خنفشار في أميركا
البواخر التي تقطع الأتلانتيك أنابيب تصبُّ الخلائق من العالم القديم المكتظ بالبشر إلى العالم الجديد المفتوح لأجيال ليتنفَّس فيه الأنام بملء رئاتهم في فضاءٍ واسعٍ يكتنف الملايين من القادمين.
هذه الأنابيب تروح وتجيء بين شواطئ أميركا وشواطئ أوروبا، ناقلة على متونها ألوف العمَّال والطالبين العمل في ميدان الأعمال: أميركا.
يصل المهاجر إلى أميركا فيصمت صمتة الذهول في عظمة هذه البلاد، ويعقد لسانه شغل فكره وجنانه بالتأمل بما وصلت إليه فكرة الإنسان المتمدِّن في فنِّه وصناعته وعلمه، يتأمل مثلًا في ناطحات السحاب فيعدُّ طبقاتها واحدة واحدة، فإذا وصل إلى رقم الخمسين بعد أن تكون عروق رقبته تكاد تتصلَّب يهزُّ رأسه عجبًا، ويتابع مسيره ملتفتًا خطوة فأخرى ليملأ ناظريه بمدهشات البناء.
يأخذه أحدُ معارفه من نيويورك إلى بروكلن بقطار النفق، وعندما يصل به إلى منتصف الطريق يخبره بأن القطار سائر بهما تحت لجَّات البحر، فيثب قلبه وجلًا ودهشةً، وتتفرع أفكاره إلى فروع لا تلتئم، وهو خاشع أمام العظمة البشرية التي خوَّلته الظروف أن يدخل إلى قلبها.
يقف فيه أحد أصدقائه عند مفرق الطرق فيرى أمامه إلى مدًى بعيدٍ خطوط السيارات تتحرك شمالًا ويمينًا وغربًا وشرقًا كأنها فيالق لا أول لها ولا آخر، وألوف العابرين من هذا الجانب إلى ذاك والقاطعين من هذا إلى ذاك بكل نظام وانتباه، فيُخيَّل له أنه في جنة من جنَّات الله.
كل هذا والمهاجر القريب العهد بوصوله إلى أميركا يبقى مدهوشًا يتكلَّم فكره وقلبه بعجائب الاختراع، وأمَّا لسانه فيبقى جامدًا لا يستطيع أن يتحرك. وما عسى المهاجر الضعيف أن ينطق فمه أمام ما يشاهده بأمِّ العين من عظمة العالم الجديد وضخامته؟
ولكن هذه العقلة لا تطول، وذلك المهاجر الصامت بالأمس يُصاب بردِّ فعل، فينقلب إلى متكلِّم كثير الكلام؛ لأن زمن الذهول قد مرَّ وجاء زمن أصبح فيه المهاجر يتطلع إلى مرامي العظمة كأنه راءٍ أمام عينيه التنور عند مدخل داره في القرية، أو كأنه إذا تطلَّع إلى بناية وولورث ذات الطباق الثمانية والخمسين يشاهد كوخه في الكرم المؤلَّف من أربع قوائم شجرية بحيطانٍ من قشٍّ. وإذا ركب قطار النفق تحت البحر لا يأخذه العجب كالأول كأنما هو راكب حمارَه تشارك رجلاه قوائم ذلك الحمار بالسحب على وجه الأرض.
أخبرني صديق أن أخاه ظلَّ أسبوعًا لا يحير كلامًا، وقد خاف أن يكون قد أُصيب ببكمةٍ بادئ ذي بدء، ولكنه ما انتهى الأسبوع حتى صار ذلك الأخرس خطيبًا من الطبقة الأولى، إذا جلس في حضرة كائنٍ مَن كان يتناول الحديث من الألف إلى الياء، فيخلط عبَّاسًا على دبَّاس، وإذا نهاه ناهٍ لا يبالي به ولا بنهيه، فهو الضليع في كل فنٍّ وعلمٍ وعملٍ بعد أن كان يمشي على سطح الصَّبْوِيي فيتأمل كيف جعلوه من قطع زجاج، وقد صار كل صعبٍ عنده من أهون الأمور، وله على ذلك تعاليل، هو ناسج بُردها وحده لا شريك له. من ذلك أنه مرة كان جمهور في سهرة موضوعهم جسر بروكلن عندما كانت بلدية نيويورك مهتمة بمدِّ جسر مانهتن، أمَّا هو فتناول الموضوع، وعبثًا كان يغمزه أخوه أن يختصر الحديث، وأن يعطي فرصة لغيره بالكلام، بل تابع تعاليله حتى انتهت السهرة. وقد أبان للقوم ألا حاجة إلى العجب في بناء الجسور العظيمة؛ فإن أمرها بسيط جدًّا؛ لأن الأساس يُبنى على الفلين، إذ توضع صفائحه على وجه الماء، ويُبنى فوقها فتُرسب رويدًا رويدًا حتى تصل القعر.
