لنا علم، وللجهال مال
مسكين جورج بحري، ينقصه أمر، وهذا ما يجعله حزينًا كل أيام حياته.
هكذا يُسمعني دائمًا كلما قابلته يتنهَّد، ويخبرني أن عنده آراء سديدة، ولكنه يجهل قواعد اللغة العربية.
وجورج بحري تاجر من التجَّار الكبار بين السوريين ومعدودٌ بين أهل الثروة والمقام التجاري، ولكنه بعد أن حصل على ثروته ومقامه وقد كان من أوائل المهاجرين، وأهان نفسه في الأعمال الأولى حتى صعد باجتهاده إلى رأس السُّلَّمِ التجاري، وعندئذٍ تلفَّت فرأى نفسه مفردًا لا ينقصه شيء؛ بالغنى هو من أربابها، بالوجاهة هو من أعيانها، بالزعامة هو من أركانها، لا ينقصه إلا شيء واحد وهو قواعد اللغة العربية؛ ليخطب في المجالس، وينشئ المقالات على صفحات الجرائد.
وهذا الرجل صورة من صور السوريين العُتَّق، الذين يحبُّون الظهور بما ليس فيهم وتمني الأمور البعيدة عنهم، فلما كان فقيرًا كان يتمنَّى لو يصير غنيًّا، حتى إذا صار غنيًّا أصبح يتمنَّى لو كان وجيهًا، فدخل الجمعيات وتبرع هنا وهناك، وعكف عليه الناس لمقامه المالي حتى إذا صار كبيرًا في عيون فئة من الناس تمنَّى لو أنه خطيب يقف على المنابر، فيجتذب قلوب السامعين. وهو يظنُّ أنه لا ينقصه من الخطابة والكتابة إلا قواعد اللغة، وقد جاء إلى أميركا ولدًا من مزرعة ليس فيها مدرسة تعلِّمه.
مسكين جورج بحري، إنه لمن المحزنات ألا يكون ملمًّا بقواعد اللغة العربية، ليُلبِس آراءه الجميلة أثوابًا لغوية بديعة يفيد بها المجموع.
ولهذا الرجل أطوار غريبة خبرتها بنفسي؛ فإنه يحبُّ المجاملة والمسايرة ومرافقة المارِّين، فيوصلهم إلى الأماكن التي يقصدونها فيودِّعهم ويعود، وقد حدثت لي معه حوادث عديدة نفَّرتني قليلًا عنه مع أني لا أعرفه كثيرًا، وقد تسلَّط على مرافقتي غصبًا عني.
مرَّات عديدة وأنا سائر في الشوارع أرفع رأسي فأراه قادمًا نحوي من أول الشارع، فلا تقع عيني على عينه حتى أرى يده مرفوعة، حتى إذا وصلنا لمقابلة بعضنا بعضًا دبَّ يده على يدي فهزَّها هزَّة هائلة. ولهذا صرت إذا رأيته من بعيد أخفض بصري إلى الأرض كأني لم أره، وهو أكبر من الجاموس، فأحوِّل مسيري إلى الجانب الثاني من الشارع، ولكن هذا لم يكن يفيد، فإن حضرته مرة وقعت عيني على عينه من بعيد فرأيته رافعًا يده إذ لمحني، فلُذت بالحيلة، ومالت قدماي إلى الجانب الثاني من الشارع، وتابعت الخطو وعيني لا تنظر إلى ذلك الجانب، ولكن شدَّ ما كان دهشي عندما رأيت رجلًا كبيرًا يفرِّق جموع الناس بالعرض، رافعًا يده ليخبطها على يدي، فخبطها، ووصلت طرقتها عنان السماء، ولا يعلم إلا أنا واللهُ كم تألمت من تلك الهزَّة والضربة، إلا أني لم أشأ الوقوف؛ لئلا يكثر ازدحام الناس على مشاهدة أدوار الرواية التي كنت وإيَّاه بطليها؛ ولهذا سحبته بيدي من يده وتابعنا المسير. أمَّا هو فوضع يسراه أيضًا على كتفي، وأبقى يمناه بيمناي ومشينا، هو يتكلم وأنا ألعن الحظ، وكنت كلمَّا أردت الانفصال عنه يرجو مني أن أبقى معه لنقطع الشارع الفلاني وهو يخطب في أذني تارة بالتجارة وأخرى بالصحافة، ثمَّ يبدأ بالعلم فينتهي بالسياسة إلى ما هنالك من الفنون المخلوطة في دماغه، وكالعادة كما تقدَّم، عندما فرغ من كلامه الطويل سألني رأيي قائلًا: «ألا ترى أن عندي آراء؟» فجاملته بقولي: «نعم آراء، وأي آراء!»
فأبرقت أسِرَّته لجوابي الحسن، ولكنه عاد فقال: ولكني أتأسف يا عزيزي، إنني أجهل اللغة العربية، فلو كنت متعلِّمًا لخطبت خُطبًا نافعة.
فقلت له: ولكن اللغة ليست بذات بال، إذا كان عندك فكر.
قال: بلى، ولكن كيف أستطيع أن أحوك آرائي؟
فقلت له إنه يستطيع أن يطالع الجرائد والمجلات والكتب فيكتسب منها الاصطلاحات العربية، فإذا استعملها بكلامه لا ينقصه شيء البتة؛ لأن قواعد اللغة ليست بلازمة ولا هي بضرورية لمن كان عنده آراء كآرائه.
