في الدرجة الثانية
كثيرون من الناس لا يعرفون لماذا عيسى الباشق لم ينجح في هذه البلاد مع أنه هاجر سوريا وهو في التاسعة عشرة من عمره، شابٌّ قويُّ الإرادة جميل الطلعة، ذكي الخاطر متوقِّد الذهن، يُحسن ثلاث لغات قراءةً وكتابة، وقد كان الأول من بني جنسه الذين وصلوا إلى أميركا بالدرجة الثالثة من البواخر، أمَّا هو فقد ركب الدرجة الثانية ولبس البرنيطة منذ ودَّع أهله في بيروت إلى الباخرة.
والحقُّ أن نيويورك شاهدت بعيسى الباشق أول شابٍّ سوريٍّ عليه مسحة التمدُّن الظاهري، وفيه كنه الأدب الداخلي، ولكنه — يا للأسف — هو اليوم ابن خمسين سنة ولا يزال في الحالة التي قدم بها من بلاده منذ ثلاثين سنة ونيف.
يعزو الناس عدم نجاح المذكور إلى أمورٍ كثيرة، ولكنها عند العارفين ليست بالأسباب الحقيقية التي دعت إلى فشله.
سَلْهُ اليوم يجبك أنه لم يفشل، لا بل العكس قد نجح نجاحًا باهرًا، ولكنه لم يأكل ثمار نجاحه؛ إذ سرقت منه تلك الأثمار أيادي طمَّاعة.
يقول إنه كان سببًا لنجاح فلان الفلاني وفليتان الفليتاني وغيره. أولئك اليوم من كبار التجَّار، أمَّا هو فمن الناس الزاهدين بالدنيا والآخرة، لا يهمه من أمر الناس شيء، كأنه من الناس بغير رُوح، وكأنه ناسٍ أنه من الناس بطرق معاملاته.
وحقيقة الحال أنه في اليوم الذي وصل به عيسى إلى نيويورك شمَّر عن ساعد الجد وطفق يقرن قوة إرادته إلى ذكائه واجتهاده، يعمل في النهار وبعض الليل؛ ليحصل ما أمَّله من النجاح في بلاد النجاح، ولكنه كان يخفق في حين أن أعماله تزهر وتثمر فتتناول أثمارها أيدي الغير، ويبقى المسكين على الحصيرة لا طويلة ولا قصيرة.
بعد وصوله بأيام جاءه دعيبس بن الأسمر من بلده، وعرض عليه شأنًا إذا سارا فيه يقتادان به الثروة الكبيرة في المستقبل غير البعيد، دعيبس رجل قضى بضع سنوات يبيع المسابح والصور المقدَّسة في نيويورك وما حولها، وقد جمع بصنعته مبلغًا كبيرًا من المال بالربح والتقتير. هذا عرض على عيسى أن يفتحَا محلًّا تجاريًّا في نيويورك يضع دعيبس رأس المال وعيسى يبذل خبرته، وفي آخر العام تشطر الأرباح بينهما، وهي فكرة حسنة دخلت لساعتها إلى عقل عيسى، فأبرما الشركة، وما هي إلا أيام قلائل حتى باشرا العمل تحت اسم د. أسمر وشركاه.
حاول عيسى أن يدحش اسمه في اسم الشركة، ولكنه لم يستطع لعناد شريكه، وخاف أن تنفرط الفكرة، فرضي قانعًا بالأرباح في المستقبل عن أن يشهر اسمه، وعبثًا جرَّب أن يقنع شريكه أن العمل والخبرة مثل رأس المال، وأن الربح لا يأتي به رأس المال وحده إذا ما قُرِن بالعمل والخبرة، ولكن عيسى أخيرًا قال: «إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون.»
