من أول الطريق
كان الناس من أقارب فهد الضاهر ومعارفه ومواطنيه يرثون لحاله كلما رأوه، ويأسفون على ما يضيِّعه من الأيام سُدًى، ويهزُّون رءوسهم آسفين، وقائلين من أعماق قلوبهم: الله يهديه بحسنة أبيه المسكين وأهله في الوطن!
أولئك كانوا عارفين بحالة عائلته في الوطن؛ فإن أباه أقعده المرض عن العمل، وهو ربُّ عائلة كبيرة، فما كاد ينهي فهد دروسه الابتدائية حتى استدان له أبوه مبلغًا من المال، فأرسله إلى أميركا؛ ليكون له عونًا على دهره، وزوَّده بالنصائح الوالدية والأدعية الأبوية، وقال له: انظر يا ولدي حالتي؛ فإني بها ليس لي إلا الله وأنت من نصير لتحسينها ودفع البلاء عن العائلة، فاذهب إلى أميركا بلاد العمل، وكن رجلًا واذكر ألا أمل لي بالفرج إلا بك.
ووصل فهد إلى أميركا، وكان، بادئ ذي بدء، شابًّا يتلهب غَيرةً على أبيه المسكين رب العائلة الكبيرة، وقد عقد نيَّته على أن يبذل كل ما استطاع ليساعد أباه في حاله.
شاب مهذَّب جميل الصورة، لو أنه لبس فسطانًا وبرنيطة للسيدات — وهو كما هو حليق الشاربين طويل الشعر قليلًا، أبيض البشرة، أحمر الوجنتين، كبير العينين، مستدير الوجه — لقال الناس إنه من أجمل الفتيات.
وقد كان المذكور في بادئ أمره لا يشغل رأسه إلا الافتكار بحالة أهله والطريقة اللازم اتِّخاذها لمساعدة أبيه، فاضطر إلى الاستخدام، وكان يرسل إلى أهله ثلث ما يحصِّل إلا أنه بعد حين اقتصر على إرسال الربع، ثمَّ بعد أشهر على أقل من الربع، وبعدئذٍ ترك عمله كمستخدم في محل تجاري؛ لأن نفسه عافت الحصر ومالت إلى الاستقلال، فاضطر إلى امتهان البيع بالجزدان، وصار يتنقل من بلد إلى آخر متَّكِلًا على مظهره الخارجي البديع ولفظه الإنكليزي الجميل وبعض اجتهاده، وكان يطمح إلى التعرف بأكابر العائلات الأميركية، مترقِّبًا منها الإنعام الكبير وقد حصر كل طموحه في أن يصير عميلًا لبيوت الأغنياء في المصيفات والمشتيات.
شابٌ جميل الخلق إذا وقعت عليه عين قالت صاحبتها: سبحان من خلق! هذا هو فهد الضاهر. وقد كان أيضًا هو نفسه وَلُوعًا بجماله، فلم يكن يذخر وسعًا ولا مالًا ولا وقتًا لجعل هيئته ملائكية، معتقدًا من نفسه بأن للمظهر الخارجي كل التأثير على الناس الأغنياء والأكابر؛ ولهذا لم يكن قادرًا على التوفير؛ فإن كل ما كان يربحه من شغله لم يكُن إلا بعض ما تتطلبه نفسه من لباس ومعدَّات للزينة، وبناءً على هذا انقطع عن مساعدة أهله بعد مدة وصار لا يرسل إلى أبيه مبلغًا من المال جزئيًّا إلا بعد أن يكون قد جفَّف أبوه المحابر، وكتب إلى أناس أقرباء يستعطفون ولده لينجده؛ ولهذا كان الناس الأقارب والمعارف دائمًا يأسفون على ما وصل إليه ذلك الشاب، ويطلبون له في قلوبهم الهداية لعلَّه يقلع عن البذخ فيوفِّر مالًا يساعد به أهله المعوزين.
وكان فهد يتألم كثيرًا لعدم استطاعته مساعدة أبيه، ولكنه في الوقت نفسه يشعر بدافع من نفسه للطموح إلى الغنى الفجائي عن طريق جمال الصورة وحسن الهندام، وهي حالة أليمة لم يكن له مناص من تعذيب عامليها، إلا أن العامل الذي غلب منهما هو الدافع النفسي فيه للزينة والتبرُّج.
