حبال الغسيل
نيويورك بلد عظيم، فيه من الخلائق ثلاثة أضعاف سورية من العريش إلى الطوروس، ومن البحر إلى الصحراء؛ ولهذا فمن اعتاد الفضاء لا يهنأ له عيش في قفص مدنية الجيل العشرين، وكثيرًا ما نَدِمَ كهول وشيوخ جيء بهم إلى نيويورك على قدومهم، فجلسوا إلى زاوية من زوايا البيوت يندبون الحظ، ويلعنون الساعة التي وصلوا بها إلى هذه البلاد، التي بالرغم من كل عظمة فيها لم تكُن عند آمالهم وتصوُّراتهم؛ فإنَّ رَكْبَ الحمار إلى الغدير والمشي إلى الكرم في وسط الغبار والطين والنوم على المرج في ساعة الظهر إبان تلهُّب أشعة الشمس الجماد أجمل في نفس ابن سوريا القديم من الوقوف في شارع برودواي، حيث تزدحم الكارات والسيارات والعربات، يلتفت المارُّون هنا وهناك ليروا لأنفسهم مخرجًا يعبِّرون منه إلى ناحيتهم المقصودة آمنين الأخطار. والكوخ المبني من أغصان الشجر القائم في الكَرْم أجمل للمنام على سرير في منزل لا تدخله أشعة الشمس دقيقة في السنة، والجلوس عند النافذة في البيت السوري حيث يمتد البصر إلى أميال فيشرف الناظر على الآكام والأودية أجمل من بناية، ولورِث ذات الطباق الثماني والخمسين. والقمباز الذي يستطيع معه لابسه أن يجلس به كيفما شاء القرفصاء والأربعاء، آنًا متكئًا وآخر متمددًا دون أن يشعر بشيء يشد على ساقيه وفخذيه وركبتيه أجمل وألطف من التقيُّد بسلاسل البنطلون.
ظلَّ العم بو غانم يراسل أولاده في نيويورك ملحًّا عليهم بأن يستقدموه إليهم، وهم بالرغم من توفيقهم بالأشغال لم يكونوا يرون مناسبة في استقدامه، لأملهم بالأوبة إلى الوطن حيث يجتمعون به بعدما يكونون قد جمعوا مبالغ من المال تكفيهم مئونة العناء في هذه الحياة، إلا أنهم لكثرة ما ألحَّ عليهم اتفقوا على استقدامه، قائلين إنهم يصرفون معه بعض السنين ثمَّ يئوبون كلهم إن لم تعجبه حياة أميركا.
كان العم بو غانم في الطريق إلى نيويورك يتأمل في عظمة أميركا كما ترسم إليه مخيلته حسبما كان يسمع، آملًا أن يصل إليها بالسلامة، وإذا مات بعد أسبوع لا يهمُّه؛ لأنه بذلك يكون قد حصل على أمنيته وزار الجنة. ولكنه منذ وصل ابتدأ يشعر بنفسه أنه كان مغرورًا بتصوراته التي لم يَرَ لها أثرًا في نيويورك، وما قطع بضعة أيام حتى صار يشعر بمَيْلٍ قوي عن عظمة أميركا وبشوقٍ عظيم إلى حالة قريته الخالية من كل أثر للمدنية.
ولم يكن العم بو غانم ليعمل عملًا في نيويورك؛ لأن أنجاله كانوا بغنًى عن عمل أبيهم الشيخ، وما كان همهم بعد وصوله إلا تكييف خاطره وراحته وتسليته عن تشوقاته إلى الوطن، فكلما وجد أحدهم فراغًا عنده صحب أباه إلى فرجة من فرج نيويورك ومتنزَّهاتها ومتاحفها العظيمة ليسلِّيه ويسري عنه، ظنًّا منه أن أباه لا بُدَّ أن يعجب بالعظمة والضخامة اللتين يشاهدهما، فيشغل بما يراه عقله وأفكاره، ولا يعود لذكرى القرية والوطن.
إلا أن العم بو غانم لم يكن ليرى في كل ما وقعت عليه عينه من العظائم الاختراعية والاصطناعية والتاريخية ما يدهشه، فكان أنه عندما مشى جسر بروكلن من الأول إلى الآخر ورأى البواخر العظيمة تمر تحته والقطارات المتتابعة والكارات المتلاصقة والعربات المتسارعة قال لرفيقه من أبنائه إن الجسر على الساقية في طريق الكرم أجمل من كل هذا، وإن غَرفة من مياه ذلك الجدول أفضل من كل ما في أميركا، وإن غسل الرجلين في تلك المياه الباردة ألذ للنفس من هذه الفخامة والعظمة. وعندما رجع به أحد أبنائه من برونكس بارك سأله رأيه في القطار العالي الذي كانا عائدين عليه، فقال ومعدته تصعد وتنزل، ورأسه دائخ، ونفسه زاهقة: إن الحمار الذي كان يركبه من الضيعة إلى غيرها أجمل في عينيه من كل ما في أميركا من القطارات والعربات.
