المال يتكلم
في أول سنتين لوجود موسى البدل في أميركا سعد بثروة ليست بالقليلة؛ إذ كانت المهاجرة السورية لم تزل تكتبُ الصفحة الأولى من تاريخها، وقد كان يقدِّره الناس بصاحب خمسين ألف ريال، وبعضُهم يضعه فوق هذا المقام من الثروة. والحقيقة أنه هو نفسه لم يكن عارفًا بمقدار ما معه بالتمام؛ لأن الغِنَى جاءه لأم ساعته، فلم يعطه فرصة للعَدِّ والحسبانِ، ولم يكن حضرته يأمل بمثل هذه الثروة، إلا أنها أتته عفوًا بفضل الأحوال والصُّدَف، وما أكثرها في هذه البلاد.
بعدما صار في هذه الدرجة من الغنى افتتح محلًّا رسميًّا، واستخدم ماسكًا لدفاتره ومعينًا له في العمل، وقد عيَّن عملاء في بعض البلاد الأوروبية والآسيوية، وكثرت بضائعه وتراكمت، وافتتح حسابًا في البنك، وطفق يبيع ويشتري، وإذا كان التجَّار اصطلحوا على إقفال محالِّهم عند الساعة السادسة كان حضرته يتناول العشاء في محله، ثمَّ يستأنف العمل إلى ما بعد الساعة العاشرة ليلًا، وظلَّ يعمل باجتهاد كليٍّ النهارَ كله وبعض الليل حتى جاء رأس السنة الجديدة، فعمِل حسابه بعد تقويم المحل، فوجد أنه لم يربح ألوفًا من الريالات بل يضع مئات تنقص عن نفقاته الخاصة.
لم يفتكر أن السنة الأولى هي سنة تأسيس لا يُلقى عليها أمل كبير بأرباح كثيرة، ولما كان قد اعتاد أن يربح خمسين ألف ريال في سنتين فقد مقت المحل الرسمي، وأسف للحالة السالفة؛ إذ كان يتناول صندوق البضاعة الأسطمبولية ويبيعه قبل أن يفتحه بربح ألف ريال نقدًا دون تقييد ولا نفقات محل وعمَّال؛ ولهذا عمد إلى التغيير، فصرف الكاتب والمعين بسلام، وظلَّ هو في المحل ماسكًا الدفاتر وكل شيء، ولو أنه استطاع تصريف البضاعة والرجوع إلى حاله السالفة لما تردد، ولكن كيف يمكنه ذلك وقد علق ببنك وزبائن له عليهم ديون وحسابات جرارة، وعملاء لهم عليه حقوق وعندهم له طلبات؟
اضطر المسكين أن يظلَّ تاجرًا رسميًّا سنة أخرى وتبعتها ثالثة ورابعة وخامسة، وفي كل سنة يأكل أصابعه ندمًا لانخراطه بالتجارة مع أن ميدان الربح واسع بغيرها أو عن غير طريق المحال، وكان يشتهي الخلاص من تلك الوقعة المشئومة، ولا يجد لنفسه منفذًا ليخلص برأس ماله القديم. وكلما عنَّ له التخلص صغر دائرة أعماله، فكان كالبزاق «بيتي على ظهري علا»، كل سنة ينقل إلى محل أصغر فأصغر اقتصادًا وظنًّا منه أنه بذلك يتغلب على النفقات فتكثر أرباحه، وما درى أنه بذلك يصد الربح عنه، ويقضي عليه بالابتعاد.
وحمل موسى البدل أتعابه زهاء العشرين سنة ظلَّ فيها مقدَّرًا بخمسين ألف ريال، وكان يقول في نفسه حينما يفطن لحاله: عجبًا! ففي تلك الأيام برأسمال خمسين ريالًا ربحت خمسين ألف ريال بسنتين، ثمَّ بخمسين ألف ريال لم أربح خمسين ريالًا بعشرين سنة!