فأخبرني إذ ذاك أنه كثير المطالعة، وأنه يقرأ كل كتاب وكل جريدة ومجلة تقع تحت نظره، وأنه صار خزانة للاصطلاحات العربية.
وفيما نحن بهذا الحال إذ التقينا بشاب يعرفه جورج، فصافحه مصافحة شبيهة بمصافحته لي، ثمَّ عرَّفني عليه، وأخبرني أنه قد تكلَّل على عروسٍ منذ ثلاثة أيام. ثمَّ خصَّ العريس بكلامه وأنا سامع فقال: «أهنِّيك بالعرس والعروس، وأتمنَّى لك ولها الأفراح والأتراح.»
سمعت أنا ما قال جورج، وكدت أرسل عاصفة من الضحك، غير أني كظمت لأسمع جواب العريس.
أمَّا العريس، فأجاب باللغة الإنكليزية شاكرًا عواطف المستر جورج وافترقنا عنه، عندئذٍ تبسَّمت وتطلعت بجورج، فرأيته مبتسمًا أيضًا طافح الوجه، فقال لي: «ألا ترى أنني أستطيع تركيب الكلام الفصيح؟»
فأجبته: نعم، وقد شاقني السجع بكلامك. فأخبرني إذ ذاك أنه في ذلك النهار وقعت عينه في جريدة على «الأفراح والأتراح»، فأحبَّها وحفظها في فكره للاستعمال، وقد سُرَّ جدًّا للظَّرف الذي جعله يلتقي بعريس ليقولها له، ظانًّا أن الأتراح مرادفة للأفراح؛ لأنه فهم هذه ولم يفهم تلك.
وانقضى ذلك النهار وأنا كالمأخوذ، فكلما فطنت لما حدث أمامي أضحك لنفسي كالمأخوذ، ولا أزال كذلك إلى هذا اليوم.
والمستر جورج يحفظ كثيرًا من الأمثال التي يدعم بها أحاديثه، وكثيرًا ما يعزو حوادث خطيرة لنفسه، كأنها حدثت له وهي في بطون التاريخ القديمة، يسمع بها فتلذُّ له، فإذا جاءها دور يناسب المقام الذي يكون فيه يسرد قصتها، جاعلًا نفسه بطلها.
وهو يعتقد بذكاء السوري المفرط ودائما يتأسف لكون السوريين غير متعلِّمين، وإلا لفاقوا على كل الأمم بذكائهم. ومن أمثلته على ذلك أنه استطاع أن ينجح في بلاد غريبة كان يجهل لغة أهلها، وقد جاء إلى أميركا بساعده وحده، فداس الصعوبات الكثيرة وتغلَّب على المعاكسات، فنال حظًّا وافرًا من الثروة. أمَّا تأسُّفه الشديد، فلأنه دخل ميدان أميركا خلوًا من العلم، فلو أنه كان عالمًا لكانت ثروته أضعاف ما هي عليه اليوم.
وكثيرًا ما ينظر إلى المتعلمين من السوريين فيرى معظمهم مُعدَمين، فيهزُّ رأسه أسفًا لما ضيَّعوه من الحظوظ مع أنهم حاصلون على الأساس الذي يستطيعون أن يبنوا عليه التقدم العظيم في عالم التجارة.
قال: يأتي السوري المتعلم إلى أميركا فيتأفف من كل مهنة، لا يرضى يبيع بالكشة ولا بالجزدان، وإذا اشتغل في محل لا يكاد مقعده يسخن تحته حتى يترك المحل هازئًا بأصحابه.
وقد حدث بهذا الرجل حادث أدَّى إلى نفوره من كاتب في محله؛ وذلك أنه جاء يومًا إلى الكاتب فنصح له أن يهين نفسه إذا كان يريد الصعود إلى قمة النجاح، وأعطاه مثالًا على ذلك نفسه، فقال له إنه لو لم يحمل الكشة سنوات على ظهره كالحمار، ويقطع الأميال كل يوم مشيًا على قدميه لما حصل على مركزه التجاري، ولما كان يشتغل في محله كثيرٌ من الناس المتعلمين كالكاتب المنصوح له. ثمَّ زاد على ذلك أنه لو كان مثل الكاتب متعلِّمًا، وجاء إلى أميركا لكان بلا شكٍّ بمصافِّ أغنياء شارع «وول». أمَّا الكاتب وقد كان خريج كلية يشتغل عند المستر جورج ليرى له بابًا لمستقبله، ولم يكن يرى ذلك الباب مفتوحًا في خلال عشر سنوات، فأجابه: «ولكن، أقسم لك يا مستر جورج، إنه لو جئت حضرتك إلى أميركا متعلِّمًا مثلي لكنت كما أنا تشتغل لغيرك من الذين جاءوا إلى أميركا لا علم ولا معرفة، فلم يُبالوا بحمل الأثقال على ظهورهم وصعدوا سلم النجاح درجة درجة حتى وصلوا إلى أوج مقامهم.» أولئك لو كانوا متعلمين لاكتفوا بعلمهم، وأنفوا من الأشغال الأولية التي لا يأنف منها من كان مثل حضرته. وقد قال له أيضًا إنه يجب أن يشكر الله لكونه ليس متعلِّمًا، وإلا لما كان غنيًّا كما هو اليوم.
وقد انتهت تلك المحادثة عن طرد المستر جورج لكاتبه؛ لأن هذا قال له أخيرًا: هذه سُنَّة الله في خلقه، لنا علم، وللجهال مال.