الله يسعده ويبعده
لم يكن من يستطيع فهم أصل الخلاف بين إبراهيم الصالح وأخيه فريد، وقد بدأ الخلاف بينهما في أول أسبوع وصل فيه الصغير إلى هذه البلاد، وبعد أن كان إبراهيم يستعد لاستئجار نزل خصوصي يشتري له أثاثًا جميلًا ليعيش مع أخيه فريد كعائلة صغيرة لبث في غرفته المفروشة، وطرد أخاه من عنده، فاضْطُرَّ المسكين — وهو دون السابعة عشرة — إلى أن يستأجر غرفة له زَرِيَّة جدًّا، وأن يعمل كأجير في محل تجاري ليعيش مستقلًّا.
حكى لي فريد الصغير عن خلافه مع أخيه، فقال إنه لا يعلم لماذا كرهه أخوه، ولم يأثم أمامه ولا أخلَّ باعتباره كأخيه الأكبر وولي نعمته، ولكنه لسبب بسيط جدًّا ارتأى إبراهيم أن يفترقا وأن يعيش كل منهما لنفسه، وقد منعت اجتماعاتهما معًا إلا إذا كانا وحدهما، وإذ ذاك يستعمل إبراهيم سلطته على أخيه، فيأمره أمرًا، وينفض سترته بأصابعه علامة أنه هكذا يريده أن يعمل، وإذا أبى فلا يكون مسئولًا.
إن خلاف الأخوين على هذه الصورة أمرٌ غريبٌ جدًّا، فليس بينهما من خطأ ارتكبه أحدهما ضدَّ الآخر، ولا بينهما ما لا يمحى؛ على أن الاثنين ناجحان بأشغالهما، وإبراهيم رجل يبلغ الخامسة والثلاثين، وقد صار له نحو عشرين سنة يعمل في أميركا، ولما أنهى فريد المدرسة الابتدائية استقدمه إليه على أمل أن يفتحا محلًّا تجاريًّا، يكون فيه رئيسًا وأخوه مدبِّرًا، إلا أن الأمور انتهت بالجفاء بين الاثنين في أول أسبوع لوصول فريد إلى أميركا.
أمَّا فريد، فشابٌّ ذكيٌّ له إلمامٌ بالعلوم وولع بالمطالعة، قليل الكلام، ولكنه رصين لا يتكلم إلا اللازم الذي يفيد، عكس أخيه الأكبر؛ فإنه كثير الكلام كثير الدعوى، يتدخل في كل موضوع ويحشر نفسه في كل مشكل، وقد ولع أيضًا بالمطالعة الصحفية والكتبية، وإنما ولعًا سطحيًّا، فكان يحفظ أسماء أعاظم الرجال من سياسيين وعلماء وفلاسفة وشعراء، فإذا تكلم في اجتماع يُكثر من ذكر تلك الأسماء، فينظر الناس إليه كرجل عليم في صدره كنوز علم وعرفان، فإذا كان الحديث عن السياسة أسرع فذكر بسمارك وغلادستون، وقال: فلان قال كذا وكذا. ومن اطَّلع على ما كتبه أو قاله بسمارك أو غلادستون ليكذبه؟! وإذا كان الحديث عن الشعر ذكر في الحال المتنبي وأبا العلاء مع بعض أبيات لكليهما يقولهما باللفظ المكسر، ثمَّ يعمق بتاريخ الشعر فيذكر هوميروس، ويتدرَّج بالأسماء إلى هيكو وموسيه و… و… حتى يسكت الحاضرون، ويعطوه موقف الكلام، ولا يعدم أن يرى منهم إعجابًا بسعة معارفه ووفرة علومه، حتى صار عندهم مرجعًا لكل أمرٍ، ومضرب المثل في العلم بكل بابٍ من أبوابه.
