لا فرق بين الاثنتين
تلك كانت الزوجة الخامسة لبدر مشرق، وقد تزوَّج بها وهو ابن أربعين، أمَّا نساؤه الأربع الأوليات؛ فقد طلَّقهن واحدة واحدة، وانتهى أمره بتزوجه الخامسة التي انتخبها لنفسه، وهي أميركية، تقابله عمرًا، أرملة لها ابنة من زوجها الأول.
بعد شهرين من زواجه الخامس، صرح بدر مشرق أمام معارفه أن الزوجة الأميركية أفضل من السورية، وأقسم يمينًا قاطعًا ما عاد يتزوج في حياته سورية؛ لأن الأميركيات أفضل للحياة البيتية، وأكثر تهذيبًا، وأحسن ترتيبًا.
عندما أقسم ذلك القسم القاطع لم يظهر على وجهه إشارة إلى أنه يريد الهزل، بل لفظه كأنه مجزم بصحة الأمر يعني ما يقول، فهو لقد عقد النية على ألا يتزوج بامرأة سورية بعد هذه الأميركية، التي رأى منها ومن ذوقها وتهذيبها ما لم يره من السوريات الأربع اللواتي كنَّ فيما سبق زوجات لحضرته.
في هذه المرة صار بدر لا يعنيه شيءٌ من أمور نظام البيت، إلا أنه يدفع في آخر الأسبوع المبلغ المعيَّن عليه من المال لقضاء الحاجات من دين السمان وأجرة البيت وقسط الأثاث إلى ما شاكل. أمَّا يوم كان زوجًا لإحدى السوريات؛ فقد كان يعتلُّ السمانة من محال السوريين إلى البيت، فلا يصل إلا وصبره قد جاوز الحدود والسباب والشتائم والتجديفات تخرج من فيه كقنابل المدافع في حومة الوغى.
وصار على عهد الأميركية لا يحمل صرة برغل، ولا لحم ضأن ولا علبة بندورة، ولا سلة عنب؛ لأن الأميركية تطلب كل هذا بالتلفون، فيأتي الغلام بطلباته كمارد سليمان الحكيم.
الفرق عظيم بين الزوجة السورية والزوجة الأميركية، خاصة عنده في أول عهد زواجه الخامس؛ السورية إذا أرادت شك الإبرة تسأل زوجها أن يشكَّها لها. تحتار بأمرها في ما عساها تطبخ العشاء؛ فالبارحة كان العشاء كبة، وقبله كان كوسى محشيا، وقبله كان مجدرة، واليوم ماذا؟ تسأله رأيه قبل أن يذهب إلى شغله: ماذا تريد أن أطبخ لك؟ فماذا يجيب؟ يجيبها قائلًا: سم الموت. ويخرج من البيت عابسًا.
أمَّا الأميركية فلا تسأله ولا تستشيره، ولا تطلب منه شيئًا سوى دفع الثمن، وتودِّعه إلى شغله بقبلة، وتلاقيه عند الباب عائدًا إلى البيت بأخرى، وتجلس إلى جانبه تقرأ معه الجرائد، فتحادثه بأمور كثيرة، تخوض عبابها عاملة فكرها وناظرة بكل حادثة وبكل موضوع. وإذا تكلَّمت معه تنهي عبارتها له بيا عزيزي ويا حبيبي ويا عسلي. بكل هدوء وكل نظامٍ العشاء يحضر على المائدة الساعة السادسة من كل مساء، وكل شيء يلزم لمناولة الطعام حاضر، بينا السورية تعلل زوجها بقولها: إن اللحمة لم تنضج بعدُ، فتدقُّ الساعة السابعة والنصف والزوج يتقلَّب على مقالي الانتظار بمعدة فارغة بعد تعبه كل النهار بالشغل، ثمَّ لما ينضج الطعام، ويجلس مع زوجته للأكل لا تلبث أن تنهض لتأتي بالخبز، لاعنة الشيطان كيف أنها نسيته، ولا تكاد تستوي في كرسيِّها حتى تنهض ثانيةً لتأتي بالملح والفلفل، وثالثةً لتحضر الفوطة، وتنهال مرة ثانية باللعنات على الشيطان؛ لأن العجلة منه، فلا ينتهي العشاء إلا بعد عناء وتلبك كثيرين.
كل هذه الفروق كان يلاحظها بدر، فيشكر الله أنه خلَّصه من بلادة السوريات وهدف إليه أميركية تريح باله من كل هذه الأمور، فليس عليه إلا الاجتهاد وتحضير المال للمعيشة، وأمَّا امرأته فعندها كل شيء إذا حضر المال.
