مدنية الأميركان
لما غادر أبو راجي فلفل سوريا قاصدًا أميركا، وطَّن النفس على ألا يعود إليها، فباع كل ما كان له من عقار وأثاث، وحمل عائلته المؤلَّفة من أم راجي وولدين إلى بلاد الناس.
وبلاد الناس عند أمثال أبي راجي هي أميركا؛ فإن سوريا ليست ببلاد الناس عندهم؛ لأن أميركا ذات الحرية والغنى، وأمَّا بلادهم فبلاد الذلِّ والخمول.
وهكذا كان، فأبو راجي ودَّع البلاد إلى بلاد الناس، غير آسفٍ على هجره الوطن، معلِّلًا نفسه بالآمال وطالبًا الوصول إلى أميركا؛ ليندمج بين شعبها المتمدِّن، أمَّا شعب سوريا فلم يكن بنظر أبي راجي إلا كما ذكرنا ذليلًا خاملًا، فلا الوطن ولا آله ولا تاريخه أو تاريخهم ممَّا يملك ولو ذرة من اعتباره وحبِّه.
ولكنه ما كاد يصل إلى نيويورك ويقطع شهرًا واحدًا حتى انقلبت الآية معه، فصارت أميركا عنده عبدًا أسود، ومدنيتها في نظره دون مقام البربرية الأفريقية، وشعبها أقل شعوب الأرض ذوقًا وذكاءً.
والسبب في ذلك، أنه لم يَرَ في نيويورك ما راق لخاطره وما انطبق على ذوقه وعاداته أو وافق ما تصوَّره قبلًا بأميركا؛ فإنه سكن لدى وصوله بيتًا لا تدخله الشمس مرة في السنة، وصدف أنه في الشهر الأول لوصوله إلى نيويورك كان الطقس رديئًا جدًّا، فلم تنقطع خيوط المطر يومًا واحدًا؛ ولهذا انقبضت نفسه، وصار بغضه لأميركا يزداد سريعًا يومًا عن يومٍ، وقد أدمى أصابعه ندمًا، ولكن لات حين ندامة.
كل شيءٍ رآه في أميركا لم يعجبه، حتى أقاربه لم يستأنس بقربهم، فكان كلما تطلَّع إلى أحدهم ورآه حليق الشاربين ينفر عن محادثته، ويأنف من النظر في وجهه، وإذا بالصدفة بدرت من أحدهم كلمة إنكليزية كان أبو راجي يهينه ويغلظ له بالكلام، ظنًّا منه أن ذلك المخطئ أراد الهزء به؛ لأنه لا يعرف حرفًا من اللغة الإنكليزية.
وقد حدث لأبي راجي شئون كثيرة أدَّت إلى كرهه الكثير لأميركا، وصارت بلاده عنده آنئذٍ بلاد الناس، وأمَّا بلاد أميركا فليست سوى بلاد البقر.
ومن تلك الحوادث أنه كان يومًا مادًّا بساطه على رصيف سلم الحريق في بيته، وهو جالس الأربعاء، وفي فيه نرييج الأركيلة يشرق دخانها وينفخ، بينما كانت أفكاره سائحة في الفضاء لا تستقر بمكان، وفيما هو على هذه الحال إذا بصوتٍ من الشبَّاك الذي دخل منه إلى الرصيف، فانقطع في الحال عن افتكاره، وتطلَّع إلى الشبَّاك فرأى بوليسًا رافعًا عصاه يتهدده بالضرب، فهب لساعته وحمل أركيلته ودخل بها إلى بيته، فأمسك به البوليس، وهزَّه هزَّات متتابعة طيَّرت رأس الأركيلة إلى الأرض، وهو لا يفهم من كلام البوليس كلمة، وقد ظنَّ بادئ بدء أن البوليس غلطان به، فهو لم يأتِ أمرًا فريًّا، ولكن لا حيلة له لإقناع البوليس ببراءته لجهله اللغة. عندئذٍ دخل عليهما بعض السوريين، فأفهموا البوليس أن أبا راجي رجلٌ بسيطٌ مسكينٌ، وقد جاء حديثًا من البلاد، وهو يجهل نظام المعيشة، فخرج البوليس بعد أن لان قلبه على أبي راجي وتركه وشأنه. أمَّا أبو راجي فأخذته الحيرة كل مأخذٍ، وبعدما خرج البوليس انهال عليه بالمسبَّات والتجديفات متحيِّرًا بما صار إليه، غير عارف بذنبه، إلا أن السوريين الذين تبعوا البوليس أخبروه أن جمرة الأركيلة سقطت من بين قضبان الحديد على رأس البوليس.
ثمَّ إن أبا راجي ذهب يومًا إلى «كاسل غاردن» الحديقة عند البحر القريبة من شارع واشنطن، وقد حمل معه غداءه فدخل إلى الحديقة ماشيًا على الكلأ حتى وصل إلى شجرة، فجلس تحتها يأكل غداءه، وإذا بالحارس قد جاء نحوه مهرولًا، وأخرجه من الحديقة بالدفع واللبط، وبقي طعام المسكين هناك فاضْطُرَّ أن يعود إلى بيته ليأكل، ولكنه كان أكلًا مخلوطًا بسم الموت؛ لأن التأثير بلغ مبلغًا عظيمًا في نفسه.