ودام هذا معه حتى وصل فريد إلى نيويورك، فصار يحضر مع أخيه بعض الاجتماعات، ويراه راكبًا مركب الشطط بأكثر أحاديثه، فكان يسكت أوَّلًا حياءً منه، ولكنه بعد أن استأنس صار يعترض على غلط أخيه ويصلحه، فكان إبراهيم يحرق الأُرَّم غيظًا، ويلعن الساعة التي وصل فيها أخوه لينزع عنه مقامه كعالمٍ بين الناس.
ومرة كان الأخوان في سهرة حافلة، كان الفونغراف يشنف أسماء الحاضرين، والكئوس دائرة عليهم، وآخر أسطوانة سمعوها فذهبوا بسحرها كانت أسطوانة للصلبان فيها «يا ليل الصب …» فكان بعضهم يعيدها ويعيدها، ويساعده غناء بها واستشهادًا بمعاني أبياتها الجميلة حتى وقف عنده «رقد السُّمَّار وأرَّقه.» فقال في القوم: من هذا السمار؟
فأجاب أحدهم وقال: «أظن أن السمَّار هو الذي يدقُّ المسامير.»
فضحك الكل من جوابه: وقال ثانٍ: «أظنُّ السمار هو الهراي السنور، لا بل السنمار.»
وقال ثالث: «لا بل هو السمرمر الذي يطارد الجراد.»
واختلف القوم على معنى الكلمة، وإبراهيم الصالح يتنحنح، وقد غاب عن الحضور بفكره ليأتي لهم بمعنى الكلمة، فيكون كلامه فصل الخطاب. وأمَّا أخوه الصغير فريد فكان الحال عنده كالتياترو، فما كان يهدأ من الضحك بكل ما استطاع شدقاه وبكل ما في رئتيه من القوة.
وأخيرًا صاح صائح وقال: «عندنا إبراهيم الصالح ونتجاسر على تفسير الكلمة، فلنسمعه الآن يحلُّ لنا المشكل.»
وسكت الحاضرون، ووقف الفونغراف، وصاروا كلهم آذانًا صاغيةً، مستعدَّةً للسماع وعيونهم مصوَّبة على نقطة واحدة هي وجه إبراهيم الصالح.
عندئذٍ، لم يَعُدْ لإبراهيم من مهرب؛ فعارٌ عليه ألا يحل مشكلة صغيرة كهذه، وهو لم يعوِّدهم ذلك، ففتح أوَّلًا فمه ببطء كلِّي وعيناه محملقتان ووجهه يتطاول، وكان بطرف نظره يحدج أخاه فريدًا؛ لهذا تلعثم قليلًا، ولما تحنن الله على صبر القوم خرجت من فمه كلمة «أظن» خمس مرات، وبين كل مرة وأخرى فرصة دقيقتين، حتى أخيرًا أفاض بحل المشكلة طارحًا عنه التردد المصنَّع وقال: «إن السمَّار هو السامري عذول اليهودي، ويظهر أن قائل تلك الأبيات يهودي، فيكون المعنى أن العدو نام، وهو لم ينم بل أرَّقه الألم.»
ويظهر أن فريدًا نسي أن أخاه الأكبر كان المتكلم؛ ولهذا استعان بكل ما في قدرته من الضحك حين كان الكل صامتين، على وجوههم سيماء الرصانة، يتوقعون القول الفصل من ربِّ العرفان عندهم، وهذا ما دعا إبراهيم أن يستشيط غيظًا من أخيه فشتمه، ولولا حرمة الناس لكان ضربه، فانتبه فريد لأمره، وعقَّب ضحكاته الطويلة عبوسة فجائية، فاستصفح أخاه، وأقرَّ بأنه مخطئ، وأنه نسي نفسه لتفاسير القوم كلمة «سمَّار» بعيدة عن الصواب.