وكثيرًا ما كان فهد ينفق على لباسه الخارجي كل ما معه في حين أن معيشته الداخلية لم تكن موازية للخارجية منها، فبينا تراه كأنجال الأمراء مُحيًّا ولباسًا، إذا هو ساكن غرفة مفروشة ضيِّقة تحمل سريره وقدميه فقط وهو واقف، وبينا ترى طقمه ظريفًا وقميصه حريريًّا وعقدة رقبته تماثل جراباته لونًا يكون المسكين بلا «أندروير»، أو أنه بمقتضى ما يظهر فيه من حسن الهندام يظنُّ رائيه أنه يعيش في أحسن نُزُلٍ بأميركا، ولكنه في الحقيقة كان غذاؤه لا يزيد ثمنه على ثلاثين سنتًا. وهي حالة كانت تعذِّب فؤاد فهد وتضنيه، وتحمله على المواظبة في عمله، ولكنه لم يصل إلى مرماه.
وذلك أنه تمكَّن في السنوات الأولى من أن يملأ صفحات كتابه اليومي من عناوين أحسن العائلات الغنية، وقد كان مرضيًّا عنه ومقرَّبًا منها محبوبًا من أفرادها، ولا سيما السيدات اللواتي أحببن منه جمال الخَلق، فكن يشترين من بضائعه ويعطينه رسائل توصية إلى صديقاتهن في البلاد الأخرى.
وانتهى الأمر بأن فهدًا تزوَّج، وقد تناولت صحافة البلاد أمر زواجه الغريب؛ فإنه وهو شابٌّ على ما وُصِف به آنفًا قد اختار لنفسه عروسًا متقدِّمة في سنِّها، تزيده عمرًا لا أقل من ثلاثين سنة؛ أي إن أصغر أبنائها يزيده بضع سنوات، وهي من عائلة معروفة في أميركا، وأرملة أحد مشاهير الماليين. وقد عقب هذا الزواج الغريب قيام عائلتها عليها وعلى زوجها، فأوصلوا الأمر إلى المحاكم، مدَّعين عليها بأنها خرفة، ولكنهم فشلوا بحملاتهم عليها وبقيت زوجة فهد، وصارت بحق الشريعة مسز ضاهر امرأة الشاب السوري الظريف فهد الضاهر.
أمَّا السوريون؛ فقد تناولت ألسنتهم تلك الحادثة متعجِّبين، وقد ذهبوا مذاهب شتى بتفسيرها وتحبيذها وانتقادها، إلا أنهم بعد أيَّام قد أزاحوها من رءوسهم، ولم يعد فهد الضاهر وزوجته يملآن أدمغتهم، وصار المذكور عندهم معدودًا من الأغنياء؛ لأن ثروة زوجته تبلغ الملايين.
ولا مراء بأن فهدًا قد ضحَّى شيئًا من نفسه ليخلص نفسه من عاملَيها المعذِّبَين: عامل الطموح إلى المعيشة المرفَّهة، وعامل البنوَّة وما عليها من الواجبات لدى أبٍ مريضٍ مسكينٍ كل أمله في الحياة نجاح ولده الأكبر فهد الضاهر.
أما فهد الضاهر اليوم، فهو مُطلِّق لا زوجةَ له ولا ثروة كبيرة؛ وذلك أنه بعدما صرف سنتين مع زوجته المتقدمة في السن لم يعُد في قوس صبره منزع، فثار على شريكة حياته وساعده بثورته هذه بعض أنسبائها وأحد أبنائها، فرضَّوه ببعض المال ليتخلَّص من زوجته الشرعية، وبعد مرافعات انتهى الأمر بطلاقه منها أم بطلاقها منه.
وقد بلغني ما انتهى إليه أمر فهد المذكور فعجبت لانسحابه من نصف الطريق، بالرغم من أنه استعدَّ لأن يعبره كله، وقد أحببت الوقوف على تفاصيل المسألة، لا لأعرف ميله في تزوجه من تلك السيدة الغنية، بل لأفهم لماذا لم يبق زوجها حتى تموت، ويرث بعدها ملايينها.
اجتمعت به فجاذبته الحديث عمَّا جرى له، فقال لي إنه اضطر بالزواج؛ لأنه قال في نفسه إن تلك السيدة قاطعة السبعين من عمرها، فمهما يَطُلْ عمرها لا يقطع الثمانين إن لم يكن أقل، ولكنه أخيرًا تيقَّن أن زوجته في الحقيقة أصغر عمرًا مما ظنَّ؛ فإنها لم تقطع الستين؛ ولهذا قال في نفسه من أول الطريق ولا لآخرها.