك سعيدًا؟ بل كأنه أمسى حزينًا، ومطرودًا خارج أناه. تلك الصفة «الرديئة» السعادة أضحت تهمة، تتطلب براءة الإنسان السوي منها، لا كرهًا بالفرح، ولكن ضنًّا عليه أن تبتذله تلك السعدنة الجديدة، التي تنسج أيديولوجيا التعويض عن تراجيديا الفرح، بميلودراما الارتواء العبثي، عبر تكرار المتع، كأوالية لاجترار الشبه بديلًا عن الشبه إلى ما لا نهاية. ولا شك فإنه لم يكن متصورًا أن تصل الإنسانية، في بقعة المدنية النخبوية، إلى إمكان تحقق الطوبائية، لكن ما إن تجسدت ظروف الهناءات الموضوعية، حتى بدا أن الطوبائية الراهنة تصير إلى حال ابتذال مثلها، وتكاد تنقلب ضدًّا على وعودها الأصلية. لقد سهل على المجتمع الرفاهي أن يبتذل سعادته عبر آمرية السعدنة؛ فإن حديث الكل في الغرب، من مؤسسات الدعاية والإعلام إلى منتديات الثقافة والتعليم، عن سلوكيات السعادة في ظل الحداثة التقنوية، يدفع بصف آخر من المفكرين إلى إنكار الواقع المريح للإنسان، كما لو كان قمة الغائية التاريخية، وعلى هذا تتطوَّع الحكمة الفلسفية مجددًا في دور المحذر من وهم طوبائية مختزلة إلى دعوات في تعميم أخلاقويات السعدنة، والكاشف لأبرع اختلافات المرآوية، عندما يتم إقناع الجماعة أنها قد أنجزت حقًّا تطابق العقل مع الواقع، ما يؤدي إلى استرخاء الوعي النقدي، كأنما خرجت الإنسانية أخيرًا إلى جنة عدن: ليس كل الإنسانية بالطبع، ولكن تلك النخبة التي أنجزت كل معارك العقل مع واقع مضاد ومقاوم لشروط انبثاق المجتمع السعيد الذي هو ثمرة المجتمع العادل، لكن المايحدث الفعلي هو أن وهم السعدنة لا يطيق معادلًا فرديًّا سليمًا من أمراض الماضي، فكيف بالأمراض المستجدة، لا يأتي انعكاسًا حتميًّا لقيام العدالة، بقدر ما يجدد اللعبة القديمة، في طرح الظاهر بديلًا عن الباطن، وتبديدًا لملامحه الأصلية. ألم يصف باسكال بروكنر P. Bruckner شبه السعادة الراهنة، كونها تلك العاهرة القديمة. ونحن بدورنا دعوناها بالسعدنة، تعبيرًا عن انقلاب السعادة إلى آمرية جمعانية. كرشوة «حداثوية» تدفعها المرآوية لضحاياها، كيما يتابعوا دور النعجة القابلة لمصيرها والقانعة بتسويغه فحسب.

أن يرفض المفكر الحداثوي التعامل مع هذه السعدنة الطارئة، وأن يفضل عليها حزنه الخاص، الشخصي: ذلك أن المرء لا يرى نفسه مشمولًا بنموذج السعادة الآمرية أو المفروضة. كأنما المجتمع المنشغل ﺑ «دعاية» السعادة إلى الفرح، بتعميم مظاهر الانشراح بدلًا عن الغبطة الصامتة، إنما يسعى إلى تغليب نمط السلوك، على منفذه؛ فإن استغياب الذات من تعميمات السعدنة، أضحى يعادل إخفاء الجسد عن صاحبه. فلا يتعلق الأمر بكون يوطوبيا السعادة قد تحققت أو أشرفت على التحقق، وأن هذا التحقق عينه هو الذي يصيبها بالابتذال، ويغرقها في العادية اليومية، بل إن المثقف الغربي أضحى عاجزًا عن رؤية ذاته فيما يعرض عليه من مسرات الواقع الرفاهي مجتاحًا لكل أمكنته العمومية والخاصوية، إلى درجة أنه لم يعُد يصدق الطوبائية إلا في مرحلتها الوهمية، وليس عندما تدَّعي إعادة إنتاج عالمه، حسب وصفاتها المتداولة.

