في بيت الميت
عندما مات طانيوس المر ظلَّ بيت الفقيد مقصد المعزِّين أسبوعًا كاملًا ليل نهار، وقد خِيف أن يكون بلاء أهل الفقيد من كثرة المعزِّين أكثر من فقدهم الفقيد المرحوم، ولكن هي العادة السورية في هذه الأحوال تأخذ مأخذها وهذا التقليد يجري مجراه، ولو تقطَّعت القلوب وتفتَّت الأكباد وتحطم إناء الصبر.
أهل الميت يسمعون تعازي من أفواه المعزِّين، كأنها أمثولات تعلَّمها قائلوها من جملة الصلوات التي تُقال كل يوم، وإني أنا كاتب هذه الحكاية أشعر بكل ما فيَّ من العواطف مع الفاقدين ليس على ما يفقدون بل على جلادتهم في استماع فلسفة التعازي.
إلا أنه من نِعَمِ المولى أن الاصطلاح في التعزية أن يكون وقتها قصيرًا جدًّا، فالمعزي يُبقي قبعته بيده، وإذا كان في الشتاء يظلُّ لابسًا سترته العليا، وما الداعي إلى هذا الاختصار ميل من القوم إلى التخفيف عن أهل الميت؛ بل كثرة القادمين حتى يضيق عنهم المكان، وإذ ذاك يخرج فوج ليعطي مكانًا للفوج القادم جديدًا.
أمَّا أهل الميت فجُلوس بلا حراك، وآذان بلا ألسنة، وعيون تنظر أحضانها، وشفاه تتمتم كلمتين لكل قادم وكل مودِّع، وهما «وراسك سالم» جوابًا على التحية في التعزية لدى الدخول والخروج، وهي «عوضنا الله بسلامة رءوسكم.»
والمرحوم طانيوس المر كنت أعرفه معرفة سطحية، فلم أَزُرْهُ في بيته بحياته، ولكن صديقي بطرس كرواني جذبني جذبًا؛ لنأخذ خاطر أهل الفقيد، قائلًا لي: إن التعزية واجبة على كل عارف، ولا فرق نسيبًا كان أم صديقًا أم من المعارف.
وهكذا، كان ذهابنا، وكان حضرة صديقي أبرع مني في الكلام؛ فقد دخلت إلى بيت الميت وأنا كالجنين في عالم التقاليد؛ فقد هممت بإلقاء التحية التي أقولها في كل الأوقات إلا أن صديقي بطرس رفع كفه ووضعه على فمي، فجعلني أبلع «نهاركم سعيد»، ثمَّ همس بأذني أن أقول: «الله يعوضنا بسلامتكم.» فقلت، وجلست كأني من أهل الميت على ما وصفت، وأزيدهم بعدم التمتمة؛ لأن المسألة لا تعنيني، وبنظر الأشباح من كل جهة؛ لأن حضني كان مملوءًا بسترتي المطوية وفوقها قبَّعتي، وقد احمرَّ وجهي خجلًا؛ لأني كنت الوحيد النازع عنه سترته.
بعد سكوت خمس دقائق فتح بطرس فاه بالكلام، فقال: «قبل أن مات إسكندر الكبير عرف أن آخرته اقتربت، وأن أمه ستحزن عليه حزنًا عميقًا، فدعاها إليه قبل موته، وقال لها: وصيتي إليك يا أمَّاه أن تأدبي مأدبة بعد موتي وتدعي إليها كل الناس، وعندما يجلسون إلى المائدة قولي لهم إن من لم يذق حزنًا على حبيب له فليمد يده ويأكل. وهكذا كان، فبعد وفاته أدبت مأدبة، ودعت إليها جميع الناس، ولما جلسوا إلى المائدة قالت لهم ما أوصاها ابنها إسكندر أن تقوله، فلم يمد أحد يده للطعام، فعرفت إذ ذاك أن كأس الموت دائرة على الجميع؛ ولهذا تعزَّت في مصابها الجلل.»
سمعت هذه الموعظة فكبر قائلها بعيني، وقلت في نفسي: يا ضيعان ما تعلمته في المدارس! واللهِ إن بطرس فاقني بأسلوبه المعزِّي، وقال أحسن موعظة تُقال في محلها. وكأني نسيت نفسي أني موجود في هيكل الصمت، فقلت لرفيقي: أحسنت والله بهذه التعزية، إنها لحكمة منزلة.
أمَّا الحاضرون ولم يكونوا كثارًا؛ لأن زيارتنا لأهل الميت كانت بعد أسبوع، وقد بدأت حركة التعزية تقل؛ فقد سمعوا الموعظة الجميلة كأنهم لم يسمعوا شيئًا البتة، وقد عجبت لأمرهم، فقلت في نفسي: لعلهم طمطمانيون لم يفهموا معنى الذي قيل أمامهم.
ولم يكد ينهي بطرس كلماته الدرية حتى وافى البيت فوج مؤلَّف من ثلاثة رجال، ولأن المكان واسع والزوَّار قليلون بقينا في أماكننا، بل بقي بطرس جالسًا، واضطررت ألا أتحرك؛ لأنه هو الزنبرك لهذه الزيارة.
