تمثال الحرية
ما كاد أبوا نخلة المعصوب يفرحان به، أي يزوِّجانه ببنت حلال كما يقولون إلا ودخل في عقله ضرورة الذهاب إلى أميركا لبناء المستقبل، وبالرغم من بكاء أبويه وإلحاحهما عليه بالبقاء ودَّع الأهل والخلَّان، وسار بعروسه قاصدًا بلاد أميركا كعبة المرتزقين.
أمَّا عروسه، فكانت فتاة أصغر منه بعشر سنين، وهو في الثامنة والعشرين، وقد كان في بدء عهده بالزواج أميرًا في بيته؛ إذ أنزل في قلب امرأته الرهبة، فصارت تعتبره سيِّدًا أكثر من زوج، وتدأب على نيل رضاه بكل ما يتطلب، وكان هو يحبُّها كثيرًا، ولكنه كرجل ظلَّ محافظًا على مقامه كسيِّد للبيت ورأس للمرأة، له المقام الأول وله الأمر، وما عليها إلا أن ترضيه وتتبع أوامره.
ولقد فكَّر طويلًا بادئ الأمر بأن يقصد أميركا وحده ثمَّ يستقدم إليه امرأته، إلا أنه لم يقوَ على مفارقتها لأنه شعر بحبِّها وبالحاجة إلى ملازمته إيَّاها؛ ولهذا أخذها معه وسار إلى بيروت ومنها إلى مرسيليا فنيويورك فالداخلية، واستقر في قرية كبيرة من قرى ولاية أوهايو.
في السنة الأولى لوصوله ذاق نخلة المعصوب أهوالًا بتحصيل معاشه؛ فإنه لم يحصل على شغل يُدِرُّ عليه نفقات العائلة إلا بعد الجهد، وقد تراكمت الديون عليه من أنسبائه وخلَّانه، ولكنه عمل أخيرًا إنما عملًا يكاد لا يفي بالمطلوب، وبقي هذا حاله ثلاث سنوات، تارة يبيع السلع وأخرى يشتغل في المصانع بالأجرة، وهو لا يزال كما كان آكلًا شاربًا مع امرأته، وإنما الديون للناس تضيِّق عليه الخناق، وأصحابها ولئن كانوا من أخصَّائه ولكنهم لم يسعفوه بها لتظلَّ في ذمته إلى الأبد؛ ولهذا صاروا إذا اجتمعوا به يشيرون عنها فيفهم منهم المقصود، ويعللهم بالمواعيد حتى نفدت حيله.
وجاءه نسيب له من الناجحين في البلد وذو مخزن كبير، يبيع منه البضائع الرائجة اللازمة لباعة الجزدان، فقال له: «يظهر أن أحوالك لن تصطلح؛ فإنك بعد الجهد تستطيع أن تقوم بأود البيت، فلماذا لا تعمل حركة لتفي ديونك، وتخلص ذمتك من الدائنين، وتوفِّر لك كم ريال؟»
فأجابه نخلة متنهِّدًا من قلبٍ محروقٍ، وقال له: وما هي الحركة لأحصِّل أكثر مما أحصله؟
– الحركة، هي أن تبقى أنت في الفبركة، وتذهب الست إدما للشغل بالبيع، وأنا أملأ لها جزدانًا كبيرًا وأدرِّبها على العمل فتساعدك على الحال، وأؤكِّد لك أنه لا يمضي عليكما سنة حتى تنتفضا من الديون التي عليك، ويكون لك مبلغ في بنك التوفير.
أمَّا نخلة فقد مانع كل الممانعة، وكادت دموعه تنزل من عينيه لاضطراره إلى عمل امرأته، ولكنه اقتنع من نسيبه؛ إذ بيَّن له هذا أن المسألة بسيطة جدًّا، وقد تصعب على الذين يقدُمون إلى أميركا حديثًا، لا سيَّما إذا كانوا من العيال المعتبرة في البلاد، أمَّا هنا في أميركا فالنساء أنجح شغلًا من الرجال، والمرأة تسابق الرجل في العمل.
وقبِل من نسيبه هذا الاقتراح، ولم يمضِ على الست إدما نصف سنة حتى صارت من البائعات الناجحات تمامًا بالطبع بعد شقاء العلم والتدرُّب على أساليب البيع واختطاف اللغة الإنكليزية من ألسن الناطقين بها.
بعد ست سنوات نقلت عائلة نخلة من أوهايو إلى مدينة نيويورك لأنها كبرت؛ فقد رزق الله نخلة ثلاثة أطفال، وظلَّت امرأته تقصد أبواب الرزق، بينا هو كان يعتني بالأطفال في غياب أمهم، وقد ترك العمل، وأصبحت الحياة كلها عنده وعند عائلته معلَّقة بجزدان «الست».
بعد هذه المرحلة لم يعد نخلة أميرًا في بيته، بل صار أجيرًا لامرأته وأطفاله، وصارت هي رأس العائلة، وقد تدرَّجت من حالة إلى أخرى حتى صارت الآمرة الناهية، وزوجها: «لبيك عبدك بين يديك.» لا يجسر على الاعتراض، ولا يستطيع أن يفوه بكلمة انتقاد أو اقتراح إلا الاستحسان والامتنان.
وظلَّ نخلة يبلع الهموم ويهضمها حتى تعطَّلت معدة احتماله؛ ففي ذات مساء عادت السيدة إدما من شغلها إلى البيت فما وجدت نخلة، ورأت الأولاد يبكون ويشهقون، وبعد أن دبَّرت حالهم بالتي هي أحسن نزلت تفتش عن زوجها وفي قلبها نار الغيظ تضطرم، فعثرت عليه جالسًا على مقعد في حديقة الباتري، وهو غائب عن هذه الدنيا بأفكاره، يقابل بين حالته في بلاده حيث كان أميرًا وحالته في مهجره حيث صار أجيرًا، فانهالت عليه إدما بالسباب والتعييرات، وقادته إلى البيت، وأخطرته أنه إذا أعادها مرة ثانية تطرده من البيت، وتستخدم أحدًا يعتني بأطفالها في غيابها بأقل ما تنفقه هي على مأكله ودخانه. فأجابها وقد فرغ إناء صبره: تطرديني من البيت! أوَلست أنا رجل البيت وأبا الأطفال وزوجك؟ فقالت: أنت رجل البيت وأبو الأطفال وزوجي في بلادك، وأمَّا في أميركا فأنا كل شيء، فما زال تمثال الحرية رافعًا يده، وهو تمثال امرأة، فأنا لي الحق أن أرفع يدي في بيتي وآمُر وأنهى، أعجبك هذا كان به، وإلا فاختر لنفسك ما يحلو.
عندئذٍ تذكَّر نخلة تمثال الحرية، فعرف ما معنى يده المرفوعة وفي قبضته ضوء، وقد كان في حديقة الباتري حيث التجأ يشغل فكره أوَّلًا بما معنى رفع يد ذلك التمثال، ثمَّ استرسل إلى افتكاره بحياته الماضية وما حَلَّ على رأسه في أميركا، فأجاب امرأته إذ ذاك بصوت خافت وقال: إذا كان ذلك التمثال رافعًا يده فأنا أرفع يديَّ الاثنتين من كلِّ أمر، ولكن عندما نعود إلى بلادنا سأرجع بإذن الله رجلًا، ولي حق الرجال.