ذو اللحية الطويلة
أميركا أوقيانوس عظيم، قليل هو المعروف منه، وما هو مجهول عن عالمه أكثر بكثير من الظاهر المعلوم، وهكذا هذه البلاد؛ فإن فيها من الأسرار في الحياة ما يعيي الفكر عن العدِّ والحصر.
كثيرًا ما يُعجَب المرء بحياة بعض الناس، فيقول في نفسه: عجبًا واللهِ! كيف يعيش هذا وذاك وذلك، وهم لم يأتوا عملًا في حياتهم؟
ومع أن أميركا بلاد المادة، والمادة لا تأتي إلا بالعمل، العمل الحقيقي في ميدان واسع يتسابق فيه الخلائق تعدو عدوًا؛ فإن تعب أحدهم سقط على الطريق، فداسه القوم في مسيرهم، وراح كأنه ما كان، وبالرغم من أن أميركا بلاد الجِدِّ والكدح لا تخلو من قوم عائشين كغيرهم لم تعمل أيديهم عملًا، ولم تعرق جباههم يومًا، ولم تتحرك أقدامهم في ذلك الميدان العملي ولا خطوة.
هؤلاء عائشون بين الخلائق المتزاحمة المتسابقة في الزحام وراء تنازع البقاء ووجودهم بينها هو من العجب بمكان.
كنت أتعجب مع المتعجبين في كيف يعيش مخائيل فلفل، ذلك الشاب الذي يلبَس أفخر اللباس، ويتناول طعامه في أجمل النُّزُل والمطاعم، ويصرف المال كأنه مرتكن على «بنك أوتومان»، أو كأنه ابن روكفلر أو مورغن أو استور! ومن أين يأتيه المعاش؟ لا أحد يعلم. وكيف يتمكن من البذخ والتبذير، وهو «شمَّام هواء قطَّاف ورد» في كل أيام حياته؟ لا أحد يعلم. مع أن الكثيرين يشتغلون الليلَ والنهار يعملون في اليقظة ويهدسون في الأحلام بالنجاح، ولا يحصلون على أودِ حياتهم إلا بالغصب.
مخائيل فلفل أعجوبة، ويوجد كثيرون أمثاله، لا أحد يعلم كيف استطاعوا أن يعيشوا كسالى في وسط لا تأتي اللقمة للمرء فيه إلا بالجدِّ، مغموسة بدَمِ القلب وعرق الجبين.
لمَّا دخل مخائيل فلفل أرض أميركا لم يكن ذا ثروة ليعيش ترفًا دون عمل، بل كان كغيره من المهاجرين الذين يصِلون أميركا ومعهم زاد يوم واحد، ولكنه كان ذا ثروة طبيعية، وهي القوة على الاستنباط والإبداع بالحيل.
عرَف منذ حلَّ أرض أميركا أن الشاب مثله لا يستطيع أن يفتح تجارة تُدِرُّ عليه الأرباح الكثيرة؛ لأنه خلوٌ من رأس المال، أمَّا إذا شاء أن يصعد إلى مصافِّ التجار عن طريق الاشتغال بالأجرة أو البيع أو ما شاكل فأمامه سنون عديدة متعبة بالاقتصاد والثبات؛ ولهذا ابتعد عن الأشغال التي يتعاطاها إخوانه السوريون؛ ففي كل صيف كان يلزم معرضًا من المعارض، يستأجر فيه خيمة على مدخلها قائمة كبيرة، مكتوب فيها هذه العبارة: «منجِّم شرقي يخبرك عن ماضيك وحاضرك ومستقبلك.»
وفي داخلها كان حضرته يجلس وعلى رأسه عمامة، مقرفصًا تحت العباءة البدوية يدخِّن النارجيلة، وإلى جانبه شاب أميركي لا يعرف كلمة من العربية ينقل إلى الزبائن كلمات «علي بابا» المنجِّم إلى الإنكليزية.
وعلي بابا أو مخائيل فلفل يعرف من الإنكليزية بقدر ما يعرف ذلك الشاب الأميركي من العربية، ولكنهما ماهران بالترجمة بما يرضي الزبون، ويعجبه ويدهشه، وما يفيد جيوبهما بالدولارات التي تأتيهما عفوًا دون تعب ولا عناء.