وقديمًا أعلنت الحكمة الإغريقية أنه لا يقين مع عالم الظواهر؛ ليس ذلك لأن هناك باطنًا آخر يجب البحث عنه، بل لأن الباطن عينه ليس هو إلا ظاهري آخر جرى تدجينه أو إخفاؤه، أو إزاحته موقتًا عن مسرح الفعل والانفعال المباشرَين؛ فالسعادة هي أكثر هذه المظاهر جاذبية للإنسان اليومي، إلى درجة أنها تنسيه إغواء الخفي من أسرار النفس والعالم. وربما أصبح حكيم العصر هو الذي يتأبَّى أن يغدوَ آلة لإنتاج اللذائذ والمتع. وقد يفضل على هذا المصير الحيواني الخالص أن يكون داعية للحرية، باعتبارها شرطًا للفرح الحقيقي.

إن الكائن الفرح في هذا العصر هو الفرد المتمتع بسيادته على نفسه. تلك السيادة التي تشعره بامتلاك جسده صنوًا معادلًا امتلاكه لإرادته. كأن الفرح بلقيا الذات دون أية إعاقة، أو بالتغلب على أية إعاقة، لا يكتفي بتوليد إحساس الاعتزاز بامتلاك الاقتدار فقط، أو أن الحر ليس مرتهنًا باعتراف الآخر فحسب، بقدر ما هو ثمرة اعتراف الفرد بذاته أولًا، كونه حائزًا على احترامه لنفسه. ما يعني أن الحر أضحى مستحقًّا لإنسانيته عند ذات النفس، قبل أن يكون منتظرًا لاعتراف الآخر باستحقاقه. وينبغي القول كذلك بالمقابل إنني لست حرًّا لأن الآخر مستعبد أو حزين. فالحرية الحداثوية لا تقبل جدلية السيد والعبد، لا بين الأفراد، أو بين المجتمعات، بل هي جدلية الحر مع الحر، تلك التي تمنحني الفرح الحقيقي. فلا يتم فرح الفرد إلا بأفراح الآخرين.

قد يكون من السهل متابعة مثل هذه الأفكار، وكأننا نجدد طقسًا طوبائيًّا قديمًا، لكن تلك هي مهمة الفلسفي السياسي، وذلك هو معنى عودته، وتدخله المتجدد في صميم إشكالات العصر كلما استعصت المخارج، وراحت أنظمة تجدد الاستبداد، بطرق وأشكال مختلفة، تختلق الحلول الخطأ للإشكاليات الصحيحة، لا يعني هذا أن الفلسفي السياسي هو باعث الطوبائي، عندما تستعصي أمور المجتمع على كل حل أو تحليل موضوعي قادر على اكتشاف الحلول الممكنة، لكنه هو المذكر بإمكان التصالح بين منطقة لإتيقا الحرية العشقية، ومنطقة متداخلة مع الأولى ومتشابكة مع ضواحيها، وهي الحرية الاجتماعية؛ فالفلسفي السياسي هو المحذر دائمًا من أن تترك للطوبائية الواقعية، أي الموضوعة قيد التحقق العملي، فرصة أن تشوه الطوبائية المخيالية أو المفهومية، وتحولها إلى سلعة دعاوية.

