حي دفين
منذ ابتدأت المهاجرة السورية إلى أميركا صارت طريقها تيَّارًا يجرف العشرات من السوريين والمئات والألوف، وقد كانت في السنين الأولى مقتصرة على المرتزقين الذين تضيق في وجوههم بلادهم، فيطلبون لأنفسهم توسُّعًا في العالم الجديد، إلا أن التيار صار يتناول من سوريا غير هؤلاء بالأعداد الكبيرة، ويصبُّهم في العالم الجديد.
لم يكد حبيب الزيتوني ينهي دروسه العالية في كلية بيروت حتى سَكِرَ بخمر الهجرة؛ لأنه رأى بعين علومه أن بلاده فقيرة لا مطمع فيها ولا مطمح، أمَّا في أميركا الغنية فميدان أوسع أمامه يستطيع فيه أن يصعد إلى ذروة الطموح الذي في نفسه.
وبالرغم من بكاء أبيه وعويل أمه كلما ذكَر أمامهما أنه ذاهب إلى العالم الجديد ما كان ليعدل عن فكرته، وكم كان أبوه يستعد لإلهائه عن الأمر! فتارة كان يُطمِعه بالزواج، وأخرى بتحويل كل ما عنده من رزق وغيره إلى اسمه، ولكن حبيبًا لم يكن ليَحيد قيد شعرة عمَّا عوَّل عليه، وذهبت توسُّلات أمه أدراج الرياح.
وهكذا أَمَّ حبيب أميركا حاملًا شهادته المدرسية ومبلغًا من المال، ولما دخل إلى نيويورك دهش له العارفون؛ لأنه كان لابسًا أحسن منهم، وزائدًا عليهم بوردة من «الجمال الأميركي» تزيِّن صدره، وكان كأنه قضى سنوات عديدة في أميركا يستطيع الذهاب من شارع إلى آخر بفضل اللغة الإنكليزية التي كان يتكلَّمها بزلاقة لسان كالعربية، ولم يكَد يقطع بضعة أيام بين معارفه حتى جعلهم يخجلون من أنفسهم؛ لأنه بالرغم من كونهم عتقًا في أميركا لم يقدروا على إفادته شيئًا من سؤالاته؛ فإنه لما طرح عليهم سؤاله: أين هو الهبدروم؟ لم يسمع جوابًا من أحد إلا ظهور علائم الذهول على وجوههم، ظانِّين أن هذه الكلمة تعني اسم حيوان عجيب في جنينة الوحوش — كما يدعونها — ولما سألهم أيضًا: إذا كان أحدهم يعرف أين المتحف العمومي؟ سمع أحدهم يقول إنه لا يعرف غير «كاسل غاردن» متحفًا يجتمع فيه الناس من كل الأجناس.
بناءً على هذا كله لم تطل إقامة حبيب الزيتوني بين إخوانه السوريين، وكان أنهم هم أصبحوا تعبين من تفلسفه أمامهم، وخائفين من مستقبله في هذه البلاد؛ لأنه ما كادت قدماه تطأ أرض أميركا حتى صار يسأل عن الملاهي والفُرج بدلًا من تفتيشه عن شغل أو صنعة تطعمه لقمته وتعود عليه بتوفير كم ريال للأيام المقبلة؛ ولهذا ترك حبيب السوريين، وطفق يدرس الحياة الأميركية؛ لأن جيبه لم يزل دافئًا بالليرات التي تناولها من أبيه، ولم يجئ ختام نصف السنة الأولى حتى «نظف» صاحبنا، وعاد إلى إخوانه السوريين يسألهم: كيف يجب أن يشتغل؟ فجادوا عليه بالنصائح، مظهرين له أن أميركا تحتاج إلى سواعد مفتولة لا علوم ولا أكابرية، وبالرغم من عدم موافقته لهم على آرائهم اضطر إلى القبول؛ لأنه شعر بقرب الحاجة المالية.
وأول خطوة منه نحو العمل كانت أنه اصطحب أحد الشبَّان من قريته، وكان بيَّاعًا يحمل الجزدان، ويدور على الأبواب يبيع بضاعته وشغله على قدر الأحوال كان مصطلحًا.
ولسوء حظِّه أن صديقه البياع لم «يسنس» في ذلك اليوم خلافًا لعادته، فتشاءم الرفيق منه، وحسب أن فشله في ذلك اليوم مسبَّب عن ذهابه معه، وبالأخص لهندامه الحسن والوردة التي تشكَّل بها. هذا من جهة البيَّاع، أمَّا من جهة حبيب فهو أيضًا مقت الصنعة واحتقرها، وقال في نفسه: لو كانت ثروات العالم كلُّها معلَّقة بهذه المهنة فليست ليرضى عنها؛ ولهذا أخبر صديقه بعد الشكر أنه لا يستطيع مشاركته، فألحَّ عليه صديقه أن يبقى معه، وأنه ما همَّه عدم النجاح في ذلك النهار؛ لأن المستقبل لا بُدَّ يفتحها أمامهما، فما كان ليقبل معه حبيب.
ألحَّ عليه صديقه هذا الإلحاح لما رآه راغبًا عنه، ولكن في الحقيقة أزاح حبيب بتركه إيَّاه همًّا ثقيلًا عن صدره، إلا أنه أراد مجاملته، فألحَّ عليه أوَّلًا، ثمَّ قال له: إذا كنت تريد هكذا فلك خاطرك.
واضطر حبيب إلى مغادرة نيويورك لمدينة في الداخلية حيث يقيم رجل صديق والده، وكان بلغه قدوم حبيب إلى نيويورك، فكتب إليه يستقدمه للعمل في محله، وكتب إليه ثانية وثالثة، ولكن حبيبًا أنف الإجابة، بادئ ذي بدء، ولكنه لما شعر بالحاجة كتب إليه معتذرًا عن تأخره، وأنه ذاهب إليه في آخر الأسبوع.
