لامرتين في طريق المجد
بعد أن تأثَّر لامرتين بمطالعاته وأسفاره، ونضج فيه الميل إلى المطامح الأدبية الكبرى والمطامح السياسية الواسعة، أصبح وهو في السادسة والعشرين من عمره عاجزًا عن أن يهيئ له مستقبلًا؛ لأنه إنما كان يعفُّ عن أن يحذو حذو هؤلاء المتملقين، الذين استطاعوا بخنوعهم أن يبلغوا إلى المراكز التي طمحوا إليها وهم دونه معارف وذكاء.
إلا أن الأيام لم تلبث أن وفرت له نوبتين أنضجتاه: نوبةُ عاطفةٍ، ونوبةُ فكرٍ، فخرج منهما وهو شاعر العصر الكبير …
أمَّا أساس هاتين النوبتين فكان نفوذ امرأة، هي جوليا بوشو، زوجة العالم الطبيعي الشهير شارل، عضو مجمع العلوم والمعارف، التي ساعدت لامرتين، من حيث لم يقصد، على أن يفتح لنفسه طريق الخلود، والتي خلَّدتْهَا قصائده الأولى تحت اسم «إلفير».
جوليا بوشو
كانت جوليا بوشو في الثانية والثلاثين من العمر عندما أشار عليها الأطباء بأن تصرف أشهر الصيف في قرية إكس لوبان؛ إذ إن داء الصدر في تلك السنة ١٨١٢ كان قد بلغ منها أشده.
صادف لامرتين هذه المرأة في هذه القرية نفسها؛ إذ إن الأطباء كانوا قد أشاروا عليه هو أيضًا بأن يصرف أشهر الصيف فيها. ففي العاشر من شهر تشرين الأول، كان لامرتين يتنزَّه على بحيرة بورجه في إكس لوبان، فالتقى زورقه زورقًا صغيرًا كان يقلُّ جوليا بوشو، وإذا بزوبعة شديدة قلبت الزورق الصغير، وجعلت المرأة في خطر.
أتُراها سقطت في الماء فأنقذها لامرتين؟ أم أن لامرتين أدركها قبل أن تسقط وأعانها على ما بها؟ لا نعلم، ولكن الحقيقة هي أن لامرتين كتب إلى صديقه لويس ده فينييت في اليوم التالي يقول له إنه «أنقذ مدام شارل من الغرق.» وزاد على ذلك بقوله: «إن هذه المخلوقة العذبة أصبحت تملأ أيامه، وإنها توشك أن تُشفى من مرضها.» ودعا صديقه للحضور إلى القرية ليتحقق ذلك بنفسه.
في الخامس عشر من تشرين الأول، عندما وصل لويس ده فينييت إلى إكس لوبان، كان لامرتين وجوليا بوشو قد نظَّما حياتهما في القرية، وكانا قد صرفا مساء اليوم العاشر أو الحادي عشر من تشرين الأول في التنزه بعد العشاء على ضوء القمر، وتبادلا الحديث عن ماضيهما، وعن الملل الذي قاسياه والآمال التي ينتظران تحقيقها. وفي ذلك المساء نفسه صحَّت عزيمة الاثنين على أن يكون كلٌّ منهما للآخر، فتحافظ هي على حبِّه، ويحافظ هو على حبِّها.
وكانت جوليا بوشو تزيد لامرتين ست سنوات؛ إذ كانت هي في الثانية والثلاثين، وكان هو في السادسة والعشرين، فأكَّدت له أنها ستحرص عليه كما تحرص الأم على ولدها، وأنها ستساعده على إيجاد مركز له، لما كان لزوجها الشيخ البالغ الحادية والخمسين من النفوذ في فرنسا.
وفي السادس والعشرين من تشرين الأول طوت جوليا بوشو (إلفير) جناحَيْها الملائكيَّيْن لتعود إلى باريس، فشيَّعها لامرتين إلى ماكون، ورجع إلى ميللي ينتظر الرسالة الأولى التي وعدتْهُ بها. وما هي إلا أيام قلائل حتى قدم الشاعر إلى باريس، وظهر في منزل جوليا، حيث بقي أيامًا عديدة.
كان كلَّ مساءٍ يذهب بها إلى النزهة، فتتكئ على ذراعه نحيلةً صفراء، وتستسلم إلى أفكارها السوداء … أما العابرون فكانوا يخالونهما أخًا وأختًا، ويظنون أن لامرتين شقيقٌ محبٌّ ساهر على نقاهة أخته، إلا أن الفناء كان يقضم ذلك الهيكل الهزيل، فلا تطلع الشمس إلا على جسدٍ أخذتِ الليلة الفائتة حصَّتها منه. ولمَّا اضطر لامرتين إلى أن يعود إلى أشغاله تواعدا بلقاء في إكس، وأعطته دفترًا صغيرًا من «الماروكان» الأحمر ليملأه بما يوحيه إليه فراق «إلفير».
