ابن غير عصره
عندما ودَّع أبو ريا سيده في المدينة قال له إنه لن ينسى فضل البيت الذي رُبِّيَ فيه منذ كان طفلًا إلى أن بلغ سن الكهولة، وما كان ليترك خدمته لولا أن في رأسه موَّالًا يريد أن يغنِّيه، وذلك الموال مشوار إلى أميركا.
أمَّا سيده فبعد أن أعيى من إقناع خادمه أبي ريا بالبقاء عنده مع زيادة في الأجرة، هزَّ يده متأسِّفًا وقال له: «يا أبا ريا، إنك ربَّيتني، وكنت لي كأخٍ ورفيقٍ في زمن شبابي، ثمَّ ربَّيت أولادي وقد حملتهم ذراعاك أكثر مما حملتهم ذراعي، وقد رأينا منك في السنين العديدة التي خدمت بها بيتنا من زمان المرحوم والدي إلى اليوم ما يجعلنا نعتبرك واحدًا من العائلة، ففراقك سوف يؤلمنا، ولكنك تلحُّ بترك الخدمة فعساك أن تتوفَّق، واعلم أنه حين تعود بيتنا مفتوح لك، ووظيفتك ترجع إليك في حال رجوعك، طمئنَّا عنك ولا تنس معلِّمك والأولاد الذين ربَّيتهم وقد تعلَّقوا بك كأنك أبوهم.»
وركب أبو ريا البحر، قاصدًا أميركا؛ المرتزَق العظيم لمن أوصدت أبواب النجاح بوجهه في سوريا. سار وقد أثَّر فيه وداع سيده وأولاد سيده أكثر من عائلته، وقد تردد وقتًا بالعدول عن عَزْمِه إلا أن ذلك الموَّال كان غلَّابًا، فترك المقادير تجري بأعِنَّتها، وهجر الأهل والوطن، متَّكِلًا على الله الذي لا يخيب أمل خائفيه.
في أميركا قطع أبو ريا سنوات يشتغل في مزرعة بعيدة عن نيويورك، ولم يبرح منها إلا حين وطَّن النفس على العودة إلى الوطن. أمَّا شغله فلم يتَّصل بي نوعه، ولكني علمت أنه كان عاملًا شديد الحرص كثير الاجتهاد.
عرَفتُه بالسمع إذ كان صديقي سليم الرقَّاش يذكره أمامي في أحاديثه، فكان يخبرني أنه في أميركا وعلى مقربة من نيويورك خادم لهم اسمه أبو ريا، وقد مضى عليه سنون عديدة، ولا بُدَّ أن يكون ناجحًا. ولم يكن صديقي يعلم مقرَّ ذلك الخادم ولا اجتهد في الحصول على عنوانه، إلا أنه كثيرًا ما كان يذكره قائلًا إنه كان مربيًا له، وقد كان في بيت أبيه نعم الخادم الأمين.
صديقي سليم الرقَّاش شاب من عائلة طيبة، لا بل من العائلات الموصوفة بالأكابر، وقد درس العلوم في أحسن مدارس سوريا، وتضلَّع من أربع لغات حية، إلا أنه قصد أميركا؛ لأن أباه عُزِل من وظيفته وانحطَّت حالتهم المالية، وكشاب متعلم تربَّى على العز والبذل رأى في انحطاط مالية أبيه حطَّة له في البقاء بين أترابه، الذين اعتادوا أن يروه كثير البذل بقطع أيَّامه في القهاوي على الملاهي لا يعمل عملًا لأن أبناء الأكابر لا يعملون؛ ولهذا أراد أيضًا أن يغنِّي الموَّال السوري كما غنَّاه مربيه وخادم أبيه أبو ريا، فقصد أميركا للارتزاق، إلا أن هذا الشاب في أميركا لم ير بابًا لارتزاقه؛ فقد جاء إلى العالم الغريب بأخلاقه وعلومه، فكان يشتغل مضطرًّا، ويعمل إذا أعوزه الحال، ثمَّ يترك العمل حالما يرى أنه يستطيع أن يقتات وينام، فأدَّى به الحال إلى نزوعه إلى داء المتهذِّبين القليلي العمل وهو المقامرة، فكان ينام النهار مكبًّا على إحدى طاولات القهوة، ويعمل الليل ساهرًا على قلب الورقة، فإذا خسر فدَيْنٌ عليه وإذا ربح فربحه عونٌ له على يومين أو ثلاثة. وقد قطع سنوات وهو ملازم لهذه الحال، يتدرَّج من سيئ إلى أسوأ، إلا أنه كان محبوبًا من جميع معاشريه للِينِه وأخلاقه الكريمة وحُسن معاشرته، وكان أيضًا عونًا لزملائه لدى وقوعهم في مشاكل؛ لأنه كان ضليعًا من اللغة الإنكليزية، فكان يترجم لهم في المحاكم، ويرافقهم في مشترى الأمتعة والحاجات إلى ما شاكل.
