أحاديث الغرام
إذا غاب عنك سعيد علام نصف ساعة فقط فإنه يخبرك في الأقل عن حادثتين وقعتا معه في أثناء ذلك النصف من الساعة، ولك الخيار بأن تصدِّق ما يقول أو لا تصدِّق، إلا أنه ولا فرق عنده تصديقك لروايته أو عدمه، يخبرك بأنه إذ كان سائرًا في الشارع الفلاني، قاصدًا المحل الفلاني وقعت عينه على بنت لا أحلى ولا أجمل منها، عيناها تذبحان وخدَّاها يحرقان، وقدَّها يقد ونهدها يهد، ولم يكد يقع البصر على البصر حتى رشقته بغمزة من طرف عينها اليمنى فرفع قبَّعته بيده اليسرى وحيَّاها، وعقد معها موعدًا للاجتماع في اليوم الفلاني الساعة الثامنة مساءً، مطرًا كان أم صحوًا.
هذه حادثة أولى من حوادثه مثلًا، وأمَّا الثانية، فهي أنه إذ كان راجعًا من المحل الذي قصده، وهو مسرع الخطى لا يرغب في أن يتطلَّع إلى أي بنت كانت، ولو أنها نازلة من السماء، فجأة نطح أثناء سيره بشخص، ولما تطلَّع إليه ليعتذر، إذا به فتاة كتب الجمال على جبينها آيته الأولى والأخيرة، فاضْطُرَّ أن يعتذر إليها بكلام لطيف، وانتهى الحال معه أنها ألغزت له بأنها لا تمانع بمرافقته لها إلى منزلها، فاضطر أن يرافقها، ولما وصل إلى سلم المنزل ودَّعها، وأعطاها اسمه وعنوانه وأخذ اسمها وعنوانها، وتعاهدا على المكاتبة والزيارات، ويختم كلامه بقوله: «بين مالي وكاتي ضاعت أوقاتي!»
ولسعيد علام مخترعات عديدة في تأليف هذه الحوادث، حتى إنه ليُخيَّل لمن يصاحبه أن الشاب خُلِق خصيصًا ليكون مطمحًا لآمال كل فتاة، فإذا جلس في محضر لا ينفك يخبر السامعين هذه القصة التي حدثت له مع بنت كادت تجنُّ بحبِّه، وتلك القصة التي حدثت له مع البنت الفلانية وما كان من أمرها حتى يُدهش ويحيِّر الألباب. وللمذكور مقدرة غريبة على الابتداع؛ فإنه يكيِّف القصص، ويكثر عليها البهارات اللفظية والمقبِّلات الوصفية، حتى إنه بالرغم من شكِّ السامع كلامه بصدق روايته لا يملُّ من سماعها، بل يعجب إذا كان حقيقة وقع لسعيد علام كل هذا المسموع منه.
وإن الإنسان ليُدهش من مروياته عن الشباك الحبية التي يقع بها، وينصبها هو بنفسه لبنات أميركا. فيقول السامع بنفسه: عجبًا يحدث كل هذا لهذا الشاب، وليس فيه من الميزات عن غيره لا بالخلق، ولا بالأخلاق، ولا بالعلم، ولا بالمال، ولا بالنباهة، ولا باللغة؟! فإذا كان صادقًا بكل ما يرويه فلا مراء بأن الأميركيات بلا عقول، أو أن عقولهن ترللي.
حكى لي صديق أن سعيد علام كان دائمًا يطحله بأحاديثه عن مواعيده مع البنات الأميركيات، وعن الصدف المدهشة التي تشبكه معهن دون قصد، بل غصبًا عنه، فقال: «كنت دائمًا أفكِّر بحياة ذلك الشاب، فأقلِّبه بفكري مفترضًا أنه صادق بكل ما يحدِّثه، فماذا يا تُرى يجعله مرغوبًا محبوبًا بقلوب البنات؟ بل لماذا يا ترى لا يجري لي ولو حادثة من ألوف جرت له وأنا أجمل منه وأنظف لباسًا، وأكثر غلبةً وأطلى حديثًا؟! فصممت النية أخيرًا على أن أكتشف بنفسي صحة أحاديثه، وصرت أترقَّب الفرص لأماشيه يومًا كاملًا في قلب المدينة ذهابًا وإيابًا، وأدخل معه في كل مجتمع يكثر فيه عدد البنات وكل حانة راقصة أو ما شاكل؛ لأرى بأم عيني كيف يضع الجنس اللطيف شباكه من كل حدبٍ وصوبٍ لاقتناص قلب ذلك الشاب الغريب.»
قال الصديق: «وجاءني الدهر بيوم طالما اشتهيته؛ إذ رضي معي سعيد علام بالذهاب إلى «سنترال بارك» بعد الجهد والإلحاح الشديد؛ لأن سعيدًا حاول التملُّص مني بداعي أن معه موعدًا قبل الظهر وآخر بعد الظهر وغيره مساءً. وهوَّنها الله فأقنعته بالذهاب معي إلى تلك الحديقة، فلا بُدَّ أن نقضي النهار بمغازلة حسناوات تعوِّض عليه ما كسره من المواعيد لأجلي. ودخلنا قطار النفق سوية، وما كدنا نجلس في عربة ملآنة المقاعد، ولحسن الحظ كان كل الصف الذي أمامنا سيِّدات، حتى رأيت بأم عيني ما أعجبني وأدهشني، وجعلني لأول وهلة أقول: واللهِ إذن سعيد كان صادقًا بكل ما رواه للناس من حوادثه الغريبة مع بنات نيويورك؛ فقد شاهدت الابتسامات على أفواه السيدات أمامنا، وعيونهن ترمقه وبعضها تغمزه، وهو يذبل عينيه ويتمتم لي قائلًا: «ألا ترى أني صرت تعبًا من هذه الحياة، فانظر الآن أمامك، واعذرني مرة ثانية إذا كنت أمتنع عن الذهاب معك ومع غيرك إلى المتنزَّهات أو المجتمعات.»
أمَّا أنا (يقول الصديق الراوي) فقد بُهِتُّ، وصار قلبي يرقص وقلت في نفسي: سبحان الخالق! إنه يخلق في الأرواح جاذبية لا تدلُّ عليها المظاهر الخارجية. وكنت أنظر إلى الناس الجلوس، مستغربًا تهافت أبصارهم إلى رفيقي سعيد علام، وكدت أشفق عليه لما يعانيه من رميات العيون الغوامز ورشقات الأفواه البواسم، لولا أن انتصب أمامنا رجل كهل، شبك يده بالحلقة التي يتعلق بها الواقفون، وانحنى إلى صديقي لناحيتي، فقال له إن رجل بنطلونه عالقة بضمامة جرابته، وطلب إليه أن ينزلها منعًا للتشويش الذي يحدثه.»
وقال الصديق أيضًا: «فتطلَّعت إلى سعيد علام فإذا بوجهه ممتلئ دمًا والخجل ملبس إياه وشاحًا، وقد اقتصرنا النزهة على الوصول إلى الحديقة حيث افترقنا، فسار هو من جهة وأنا من جهة، وصرت إذا اجتمعت به مرة بعد مرة أهزُّ يده، مذكِّرًا إياه بتلك النكتة التي جرت له بحضرتي، فأضحك كثيرًا ويبسم قليلًا، وأحسن من هذا أني صرت إذا فاجأته في محضر من الأصحاب يحدِّثهم بأموره وغرائبها يحوِّل الحديث في الحال من صورة إلى صورة.»