تأسس محل د. أسمر وشركاه على أساس مكين، وقد بذل مديره وأحد أعضائه عيسى الباشق كل ما أعطاه الله من المواهب العقلية والاجتهاد النفسي ليُنجح الشركة، ويجعلها من أكبر المحالِّ التجارية في القريب العاجل، أمَّا شريكه فكان يأمل أن يبلع نيويورك دفعة واحدة دون أن يصرف في سبيل بلعته ريالًا واحدًا. وهذا أول موضوع للخلاف بين الشريكين؛ لأن عيسى كان يفتكر أن يؤسِّس المحل في السنة الأولى على دعائم الثقة والإعلان؛ ولهذا لم يكن ليبخل في أمرٍ من الأمور يقتضي فيه البذل، أمَّا شريكه فكان يقف عثرة في سبيله، غير مقتنع ببرهان عيسى؛ لأن البذل التجاري في اعتقاده ليس إلا تبذيرًا، وأن الربح في الاقتصاد، فكل سنت توفِّره تربحه كما يقول المثل الأميركي.
وهكذا قضى دعيبس معظم السنة الأولى مجتهدًا عاملًا، باذلًا قصاراه مرتِّقًا ما كان يفتقه شريكه بشُحِّه وبخله، وكثيرًا ما كان يبذل من جيبه الخاص على أمور تخصُّ المحل؛ لئلا يثير ثائر شريكه حتى مضت السنة الأولى، فكان مجموع ما صرفه موازيًا حصَّته في الأرباح، أمَّا أرباح دعيبس فكانت إملاء من كوز الأرملة عذراء طاهرة لم تمسَّها يد، وقد ذُهِل شريكه عيسى أيَّما ذهول لهذا الأمر، ولما سأله من أين كان يصرف على نفسه، أجابه: أنه كان «يمضيها هنا وهناك.»
في رأس السنة الجديدة جاء دعيبس إلى مكتب عيسى، وقال إنه يفتكر بحلِّ الشركة، فواحد منهما يشتري حصة الثاني.
وما كان عيسى يعلم السبب الداعي شريكه إلى حلِّ الشركة بالرغم من نجاحها في بدء تأسيسها ونجاح شريكه بالربح الذي ضمَّه إلى رأس ماله الخاص، مع أنه هو المسكين نفسه اشتغل وشقي وبذل كل ما كان بوسعه على أمل أن تزداد الأرباح في السنوات المقبلة أضعافًا، فيكون له رأس مال مذخور.
ومن المضحكات أن عيسى أعيى عن إقناع شريكه أن تظلَّ الشركة، وأن انحلالها بعد سنة يقلل الثقة بها، وأن بقاءها أربح للاثنين، وأن المأمول أن تزداد أرباحهما أضعافًا في السنين القادمة؛ لأن ما مضى لا يُدعى زمن تجارة وربح بل زمن تأسيس ومباشرة، وعندما قال له: إذا كان لا بُدَّ من القسمة، فهو يشتري المحل، أجابه دعيبس بقوله: مليح، أعطني ثمن حصَّتي!
ومن أين لعيسى ثمن حصة شريكه؟ ولكن عيسى نفسه فهِم معنى القسمة التي يريدها شريكه؛ ولهذا ضحك ضحكة صفراوية ممزوجة بألمٍ ويأسٍ وقال له: أمَّا أنا، فإذا بعتك حصَّتي فماذا تدفع لي عنها؟
فأجابه: أدفع لك بقدر ما لك في الدفتر وحبة مسك.
فقال عيسى: هذا في الشرع عدل، فإذن أعطني مالي في الدفتر كفاية تبقى حبة المسك، فهذه من فضلك وكرم سجاياك، وأنا ممتنٌّ لك من هذا السخاء، وتناول عيسى الدفتر فضرب على اسمه وأخذ قبَّعته، وسار نحو الباب، وقبل أن يخرج تطلَّع إلى وجه شريكه زاوِرًا وقال له: خاطرك يا دعيبس؛ فقد انتهى ما بيننا الآن، وأمَّا حبة المسك فلا حاجة لي بها، فخلِّها في شواربك.
في اليوم التالي كان محل د. أسمر وشركاه فاتحًا بابه كالعادة، وعوضًا عن مدبِّره وأحد أعضائه عيسى الباشق كان جالسًا فتًى يشتغل في الدفاتر بأجرة ثمانية ريالات في الأسبوع.
