المتشائم
ما كنت أعهد فيه الشر والميل إلى تضليل الناس؛ بل عرفت صديقي إلياس البقاعي شابًّا مهذَّبًا رقيق العواطف محبًّا، يدأب في عمله ويغار على مصالح زبنه، ولكنه في الأيام الأخيرة انقلب بأخلاقه وطباعه، فصار إذا سأله ضال: أين الطريق إلى الشَّمال؟ يدله على الجنوب غير مبالٍ بعقبى، ولا آبه بجناية يرتكبها بتضليل الآخرين.
جلست إلى جانبه في أحد الأيام وسألته لماذا تبدَّل بأخلاقه حتى سوَّد الناس صحيفته؟ فرأيته يهزُّ رأسه، عاضًّا شفته السفلى عضًّا قويًّا، وما تكلم غير هذه العبارة جوابًا: «آليت ألا أهدي ضالًّا ما دام الضلال في البشر، وإذا رأيت أعمى له أمل بالنور أحمل على أمله حتى لا يُبصِر لا في الحقيقة ولا في الخيال.»
قلت: إلياس، إلياس ما الذي صار لك؟ قل لي ما أنت بذاك الذي أعرفه بإلياس البقاعي، أنت رجل غيره، ماذا دهاك؟
أجاب: «أتظنُّ أن أتعابي سنين طوالًا غيَّرتني، لا والذي خلق المكاسب والمخاسر، إن ما غيَّرني من إلياس البقاعي الذي تعرفه إلى إلياس البقاعي الذي تراه الآن لهو التطفُّل مني على إنارة سبل الضالِّين؛ فإن التائه في سبيل حياته لأضمن حالًا من الذي تفتح عينه العمياء فيرى الكون كله تحت باصرته، ويجعل عينه فمًا واسعًا يريد ابتلاع ما يراه.»
قال هذا وتنهَّد، ثمَّ قصَّ عليَّ حكايته، وكيف آلَ إليه الحال.
تعلم أني شغلت في الولايات المتحدة خمس عشرة سنة أحمل صناديق بضاعتي فأبيعها على تُجَّارِنَا في الداخلية، وقد جعلت شعاري في مطلع تجارتي حتى آخرها أن أكون مخلصًا لزبائني نصوحًا لهم؛ لأضمن حسن حالهم المعقود بنجاحي، وكان لي زبون في بلدة صغيرة في الداخلية أبيعه من بضاعتي كما أريد، وأمحضه النصح في المشترى والمبيع كأنه شريكي في العمل. وفي ذات يوم دخلت محله في أحد الأسفار فرأيت محلَّه مزدحمًا بالصناديق المكردسة هنا وهناك، وبالبضائع المبعثرة بلا ترتيب ولا نظام؛ يبيع زبائنه وفي فيه سيكار طويل، فقلت في نفسي: «غريب واللهِ كيف أنه يُرزق مثل هذا الزبون، وهو على ما هو عليه من عدم الترتيب!»
وفي تلك الساعة وأنا أنتظره ريثما يفرغ من سيدة كانت تساومه على قميص؛ لأجلس وإيَّاه وأبيعه قائمة بضاعةٍ حرَّك أفكاري سيكاره، فقلت في نفسي: يجب أن أسأل هذا الرجل إذا كان محلُّه مضمونًا في شركات السوكرتاه؛ فإن حاله عرضة للحرائق، فلأسألنه.
وهكذا كان، فعندما جلست أسأله عمَّا هو بحاجة إليه من البضائع سألته: أأنت مسوكر؟ فأجابني: «نعم مسوكر عند هذا.» قال هذا وأشار بيده إلى ناحية في محله، فلم أفهم معنى إشارته، ولكنني ظننت أنه أومأ إلى روزنامة معلَّقة على الحائط، وفيها اسم الذي ضمن له المحل؛ ولهذا ملت عن زيادة الاستفهام، واستأنفت الشغل وبيدي قلمي أكتب به مطلوبه من الأصناف.
وفي منتصف العمل عاودتني فكرة الضمانة، فكررت عليه سؤالي فقلت له: «قلت لي إن محلك مضمون، ولكنني لم أفهم عند أية شركة من شركات الضمانة.» فأعاد إليَّ إشارته بإصبعه وقال: «قلت لك عند هذا، هذا هذا، ألا تراه؟!»
أمَّا أنا ففرست على خط مستقيم من إصبعه الدال فلم أجد سوى صورة، ولكنني خجلت منه فلم أستوضحه أكثر ومضيت في شغلي، ولما أنهيت كتابة القائمة وقد بلغت نحو خمسة آلاف ريال طويت القائمة وخبأت بضاعتي، ووقفت مترددًا محتارًا بأمري كأني كنت ناسيًا شيئًا، ولم أكن بالناسي؛ ولهذا ظللت واقفًا موجمًا، وزبوني ينتظرني لأصافحه وأودِّعه، وأذهب من محلِّه.
