خبزك بعرق جبينك
ثوماس كاربنتر أُمِّيٌّ، يجهل القراءة والكتابة بأية لغة من لغات العالم، ولكنه بالرغم من ذلك يشتري جريدة من جرائد البلاد صباحًا لدى ذهابه إلى عمله، ويطويها طيَّات فيدحشها في جيبه ويسير إلى عمله، وتبقى معه حتى يذهب إلى سريره للنوم؛ إذ ذاك يرمي بها إلى السلة أو من النافذة إلى الشارع.
وثوماس كاربنتر ليس بالإنكليزي الأصل ولا بالأميركي، بل هو سوري ابن سوريين من سلالة السوريين، ولكنه هكذا دعا نفسه بعد سنة من وجوده في أميركا، أمَّا اسمه الأصلي فكان طنوس نجار.
هاجر طنوس وهو في العشرين من عمره، وقد وضعته الأقدار في قرية من قرى ولاية فرمونت، وهو لا يزال هناك حتى هذه الساعة يشتغل بالبيع بالجزدان، وقد كان في السنوات الأولى يسترزق من عمله في أحد المصانع الحديدية.
في السنوات الأولى المذكورة إذ كان حضرته لا يزال طنوسًا ابن النجَّار، كان لا يريد أن يعرف من أميركا إلَّا سحب المصاري، فكلَّما توفَّر لديه كم ريال يذهب إلى سوري أخبر منه في ذلك البلد فيساعده على إرسال مبلغ من الريالات إلى أبويه، وظلَّ هذا دأبه يشتغل فيساعد ذويه حتى ملَّ العمل في المعمل؛ إذ كان يرى بعض باعة الجزدان تسوقهم الأسفار إلى ولاية فرمونت، فيحسدهم على معاشهم وحياتهم، فكان يرى نفسه أجيرًا وسِخ الثياب والهيئة أمام غناهم وحسن هندامهم، فلعبت برأسه سَوْرات الطموح إلى مصافِّهم، وظلَّ يعالج هذا الهم ويغالبه حتى فاز بما كان يتمنَّاه، فترك المعمل ومشاقَّه، غانمًا نحو مائتي ريال ليبدأ بالبيع، ويستلم معارج التقدم.
أول طموح طنوس نجار إلى الارتقاء كان بشيئين؛ أوَّلًا: تغيير اسمه، وثانيا: بمشترى طقم جديد من القدم إلى الرقبة.
ومن ذلك اليوم لفظ الطموح الخواجة طنوس نجار المستر ثوماس كاربنتر، وهو لا يزال كذلك إلى يومنا الحاضر.
وكتب مستر كاربنتر إلى أهله أنه تقدَّم في حياته، وأن الفابركة ليس منها مطمع، فالتجارة أربح له وأحسن لمستقبله، وأنه ابتدأ يتدرج بأدوارها، فهو قد ابتدأ يبيع بالجزدان، وإن شاء الله بعد مدة وجيزة يصير صاحب مخزن.
وفي حاشية على زاوية الرسالة، أملى حضرته على الذي كان يكتب له رسالته أن اسمه المعروف من الآن فصاعدًا صار ثوماس كاربنتر.
لما وصل كتاب هذا المهاجر إلى أهله فرحوا لنجاحه أيَّما فرح! ولكنهم كانوا يبالغون بالإخبار عنه حتى إن أمه كانت تحمل تغيير اسمه من عربي إلى إنكليزي إلى أن نجلها صار أميركيًّا بكل معاني الكلمة. ولكنهم ما لبثوا أن اغتمُّوا لنجاحه؛ لأن ما اعتادوه منه بإرسال دراهم إليهم كل وهلة قد انقطع عنهم، فكانوا يظنُّون أن ذلك طبيعي لتأسيسه تجارته، فكانت رسائل أبيه إليه تحمل شيئًا من الشكوى للحالة التي يعانيها بسبب قلة ذات اليد، فكان يكثر من الأدعية بتوفيقه بأن يمسك التراب فينقلب إلى ذهب، ثمَّ يسأل الله أن يدبَّ الحنوُّ في قلبه؛ لئلا ينسى أبويه الذين ما لهما غيره من بعد الله تعالى.
كانت المهنة الجديدة التي ابتدأ بها المستر كاربنتر شاقة عليه بادئ ذي بدء؛ فإن الأيام الأولى لم تُدِرَّ عليه ربحًا البتَّة؛ ولهذا كانت العوامل العديدة تتنازعه أيعود إلى الفابركة التي ربحه مسوكر فيها، أم يظلُّ يمرِّن نفسه على أساليب البيع بالرغم من أنه لم «يسنس» في الأيام الأولى؟
إلا أنه لا بُدَّ للمسافر من الوصول إلى محطة. فبيعة أولى جاءته بربح كام ريال، وهذا ما شجَّعه على المثابرة، فتلتها ثانية وثالثة، وصار له زبائن يعرفهم ويعرفونه، وصار يعرف الأصناف الأكثر رواجًا من غيرها، وطلب السعر الغالي ليحصل على الربح القليل إلى ما هنالك.