أن يُحب الإنسانُ الحبَّ، ذلك هو حق الحرية عليه. وعندئذٍ تصبح حريته ليست آمرًا أخلاقويًّا فحسب، بل كأنها هي صوته من جنته الخصوصية من الفرح. ذلك الفرح الذي يتخطى في وقت واحد كلًّا من اقتصاد المتع اللذية، وأحلام السعادة الكاملة. ولا ننسى أن خيبات الأمل الجماعية المصابة بها إنسانية اليوم، ما بعد انهيار الأيديولوجيات الكبرى، ساعدت على إشاعة قاعدة الحلول الخاطئة للمشكلات الصحيحة. فإن إدانة المخيال الطوبائي بإنتاجات المدعين لمهمات تنفيذه وممارسته، قد أعادت الاعتبار إلى الحرية السلبية المكتفية بمكافحة الشر دون القدرة على إشادة الخير. ما يؤدي إلى انقطاع الأفراد والجماعات عن استيحاء الهوي الكلي، والانخراط في صراع الهويات الصغرى حتى يمسي الفرد السعيد أو المجتمع المرفه حالة استثنائية، في حين تتخبَّط الأكثريات فيما يشبه معارك طواحين الهواء، ويتابع المجتمع النخبوي احتماءه وراء شعارات المدنية، كما لو كانت المدنية هي استحقاق الفائزين بجائزة «نهاية التاريخ» وحدهم، من دون بقية قبائل الإنسانية التي يثبت عجزها، عصرًا بعد عصر، عن الاهتداء إلى إقامة ذلك المعبر الصعب بين المشكلة الصحيحة والحل الصحيح، وليس الحل العبثي. ومع ذلك فهذه المدنية بالذات لم تقدم إلى مجتمعاتها إلا أشباه الحلول كأجوبة على أسئلة المدنية، بما هي يوطوبيا السعادة للواحد كما للكل. وهكذا يعود الفكر الفلسفي إلى موقف الإنكار لما يصنع له تحت هالة مفاهيمه عن حقوق الإنسان، وقد اغتصبتها استعاراتها الإعلامية أو المرآوية، على صعيد الواقع والممارسة. إذا كانت هذه السعادة أضحت مجرد رشاوى المجتمع الاستهلاكي لضحاياه، فهي أمست كذلك من نوع تلك الرشوة القسرية التي لا تدع مجالًا لاختيارها أو رفضها، بل تسوق بضاعتها التشويقية كآمر أخلاقوي حداثوي، يضع حدًّا لثقافة البحث عن أسئلة السعادة الأصلية، بما هي استحقاق المدنية لمفهومها عن الهوي الإنساني، وليست سبيلًا إلى تمييزية جديدة ما بين الأمم والثقافات. إن الاحتجاج على «السعدنة» باسم الفرح الحقيقي يؤكد أن عصر المدنية لم يَحِن أوانه التاريخي بعد، بالرغم من كل صخب المجتمع التقنوي الإنتاجوي، الذي تتحفنا به مرآوية الترويج لجنة المتع اللعبية؛ تعويضًا عن أية «عدن» أيديولوجية، مفارقة أو محايثة؛ فالإنسان «العولمي» صار محكومًا عليه بالسعدنة شاء أم أبى، ما دامت مدنية السوق تشنُّ على الناس إرهاب «السعدنية» كآمر مطلق لا مفر منه. غير أن العلموي في الواقع هو الذي يشنُّ على نفسه إرهاب السعدنة، متطوعًا في تبنِّي مصير الضحية تحت قناع الجلاد الذي تستعيره لوجهها البائس. فإذا كانت الاشتراكية ثارت قديمًا على سادية الرأسمالي، إلا أن العولمة شرعت مازوشية الضحية، وبذلك أبطلت تقاليد التمييز بين السيد والعبد. جعلت الجميع عبيدًا للسيد المجهول دائمًا، والمرموز له سابقًا بالتسميات المفارقة، وصولًا إلى السيد المتجسد والمجرد والأعظم الأخير، وهو السوق، بالحرف الكبير، لكن حصيلة كل ذلك ليست نصرًا ﻟ «بدائية الجسد» على «بدئية الجسد» فحسب، بل هي واحد من أعراض نسيان نسيان الكينونة، وربما كان من أخطرها، إذ يثبت الفصل النهائي بين الدلالة والمعنى، ويجعل الثاني دلالة إضافية أخرى على الأولى؛ محولًا كل تذكر للمعنى ضربًا من النسيان، من الدرجة الثانية، يصبُّ في دعم ذلك النسيان شبه المطلق، من الدرجة الأولى. فلا مبالغة بالقول إن مهرجانية السعدنية الغازية لمختلف أمكنة المدنية النخبوية الراهنة والرائجة، لا تكشف فقط عن إرهابية المنطق السعدني، الذي يتقن مقايضة الإشكاليات الصحيحة بالحلول العبثية، ولا تفضح عهرية السعدنة المشاعة والمعممة ضدًّا على ندرة الفرح، واستثنائية الحرية فقط، بل تسعى هذه المهرجانية إلى الختم على آخر تمرين قد تمارسه الإنسانية الأحقية في وعي الأزمة التضحوية ما فوق السادية والمازوشية معًا. ذلك الهدف الاستحالي الذي قد يحين أوانه المفهومي، لكن تطرده وتطارده مهرجانية السعدنة الباهظة.

