مدرسة الغربة
«أهل بلادنا مساكين، متأخِّرون بكل شيء، ولولا الغربة لكانوا لا يفرقون عن أهل أفريقيا، الغربة علَّمت أكثرهم وفتحت بصائرهم، فصاروا يعرفون ما هي الدنيا.»
هذه بعض عبارة طويلة قالها إلياس شدراوي في حضرة جمهور من المواطنين في إحدى قهوات السوريين، وكان الحديث عن تذكارات عنَّت لبعضهم في الوطن، ولما أراد واحد منهم أن يرد عليه قائلًا إنه في الماضي كانت حال السوريين في سوريا كما ذكر، ولكن منذ عشرين سنة — أي بعد أن هاجر إلياس شدراوي من سوريا — امتلأت بالمدارس، فصار الأهلون هناك يعرفون كل شيء، وهم لذكائهم الفطري صاروا أبرع من الأوروبيين والأميركان بكل شأن.
أمَّا إلياس الشدراوي فلم يقتنع بهذا الرد بل نشل النرييج من فمه، فخال الحاضرون أنه سلَّ من فمه أسنانه وقال: «في بلادنا لا يزالون يعتقدون أن شوارع أميركا مرصوفة بالزجاج، وأن المرء يستطيع أن يحفر أينما كان فيجد الذهب بكثرة، وكثيرًا ما نسمع أنهم يعتقدون بغرائب الأمور في أميركا، ونحن قد صار لنا عشرات السنين فيها لم نر أثرًا لذلك.»
أمَّا الذي فتح باب الاعتراض على حديث إلياس الشدراوي؛ فقد أقفله بنهوضه ومغادرته الجماعة بعد أن قال: «هذا كله مضى عهده من زمان، والآن حانت ساعة الصلاة لقدَّاس الأحد، نهاركم سعيد جميعًا.»
ذهب المعترض تاركًا في القوم حديثًا عن سوريا والسوريين لا يلتئم، وكلما أراد أحدهم جمعه في نقطة يظهر غيره فيشعِّبه إلى جهات عديدة حتى ضاعت الطاسة بينهم، وبعد ساعتين تمامًا — أي قرب الظهر — كان الحديث قد انتقل منهم من معارف السوريين بالمقابلة بينها وبين معارف المهاجرين إلى مصر والمصريين والحكومة الإنكليزية وحادثة عرابي وشئون عديدة، والحديث كما يقولون شجون.
لا أزال أذكر ذلك الاجتماع الوطني، وقد مضى عليه أكثر من عشر سنوات في مدينة بعيدة عن نيويورك، وقد أوقعتني رحلاتي في تلك القهوة صبيحة أحد من الآحاد، فجلست إلى طاولة أمتص القهوة، وأسمع من بعيد حديث القوم لأقتل الوقت الفارغ، ولمَّا لم أكن أعرف أحدًا منهم جلست غير مشترك بالحديث أتسلَّى بما أسمع إلَّا أن تفرُّع الطرق التي سلكوها في أحاديثهم، قاد عيني إلى النعاس فصرت أكبو دقيقة ولما يطرق رأسي بالحائط أصحو، ثمَّ يعود بي حديثهم إلى طرقة ثانية، وكثيرًا ما هممت بالرحيل، ولكني لم أجد فيَّ قوة كافية على النهوض؛ وبالتالي كنت غريبًا في تلك المدينة، وليس لي من مكان أذهب إليه إلا تلك القهوة والنُّزُل الذي نزلت فيه؛ ولهذا وقعت إرادتي تحت كابوس النُّعاس فلبثت كمن في حلم مزعج، يشاهد أدوارًا غريبة، فيقول في نفسه: قد أكون في حلم. فيجهد قريحته في معرفة ما إذا كان في حلم أم في يقظة.
وفيما أنا بمثل ما ذكرت من الحالات إذا بيد هزَّت كتفي، فانتبهت مذعورًا، وإذا بصديقٍ تعرَّفت عليه من سفرة ماضية، فقال لي: «أتنام في الصباح، اصح يا فلان، واخلط نفسك بين الإخوان فتتسلى، وتُقصي عنك النعاس.»
