عارف الجميع
لعزيز سيار ميزة عن باقي البشر؛ فهو يعرف كلَّ من يراه، فإذا رآك حيَّاك وسلَّم عليك، وسألك عن صحة أفراد العائلة، ويحكي لك قصة عن المرحوم جدِّك الذي تعرَّف عليه في الشام مثلًا، وأن المرحوم أباك كان من أعزِّ أصدقائه.
عزيز سيار هذا مخلوق عجيب، وبالأخص بتواريخه التي يفصِّلها عن حياة هذا وحياة ذاك، وكثيرون لأول وهلة ينصاعون إلى حديثه لتصديقهم أقواله عن معرفته بالمرحوم فلان، وصداقته القديمة لهذا ولذاك، ومواصلته فلانًا وآخر.
وله عادة عُرِفت به وعُرِف بها، وهي أنه إذا التقى بإنسان فبعد أن يحييه ويسلِّم عليه، ويسأله عن صحة أفراد العائلة، ويقصَّ له واقعة حال مع أحد المرحومين، يشبك ساعده بساعد المُلتقي به، ويسير الاثنان على الطريق حتى يتحنَّن الله ويمرَّ إنسان آخر فيودِّع الأولَ، ويمسك بالثاني بعد أن يقول للأول: «البقية تأتي. إن شاء الله في المشوار الثاني أكمل لك القصة.» ثمَّ يبدأ بذات الدور مع الثاني، وهكذا يظل يودِّع هذا ويلاقي ذاك حتى ينتهي النهار.
إلا أن كثيرين من الذين درسوا أخلاق عزيز عرفوا مبلغ الصحة في أحاديثه، فصاروا يتراهنون على ما إذا كان يعرف شخصًا ما أو لا يعرفه، فيقصدونه، وغالبًا كان المراهنون يخسرون؛ لأن للرجل ولعًا شديدًا بمعرفة العيال والأسماء، ويكفي لذلك أن يذكر عن المسئول عنه لمحة صغيرة كان يقول هو فلان من البلد الفلاني من العائلة الفلانية، تعرفت بابن خال كنة عمَّته في عام كذا وكذا … إلخ.
حدث يومًا أن عزيزًا كان في أحد المحالِّ السورية في يوم عاصفة ثلجية أوقفت الأعمال، وكان عدد من أصحاب المحل وزبائنهم مجتمعين داخل المحل يستدفئون وفي جملتهم كان عزيز السيار، وصدف أن العمل الذي كانوا يعملونه قد انتهى، ولم يشأ أحدهم الخروج، وفيما هم كذلك إذ دفع الباب ولد وبيده أعداد جريدة فطرح أحدها إلى داخل المحل وقفل راجعًا، فتناول أحد الشركاء العدد وأخذ يقلب بصفحاته، فصاح به عزيز: «هات لنا أخبار الجريدة لنتسلَّى بها، فلا عمل لنا سوى الانتظار حتى تهدأ العاصفة فنخرج.»
فناوله التاجر العدد، وقال له: «اقرأ لنا مقالة خليل لقمان في الصفحة الرابعة.»
وما لفظ هذا الاسم حتى اهتزَّ كلُّ من كان موجودًا وصاح الجميع: «إي والله، أسمعونا ما يقول هذا الكاتب العظيم؛ فإن كلامه لسحرٌ يدخل القلوب ويطوي منازل النفوس طيًّا.»
أمَّا عزيز؛ فقد ابتسم لدى سماعه اسم الكاتب، وهزَّ رأسه استخفافًا برغبة الجمهور، ثمَّ قال: «يحرق قلب خليل ما أكتبه! واللهِ إني أتعجب كيف يستطيع هذا الشاب أن يكتب؛ فقد كنت معه البارحة طول النهار وبعض الليل، وكيف تمكَّن من كتابة هذه المقالة لعدد اليوم؟ لا أعلم!»
عندئذٍ سأله أحدهم: «أوَأنت تعرف خليل لقمان؟ أوَهو في هذه المدينة؟»
– «أعرف خليل لقمان! أوَهو في المدينة! وكيف لا أعرفه وهو من أعزِّ أصدقائي، وقد جاء نهار أمسِ من بفلو خصيصًا لنجتمع سوية؟! خليل لقمان وعزيز السيار اثنان في واحد.»
فسأله واحد من الحاضرين وقال: «باللهِ، صِفْ لنا خليل لقمان؛ فإني دائمًا أتمنى وأتحسَّر على رؤية رسم له، وأَعُدُّ الاجتماع به من أماني حياتي، فواللهِ إنه على لساني وفي قلبي كيفما توجَّهت.»