وهذه معضلة المعاضل لم يكن ليحلَّها موسى البدل أو ليعرف سببها، وكل ما كان يفتكر به أمر المصروف؛ ففي كل سنة كان يضيِّق على نفسه الخناق أكثر من قبل حتى انتهى أخيرًا أمره بأن أقفل المحل، وصار صرَّافًا.
بالصرافة وجد موسى أن الفرصة للغنى الكثير قد فتحت بابها أمامه، ورأى أنه أصبح ذا مقام عزيز عند قومه وبالأخص التجَّار، أولئك الذين كان يلحُّ عليهم ويرجو منهم بذُلٍّ وتواضع أن يؤثروه على غيره فيجابروه ويشتروا من بضائعه، ولم يرحموه، صاروا عندما صار هو صرَّافًا «بانكير» مثل «السمن والسكر»، فكانوا أينما صادفوه يهزون يده بشوق زائد، ويسألونه عن صحته وصحة العائلة، ويشفعون سؤالاتهم بالتمنِّيات الحسنة، ويَعِدُونه بالزيارات البيتية إلى ما هنالك من ضروب المجاملة، فكان موسى يتناول هذه المعاملة بكل قلبه ورئتيه؛ إذ يتنفس تنفسة طويلة تستغرق دقائق، لاعنًا التجارة التي كابدها سنين ولم تَعُدْ عليه بأرباح وكان فيها ممقوتًا مرذولًا، متأمِّلًا بالمقام الذي أحرزه بعدما صفَّى شغله وصار صرَّافًا يُقرض هذا وذاك، وبعد أن صار الناس يقبِّلون يديه ليَثِقَ بهم، وقد كان يقبِّل أيديهم وجهًا وَقَفًا ليؤثروه على الشيطان، ويساعدوه على تصريف بضاعته.
إلا أن دوام الحال محال، فما جاءت سنة ١٩٠٧ بعاصفتها المالية في تجارة نيويورك حتى تقلقل سوق التجارة السورية، وعقب ذلك إفلاسات أكثرها لزبائن حضرة «البانكير» السوري.
وخرج موسى من تلك الزوبعة قانعًا بذهاب ثلاثة أرباع ثروته وكل أصحابه الذين صيَّرتهم أصحابَه ثروتُه المرحومة، ومهنته التي جعلت له مقامًا في عيونهم، وإنما سرعان ما تلاشى ذلك المقام وتحوَّل الأصحاب إلى أضداد وذلك الشوق الكثير عندما يتلاقون ببعضهم إلى كرهٍ وبغضٍ وحقدٍ مما لم يكن ليُمحى.
منذ أشهر غير كثيرة أحبَّ طائفة من الناس وأكثرهم أصدقاء موسى البدل — إلا أنهم اليوم أرباب محال تجارية — أن يعقدوا اجتماعًا يدعون إليه كبار القوم ليتداولوا بأمرٍ مهمٍّ، فكتبوا أسماء عديدين من تجَّار وأدباء وشبَّان وباعة جزدان، ولما ذكرت لهم اسم موسى البدل سمعت من أفواه الكل جوابًا واحدًا قائلين: هذا! وما نفعه؟!
قلت: كيف وما نفعه؟ أليس من الرجال؟ أوَلم يكن تاجرًا كبيرًا وصرَّافًا يزدحم الناس في محله، والسعيد السعيد من كان ينال منهم حظوة في عينيه؟
فسمعت من الكل جوابًا واحدًا قائلين: إي نعم، كان من زمان، ولكنه اليوم لا يسوى شيئًا، فقد خسر ماله وليس من يهمه أمره.
كنت كثيرًا ما أسمع في أحاديثِ الناس ترديد المثل الأميركي «المال يتكلم»، ولم أكن أحله المحل الذي يضعه فيه بنو قومنا حتى ذلك الاجتماع؛ إذ ذاك تأكد لي أن المرء عندهم ليس بأصغريه: قلبه ولسانه، ولا بأكبريه: روحه ودماغه، بل بشيء واحد: ماله.