عندئذٍ قال له أخوه: «أنت يا فريد مثل كل ولد يأتي من سوريا مملوء دعوى، ولا تحترم معارف الآخرين، بل تظنُّ أن ما تلقنته في المدرسة هو كل العلم مع أنه ينقصك تهذيب كثير. والآن — يا عيب الشوم — دعوتنا نخجل أمام الناس، فقم بنا قم.»
وقد ألحَّ الحاضرون على إبراهيم أن يعدل عن فكره بالرحيل، وأن يهدِّئ روعه قليلًا؛ فإن أخاه سيتعلم فيما بعدُ فيُحسِّن سلوكه، ويعرف كيف يجالس الناس.
وكان أحد الحاضرين الذين فسَّروا الكلمة شديد الاستياء من جواب فريد لأخيه بأن تفاسير القوم أضحكته، فخاطبه بملء الاشمئزاز قائلًا: «وهل عندك تفسير أحسن؟ إي نعم، نحن لم نتعلم في المدارس مثلك، ولكن لا أظن أن كلامنا يوجب ضحك الناس إلا إذا كان ضحكك بلا سبب، والضحك بلا سبب من قلة الأدب.»
هنا تبدَّلت هيئة فريد الصغير، فقال بصوتٍ لطيفٍ والحيرة آخذة منه مأخذًا: «اعذروني يا إخوان على ما بدَر مني، فأنا لم أقصد بضحكي الحطَّ من كرامة الذين فسَّروا كلمة «سمَّار»، بل إن تفاسيرهم جعلتني أضحك؛ لأننا في مجلس سرور، ويجوز فيه لأيٍّ كان أن يضحك.»
أمَّا إبراهيم، فظلَّ واقفًا يشدُّ بذراع أخيه ليخرج من تلك الجلسة؛ لئلا يحدث ما يكدِّره أكثر. ولكن رجلًا متقدِّمًا في السن أعجبه منطق فريد، فنهض باسمًا وتقدم إلى إبراهيم بلطفٍ، سائلًا إيَّاه أن يعود إلى مكانه لمحو أثر الخلاف؛ خوفًا على خاطر الصغير القادم من البلاد؛ فقد شعر بنفسه أن فريدًا انكسر خاطره، فاضطر إبراهيم إلى الجلوس، وعاد الرجل المتقدم في السن فقال لفريد: «يا فريد، لا تزعل يا ابني، لا بأس عليك، مسألة صغيرة، لا تستح، فكل الحاضرين إخوان، أي يا ابني، اقعد وقل لنا الآن كيف تفسِّر كلمة سمار؛ لنضحك نحن عليك كما أنت ضحكت علينا.»
فضحك القوم سلفًا على فريد ما عدا إبراهيم الذي كان السمُّ يغلي في قلبه، ولكنه لم يجسر أن يعترض، ولما رأى فريد أن الحاضرين سُرِّيَ عنهم تبسَّم، وقال: «إن كلمة سُمَّار جمع سمير، والسمير هو الذي يسهر الليل، فيكون معنى الشاعر أن الساهرين ناموا إلا هو؛ فقد حرمه النومَ ألمٌ يعذِّبه.»
فضحك ذلك المتقدم في السن ضحكة كبيرة وقال: «إي والله، الآن أخذنا بثأرنا منك.» وضحك لضحكته الحاضرون إلا إبراهيم الذي نهض في الحال يريد الذهاب مع أخيه، بداعي أن السهرة قد طالت.
تلك السهرة لم يَنَمْ فريد مع أخيه، ومنذ تلك السهرة لم يعد يضمُّ الأخوين اجتماع، وعندما يُسأل إبراهيم عن سلوك أخيه يهزُّ رأسه ويتنهَّد قائلًا: «ما أحد اشترى البلوى لنفسه مثلي؛ فقد كنت بلا همٍّ، فجئت بأخي ليزيد سروري، فكان أنه حرمني الراحة، ولكن أميركا واسعة، فالله يسعده ويبعده.»