أمَّا أصل تعرُّفي عليه فقد كان صدفة، وقد عرَّفني عليه صديق لكلينا، فمِلْتُ إليه لما أنست فيه من علم وتهذيب داخلي، بالرغم من سوء مظاهره وعكفه على المقامرة وقلة عمله أو عدمه؛ فقد كنت أحب الاجتماع به للمحادثة بأمور عديدة؛ فقد رأيته ملمًّا بشئون كثيرة، يستطيع محادثه أن يخوض معه بمواضيع علمية وسياسية واقتصادية وغيرها، وما كنت أعلم كيف أن شابًّا بحالته ومعارفه يأبى أن يعمل ويترك ميدان النجاح لغيره ممَّن دونه مقدرةً وتهذيبًا، فيُؤْثِر البقاء على آلامه على أن يقتاد لنفسه الراحة من وراء التحصيل والبلوغ إلى ما تطمح إليه النفس المهذَّبة الشابة. ولكني لمَّا لم أكن أعرفه لم أَقْوَ على سؤاله، فكنت أتجاهل حاله؛ لأن ذلك لا يعنيني وأرافقه في معارفه وأخلاقه؛ لأن هذه تتصل بمعارفي وأخلاقي.
في يوم من الأيام كنت وسليمًا نشرب القهوة في إحدى القهاوي، وقد ضمَّني معه مجلس فكاهة أو كما يقولون «تقريق»، وبينَّا نحن نضحك إذا بصاحب القهوة صاعد على السلم وخلفه رجل متقدِّم في سنه بثياب بسيطة أقرب إلى أن تُدعى رثَّة بلا طوق ولا ربطة، وفي رجليه حذاء غليظ كالمداس وعلى رأسه قبَّعة كبيرة الدائرة كثيرة الخدوش.
وعندما وصل صاحب القهوة إلى القهوة أشار للرجل الموصوف آنفًا، دالًّا على سليم، وقال له: «هذا هو سليم الذي قضيت يومين تسأل عنه كل السوريين.»
وفي تلك الساعة أبرقت أَسِرَّةُ الرجل فابتسم ابتسامة عريضة، وأسرع خطاه إلى سليم فصافحه، وقد قارب لسانه أن يُعقد من كثرة فرحه، ثمَّ انحنى قليلًا نحو يد سليم وأراد أن يلثمها، أمَّا سليم فلم يعلم من هو الرجل، ولا ماذا يريد، ولكنه أعطاه يده مسايرةً، ظانًّا أنه غلطان، ولما أراد ذلك الرجل أن يلثم له يده وقد شعر أنه في مهمة لثمها لانحنائه المتباطئ عليها سحب يده بسرعة، وأجلسه إلى كرسي وسأله: من العم؟
– أنا، أنا، ألم تعرفني يا معلِّمي؟ أنا أبو ريا مربِّيك وخادم أبيك؟ أنسيت أبا ريا يا معلِّمي سليم؟
عند هذا التعريف عاد سليم فهزَّ يدَ الرجل هزًّا كثيرًا، وأخذ الاثنان بالكلام فتساءلا وتجاوبا، وأفرغ كلٌّ جراب أخباره للآخر، وقد رأيت دمعة تتجمع في عين الشيخ وكادت تنهدر، فمسحها بطرف كمه، ولما أراد سليم أن يعرِّفني على ضيفه هززت يده، وقلت له إني أعرف شيئًا عنه؛ لأن سليمًا كثيرًا ما كان يذكره أمامي.
وعاد سليم إلى محادثته فقال له: أي، يا أبا ريا، لو كنت أعرف أين مقرُّك لكنت زرتك حيث كنت خلال هذه السنوات، والآن ما حالك؟
فأجابه قائلًا: إن التقادير أرسلتني يا معلِّمي إلى أميركا، فاشتغلت فيها والحمد لله حصلت على النجاح أكثر مما أستحق، وها أنا ذاهب إلى سوريا لمشاهدة الأولاد والعيال، فلم يبق في سراج حياتي من الزيت إلا ما يكفي لأيام معدودة، سأقضيها بينهم.
– خبِّرني كم ريالًا آخذ معك من أميركا؟
– إيه، نحمده على كل حال، منحنا أكثر مما نستحق ومن فضله وكرمه في جزداني خمسة عشر ألف ريال.
عند هذا أجابه سليم: أنت معك خمسة عشر ألف ريال، وتأتي لتبوس يدي! كان يجب عليك أن تمدَّ يدك من الباب لدى دخولك حتى أنا آتي لأقبِّلها.
وعاد أبو ريا إلى الوطن، فودَّعه سليم إلى الباخرة، وقد رافقته لاستطلع شيئًا من حالة الاثنين، فساعدْنا الشيخَ بإيجاد محلٍّ له بين ركَّاب الدرجة الثالثة، وبعدما خرجنا من الباخرة قطعنا أربعة مربعات دون أن يكلِّم واحد الآخر، ثمَّ شقَّ سليم حجاب السكوت بقوله: ألا ترى أننا نحن لم نُخلق لهذا العصر؟
فقلت: كيف؟
فأجاب: نحن في عصرٍ قسم الدنيا فيه إلى عالمين: عالم قديم وعالم جديد، وهذا الجديد ليس لأمثالنا بل لمن يحصلون الدينار من قلب الصخر، ويكتنزونه في قلب الصخر، وأمَّا ذاك القديم فصار لهؤلاء الناس الذين يعودون إلى أوطانهم بريالاتهم، فيبنون المنازل ويشترون الأرض، ويكون لهم المحل الرفيع في عيون الناس لما في جيوبهم من الريالات.
نحن لم نُخلق لهذا العصر!