مرة وأنا في شارع برودواي شعرت بيدٍ نزلت على كتفي، فأوقفتني وألفتتني لأرى مَن المُوقف، فإذا أنا أمام رجل ذي لحية كبيرة، متسربل بالفرو الغنامي وعلى رأسه برنيطة حريرية عالية، وقد وقعت عيني على عينه فابتسم لنظرتي، وذُهلت لرؤيته وأعملت فكرتي نحو دقيقتين لأعرف هُوِيَّته، حتى جاءتني الذاكرة بمن هو، فصحت به: ومتى التحيت يا مايك؟
– عرفتني والله، ولكنك لم تعرف اسمي الجديد، احزر!
– اسمك الجديد! أوَلك اسم جديد؟!
– أوَلم تسمع في طول البلاد وعرضها باسم علي بابا؟ فأنا هو.
– أأنت هو المنجم المشهور؟
– أنا هو.
– الله! لقد كشفت لي عمَّا بقيت أبحث عنه سنوات، وهو كيف تعيش وماذا تعمل؟
وأخذني صاحبي بالكار إلى كوني آيلند، فأدخلني إلى مرصده وعرَّفني على ترجمانه وأجلسني، وقال: اقعد هنا وانظر كيف يعيش صاحبك؟ وبأيِّ مقامٍ بين علية القوم؟ وكيف تأتيه زرافات الريالات صاغرة؟
فجلست عنده والدهشة تستولي عليَّ وأنا أراقب كلَّ حركة من حركاته، وفيما أنا على هذه الحال إذ تكلم الترجمان من داخل الستار قائلًا: علي بابا! علي بابا!
فعضَّ لي على شفتيه، مشيرًا إليَّ أن أهمد بمكاني، أمَّا هو فوضع العمامة على رأسه، وتسربل بالعباءة مقرفصًا، ثمَّ تناول النرييج وأخذ يشرق دخان النارجيلة.
وكأن صوت النارجيلة علامة للترجمان أن يدخل الزبون؛ فقد تم الاستعداد لقبوله أمام عظمة المشرح أسرار الناس والقابض على أزِمَّة مجاهيل الطبيعة.
دخلت سيدة إلى حضرة علي بابا ودليلها الترجمان، الذي قال لها أن تركع أمام سماحة المنجم الأعظم. وركعت السيدة وإلى جانبها الترجمان، ولما استعدَّ علي بابا للعمل انقطع لحظة عن التدخين، وأنا أتطلع إليه بشوقٍ زائدٍ، أدرس كل حركة من حركات وجهه ويديه ورجليه متربِّصًا تحرُّك شفتيه بالأسرار عن ماضي تلك السيدة المشتاقة لمعرفة مستقبلها، وما عساه يجري عليها، متأكِّدة ذلك بما تسمعه من أسرار ماضيها.
وهمَّ الترجمان لالتقاط الأسرار من فَمِ كاشفها علي بابا، الذي فتح فاه بالكلام باللغة العربية قائلًا: «قل لهذه العاهرة أن البودرة على خدَّيها كادت تذوب تحت عرقها المتصبب من جبينها.»
وما كادت هذه الكلمات تخرج من فمه، والترجمان يستعدُّ لنقلها إلى السيدة باللغة الإنكليزية، بل لا لينقلها، أستغفر الله فكلامه لا يُنقل، بل ليحوك من مهارته عبارات ملؤها الحيل والخلط، حتى رأيت السيدة قد نهضت واقفةً على إصبعها تكاد تولول وهي تصبُّ الدعاء على المنجِّم.
شعرت في تلك اللحظة أن العاصفة قادمة على الخيمة، وعلى كلِّ من فيها، ولكن شدُّ ما كان عجبي عندما رأيت صاحبنا المنجِّم رابط الجأش، كأنه ما قال شيئًا يريد إلحاق الجرم بالسيدة؛ لأن الحق عليها.
وسمعته يكلِّمه بلغتها العربية قائلًا: ألا ترين أني عرفتك سورية؛ ولهذا أسمعتك ما لا ترغبينه من الكلام جوابًا على ازدرائك بنا نحن المتعيِّشين على الأميركان.
وخرجت تلك السيدة من الخيمة وصاحبي المنجم وترجمانه يضحكان، وقد قال لي إن تلك كانت المرة الأولى التي حدثت له مع سورية، وإن القدر ساقني لأشاهد تلك المأساة بعيني.