قال محدِّثي: ولا أعلم من أين جاء أخوه بمثل ذلك التعليل، ولكن بالرغم من أنه يجهل حتى القراءة والكتابة يتجرأ على الخوض في جِسام الأمور فيهون عنده جسر بروكلن ومانهتن وغيرهما.
عرفتُ سعد قمر في إحدى مدائن هذه الولايات، وهو كهل عتيق هاجر إلى أميركا عن طريق مصر، فمال لسانه إلى لغة الفراعنة، وظل في أميركا عشرين سنة، وهو يتكلم بلغة محمد عبده وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم.
وسعد قمر عانس لا يعرف الألف من الباء، ولكنه ذو لسان ذي حركة دائمة، لا توقفه إلا المنية، ولا أدري إذا كانت المنية قد أوقفته؛ فقد مات ووُضِع في قبره وحجبته عني ظلمات الأبدية؛ ولهذا لا أجزم بالأمر.
كان المرحوم إذا رأى حلقة مهما يكن نوعها ومن أي الناس كان أعضاؤها يجلس إلى ناحية قريبة، فيُعطي أذنه أوَّلًا إلى حديثهم حتى يتمكن من جذب طرف من حديثهم إليه فيستلمه، ويبدأ ولا ينتهي حتى ينتهي الاجتماع ويتفرق الأحباب. وقد صار معروفًا في التدخل بكل موضوع؛ فهو الطبيب، وهو الفيلسوف، وهو التاجر، وهو كلُّ شيءٍ بحديثه، ولكنه لا يدرك مَن هو في عالم الوجود، ومات ولا يعلم من أين، وإلى أين، ولماذا وُجِد على سطح الغبراء.
والمرحوم سعد كان يحب أميركا؛ لأنها، كما سمعتُه مرة يقول، تفتح قلب الأعمى؛ ففي بلادنا الأفندي والبك والمطران والخوري والأستاذ لا يُعطون دورًا لمثله بالكلام، وأمَّا هنا في أميركا فكل إنسان حرٌّ بما يشاء أن يتكلم.
وكان القوم في تلك المدينة قد عرَفوا طبيعة المرحوم سعد، فاستأنسوا بأحاديثه، وصاروا يرون بها تسلية ولذَّة بما يعلل به، ويبرهن ويسند إليه بصور مضحكة؛ «فيقرقون» عليه ويحمِّسونه حتى يغتاظ، وعند هذا تبدأ تسليتهم.
جمعتني الصدفة مرة في حلقة من هذا النوع في ذلك البلد، ولما شاهده أحدهم قادمًا من بعيد صاح بنا قائلًا: ها هو سعد قادم، فافتحوا موضوعًا ليستلمه، ويبسطنا قليلًا من الوقت.
وكان الجميع يدخِّنون السكاير، فقال أحدهم: إن الذي اكتشف الدخان هو أميركي؛ فإن أميركا أم الدخان.
«وعندها دخل سعد فحيَّى وجلس، وقد سمع آخر جملة من المتكلم: أميركا أم الدخان.»
وبعد أن حيَّى وجلس قال: بماذا تتحدثون؟ أتتكلمون عن الدخان؟ الدخان مثل البخار يصعد من الماء إذا وُضِع فوق النار.
فأجابه ذلك الذي قال العبارة: لا لا. نحن لسنا بموضوع أصل الدخان، فاكفنا شر فلسفتك، ولكنَّا اختلفنا على كون الدخان الذي ندخنه من السكاير، أو بعبارة أخرى السكاير نفسها أو التبغ اكتشفه أميركاني، فما رأيك؟
فأجاب: الدخان! الدخان عربي اكتشفه ملك العرب منذ ألوف الأجيال.