كان لامرتين أمينًا على الوعد؛ ففي الحادي والعشرين من شهر آب صعد إلى إكس لينتظر جوليا، إلا أن آماله ذهبت أدراج الرياح؛ فقد تناهى إليه أن الحمى تفتك بها فتكًا ذريعًا، ولا سبيل إلى وصولها إليه، فهام على نفسه يفكر في «الغائبة»، وفي نفسه ما فيها من الشجون واليأس.
وكان في القرية، أو في المنزل الذي يقيم به، فتاة تدعى ألينور كانوننج، تعرَّف إليها صدفةً، فلم يكتم عنها عذابه ويأسه، ولم يرفض رغبتها إليه في التنزه ساعة على ضفاف البحيرة في إكس.
كان الصيف يُذيب عواطفه العذبة على بحيرة بورجه، فاستسلم لامرتين إلى الذكريات، وما هي هنيهة حتى شعر برعشة سرت في جميع مفاصله، فاستأذن الآنسة وانصرف عنها إلى خلوة على الضفة الشمالية من البحيرة، حيث كان يجلس في الصيف الماضي مع تلك التي ملكت عليه مشاعره وقلبه.
ولم تأذن الساعة السادسة من المساء حتى كان لامرتين قد أفرغ ما كان في قلبه من الدموع، وكأنه شعر بعاصفة من العواطف تنطلق في صدره، فاختلج فترة، وغارت عيناه في محجريهما، فأخذ من جيبه الدفتر الصغير الذي أعطته إياه جوليا، وكتب على الصفحة التي عرضت له هذه الكلمات: «أنا جالس على صخرة الضفة الشمالية أفكر فيك يا جوليا.» إلا أنه تذكَّر أن جوليا تُحتضَر، وأن الكلمات الموجعة لم يتلفَّظ بها بعد، فكتب: «تذكار الأيام الجميلة التي صرفناها معًا على شاطئ البحيرة.» ثم أطبق الدفتر وراح يحلم بعض دقائق، وإذا بأغنية تستفيق في قلبه، ففتح الدفتر وفكَّر فترة من الوقت ثم كتب:
ثم توقَّف فضرب على البيت الثاني، واستبدل به هذه الكلمات:
ثم بدأ بمقطع آخر:
وهنا توقَّف فترة، وكأنه أمسك بأهداب فكرة أخرى، هي أن يُدرج في القصيدة «أغنية جوليا»، فكتب: «تابِع، تابِع مجراكَ أيها الزورق الشارد.»
ويظهر أن رفاقه في تلك القرية «الصيفية» فاجَئُوه في تلك الآونة، فأخفى الدفتر في جيبه وعاد معهم إلى المنزل.
وفي اليوم التالي عاد إلى البحيرة من غير أن يشعر به أحد، وأكمل تلك القصيدة الساحرة «البحيرة»، إلا أن لامرتين كان تشبَّع من روسو وشاتوبريان، فاستعرض في مخيلته «هلويز الجديدة» و«أتالا»، ولكن هذا الاستعراض لم يَحُل بينه وبين صدقه في عاطفته، وهو ينظم قصيدته على شاطئ البحيرة.
قال لامرتين في قصيدته «البحيرة»: «ذات مساء، أتذكرين؟» وقال روسو قبل سنوات عديدة: «كنا صامتَيْن صمتًا عميقًا، وكان دوي المجاذيف ذات الإيقاع المتوازن يهيج في قلبي الرغبة في الأحلام!» وقال شاتوبريان في «أتالا»: «كانت أتالا تنشد فلا يقاطع شكاياتها إلا دوي زورقنا فوق المياه …»
وبعد يومين ترك لامرتين إكس؛ ليلحق بصديقه فيريو فيذرف بين ذراعيه بقايا دموع غادرتها الأيام في قلبه، أما الداء فكان يسير مسيرته في جسد جوليا التي انقطعت إلا عن الماء، عملًا بإشارة الطبيب، وكان لامرتين يعرف حق المعرفة أن الموت يتأهَّب لاختطاف تلك التي أوحت إليه قصائده الخالدة، فكتب إلى الآنسة كانوننج في الرابع والعشرين من تشرين الأول يقول: «إن التي أحبُّها فوق كل إنسان في هذا العالم تتلوَّى منذ أسابيع في نزع أليم، وأراني غير قادر أن أكون بالقرب منها.»
وفي الثامن من شهر كانون الأول فاضت روح جوليا بمهلٍ وسكون، وشفتاها لاصقتان بخشب صليب صغير، وكان طيف لامرتين لا يزايل عينيها في تلك الليالي الأخيرة التي صرفتها، على ما بها من الضعف، في قراءة رسائله وترتيبها بحسب تواريخها، ووضعها في غلافين كبيرين كتب عليهما هذه الكلمات: «أوراق تخص السيد فيريو.» وفيريو هذا صديق لامرتين الأكبر — كما عَلِمنا — ومواسيه في ليالي الدموع واليأس.