وخرج الترجمان إلى خارج الستار ليرمي شباكه على السوق، فيصطاد بالبوق بعض المارِّين الذين تهزُّهم الأوهام، ويوقعهم الاعتقاد بالخرافات في شباك الصيَّادين المتعيشين. وما كدت أهدئ روعي لأستأنف الحديث مع صاحبي النبي علي بابا حتى سمعت الترجمان يرجف صوته بخشوع قائلًا كلمات الدلالة على أن الشبكة قد جاءت بصيدة: علي بابا! علي بابا!
فشرق علي بابا بالنارجيلة شرقة طويلة، وإذ ذاك دخل الوسيط بسيدة كهلة ذات عينين زرقاوين ووجه بائخ، فأركعها الترجمان الوسيط عند قدمي النبي علي بابا، الذي انقطع عن التدخين هنيهة إذ أعاد الترجمان كلامه قائلًا: علي بابا! علي بابا!
وكأني بهذا الوسيط لا يعرف غير هاتين الكلمتين من العربية، يلفظهما بلهجة غريبة هكذا: «ألي بابا! ألي بابا!» وهو يستعملهما بسؤاله عن كل أمرٍ يريد طرحه على النبي الذي يتمتم كلمات بلغته العربية جوابًا لاستعلامات وسيطه، فيؤلف ذاك على ذوقه باللغة الإنكليزية ما يناسب الحال.
وسمعت علي بابا هذه المرة يقول، وقد استفاد مما سبق حدوثه: «قل يا رب، يسِّر ولا تعسِّر، يا رزَّاق يا عليم بالحال!»
وكنت مصغيًا بكل مسامعي للجواب الذي كان على الوسيط أن يقدِّمه على سؤال السيدة عن ماضيها، فلما أخذ الجواب من نبيِّه قال لها إنها متزوِّجة شابًّا أحبته. ولم يكد ينهي عبارته حتى رأيت السيدة قد انتصبت غاضبة تصيح: كذب! كذب!
وللحال انتصب علي بابا وقد عرف أن ترجمانه قال شيئًا لم يُرْضِ الزبونة، فأخذ يصبُّ جامات غضبه على الترجمان، ويتهدَّده تارة بالضرب والرفس، وتارة بالبصاق عليه، وهو راكع أمامه يرتجف ارتجافًا كأنه صُبَّ عليه ماء بارد. ولما انتهى تمثيل الدور، ورأت السيدة أن الغلط لم يكُن من النبي ذي العصمة بل من وسيطه الذي بعدما صبر على ما ناله من سيده أخذ يتضرع إلى السيدة ويسترحمها قائلًا إنه غلط بنقله من فم النبي؛ فإنها غير متزوجة البتة وإن سيده قد طرده لارتكابه هذا الجرم.
فرقَّ قلب تلك السيدة وعادت فركعت بجانب الوسيط أمام علي بابا ترجو منه العفو عن ذلك المسكين، وقد كادت دموعها تنهمل من مآقيها.
كل هذا وصاحبنا علي بابا يُرغي ويُزبد، ويتطلع إلى ترجمانه تطلُّعًا وحشيًّا، كأنه يريد افتراسه.
ولما رأت السيدة أنها كانت السبب لكل هذا الجاري مدَّت يدها إلى جيبها فأخرجت من كيسها ثلاث ورقات مالية، كل واحدة بعشرة ريالات، وقدَّمتها إلى المنجِّم مسترحمة إياه بقبولها ليعفو عن ذلك المسكين.
فالتفت الوسيط إليها، يقبِّل أذيالها شاكرًا جميلها وشيَّعها إلى الباب، وهو يزيدها أحمالًا من الحمد والثناء.
وعاد الترجمان إلى داخل، ولما وقعت عينه على عين علي بابا انفجر الاثنان بالضحك، أمَّا أنا فوقفت على قدميَّ هامًّا بالانصراف، وإذا بصاحبي علي بابا قد وقف ماسكًا بي وقائلًا: مهلًا يا صديق!
– أخاف أن أرى حادثة ثالثة تذهب بصبري، ولكني أشكر الصدف؛ فقد دلَّتني على مورد كسبك، وقد كنت أجهله وأعجب لحياتك.
– أرأيت مثل متجرنا؛ أرباح بأرباح دون رأس مال؟
– لا، لم أر متجرًا كمتجرك كل رأس ماله لحية طويلة.