هنا أخذ عزيز سيار يصف للقوم خليل لقمان، فقال: «إنه شاب لا يتجاوز الخامسة والعشرين، وإن الذين يطالعون كتاباته يتوهَّمون أنه فوق الخمسين، ولكن حقيقة عمره خمسة وعشرون سنة، شاب مربوع القامة، أبيض اللون، جميل المحيَّا، عالي الجبين، أسود العينين، يستحي من خياله، مملوء عواطف يطالع الناظر إليه بوجهة تينك الرقة والإنسانية اللتين يقرؤهما في خلال سطوره، دمث الخلق، يشرب كلامه كالخمر، ولا ألطف ولا أجمل من شاب كهذا في العالم.»
قال هذه الأوصاف والسامعون يترنَّمون لذكر خليل لقمان لما له في قلوبهم من المنزلة السامية.
جرى كل هذا وأحد الشركاء في المحل واقف إلى منضدته، واضع رأسه على كفِّه، وعيناه تنظران عزيز السيَّار يحيط القوم وصفًا بخليل لقمان، وكان التاجر يبتسم ابتسامة لها معنًى يعرفه الخبيرون بأمور الفراسة. ولما انتهى هذا الدور وخرج عزيز من المحل وأكثر الذين كانوا موجودين، التفت ذلك التاجر إلى أحد شركائه وقال له: «أتراهن أن عزيزًا لم يجتمع بخليل لقمان ولا رأى له وجهًا؟»
فأجابه الشريك الآخر وقال: «لا يا شريك، لا تغلط، إن عزيزًا يعرف كل مخلوق، وكفى برهانًا أنه ذكر أوصافه، وإلا فمن أين أتى بها؟»
فقال التاجر لشريكه: «لا تجادلني، قلبي يحدِّثني أن عزيزًا السيار لا يعرف خليل لقمان، ولم يجتمع به في حياته، أتراهن على ذلك؟»
فأجابه شريكه: وكيف يمكنك أن تعرف حقيقة الأمر؟
– إلى صاحب الجريدة التي يكتب فيها خليل، وهناك نسأله عنه لعلنا نهتدي إلى حقيقة الأمر.
وذهب الاثنان الشريكان إلى إدارة الجريدة في الحال، فاجتمعا بصاحبها الذي أحسن استقبالهما وأدخلهما إلى غرفة التحرير، وبعد أن جلس الثلاثة فتح التاجر فمه بالكلام فقال: «جئنا إليك يا أفندي صدفة دون ميعاد؛ فقد بلغنا أن خليل لقمان موجود في نيويورك، فأحببنا زيارة الإدارة للتعرُّف عليه، وأداء امتناننا لكتابته على صفحات جريدتكم الزاهرة؛ تشجيعًا له على الأخذ بناصر جريدتكم المحبوبة.»
فأجاب الصحافي وقال: «أشكركم من كل قلبي، ولكن يا للأسف إن خليل لقمان عاد إلى بفلو صباح اليوم، وقد جاء نيويورك في ليلة واحدة ولم يُقِمْ غيرها خوفًا من مقابلة الناس، ولكني سأكتب إليه وأعلمه بتشريفكم الإدارة للسلام عليه، ولكن من أين عرفتم أنه كان في نيويورك، ولا أظنُّ أن أحدًا عرف بقدومه إلا أنا؟»
فابتسم الشريك المراهن بجانب عزيز، وقال في سرِّه: لقد ربحنا الرهن؛ لأن خليلًا كان في نيويورك حسب رواية عزيز.
أمَّا الشريك الثاني؛ فقد شعر ببعض هذا، ولكنه لم يشأ أن يسلِّم، بل أخبر الصحافي بأن عزيزًا السيار أخبره عن قدوم خليل. أمَّا الصحافي فعندما وقع في مسمعه اسم عزيز السيَّار ضحك ضحكة قوية وقال: «الآن عرفت سبب قدومكما، فيظهر أن عزيزًا لا يزال متأثِّرًا من حادثة أمس، فأرسلكما لتعتذرا أمام خليل عن حادثته المشئومة، ولكن لا بأس أن أخبركما أن خليلًا لم يهمه الأمر، بل كان الفصل الذي مثله عزيز أمامه البارحة فكاهةً عظيمة لا يزال حتى هذه اللحظة يضحك منها.»