عندئذٍ قلت له: اسمح لي قبل أن أودِّعك أن أنقل اسم الشركة التي ضمنت لك محلك؛ لأن ذلك لازم لدفاتري، فكل زبون يجب أن أعرف الشركات التي تضمن محله.
فضحك مني وقال: «عجيب أمرك، قلت لك: عند هذا، عند هذا، ألا تراه؟»
فقلت: لا أرى غير صورة.
فقال: «نعم، صورة، ولكنها أيقونة مار أنطونيوس شفيع كنيستنا في الضيعة.»
هنا ابتدأت رواية مضحكة، فسري عني قليلًا، وضحكت أولًا ضحكة انفتح لها قلبي لسذاجة زبوني، وبعدئذٍ سألته بلهجة ازدراء خفيٍّ: ألعلَّ مار أنطونيوس عنده شركة للسوكرتاه، وكم سعر الألف عنده؟
فقال: «كان الناس يشورون عليَّ بالسوكرتاه، وأنا أؤجل الأمر حتى لم يعد لي من حجة عليهم بالإمهال، وكل الوكلاء الذين قصدوني للسوكرتاه طلبوا مني مائة وخمسين ريالًا، فقلت في نفسي أرسل مقابل ذلك مائة ريال لمار أنطونيوس كل سنة، وهو يحمي محلي أحسن من أي إنسان؛ لأن عجائبه مشهورة وهو حامي ضيعتنا، فأوفر خمسين ريالًا وأنفع بلدي وقديسها.»
فقلت: ولكن إذا احترق محلك بماذا يعوض عليك مار أنطونيوس، إنه يأخذ منك كل سنة مائة ريال، ولا يعطيك سنتًا واحدًا إذا احترق محلك لا سمح الله، أمَّا الشركات فإنها تأخذ منك مائة وخمسين ريالًا، ولكنها تدفع لك كل سنت تخسره إذا احترق المحل.
وجلست ساعتين بكاملهما أنير بصيرة ذلك الزبون حتى أفهمته أن المسألة ليست للحماية، فمار أنطونيوس عجائبي وعظيم، ولكنه لا يعوض على الخاسرين، أمَّا الشركات فإنها لا تحمي ولكنها تضمن الخسارة، ولم أذهب من عنده حتى أفهمته كل شيء بهذا الصدد، وأقنعته أن يستدعي أحد وكلاء شركة الضمان ليضمن محله.
في تلك السنة احترق محل زبوني المسكين، وبعد أسبوع وردني منه خبر أن الشركة أعاضت عليه الخسارة بعشرين ألف ريال، وقد أرسل إليَّ داخل الرسالة حوالة على البنك بكل حسابي معه. فكتبت أعلمه أن يعتبر بما جرى، وأن يفتكر قبل أن ينشئ محله الثاني بأمر الضمانة، فلولا مراحم الله التي ساقتني إليه تلك المرة لأنير بصيرته وأحول السوكرتاه من مار أنطونيوس إلى إحدى الشركات لكان حضرته في هذا الوجود وأتعابه سنين عديدة في ذمة ذلك القديس.
بعد سنة واحدة احترق محله ثانية، واستدعيت إلى بلده من الحكومة كأحد الدائنين الكبار، وقد كان لي بذمته اثنا عشر ألف ريال، وهناك مكثت يومين، ومن هناك عدت إلى نيويورك كما ذهبت، وزبوني في السجن بدعوى إحراقه محله عمدًا؛ فقد عثر البوليس على شمعة مخصوصة لإيقاد النار في المحل، ولم تأتِ عربات الإطفاء حتى كانت النار قد التهمت الأخضر واليابس، وفي الاستنطاق أقر أنه أوقد النار ليأخذ ألوف الريالات من شركات السوكرتاه، وقد أخبر المحكمة أني أنا سببه؛ ولهذا دعتني للشهادة، فأخبرت القاضي بالقصة من أولها إلى آخرها، وما آخرها إلا عودتي من تلك البلدة خاسرًا أرباحي وأتعابي خمس عشرة سنة عند ذلك الزبون، وهذا ثمن فتحي باصرة أعمى، وإرشادي ضالًّا، وقيادتي ساذجًا إلى طريق العرفان.
وقال لي صديقي إلياس البقاعي ختامًا لحكايته التي أثَّرت بي كثيرًا: «أوَتلومني لماذا انقلبت من إلياس تعرفه إلى إلياس تراه وتسمع به في هذا الحين يضل الناس ويعمِّقهم في ضلالهم!
يا ليته بقي مسوكرًا عند مار أنطونيوس، بل يا ليتني لم أفتح بصيرته وأرشده إلى الضمانة الحقيقية التي علمته ارتكاب الجرائم.»