عبد الفطرة
حنَّا مرقص هاجر إلى أميركا وهو دون العشرين من عمره، وقد تعلَّم الإنكليزية المكسَّرة عن طريق البيع بالكشة فالجزدان فعرض بضائعه في الهوتيلات.
كان في بادئ أمره خجولًا، يرى كل شيءٍ أكبر منه وكل إنسان أعلم منه، ولكنه بعد أن صار يستطيع الرواح والمجيء في شوارع المدينة، ويمكنه التنقُّل من بلد إلى آخر، أصبح ذا أنف واصل ذرى السموات، فصار من أكبر الأغنياء بمائة ريال وفَّرها في بنك الحكومة، وصار من أعلام الكرة الأرضية بتعبيره باللغة الإنكليزية المخلوطة كلمات عربية عصيت على إنكليزيته، ولكنه يخلطها ضاحكًا لتجيء من فيه كأنها مقولة منه للفكاهة، وصار من أقدر الناس على الدخول في معترك البشر؛ لأنه يستطيع أن يضع رجلًا في نيويورك وأخرى بسان فرانسيسكو.
إذا جلس في المطعم السوري تبقى فرتيكته نظيفة؛ إذ يستعيض عنها بأصابع يديه، ويكبر اللقمة التي غالبًا يدحشها بإصبعه في فيه؛ لتدخل غصبًا عن اتِّساع فمه.
أمَّا إذا جلس في مطعم أميركاني فلا يأكل السمك إلا بالفرتيكة، وكثيرًا ما يترك الدجاجة المحمَّرة في صحنها مهرمشة منه هرمشة لتعذر استخراج لحمها بالفرتيكة، فتبقى عينه فيها، ومعدته تطلع وتنزل شوقًا إلى ابتلاعها، ولا يجسر أن يفتك بها؛ لأنه عالم جيِّدًا أنه في مطعم أميركي.
كان يَحلِق كل صباح، ولكنه كان يلعن هذه البلاد التي تضطره إلى ذلك، متمنيًا الرجوع إلى قريته التي لا يُضْطَرُّ فيها إلى تكنيس شعر وجهه إلا مرة كل أسبوعين.
كان يداري لباسه وهندامه، ويشتري لنفسه وردة يوم الأحد، وكلما جلس على مقعد أو كرسي يشقل بنطلونه محافظة على كيَّته عند الركبتين، ولكنه أبدًا يفضِّل القمباز لعدم الثقلة بلبسه، وإنما لم يجسر على أن يقول ذلك أمام الغير.
بعدما قضى السنتين الأُوليين في هذه البلاد ابتدأ يدخل بين الأجانب، ولم يقضِ الخمس سنوات حتى صار أميركي التبعة يصوِّت للمنتخبين إلى الأحكام، ويتحزَّب لبعضهم دون البعض الآخر، ولكنه كان قبل أن يذهب إلى عالم الأحلام في كل ليلة تبقى جفونه مفتوحة وفكره محلِّقًا في سماء الأماني، متمنيًا العودة إلى بلده لينام تحت الشجرة، لحافه السماء، وفرشته المرجة، ووسادته الكرسي الصغير المصنوع من القش.
هذا حنَّا مرقص، له وجهان: وجه أميركي بالظاهر وآخر بلدي بالفطرة. وما زال في أميركا، فالتطبع غالب عليه، ولكنه يَوَدُّ ويحنُّ إلى التخلص من نيره؛ ليجعل فطرته السائدة في أميركا، آه لو عاد حنَّا مرقص إلى «كفر بطة» قريته ليخلع عنه الرداء الإفرنجي، ويوفِّر كم مسبة دين ولعنة لدى ترتيبه الربطة في حال شدِّها ذهابًا وإيابًا.
حسنٌ، جاء الوقت الذي أصبحت فيه خطوات حنَّا مرقص مسدَّدة نحو الوطن، بعدما انفتحت الطريق بين العالم الجديد والعالم القديم، بعدما كانت الحرب قد أوصدتها حينًا طويلًا، وبعد الجهد الكلي حصل على باسبورت من الحكومة الأميركية ليعود إلى حضن أمه العجوز، وليشارف بخبرته ومعرفته الكرم والأرض التي ورثهما عن المرحوم أبيه.
كان يقول لأصحابه إنه لا يفتكر بالعودة إلى أميركا؛ لأنه ذو مال كثير وخبرة وافرة بالتجارة وبلاده مفتوحة جديدًا، فالمستقبل أمامه فاتح باب النجاح الكثير.
ووصل حنَّا مرقص إلى البلاد، فكتب إلى صديق له يقول إنه لا يفتكر بالبقاء أكثر مما يفتكر بالرجوع؛ فإن سوريا لم تأت على ذوقه، وقد كان ظنُّه أن البلاد تغيَّرت، ولكنها بالحقيقة لم تتغير؛ فإن الخيَّاطين لا يعرفون التفصيل والخياطة على الأزياء المستحدثة، والبيوت خالية من الحمامات، وإذا أراد أن يحلق كل يوم يقضي بالأقل ساعتين لبينما يسخن الماء بالقدر، وإذا أراد التنزُّه في المتنزَّهات لا يجد مقاعد تحمله وتقيه من الرطوبة؛ وبالتالي لاح له أن ميدان التجارة ضيق في الوطن؛ لأن الناس هناك يتكلَّمون بالغروش أما في أميركا فيتكلمون بالريالات.
هنا حنَّا مرقص كان يرى نفسه مقيَّدًا بسلاسل مدنية أميركا، فلما صار في سوريا ورأى نفسه حرًّا من تلك القيود تمنَّى الرجوع إلى أميركا؛ لأن أميركا الله يعمرها بلاد تُسكن، وهي بلاد الناس كما يقولون عنها.
وعاد حنَّا مرقص إلى نيويورك «رافعًا العشرة» عن الفكر يومًا بالرجوع إلى الوطن، قائلًا في نفسه إن الأحسن للإنسان أن يجعل أميركا وطنه، ويقف عند ذلك الحد.
وما كاد يقضي الشهر في أميركا حتى عاد تمنِّي حنا مرقص إلى الحرية النفسية التي يتمتع بها في بلاده، ولكنه صار في هذه المرة يحمل نفسه على كُرْهِ هذه الأمنية؛ لأن ماله الذي جمعه بعرق جبينه في السنوات العديدة كاد يرسف في آخر جيبه، ولم يعد يدري ماذا يحبُّ: أميركا وفيها الخياطون ذوو الاختراع، وفيها المتنزَّهات ذات المقاعد والمناظر البديعة، وفيها الحمامات والماء الحار للحلاقة كل يوم مما يضنك المرء، ويجعله مقيَّدًا بسلاسل قوية من العادات التي اصطلح عليها البشر، أم يحب وطنه وليس فيه هذا القيود، وهي مما تلزم البشر في معيشتهم!
وقبل أن ينهي الصراع بين هذين العاملين المتناقضين: عامل كره أميركا لقيودها، وكره سوريا لعدم وجود مثل تلك القيود الأميركية تناول جريدة السائح، فطالع فيها قصيدة مخائيل نعيمة «حبل التمنِّي»، وأعاد قراءتها مرَّات ليتشبَّع من معانيها، فغالب نفسه بهذا الشطر:
فغلبها نوعًا قائلًا: مع السوق سوقي والسلام!