ولماذا يشرك دعيبس غيره على ربح ماله في حين أنه يستطيع أن يستأجر فتًى بأجرة زهيدة يقضي محل الشريك.
أمَّا عيسى فاتَّفق مع محل سوري آخر يمثله بالمساطر في الداخلية، فأظهر — بادئ ذي بدء — قوة غريبة في كسب الزبائن لمحله الجديد، حتى صارت مداخيل المحل خمسة أضعاف الماضي، ولكنه في آخر السنة عاد إلى نيويورك للحساب فرحًا بنجاحه، وآملًا بزيادة التقدم في السنوات الآتية؛ لأنه اعتبر تلك السنة زمنًا للتأسيس، فكان يبني آماله للغد، وعندما جلس «السلزمان» مع «الباظ» للحساب رأى منه كل تساهل وغيرة، وفي الحال رصد صاحب المحل حساب عيسى بحوالي مالية قدرها ثلاثمائة ريال، مع قوله له إنه يعزُّ عليه كثيرًا أن يصرفه، ولكنه مدفوع لذلك بعامل الخوف من المستقبل؛ ولهذا يرى أن يخفِّض المصاريف دفعًا للمحاذير.
وعبثًا حاول عيسى إقناع «باظه» بأن خوفه لا محلَّ له، وأن المستقبل يبسم لهما عن نجاح أكيد، ولما أعيى تناول برنيطته، واستلم الباب يبحث له عن عمل في محل آخر.
واتفق عيسى اتفاقات عديدة مثل اتفاقه الآنف مع بيوتات سورية عديدة، كان في نهاية كل سنة يزيد في أرباح المحل، وهو يخرج قانعًا بالسلامة حتى ملَّ العمل، ويئس من النجاح، فلاذ إلى المُسكِرات والقمار، وهو لا يزال يعمل يومًا فيكسل شهرًا إلى هذا الحين، والناس يتعجَّبون لحاله، ويسندون فشله إلى أمور هو بعيد عنها بُعد الأرض عن السماء.
صادفته مرة في إحدى القهاوي، فملت إليه أحادثه في أمور هذه النزالة، ففتح إليَّ جعبة أسراره وقال: يظنني الناس غير ناجح. ولعمري، إني أسست في السنة الأولى محل د. أسمر وشركاه فأكل ثمرة أتعابي فتًى استأجره دعيبس بثمانية ريالات في الأسبوع؛ إذ لم يمضِ عليه إلا أشهر قليلة حتى سرق المحل، وزوَّر على صاحبه حوالات بأكثر من نصف رأس المال، فاضْطُرَّ المحل إلى الإفلاس، وأمَّا الفتى فقد صرف المال على البنات، وبعدما قضى سنتين في الحبس صادفته في الشارع، فأقر لي أنه سرق مضطرًّا؛ لأن المعاش لم يكن وافيًا.
وقال لي أيضًا: إن المحل الثاني الذي كسب له زبائن عديدين اضْطُرَّ إلى الإفلاس بعد سنتين؛ لأن زوبعة مالية هبَّت في أسواق أميركا، فأثَّرت عليه لفرار أكثر الزبائن بالديون التي عليهم.
وعدَّ أمامي محالَّ عديدة، قال إنه وضع أساسها التجاري على صخر، فكان لا يكاد ينهي الأساس حتى يُرغم على الترك، وما كان يغضبه بالأكثر أنهم لا يبنون على تلك الأسس القويمة إلا بنايات من لبِن بدل الحجر.
مسكين عيسى الباشق! الناس تظنُّ أنه سكِّير ومقامر وكسلان، ويقولون عنه: «القامة مصقولة والجيبة ما فيها فولة.» والحقيقة أنه رجل طبخ فأكل غيره، وزرع فحصد سواه، وهو يقول إن أميركا ليست للذين يهاجرون إليها بالدرجة الثانية أو الأولى، ولا الذين يعرفون القراءة والكتابة واللغات، إنها لغيرهم؛ للتجار بالصدفة والقدر!