إلى متى!

١  قد يكون نيتشه أول المفكرين الذين أعادوا مفهمة التراجيديا فلسفيًّا، بعد أن احتكرتها النظرية الأدبية طويلًا، فضلًا عن كتابه الأول الذي حمل عنوان: مولد التراجيديا La naissance de la tragédie، أصبح التراجيدي علامة الإنسان الأخير المتقبل للحياة، الراضي بتحديها له في خيرها وشرِّها دونما أي خداع فوقي أو أخلاقوي؛ مفترضًا مبدأ الإرادة مقابل عدمية الوجود، مانحة إياه علاقة الصراع للفوز بالمعنى والحرية معًا.
٢  لقد اعتبر بول ريكور إقصاء الجسد عن حلقة الذاتوية المضخمة، والقذف به إلى مملكة الأشياء النائية عن الأنا، بمثابة «انتقام الوعي المجروح باستعادة حضور العالم».
Paul Ricœur Philosophie de la volonté, l, Aubier, 1949, p. 21.
٣  من الشائع أن أفلاطون أقام مملكة الروح ضدًّا على عدمية الجسد، لكن فوكو كان أول من نبَّه إلى أن أفلاطون لم يكن ليخرج عن الإبستمية الإغريقية؛ فالاهتمام بالجسد لديه ليس وسيلة لتحرُّر الروح من سجنه، كما هو متداول، بقدر ما هو موجه إلى إشادة الأخلاق، بما هي شأن من شئون بناء الذات بالتناغم مع الميول الطبيعية، وحسن قيادتها. انظر: ميشيل فوكو، استعمال اللذات، ص٢٧–٣٩، مراجعة مطاع صفدي، منشورات مركز الإنماء القومي.
٤  يقول أفلاطون في محاورة الجمهورية: «إنه لا لذة أعظم وأشد حيوية من اللذات الجسدية.» ومع ذلك ينبغي ممارسةُ حياة الجسد بكثير من العناية المعرفية والصحية. لا بد من العبور من اللذات المشروطة إلى اللذات غير المشروطة.
La République, Les lois, Timée, Le Banquet.
٥  ليس لدى فرويد، مبتكر اللاشعور، دراسة مخصصة بالجسد، بقدر ما اهتم بتركيز مفاهيم من نوع الليبيدو والكبت والنقل. ما يعني أن إبستمولوجيا التحليل النفسي تنطلق من متابعة الظاهرة المرضية للحياة النفسية أكثر منها للوجود الجسدي، بالرغم من العناية الفائقة بالليبيدو، كمحرك خفي للسلوك الطبيعي والمرضي معًا. فلا نجد مثلًا في «معجم المصطلح في التحلينفسي» الذي وضعه لابلانش وبوتاليس، وهو المرجع الأول للفرويدية، لا نجد بحثًا مستقلًّا عن الجسد؛ فاللاشعور ومصطلحاته حلَّت مكان الجسد.
Jean Laplanche, Jean-Bertrand Pontalis: Vocabulaire de la psychanalyse, PUF, 1967.
٦  الإشارة هنا ترجع إلى فوكو الذي كان له الفضل الأول في إبراز تاريخانية مأسسة الجسد، وأساليب عزله. انظر بعض مؤلفاته بدءًا من: تاريخ الجنون، المراقبة والمعاقبة، ومؤلفاته الثلاثة تحت العنوان الجامع: تاريخ الجنسانية، المترجمة والمنشورة من قِبَل مركز الإنماء القومي ضمن: مشروع مطاع صفدي للينابيع.
٧  Les Lettres et maximes: Épicure, ed. Librio.
٨  Les Lettres et maximes: Épicure, ed. Librio.
٩  منذ فترة ينشغل الناشرون الفرنسيون بإعادة ترجمة وشرح ودراسة مختلف الأعمال الإغريقية. والفلاسفة الرواقيون بخاصة شغلوا حيزًا هامًّا من هذه المكتبة. فضلًا عن فيض الدراسات الفلسفية حول الرواقية والفلاسفة الهليلينيين. من سينيكا إلى شيشرون إلى مارك أوريل. وقد جددت إحدى دور النشر هذه في إصدار النصوص الكلاسيكية في لغتها الأصلية اليونانية، واللاتينية وإلى جانبها ترجمتها الفرنسية. منها مثلًا: في سلسلة جامعات فرنسا، من مطبوعات الجيب:
  • Ovide: L’art d’aimer et reméde de l’amour.