وعندما ألحَّ عليه أبناؤه بأن يلبس القبة ويعقد الربطة ليذهبوا إلى الكنيسة، كاد العم المسكين يبكي من غيظه، ولم يبخل على الكنائس وأميركا بمسبَّاته وعلى حظِّه وغروره باللعنات والتجديفات، وقد قال لأولاده: ما هذه العيشة التي تعيشونها في هذه البلاد الجهنمية؟! هناك بلاد الراحة؛ لا ربطة في الرقبة، ولا عقدة على الخناق، ولا سلاسل على الوسط، ولا قيود في الرجلين. آه يا بلادي، لو يسمح لي الدهر أن أرجع وأعيش أسبوعًا واحدًا تحت سمائها ثمَّ أموت فتكون عيني شبعت ومتُّ مطمئنًّا!
ومضى على تذمرات العم بو غانم نحو من سنة، وكرهه لكل ما في أميركا يزداد يومًا عن يومٍ، وأبناؤه ينفقون ما استطاعوا لتسلية خاطره وتنزيهه عن الهموم المتلبِّدة في رأسه، ولكن عبثًا حاولوا نزع ما انطبع على صفحات دماغه من أن كل عظيم في أميركا ليس بشيءٍ عجيبٍ، وأن البساطة في سوريا وخلوَّها من آثار العظمة مما يجعلها جنة النعيم.
وقد صار العم بو غانم مضرب المثل، بأنه لم يجد في أميركا ما يعجبه، حتى صار إذا جلس بين قوم في سهرة أو زيارة يقضي الوقت بمناظرة الآخرين بأن كل شيء في بلادنا أجمل، وأن ما يقابله في هذه البلاد ليس بعجيب ولا عظيم؛ فبغل المكاري أحسن من قطار الجيل العشرين، وجسر الساقية أجمل من جسر بروكلن، وطريق الكرم أحلى من الأفنيو الخامس، ومرعى الماعز أظرف من السنترال بارك، والنومة تحت البلوطة أهنأ من النومة في القصر الأبيض، إلى ما هنالك من تعاليل رجل قطع الستين من عمره، وصارت بلاده — وإن تذمَّر منها حينًا — كل شيءٍ في حياته، بل هي حياته.
وبناءً على هذا صارت أحاديث العم بو غانم من المسلِّيَات للسامعين، تضحكهم تشابيهه بين حالة سوريا البسيطة ومعالم أميركا واختراعاتها، وقَطُّ لم يُقر لأميركا بشيءٍ من المعجِبات إلا مرة واحدة، وكان ذلك في سهرة حافلة، وفي آخرها بعدما فرغ من حطه من قدر كل اختراع وعظيم في أميركا، وإذ سأله أحد الحاضرين: أي يا حضرة العم بو غانم، بالله عليك قل لنا ألم تَرَ في كل أميركا ما يعجبك؟
فأجابه العم بو غانم وقد أغمض عينيه لحظة، ثمَّ فتحهما وهزَّ رأسه هزَّتين ببطء، وتنحنح قليلًا فسوَّى قعدته، وفتح فمه بالكلام فقال: لم يحيِّرني بكل ما رأيته في هذه البلاد إلا أمر واحد، وهو حبال الغسيل؛ فقد شاهدت حوائج الغسيل معلَّقة على الحبال من بيت إلى آخر على مسافة بعيدة، فكيف توصلت الغسالة إلى تعليق الحوائج على الحبل؟ أمر لم أستطِع حله، قلت في عقلي: إن المشي على الحبل ليس بالهين، ومع ذلك فالحبل أضعف من أن يحمل امرأة وفي يديها حوائج للتعليق، وإذا أمكنها أن تمسك الحبل بيد من يديها لتنتقل إلى وسطه، فكيف تتمكن من تعليق الحوائج وربطها بالحبل بيد واحدة! هذا ما حيَّرني، وهذا ما أدهشني!
ولا حاجة إلى وصف ما كان بين الجالسين السامعين بعد كلام العم بو غانم؛ فإن رب البيت صار يرجوهم أن يخففوا أصواتهم لئلا يصعد البوليس إليهم فيعنِّفهم على ضوضائهم، ولما شبع القوم من الضحك عاد العم بو غانم إلى حديثه، فقال: واللهِ إني راجع في هذه السنة إلى البلاد، وسوف أجبر الأولاد على أن يشتروا بكل ما معنا من المال حبالًا من أميركا؛ فإننا نستطيع أن نبيعها بأرباح طائلة في كل المدن السورية.
فأجابه أحدهم: ولكن عليك أن تشتري أيضًا الأيدي التي تعلِّق الغسيل على تلك الحبال.