كان لبدر صديق سوري ذكي الفؤاد، مختمر بالعبر وصروف الدهر وتقلُّبات الأيام، وقد التقى مرة به، فأخبره بدر بكل شعوره وراحة باله، فسمع منه صديقه كل بحثه عن الفرق العظيم بين الزوجة السورية وأختها الأميركية، ولكنه أخيرًا قال له، وكان ذلك في عام ١٩٠٢: «إن موضوعك جليل الفائدة، وفيه حقائق كثيرة، ولا أستطيع أن أبحث معك فيه طالما اختبرت الأمر بنفسك فتوصَّلت إلى معرفة الفرق بين السورية والأميركية، ولكن كم صار لك مع الزوجة الأميركية؟»
فأجابه بأن صار له نحو سنة. عندئذٍ هزَّ صديقه رأسه، ماسكًا طرف قبة سترته، ماطًّا بوزه قليلًا، ثمَّ تمتم هذه الكلمات: «ولكن لم تزل يا صديق في شهر العسل!»
في سنة ١٩١٠ كان الناس يتناولون الجرائد؛ ليقرءوا ماذا كان من أمر المحاكمة في الدعوى التي رفعتها مدام بدر مشرق على زوجها بدر، وقد انقضى عليها نحو سنتين تنتقل من محكمة إلى أخرى، والمحامون من الطرفين يومًا يتفاوضون وآخر يتنازلون في المحاكم، حتى صدر الحكم النهائي بطلاق مسز مشرق من مستر بدر مشرق، وبتعيين راتب شهري يدفعه المستر للمسز في رأس كل شهر لإعالتها، وبأن يكون المنزل بما فيه من أثاث خاصتها.
أمَّا الدعوى المذكورة؛ فقد كانت مبنية على أن المستر مشرق كان يهمل زوجته، ويعطي أكثر انتباهه لابنتها، فيجالسها ويلاطفها، في حين أن زوجته تكون منهمكة بأمور البيت، وأنه كان يزجرها ويغلظ كلامه لها، وقد فتر حبه من يوم صارت ابنتها صبية، وأنه مضى عليهما العام الأخير ولم يقبِّلها فيه قبلة من تلقاء نفسه إلا بعد صياح وشجار، وأنه كان يقضي الليلة والليلتين خارج البيت، في حين كانت تحيي الليالي ساهرة، مترقبة رجوعه إلى بيته.
وفي أواخر عام ١٩١٠ ارتاح بدر مشرق من الراتب الشهري لزوجته المطلَّقة، الذي أعياه وأثقل ظهره؛ لأن مسز مشرق غيَّرت اسمها، وشلحت اسم مشرق كما تشلح الشجرة ورقاتها في فصل الخريف، وغيَّرته باسم سلفان، وهذه كنية زوج جديد من لحمها ودمها. وقد تنفَّس بدر الصعداء عندما بلغه أن الراتب المعيَّن عليه انتهى أمده.
في سنة ١٩١٣، كان بدر قد صار كهلًا قريبًا من الشيخوخة، وقد أحنت الأيام ظهره وأفقدت نشاطه، فصار ميَّالًا إلى اللهو، ولولا الحاجة لما أعار شغله أقل انتباه. في تلك السنة دخلت إلى محله امرأة كهلة، وبعد أن حادثته قليلًا عن شغل قالت له: «أنت بحاجة يا مستر بدر إلى شريكة لحياتك، تعتني بأمور بيتك بينما أنت تدير أشغالك في هذا المحل.»
أمَّا هو فأجابها وقال: لقد شعرت بهذا منذ سنين، فراح البيت مع المرأة، والآن ليس لي إلا بضع سنوات في هذا العمر، وأظنُّ هذا المحل يقيني الحاجة والسؤال إذا حافظت عليه.
فأجابته أنه إذا أراد المحافظة على شغله يجب أن يكون باله مرتاحًا بأمور معيشته، ولا يرتاح إلا إذا دبَّر لنفسه بنت حلال كما فعل ابن أخيها، وقد كان شابًّا جبَّارًا تهتزُّ الأرض من وقع خطواته، فلما تزوج صار شابًّا لطيفًا وعين الله ترعاه.
فقال بدر: «كنت مثله وأكثر، ولسوف يصير مثلي وأنحس.» وفيما هو يتكلم، وإذ دخل عليه صديقه الذي قال له إنه لم يزل في ذلك الحين بشهر العسل، فسلَّم عليه بعد طول غياب، وعندما سأله عن المدام التي رأى منها ما لم ير من زوجاته السوريات أخبره بما جرى عليه، وأنه صار يعتقد بعدها بألا فرق بين المرأتين السورية والأميركية، وأنه في حياته ما عاد يفتكر بسورية ولا بأميركية، فأجابه صديقه إذا كان الزواج عندك طلِّق المرأة وتزوج بأخرى، فإن كان من فارق بينهما أو لم يكن لا فرق عندك.