(وكان صاحبنا المرحوم يرى في إعلانات السكاير صور أعراب وأتراك، وقد علق برأسه أن البدو يُكثرون من التدخين، وأن الأركيلة عربية محضة، فلهذا حفر في دماغه أن الدخان عربي على الإطلاق.)
لا حاجة إلى إعادة قصة الخنفشار الشهيرة، وما كان لذلك المدَّعي معرفة كل شيء؛ فإنها معروفة لدى القاصي والداني، وقد ذكرتها لأن قصَّتها مشابهة قصة هذا المرحوم بلَّ الله ثراه.
اعتاد المرحوم أن يسند تعاليله إلى براهين وتواريخ توحَى إليه في اللحظة؛ ولهذا عكف على كلامه بقوله: كان لذلك الملك ابنة وحيدة يحبُّها حتى العبادة، ولا يرضى أن يبيع شعرة من شعر رأسها بكل ممالك العالم، فذات يوم دخل على غرفتها فوجدها دائخة والدخان يخرج من فمها، فصاح باسمها واسمها … الله يلعن الشيطان كان اسمها على رأس لساني، اسمها … اسمها … اسمعوا حتى أتذكر، اسمها … اسمها …
ولا أعلم لماذا دقر عن هذا الاسم، مع أنه يستطيع أن يفبرك مجلَّدات، ولكن لكي يكون للحادثة وجه من المجون عندنا ألهمه الله أن يدقر حتى يكتشف اسمها.
وانتظرنا بفارغ صبرٍ أن نحصل على اسمها ليمشي في قصته لنرى إلى أين يوصلنا حتى مضى نحو نصف ساعة، وهو يفرك جبينه، ويلعن الشيطان كيف أنه نسي اسمها، وقد كان على رأس لسانه، ولم يبلعه أو يبصقه، ولا هو موجود في مكانه، وكيف طار، لا أحد يعلم.
أخيرًا، وأنا كلي شوق إلى استماع الحادثة، حدَّثتني نفسي أن أقذف كلمة باسم لعله يأخذها ويريحنا من حزره وانتظارنا، فقلت له: اسمها يا عم دخانة.
فأبرقت أسرَّته أيما إبراق، وخبط برجله على الأرض وصاح: دخانة، اسمها دخانة.
أمَّا قصته فقد انتهت والناس يضحكون، ولكني أنا قد خفت أن يكون قد صدَّق أن اسم ابنة الملك الذي قصَّ علينا شيئًا من تاريخه دخانة؛ ولهذا بعدما تفرَّقت الحلقة جلست بجانبه، وهمست في أذنه: أرأيت كيف خلَّصتك من تحزير نفسك، وأعطيتك اسمًا مختلقًا لابنة الملك؟
– اسمًا مختلقًا؟ أوَتريد أن تضحك عليَّ؟ أأنا ولد؟ أوَلا أعرف اسمها، وقد كان على رأس لساني؟
– ولكن أقسم لك بالله أن كلمة «دخانة» جاءت مني عفوًا، وقد شلفتها شلفة لعلها تلصق بحائط دماغك، وقد لصقت وخلصنا من الانتظار.
فما كان منه إلا أنه أدار لي ظهره، وهو يشرق دخان النارجيلة ضاحكًا بملء فيه من محاولتي إقناعه بأن مسألة «دخانة» رمية طائشة لا محلَّ لها من الصدق، وقد ردد ثانية قوله: يريد أن يضحك عليَّ، أنا لو كنت متزوِّجًا لكان أصغر أولادي أكبر منه.
وقد بلغني أن سعد قمر توفي منذ سنة، وأظنُّه وهو في ضريحه لا يزال يعتقد أن اسم ابنة الملك العربي دخانة، وأنها هي التي اكتشفت الدخان حتى سُمِّي باسمها قبل أن اكتشفت أميركا بألوف السنين.
وأنا حزينٌ جدًّا جدًّا أني لم أقدر في حياتي أن أقنعه بأن تلك الكلمة التي حُفِرت على صفيحة مخيلته إنما هي تلفيق، وأخاف أنه لا يزال في سكينة القبور يعكِّر صفاء تلك السكينة الرهيبة بترديد تلك الكلمة الملفَّقة.