ولما جلس القادمون جديدًا فتح أحدهم فاه بالكلام، وفيما هو يهم ليتكلم حزنت على نفسي، وقلت: يا لِله! ما أجهلني؛ فإني لا أفهم شيئًا من العادات والتقاليد، ولم أمرِّن نفسي على الكلام اللازم في كل حين. أمَّا المتكلم فبدأ بقوله: «هذا حال الدنيا، الموت محتَّم على كل الناس لا مهرب منه. كان إسكندر الكبير قد فتح الدنيا بأسرها، وهو في الثلاثين من عمره …»
وفيما هو يخبرنا عن الإسكندر قلت في نفسي موعظة ثانية تأتينا، وقد حتمت عليَّ أن أقصد المكتبة العمومية بعد هذه الزيارة لأطالع حياة ذلك الرجل العظيم، الذي كل تاريخه مواعظ لازمة للبشر وبالأخص في حالات المصائب، وقد تحولت إلى إصغاء تام لأسمع المتكلم فلا تفوتني الموعظة الثانية، ولكن شدَّ ما كان فشلي عندما سمعت منه نفس الموعظة التي أخبرها بطرس؛ ولهذا استأت في داخلي أيما استياء.
عندئذٍ همَّ رفيقي بالنهوض؛ لأنه رأى فوجًا آخر مؤلَّفًا من قادمَين اقتربا من الباب، فكبست على ركبته، وهمست في أذنه: إني أريد أن أبقى حتى نخرج كلنا معًا، فسايرني بطرس مضطرًّا، ودخل القادمان فتليا أفشين التعزية وجلسا. وما هي إلا لحظة حتى فتح كبيرهما فاه بالكلام، فسمعته يقول: «ما هان علينا موت المرحوم، ولكن أمر الله لا مردَّ له، هكذا قدر وكان، فسبحان الدائم، يُحكى أن إسكندر ذي القرنين شعر بدنوِّ أجله …»
هنا تنحنحت قليلًا فلاحت مني لفتة إلى صديقي بطرس، فرأيته يخطُّ وجهه ابتسامة، ولكن في الحال أدرت وجهي عنه إلى ناحية المتكلم لأسمع حكاية إسكندر ذي القرنين، وبعد سماعي جملتين من حديثه بدأ وجهي يخطُّ ابتسامة عريضة، وللحال خوفًا من أن تنتهي الابتسامة بضحكة ونحن في هيكل الحزن والخشوع نهضت ونهض معي رفيقي، فقلت: «بالإذن بلا قطع حديث حضرة المتكلم، ونهاركم سعيد جميعًا.» وخرجت وتبعني بطرس، ولما صرنا خارج البيت أمسكني صديقي مستوقفًا إياي، وقال والسمُّ يقطر من وجهه: «ما نفعك ونفع علمك إذا كنت لا تفهم أن في بيوت أهل الموتى لا يقولون عبارة «نهاركم سعيد»، وقد أفهمتك عندما دخلنا ألا تلفظها فبلعتها، فلماذا نسيت هذا الأمر عندما خرجت؟»
فقلت له: دعني من عتبك يا بطرس وأخبرني أين قرأت القصة التي قلتها في بيت الميت؟ فقال: إنه سمع جده يرويها في مأتم شيخ القرية. فقلت: وأين قرأها جدك؟ فقال: لا بُدَّ أنه سمعها من جده، فقلت له: إذن في مرة ثانية اضبط التاريخ، وقل هكذا حدَّثني جدِّي عن جدِّه عن جدِّه حتى تصل إلى معاصر لإسكندر الكبير.
فضحك بطرس وصفح عني، وقال وهو يصافحني ليأخذ سبيلًا غير سبيلي: «اضحك بسرك؛ فإننا لم نكمل الساعة في بيت المرحوم، وإلا لكنَّا سمعنا حكاية إسكندر الكبير لا أقل من عشرين مرة.»
فأجبته، ولعلني قلت الصواب: «لو كنت موضع أهل الميت لقلت للناس المرحوم استراح من هذه الدنيا ومن مواعظكم.»
وودعت بطرس وسرت في طريقي، فالتقيت بجماعة عرَفت منهم واحدًا، ولما رآني دنا مني مسلِّمًا وأخبرني أنه ذاهب ليأخذ بخاطر آل المر، فأخبرته أني آتٍ من تعزيتهم الله يساعدهم، فأعاد: «الله يساعدهم.» وزاد: «ويعينهم.» وقد أخبرته كيف أني دخلت بيت الميت ولم أقل عبارة تعزية أعزِّي بها المساكين؛ لأني لا أفهم الاصطلاحات، فضحك مني وقال: «أهي مسألة فلسفة، احكِ قصة فيها مغزى وعزِّ بها الجماعة.» فقلت: وما عساك أن تحكي أنت؟
فبدا يخبرني قصة إسكندر ذي القرنين، ولكني قاطعته قائلًا إني أعرفها وأشرت له أن يلحق بأصحابه؛ ليعزُّوا الجماعة وليساعدهم الله ويعنهم ويرحمهم.