من الدب إلى الجب
كنت أسمع أن أم طنوس راغبة في العودة إلى الوطن، ولكنها مضت عليها نحو سنة ولم تتزحزح من مكانها، فسألت عنها أحد أقربائها لماذا لم تسافر أم طنوس بعد أن أكَّدت لي أنها ذاهبة لترى زوجها وأولادها بعدما مضى عليها أكثر من عشر سنين؟ فأخبرني ذلك الرجل أن للمسألة قصة طويلة عريضة، وأنه إذا أراد أن يخبرني بها لا يصل إلى آخرها حتى ينشق من الضحك.
فقلت له: لقد زدتني رغبة في الوقوف على حقيقتها، فأخبرنيها.
قال: تعلم أن أمَّ طنوس جمعت أموالًا كثيرة بالاجتهاد الكثير والاقتصاد العجيب، وقد كانت تشغِّل مصاريها في محل تجاري سوري صاحبه من نفس القرية التي هي منها، وكان يضيف إلى مالها عليه كل سنة فائضًا عشرة بالمائة، وظلت هكذا كلَّما توفَّر لديها خمسون أو مائة ريال ترسلها إلى ذلك المحل لتقلب دراهمها بالفائض حتى انقلبت دراهمها انقلابًا وصل إلى الهاوية؛ إذ أفلس المحل وذهبت البيضة مع التقشيرة، فلم يبقَ لأم طنوس إلا العافية الطيبة والهمة مع الانتقام من ذلك التاجر الذي أكل مالها، وصارت أم طنوس لا تؤمن بعد ذلك الحادث بأحدٍ من الناس، حتى إذا قيل لها إن فلانًا تبلغ ثروته الملايين، ولا بأس أن تخزِّن ماليتها عنده لتربح الفوائض، تجيب بأن العِبَّ أحسن بنك، وأنه إذا ضاعت الأمانات فاجعل مخزنك عِبَّك.
وصارت أم طنوس منذ سنوات تعمل باجتهادها الكثير لتعوض عمَّا مضى من الخسائر، تمشي من بلدٍ إلى آخر، وعلى ظهرها كشة وفي يدها بقجة، فتتحمل حرارة الشمس الثقيلة بصبر كلي، وكلما توفَّر لديها بعض الريالات من عملة الورق بسعر عشرة فما فوق تكنزها في داخل صدرها، وقط لم يخطر ببالها أن تَعُدَّ ما صار معها من المال لئلا تطير البركة، وكانت ريالاتها الملصقة بلحمها ترافقها بالأسفار، وتبقى معها في الفراش حال المنام، ولم يكن من لحظة واحدة فارقت بها أم طنوس صرَّة ريالاتها.
وجاء الوقت الذي علم الناس به أن أم طنوس عازمة على العودة إلى الوطن فباعت بضائعها وصندوقها وسريرها الخشبي، وهيَّأت حالها للسفر؛ فقدمت إلى نيويورك لتشتري جوازًا للسفر، وتغيِّر العملة الأميركية التي معها إلى ليرات.
واسمح لي أن أختصر ما يمكن اختصاره؛ فإن للمسألة شروحًا طويلة، ولكني أكتفي بالجوهر، فأقول إن أم طنوس على ما يظهر لم تبعد الريالات عن جسمها ولم تخرجها لحظة كل تلك السنوات لعلها تشمُّ الهواء قليلًا وتحافظ على صحتها؛ لأنه كما لا يخفى عليك الريالات مادة يطرأ عليها الهراء والتعفن، زد على أنها مع حضرة أم طنوس كانت تبلع كمية وافرة من العرق الذي أفرزته حضرتها في خلال أتعابها ومشاقِّها، وما أكثر ما أفرزته من العرق!
وهكذا صار؛ فإن أم طنوس عندما أرادت لأول مرة أن تُخرج في نيويورك ما خبَّأته في عبها هلع قلبها، ورسمت الصليب ثلاثًا، ثمَّ توكَّلت على الله وسحبت تلك الضمة فأحسَّت في البدء أن جسمها قد برد كما يشعر الإنسان إذا خلع عنه قميص الصوف، ثمَّ وضعت الضمة أمامها، ويدها ترتجف.
هنا شرع المخبر يضحك، وصرت لا أستطيع أن أفهم منه النتيجة، ولم يكن يتمالك نفسه عن الضحك لكي يُفهمني ماذا كان، إلى أن شبعت نفسه ضحكًا، فتابع حديثه وقال: ولكن تلك المسكينة لم تستطع أن تستخلص إلا ورقتين بعشرة ريالات من كل تلك الضمة؛ لأن الباقي كان كأنه كتلة ورقة مطبوخة على النار، وعبثًا حاولت أن تسترجع ما فقدته هذه المرة لأنها كانت كلما شَكَتْ أمرها إلى أحد الناس يضحك طويلًا عليها، ويخبرها أن تستعيض الله.
وهكذا عادت أم طنوس إلى الداخلية لتعبئ بعض المال بعدما ذهب عناؤها أدراج الرياح، ولا أعلم كيف تخزن ريالاتها هذه المرة، ولعلها تركب الكار إذا أرادت أن تنتقل من بلد إلى آخر، محافظة على صحة الريالات.