ومرة أخذه بعض الجيران يوم أحد إلى حديقة برونكس ليتفرجوا على الحيوانات، وقد أعجبه منظرها ودُهِش لجمال البنايات، التي جُعلت منازل الحيوانات القذرة مع أنه وهو من بني آدم يسكن بيتًا دون منزل الخنزير في تلك الحديقة، ولكن الحظَّ لم يكتمل معه؛ فإنه بينما كان يتأمل بمنظر الفيل وخرطومه وقد دُهِش لهما رمى إلى الفيل بقطعة خبز كانت في جيبه، فرآه الحارس فقبض عليه، ولم ينتهِ الأمر حتى دفع رفاقه عنه الجزاء النقدي، ولا تَسَلْ عمَّا خرج من فَمِ أبي راجي بعد ذلك.
وفي الأحد التالي لهذه الحادثة أخذوا أبا راجي إلى المتحف، حيث تُعرض الأشياء الثمينة والرسوم الفنية، فكأنهم أخذوه ليتفرج على فخامة البناء والجنينة المحيطة بالبنايات، أمَّا ما حوته تلك البنايات من الآثار فلم يَرُقْ لخاطره. ولا عجب؛ فإنه لا يعلم شيئًا عن الفنون، ولما أخبره أحد رفاقه أن ثمن صورة من الصور المعلَّقة للفرجة قد يبلغ عشرات ألوف الريالات هزَّ أبو راجي رأسه، وأقسم أيمانًا مغلَّظة أنه لا يشتريها بخمسة سنوت، وقد ضحك على عقول الأميركان ورماهم بالسخافة، وعيَّرهم بالبلاهة وخفة العقل.
وكان أصحابه أعجبهم نظره إلى الأمور التي لا يحدُّها عقله فأرادوا مداعبته، فصاروا يناظرونه بالأمر، ويبالغون بأهمية الرسوم، وهو يكيل لقلة مدارك الأميركان الذين «ينفقعون» لتوافه الأشياء، وفيما هو يهزأ ويسمع ويجيب في وقت واحد كانت يمناه قد دخلت إلى جيبه فأخرجت علبة التبغ، ودون أن يلاحظ بفكره ما تفعله يداه لف سيكارة ووضعها بفيه، ودخلت يسراه إلى الجيب الثاني فأخرجت عود كبريت، وهو لا يزال في حديثه مع أصحابه، هم يشدُّون عليه، وهو يضحك على الأميركان، ودون أن يلاحظ أحدهم ما همَّ أن يفعل أبو راجي؛ لأنهم انبسطوا بحديثه المفكه، كانت يمناه قد أخذت من شقيقتها عود الكبريت وامتدَّت إلى الحائط المدهون بالدهان الفني البديع، فأضافت إلى تفنُّن الرسَّامين بالدهان خطًّا أحمرَ في منتصف الحائط يبلغ طوله الذراعين، وما كاد يشعل أبو راجي سيكارته من ذلك العود حتى ثاب أصحابه إلى رشدهم، فرأوا ما كان منه فسحبوه في الحال وقلوبهم هالعة إلى الخارج، ولم يشفوا قلبه بأن يخبروه عمَّا صار خوفًا من أن يُعرف أمرهم، بل أسرعوا عائدين إلى القطار ليعودوا إلى بيوتهم.
هذه بعض الشئون التي حدثت لأبي راجي في أميركا، وهي التي طبعت في دماغه أن سكَّان أميركا بالرغم من لبسهم البرنيطة والإفرنجي وكلامهم باللغة الإنكليزية ليسوا على شيءٍ من التمدُّن والذكاء، وأن بلادنا مع ما فيها من الخلل بالأمن وقلة الحركة أكثر تمدُّنًا، وأهلها أعظم ذكاءً من كل شعوب الأرض. وبناءً على هذا لم يقطع أبو راجي ثلاث سنوات حتى عاد بعائلته إلى قريته في لبنان، حيث طهَّر عقله وصفَّى أفكاره من أمانيه في الهجرة والاندماج في الشعوب المتمدِّنة الغربية.
وبعد سنة من عودة أبي راجي إلى وطنه عاد أحد مواطنيه من أميركا، وقد كان من جملة الأصحاب الذين أخذوه إلى المتحف في نيويورك، ولما ردَّ لأبي راجي السلام في منزله دخل إلى البيت، دائسًا على السجادة، دون أن يخلع من رجليه عند العتبة، فكانت عينا أبي راجي كل الوقت مصوَّبة النظر إلى رجلي الضيف، وقد حاول أن يكتم سره ما استطاع، ولكنه أخيرًا فضح الأمر، فقال لضيفه بلطف: إن عادة عدم نزع الأحذية في أميركا دارجة، ولكن في بلادنا لم تدرج؛ لأن الأحذية توسِّخ السجاد. فأجابه الضيف: نعم، الحق معك، ولكن السجادة تستطيع أنت أن تنظِّفها بالمكنسة أم بغيرها، ولا يكلِّفك أمر تنظيفها إلا صرف دقيقة وبعض العناء، ولكنك على ما يلوح لي نسيت ذلك الخط، الذي طبعته على حائط من حيطان المتحف الفني في نيويورك؛ إذ شحطت على ذلك الحائط ذلك الخط الهائل بعود الكبريت لتشعل سيكارتك، أوَلا تظن أن محو أثر ذلك الخط قد كلف أرباب المتحف أكثر من ثمن سجادتك؟
أمَّا أبو راجي فأجاب، وفي جوابه بعض الازدراء وقال: «نعم، في أميركا كل شيءٍ يكلِّف، ولولا العيب والحياء لتقاضَوْا بعضَهم ثمن الهواء، ولقد كلَّفني أن أتفرَّج على قلة عقولهم وأعود، بيتي القديم والحاكورة والأثاث، ولكن الحمد لله تفرَّجنا على أشياء تسمى مدنية الأميركان، ويا لها من مدنية!»