قال هذا وتقدم نحوي فوضع فمه على أذني، وقال لي: «ها هنا رجل غريب في أطواره يدَّعي معرفة كل شيء، وهو يجهل القراءة والكتابة، وما أحاديثه وتدخله في كل موضوع إلا فكاهة لمن يسمع، فانتبه قليلًا؛ فإني سأثير ثائر أخلاقه، وأجعله يدخل موضوعًا غريبًا، مؤكِّدًا أنك ستنشق من الضحك.»
وصاح صديقي الذي استأنست به كثيرًا بالخادم، طالبًا فنجانَيْ قهوة لي وله، وكنت فعلًا قد انتبهت وطار من عيني كل أثرٍ للنعاس، أمَّا صديقي فدخل في حديثِ القوم قائلًا: «بأي شيء تتحدَّثون؟»، فأجابه إلياس شدراوي: «كان الحديث عندما دخلت عن الحكومة الإنكليزية في مصر و«داعيك» كنت أحكي لهم عمَّا اختبرته بنفسي في ذلك القطر بعد حادثة عرابي؛ فإن الإنكليز استعملوا الشدة الهائلة فيه حتى استطاعوا أن يجعلوه جنة عدن.»
ومن الغرائب أن هذا الرجل كان يحكي بلغة سوريا عندما ابتدأ قبل أن نعست؛ لأن الكلام كان عن سوريا، وأمَّا الآن فلما صار الكلام عن مصر صار يتكلم بلغة المصريين ولهجتهم؛ ولهذا أنصتُّ إلى حديثه أيَّما إنصات لأعرف كيف ينتهي وبأية اللغات، زد على ذلك ما أخبرني عنه صديقي من أنه آية من آيات الدهر بالتحشُّر في كل شأن وموضوع.
أمَّا خطابه فكان طويلًا جدًّا، وقد لذَّ لي تعرُّجات حديثه؛ فطورًا كان يلمُّ بسياسة مصر فينتهي بالفراعنة القدماء، وطورًا يتجه نحو الاحتلال الإنكليزي فيذيِّله بحادثة مكتبة الإسكندرية على عهد عمر بن الخطاب، وكل ذلك بلغة المصريين ولهجتهم كأنه خُلق في مصر وجاء منها في ذلك اليوم. ولا أطيل على القارئ فأذكر كل ما سمعت مما كان يُضحك كثيرًا، بل أقتصر على آخر حكاية أوردها المذكور قال: «في مصر يدفع كل محكوم عليه بالشنق جنيهًا مصريًّا ثمن الحبل، ولا قوة تحت الشمس تخلِّصه من هذه الضريبة.»
ضريبة ما أنزل الله بها من سلطان، ولكن إلياس شدراوي يحكي للقوم اختباراته في تلك البلاد، وأنا ككل من كان حاضرًا تنسَّمت هواء مصر وأنا في الباخرة، عندما رست في مياه الإسكندرية أثناء قدومي إلى هذه البلاد؛ ولهذا سكتُّ متعجِّبًا إلا أن أحد القوم لم تهضم معدته هذه القصة، فسأل المتكلم بملء العجب وقال: «ولكن إذا لم يكن مع المحكوم عليه ثمن الحبل فماذا يصنعون به؟»، أمَّا إلياس شدراوي فأجابه في الحال بلغة أهل مصر: «لا يشنقوهوش.»
ولا تسل أيها القارئ كيف انتهت الجلسة؛ فإن الضحك كاد يُحْدِثُ شللًا في أحناك كل سامع، ومن الجملة أنا وصديقي، ولما أفقت وأفاقوا وضعت يدي على رأسي كمن كان في عالم الغيبوبة، وقلت لصديقي أن يأذن لي بالانصراف إلى النزل، فرافقني إليه وعلى الطريق أخبرته أن أول ما سمعت إلياس شدراوي في أول التئام الجلسة كان قوله عن جهل السوريين الفاضح بما يعتقدون وجوده في أميركا، وأنه كان يبرهن لسامعيه أن الغربة هي التي أنارت بصائر البعض منهم، وكيف انتهى في ذكر حكايته الأخيرة، مدَّعيًا أنها من اختباراته الشخصية.
قلت هذا وودَّعت الصديق صاعدًا سُلَّمَ النزل، أمَّا هو فأجابني: «نشكر الله أن حكايته كانت من اختباره الشخصي، فلو أنها بالسمع كما يسمع السوريون في سوريا عن أمجاد أميركا ويبالغون فيها لكان المحكوم عليه بالإعدام في مصر يشنق الخديوي مكانه إذا أبى دفع ثمن الحبل.»