  • Épictète: Manuel sur la tranquillité de l’âme.
  • Marc-Aurèle: Pensées pour moi-même, GF-Flammarion.
١٠  التراجيدي ليس هو المأساوي بالمعنى المتداول أدبيًّا، واللذة والألم قطبان للحيوية نفسها، وصراعهما قد يقدم مادة التراجيدي النفسي، المصعَّد إلى التراجيدي الكوني، خاصة تحت سطوة جدلية العود الأبدي. كما يفسر ذلك هيدغر خاصة.
M. Heidegger: I, L’Eternel Retour du Même, pp. 201–367, ed. N.R.F.
١١  التراجيدي ليس هو المأساوي بالمعنى المتداول أدبيًّا، واللذة والألم قطبان للحيوية نفسها، وصراعهما قد يقدم مادة التراجيدي النفسي، المصعد إلى التراجيدي الكوني، خاصة تحت سطوة جدلية العود الأبدي. كما يفسر ذلك هيدغر خاصة.
M. Heidegger: I, L’Eternel Retour du Même, pp. 201–367, ed. N.R.F.
١٢  يأخذ بعض الرواقيين على أرسطو أنه اعتبر الجمال جزءًا من كل، ولم يعتبره هو الكل. وقد يكون تأمل الجمال أهم مصدر لسعادة الرواقي. وعلى هذا الأساس فإنه يمارس مشقة الإرادة، ومغامرة الفعل، على عكس الأبيقوري، شرط أن تؤدي إلى حال الطمأنينية والسكينة بعد تحقق غاية الإرادة والانتصار على عوائقها. انظر دراسة وافية وجديدة حول الرواقية والسعادة في مجلة الميتافيزيقا والأخلاق، التي خصصت عددًا (١٩٨٩م) لمحور واسع عن الرواقية.
T. H. Irwin: Le Bonheur, in Revue de Métaphysique et de moral, No. 4, 1989.
١٣  لقد فرضت قسمة الجسد نفسها حتى على التيار النهضوي، الآخذ بمرجعية الطبيعة، فانحاز مفكروه وأدباؤه، إلى الجانب المادي نكاية بالروحاني في الجسد، وبالغوا في التحررية الأخلاقوية، كما شهدت على ذلك ثقافة القرن الثامن عشر. ولا يفهم هذا إلا على ضوء سيطرة القسمة نفسها سواء على متحزبي هذا الجانب أو ذاك. ويعتبر كتاب روبير موزي، المرجع الأساس لإعادة فهم عقلية لفوكو، صديقه وزميله منذ مرحلة التفكر في مشاريع الثورة الحداثية.
Robert Mauzi: L’Idée de Bonheur au XIII, ed. Albin Michel.
١٤  أعاد هيدغر تأويل أسطورة الكهف الأفلاطونية كمدخل لتغيير علاقة الإنسان بالمعرفة، واستعادتها إلى سياق الكينونة الإنسانية، بعد أن كانت المعرفة الحقة عند أفلاطون تقتصر على المثل، حيثما تخرج من سياق الوجود الزماني. في حين أن جوهر الحقيقة يحتاج دائمًا إلى تجربة الإنسان في سياق البحث عن الكينونة، كيما تتكشَّف لديه وهو مرميٌّ في قاع الكهف، يصارع أشباح الأشياء، معتقدًا أنها هي أصولها الحقيقية. انظر:
M. Heidegger: Questions I De l’essence de la verité, N.R.F.
١٥  قد يكون العقل حلَّ محل الروح في مذهب الصورة والمادة المطبق على الكائن الإنساني، ولكن العقل لا يختلط بالجسد، بل يعلو عليه، بما هو الشكل أو الصورة الخالصة. والسبيل الوحيد إلى الالتقاء به هو التفكر به. والمهم لدى أرسطو هو استباق الفيزياء للميتافيزياء، وهنا فالجسدي هو مسرح عملية التعقل؛ من أجل فهم تشكل المعرفة وعلاقتها بالجسد، يمكن الرجوع خاصة إلى:
Gilles-Gaston Granger: La théorie aristotélicienne de la science, ed. Aubier, 1976.