فأجاب التاجر: «ولكننا لم نأتِ لهذا الغرض، بل جئنا — والكلام بسرِّك — لنعرف من أين هذه الصداقة الجامعة بين عزيز السيَّار وخليل لقمان؟»
عندئذٍ بدأ الصحافي يخبر الزائرين تاريخ تلك الصداقة، وهو يقول كلمة ويضحك خمس دقائق، أمَّا التاريخ فكما يأتي:
قال الصحافي: «هبط عليَّ خليل لقمان هبوط الملاك على إنسان في حين لم أكن على ميعاد، وأول ما وصل سلَّم عليَّ وأخبرني أنه قادم لغرضٍ واحدٍ، وهو الاجتماع بأستاذ في جامعة نيويورك، ولما أنهى غرضه زار الإدارة ليتعرف بها، وأوصاني مشدِّدًا ألا أذكر لأحد الناس عن قدومه، وألا أعرفه البتة بإنسان. وقد شاء أن يودِّعني ليئوب إلى بفلو على قطار الليل، ولكني بعد إلحاحي الشديد قبِل أن يكون ضيفي تلك الليلة وحدها، حيث أصرف السهرة معه ولا ثالث بيننا، فأقفلت الإدارة وذهبت به إلى محطة الطوف، وفيما نحن جالسان إذا بعزيز السيار قد جلس حيالي، وسألني على صحة أفراد العائلة في الوطن، وإذا كنت أسمع منهم كل بوسطة، إلى ما تعرفانه من سؤالاته الكثيرة، ثمَّ استأذن مني عددًا من جريدتي كان بيدي، وأول ما وقع نظره على مقالة صغيرة لخليل لقمان قال لي: «أتدري أني لا أقرأ جريدتك إلا لأن خليلًا يكتب فيها؟» وأن الواجب عليَّ أن أحتفظ به لئلا تُنقل كتاباته إلى جريدة أخرى. ثمَّ سألني عمَّا إذا كنت أعرفه شخصيًّا فأجبته نفيًا لأرى ما وراء ذلك، فقال لي إن الأحسن ألا أجتمع به، فإذا رأيته سقط من عيني؛ لأن له خلقًا أعوذ بالله — هكذا قال — له شعر مسترسل على كتفيه كالدراويش، وله أنف كخرطوم الفيل، وأذنان كبيرتان تعدُّ الواحدة بثلاث آذان، وعينان صغيرتان كعينَي الخلَد … والخلاصة: له خلقة مخيفة، ثمَّ قال: مسكين خليل لقمان على سحنته، ولكنَّ له قلمًا ومواهبَ عقلية سامية، والأحسن للناس ألا يتعرفوا به. وما وصل إلى هذا الحد حتى جاء الطوف فنهضنا، وأسرعنا مع الركَّاب للنزول فيه، وقد ظلَّ عزيز ملاصقًا إيَّاي من عن يساري وخليل لقمان عن يميني لا يفتح فاه بكلمة، ولكنه كان يبتسم، وكان الأول كل الطريق يصف لي خليلًا كما يعرفه، وأخبرني عن حوادث جرت له معه في بفلو وفي نيويورك، وأنه صديق له ولعائلته من زمان، حتى وصلنا إلى الجانب الثاني من النهر، فخرجنا مع الركَّاب إلى أرض بروكلن، وهناك وقفت لأودِّع عزيزًا ليأخذ طريقه وأنا مع رفيقي نأخذ طريقنا، وقد شاءت العناية ألا يذهب في سبيله حتى يكمل الفصل، فبعد أن ودَّعني هزًّا باليد قال لي: ولماذا لم تعرِّفني بصاحبك؛ فقد ظننته بادئ الأمر غريبًا عنك؟ فقمت إذ ذاك بواجب التعريف بين الاثنين، فقلت: الحق عليَّ يا صديقي في هذا التقصير، ولكنك يا عزيز لم تعطني سبيلًا لأعرِّفك بصديق كلينا خليل لقمان. وفي تلك اللحظة لم يعد عزيز سيار عزيزًا السيار؛ فقد امتقع لونه كأنه أُبْدِلَ خلقًا، ولكن خليلًا اقترب منه فأمسك بيده، وقال له إنه عرف منذ البداءة بحديثه أنه كان غلطانًا وقد أكَّد تمامًا أنه — أي عزيز — كان يصف شخصًا آخر ظنَّه خليل لقمان.
أمَّا عزيز فلم يقُل كلمة، ولكنه سحب يده ومضى في سبيله».
عند هذا توقف الصحافي عن الكلام بضع ثواني، ثمَّ استأنف الحديث فقال: «وقد بتنا ليلة أمس وأنا أجرب أن أسلِّي خاطر خليل لأُذهِب عنه تأثُّره الشديد على حالة عزيز في ساعة تعرَّف به، ولكنه لم يُطِقْ نومًا وكان كل وهلة وأخرى يسمعني توبيخه اللطيف لقساوتي الشديدة التي استعملتها معه، وقد قال لي إنه لو عرف أن المسألة ستنتهي كما انتهت لما صبر على سماعه حديث عزيز، ولكان قطع حديثه، وعرَّف نفسه به خوفًا من التهور الذي تم.»
وخرج الشريكان من إدارة الصحافي ولا يزالان حتى اليوم — وقد مضى على الحادثة عشر سنوات — يتنازعان على الرهن، فالأول يقول إنه ربح الرهن؛ لأن عزيزًا لم يعرف خليلًا ولا اجتمع به كما ادَّعى، والثاني يقول إنه هو الرابح؛ لأنه ظهر أن عزيزًا اجتمع بخليل وكفى.