تعرَّفت على هذا الشاب في تلك المدينة إذ كنت ممثِّلًا لأحد مصانع الكيمونا، وكان التاجر في تلك المدينة أحد زبائني، فلما شاهدته في المحل أنست إليه، فدعوته لمناولة العشاء معي في النزل، وقضيت معه كل المساء، وفيه أفرغ لي جعبته بالشكاية من هذا الزمان وأهله، وبالأخصِّ من التاجر الذي يشتغل له كل شيء، فهو في محله ماسك دفاتر ومدير ومشترٍ وبائع ومكنس و«معبي أركيلة» وناقل الخضرة إلى المنزل إلى ما هنالك، وقد أحزنني جدًّا قوله إنه في آخر الشهر إذ يتناول معاشه سيترك البلد إلى كندا، فلعلَّ فيها نجاحًا أكثر من الولايات المتحدة، وقد خبَّرني أن أهله في الوطن ليسوا بحاجة إلى شقائه في أميركا، ولكنه هاجر إليها بالرغم من إلحاحات أبويه وبكائهما؛ ولهذا لا تطاوعه نفسه أن يعود إليهما بغير ما أمَّله من النجاح، ولكن ذلك لا يأتيه إلا مع الأيام.
وعرفت بعد مدة أن صاحبنا غني أمواله كما يقولون، فأَمَّ كندا، وهنالك زادت بلواه؛ لأن البلاد باردة جدًّا وهو ذو نحافة بدنه، ولم ير ما يشبع نفسه من المطامح ولا ما يريه اللقمة الأولى من تلك المطامح.
وقد أخبرني سوري كندي صادفته في نيويورك أنه يعرف حبيبًا بحالة يُرثى لها، وأن آخر ما عرفه عنه أن إنسانًا حرَّكته عوامل الشفقة عليه فنقده بعض ريالات ليعود إلى مدينة ذلك التاجر في إحدى مدن الداخلية.
وقلت في نفسي: سبحان الله! كيف أن الدهر يضغط على النفس البشرية فتكسر إرادتها وتقوم إرادته!
ومضى على هذا خمس سنوات لم أعد أسمع عنه شيئًا خلالها، حتى طرحتني النوى مطارحها فرمتني في بلد التاجر المذكور آنفًا، وهناك دخلت محلَّه فشاهدت حبيبًا وعلى وجهه كتب السقم سِفرًا طويلًا، إلا أنه حسن الهندام جميل الملبس، فسلَّمت عليه وبدلًا من أن أدعوه لمناولة العشاء معي سبقني وألحَّ عليَّ بالذهاب معه إلى مطعم في المدينة، فقبلت معه، وفي الميعاد المعيَّن اجتمعت به فسألته عن حاله وماذا يعمل، ورجوت منه الإفاضة عن تاريخ حياته، ففتح فاه بالكلام، وأول ما قال لي كانت هذه العبارة بعد تنهُّدٍ عميق: أنا حيٌّ دفين!
– عجبًا! تشكو وأراك أحسن حالًا مما مضى! ألعلك تشكو ألمًا؟
– كلا، لا أشكو شيئًا، لا الألم ولا العسر ولا شيئًا من ذلك، وإن ما أشكوه فقداني ثمينًا كان معي يوم عرفتَني في أول الأمر.
– أعذرني إذا كلَّمتك بعدم تكليف؛ فقد رأيت منك يوم عرفتك أنك خلوٌ من كلِّ ثمين، فالحاجة كانت سلطانة عليك.
– كنت محتاجًا، ولكن نفسي كانت حيَّة، أمَّا اليوم فأنا غني وقد حصلت على غناي كما ترى على ضريح نفسي، فأنا حيٌّ دفينٌ.
– لقد أعدت عليَّ هذه العبارة «حيٌّ دفينٌ»، فماذا تعني بها؟
– اعلم أني جئت إلى أميركا بشهادتي العلمية، فلم تساعدني على دهري، فلما صرفت كل ما كان معي من مال أبي اضطررت إلى الاشتغال للناس غصبًا عن نفسي التي كانت تأبى، وقد حاولت قبلها أن أعمل كما يعمل أبناء بلادي الذين يشتغلون إما بالبيع وإما بالأجرة، فلم أجد من نفسي مقدرة على العمل، ولما كان الفكر يحدِّثني أن أرجع إلى بيت أبي كانت النفس تنازعه حياءً من والديَّ اللذين تركتهما ولم يريا مني ما يحقِّق آمالهما بعدما أنهيت علومي، بالرغم من إلحاحهما عليَّ بالبقاء تحت عنايتهما؛ توهُّمًا مني بأن أميركا مطمح أمثالي. فخابت آمالي، ولما غالبت النفس غلبتني فلُذت إلى عزَّتها وأنا أضمر لها انتقامًا هائلًا، وهكذا عدت إلى هذه المدينة إلى محلِّي القديم، ولكي أتخلص من التحكم والفقر سايرت صاحب المحل فتزوجت من ابنته، وقتلت نفسي، فأنا اليوم كما تراني ربُّ محلٍّ كبيرٍ وربُّ بيتٍ ذي آثاثٍ فخيمٍ، ولي زوجة صالحة، ولكني لم أنظر إليها نظرة حب في حياتي. تراني اليوم أتمنَّى أن أعود إلى حالتي القديمة يوم كانت نفسي لا تزال في قيد الحياة.
مسكين حبيب الزيتوني، إنه في الحقيقة حيٌّ دفينٌ!