١٦  M. Heidegger: Questions II, temps et être, N.R.F..
١٧  M. Heidegger: Questions II, temps et être, N.R.F..
١٨  حاولت الفينومينولوجيا المعاصرة، أن تتصدى لصعوبة التمفصل بين الذاتي والجسدي، متخطية دائمًا أية رابطة علية بينهما. وقد يترك للفن تدبر التعبير عن هذه الالتباسية الأنطولوجية، لكن ذلك لا يعفي المعرفي الحداثوي من ابتكار أساليب التفلسف، خارج منهجيات العَقْلَنة التقليدية، ويمكن اعتبار بعض إبداعات جول دولوز بمثابة تمارين أولى رائعة على هذا الطريق الذي ما لبث أن طبع الفلسفة الفرنسية الراهنة لدى جيل من المفكرين المعاصرين.
G. Deleuze: Mille plateaux, ed. Minuit, 1980.
Logique du sens, ed. Minuit, 1982.
١٩  Michel Onfray: Théorie du corps amoureux, pour une érotique solaire, Grasset, 2000.
٢٠  Jacques Lacan: Écrits, ed. Seuil.
يستخدم اللاشعور هنا بمعنى غياب الجسد تحت وطأة اللغة؛ فإن لاكان يعتقد أن اللغة تدعم ذاتًا بدون جسد. والمقصود هو نسيج الدلالات التي تعطي صياغة عمومية لأحاسيس الفرد ونزعاته؛ بحيث يعجز عن التعبير عنها، ما دام لا يستطيع خلق لغته الخاصة. ومع ذلك فإن هذا الفيلسوف النفسي متعدد الجوانب والآراء، ولا تزال تكتشف له أبعاد جديدة مع متابعة نشر محاضراته وكتاباته الشخصية، لكن يبقى سلسلة «كتابات» المرجع الأساسي لمختلف نواحي تفكيره وتطوراته الفنية.
٢١  يكتب ساد، من خلال بطلة روايته جولي (La Nouvelle Heloïse) المتزوجة من رجل «تنويري» كامل مسيطر على قصر منيف مع حقوله اللامتناهية، أنها «لا ترى حولها إلا أناسًا سعداء بأحوالهم، أما بالنسبة لي فلست سعيدة جدًّا.» [وذلك لأنها لا تقارن تميزها بتعاسة الآخرين].
٢٢  تأخذ نظرية السيد والعبد، منذ أصولها الأولى عند هيغل، أبعادًا فكرية وسياسية متزايدة مع الانقلابات الشمولية في الاستراتيجية الجيو-سياسية للعالم. ومع إعادة تأهيل موضوعة نهاية التاريخ، التي أطلقها فوكوياما، يبدو أن الليبرالية الجديدة تعتمد هذه النظرية وتكسوها بشعارات العولمة. يبقى أن التأويل الفلسفي لنظرية السيد والعبد، كأساس لاستراتيجية التطور الكوني، مدين بتنمياته الواسعة للفيلسوف كوجيف.
٢٣  تأخذ نظرية السيد والعبد، منذ أصولها الأولى عند هيغل، أبعادًا فكرية وسياسية متزايدة مع الانقلابات الشمولية في الاستراتيجية الجيو-سياسية للعالم. ومع إعادة تأهيل موضوعة نهاية التاريخ، التي أطلقها فوكوياما، يبدو أن الليبرالية الجديدة تعتمد هذه النظرية وتكسوها بشعارات العولمة. يبقى أن التأويل الفلسفي لنظرية السيد والعبد، كأساس لاستراتيجية التطور الكوني، مدين بتنمياته الواسعة للفيلسوف كوجيف.
٢٤  Alexandre Kojève: Introduction à La lecture de Hegel, en guise d'introduction, ed., Tel Gallimard.
٢٥  Pascal Bruckner: L’euphorie perpétuelle, Essai sur Le devoir de Bonheur, ed. Grasset.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