ولا حاجة إلى القول إن أرباح المستر كاربنتر كانت أكثر من الأجرة التي كان يتناولها في الفابركة، إلا أنه كان يشعر أن مصاري الفابركة فيها بركة أكثر، وكان يحسُّ أن أرباح الجزدان تطير من حيث لا يدري؛ لأن البيع يحتاج إلى لياقة وحسن هندام وهدايا للصانعات وغير ذلك كثير، ومع هذا ظلَّ بمهنته لأنه اعتادها وأحبَّها، ولم يعد مجبورًا على سماع تنبيه الساعة الدقَّاقة عند الساعة الخامسة صباحًا، بل صار ينهض من النوم ضُحى كل يوم، وإذا كان الطقس رديئًا كان يبقى في غرفته متكاسِلًا، فتارةً كان يقوِّم بضائعه ويعدُّ أرباحه، وتارة يخاطب بالتلفون بعض زبائنه فيبرم معهم مواعيد لعرض بضائعه عليهم.
في السنوات الأولى — بارك الله بها — كانت رسائل طنوس نجار تذهب بكل بوسطة إلى أهله، أمَّا بعده فصار ثوماس كاربنتر يجيب على عشر رسائل من أبيه دفعة واحدة، معتذرًا أنه يجهل الكتابة، وليس من يكتب له رسالته إلا كل مدة، وفي رسائله الأولى كانت الحوالات المالية بالكميات الصغيرة متتابعة، أمَّا بعدها فصارت الحوالات قليلة جدًّا ونادرة.
في سنوات النكبة التي حلَّت على سوريا كان المستر كاربنتر يعلِّل نفسه بالآمال، فكان يظُّن ألا مهربَ لعائلة أبيه من الفناء جوعًا، وقد توجَّع أوَّلًا لحالتهم، وتفطَّرت كبده إلا أن الأيام محت منه هذه العاطفة، ورسخ بعقله أن عائلته لا أمل لها بالخلاص؛ ولهذا كان يرقب نهاية الحرب وانفتاح الطريق؛ ليأخذ أول باخرة إلى لبنان فيلملم رزقات أبيه، ويضع الدار والأرض والكرم كلها باسمه، وهذه لولا المجاعة كان يجب أن تذهب مقسَّمة إلى ستة؛ لأنه واحد من ستة من أولاد أبيه.
بقي المستر كاربنتر على أمله أربع سنوات كاملة، وأبوه وأمه وأخوته الصغار كلهم في عداد الأموات بعقله. فكان إذا ذكر أحدهم يقول عنه: المرحوم فلان، كأنه تناول نعيهم تمامًا؛ ولهذا كان يقول في نفسه: الحيُّ أفضل من الميت. وهو يعني بالحي نفسه وبالميت كل واحدٍ من عائلته.
والسبب في أنه لا يزال مقيمًا في ولاية فرمونت إلى اليوم مع أن كثيرين من المهاجرين يُعَدُّون بالألوف ركبوا البحر إلى سوريا، وهو الذي كان يعلِّل نفسه بانتهاء الحرب ليأخذ أول باخرة تنقل ركَّابًا من نيويورك إلى سوريا عن طريق فرنسا أو إيطاليا أو إنكلترا هو أنه تناول بعد شهر من الهدنة كتابًا من المرحومين في عقله: أبيه، وأمه، وإخوته الصغار كلهم بُعثوا أحياءً من النكبة الدابرة، وفيه يخبره أبوه بأنهم باعوا كل شيء حتى أثاث البيت؛ ليحافظوا على حياتهم، ولو تأخَّر الحلفاء أسبوعًا واحدًا لذهبوا جميعًا ضحايا الجوع، ثمَّ إن أباه يشكر الله أن ابنه في أميركا؛ ولهذا تمكَّن أن يستدين من الجيران مبلغ مائة ليرة بعدما باع كل شيء على أمل أن ابنه طنوس في أميركا يفيها لدى فتح الطريق.
لا يزال إلى اليوم يشتغل باجتهاد ليساعد أهله كما كان يوم كان طنوسًا يعمل في الفابركة، وإذا ذُكر أمامه شيء عن النكبة في سوريا يكذِّبها حالًا، ويلعن الجرائد التي نقلت أنباء المجاعة إلى المهاجرين، مع إنها اختلاق محض؛ حتى إنه يوم اجتمع بصديق له في بلد آخر فعلم منه أنه مات من أهله عشرون شخصًا، وأن الضيعة فقدت تسعين بالمائة من سكَّانها حاول المستر كاربنتر إقناع صديقه أن كل ما بلغه كذب واختلاق من الجرائد بشهادة أن أهله هو نفسه لا يزالون أحياء.
ولما اجتمع بصديقٍ له آخر تناول حديثهما أخبار البلاد، فقال إنه مبسوط جدًّا أن أهله ظلُّوا أحياء، وإنه مستاءٌ جدًّا من صديقه الأول؛ لأنه ذاهب إلى لبنان ليرث أهله، كأنه طلبها في السماء فوجدها على الأرض أن يموت أهله ليرثهم، وليس من يقاسمه التركة من إخوانه، وأنهى حديثه بقوله: إن الإرث لا خير فيه، وإن على المرء أن يتمتع بما تجني يداه، فخير ما يأكله الإنسان ما كان معجونًا بعرق جبينه.