لامرتين في ذروة المجد
كان على لامرتين أن يخطو بضع خطوات إلى الأمام؛ لينسى آلامه وبؤسه، فالمجد الذي كثيرًا ما طمح إليه في حياته المضطربة وعزلته الموحشة كان على وشك أن يخيِّم عليه بجناحَيْه الكبيرين؛ ففي الحادي عشر من شهر آذار من العام ١٨٢٠، نشر لامرتين ديوانه الأول «التأملات» محتويًا أربعًا وعشرين قصيدة، ذاعت ذيوعًا عظيمًا، حتى بين الذين لا يأبهون للشعر، فالملك نفسه أثنى عليها ثناءً طيبًا، وراح أقطاب السياسة يقرءونها ويحفظونها عن ظهر قلب.
وكانت الأميرة ده تالمون قد بعثت بنسخة من «التأملات» إلى الأسقف ده تالليران، أعظم رجال السياسة في ذلك العهد، فقرأها في ليلة واحدة وكتب إليها يقول: «أُعيد إليكِ أيتها الأميرة، قبل أن أرقد، الكتابَ الصغير الذي أعرتِنِي إياه أمس، ويكفيكِ أن تعلمي أني لم أَنَم، وأني سهرت إلى الساعة الرابعة من الصباح أقرأ هذا الكتاب وأُعيد قراءته. لستُ نبيًّا أيتها الأميرة، على أني أؤكد لك أن وراء ذلك الشعور المتدفق من هذه القصائد رجلًا رجلًا، وسنتحدث عنه بعد.»
وقال تيوفيل غوتيه: «إن التأملات الشعرية هي أعظم أثر شعريٍّ ظهر في هذا العصر. إنها لنفس عذب ومحيٍ معًا، لا، بل هي خفقان أجنحة تلامس الأرواح! فالشبان والفتيات والنساء هاموا بلامرتين حتى أوشكوا أن يعبدوه! وحتى أصبح اسم الشاعر منطبعًا على جميع الشفاه. والباريسيون الذين يميلون إلى الشعر أصبحوا منقادين بفطرة الجمال والإحساس إلى ترديد مقاطع من «البحيرة» في مجالسهم وسهراتهم.»
كان الشعب يجهل لامرتين قبل أن أصدر «التأملات»، غير أن المجتمع الباريسي وأشراف البلاط كانوا يمهِّدون له الشهرة بكل ما أوتوه من النفوذ العظيم؛ لأن الشاعر كان قد انضم إلى الملكية منذ العام ١٨١٦، وتقرَّب إلى السيدة النبيلة مدام ده ريجكور، الصديقة القديمة للأميرة أليصابات، ومن السيدة مدام ده مونكالم، ومدام ده بروغلي، وتعرَّف إلى الدوق دورليان والدوق ده مونمورانسي، أعظم رجال فرنسا في ذلك العهد، والدوق ده روهان الذي بقي محافظًا على صداقته إلى آخر حياته.
لقد عرفنا أن حبَّ لامرتين لجوليا بوشو أجرى في روحه ينابيع الإحساس، فتدفَّق الشعر من قلبه كما تدفَّق من قلب بيترارك يوم أحبَّ لور، ومن قلب دنتي يوم أحبَّ بياتريس؛ فقصائده «البحيرة»، و«الخلود»، و«الهيكل»، و«المصلوب»، و«الرؤيا»، و«الوحدة»، و«اليأس»، و«الإيمان»، هذه القصائد كلها استوحاها الشاعر من حبِّه لجوليا؛ لإلفير التي كان لها اليد البيضاء في تكوين الشاعر العظيم.
زواج الشاعر
في ربيع العام ١٨١٩ تعرَّف لامرتين إلى الآنسة ماريان إليزا بيرك، وهي فتاة إنكليزية ميالة ميلًا شديدًا إلى الفنون الجميلة والشعر، فضلًا عن أنها موسيقية ورسامة من الطراز الأول، وكانت قد سمعت لويس فينييت، صديق لامرتين، ينشد بعض قصائد للشاعر فأُعجبت بها، وأظهرت رغبتها في التعرف إلى ناظمها. وما إن قُدِّر لها ذلك حتى شعرت بميل إليه، ما لبث أن استحال إلى حب، وهكذا مهَّد الشعر طريق الزواج للشاعر.
على أن لامرتين لم يشعر في الأول بسوى ميل طفيف نحو الآنسة ماريان بيرك، التي لم تكن على قسط من الجمال، بل كانت على كثير من اللطف والثقافة، وهذه الثقافة لم يكتشفها الشاعر في زوجته العتيدة إلا في صيف العام التالي ١٨٢٠، فكتب إليها يطارحها حبَّه ويعرض عليها الزواج، فلم ترفض …
وكان أنَّ علاقتها بالشاعر أثارت غَيرة صديقه لويس فينييت، الذي كان مأخوذًا بالآنسة بيرك، فراح يدسُّ بين الخطيب وخطيبته رجاءَ أن يعكر الماء بينهما فلم يفلح؛ لأن خطيبة الشاعر كانت واثقة من جدارة خطيبها، فلم تزعزعها النميمة.
وفي السادس من شهر حزيران ١٨٢٠ عُقد لهما في كنيسة قصر شامبيري، مأوى آل بيرك. وفي الخامس عشر منه، سافر الشاعر وزوجته إلى إيطاليا ليتسلَّم وظيفته الجديدة في سفارة نابولي.
كانت زوجته غنيَّة؛ فقد أعطتها أمها مهرًا قدره عشرة آلاف ليرة إنكليزية، وكان هو غنيًّا أيضًا؛ فقد وهبه والده قصر سان بوان وثمنه مائة ألف فرنك، على أن يعطي كلًّا من أختيه أربعة وعشرين ألف فرنك، ووهبه عمَّاه وعمَّتاه قصرًا كبيرًا في ماكون، ومبلغًا قدره مائة وخمسة وعشرون ألف فرنك.
المشاريع الأدبية الكبرى
على أن لامرتين لم يرتَحْ إلى الإقامة بنابولي؛ وما هي بضعة أشهر حتى مرض بداء الأعصاب، فطلب مأذونيَّة لم يعيِّن مدتها، وغادر نابولي في العشرين من شهر كانون الثاني ١٨٢١، على أن يمكث في روما بضعة أسابيع ثم يوالي سيره إلى فرنسا بعد أن يصرف بضعة أيام في البندقية.
وإذ هو في الطرق، تفتَّحت روحه لشعاع داخلي، وراح يحلم بقصيدة رحبة واسعة النطاق يضمِّنها الرقي البشري منذ فجر التاريخ.
قال: «أشعر بأني صرتُ شاعرًا كبيرًا، فلقد بدأتُ أحلم بقصيدة رحبة كالطبيعة، مفيدة كالقلب البشري، رفيعة كالسماء، ولم يبقَ عليَّ إلا أن أنتظر ريثما تُفسح لي السماء في نظمها.»
بقي لامرتين في روما من أواخر كانون الثاني إلى منتصف نيسان، ولقد صرف وقته هذا، تارة في كنيسة القديس بطرس، وطورًا في قصر الدوقة ده ديفونشير، وفي منتصف شهر شباط رُزِق غلامًا سمَّاه ألفونس وعمَّده في كنيسة القديس بطرس بروما … إلا أن الغلام لم يَعِش طويلًا.
وما إن قَدِم الصيف حتى كان لامرتين وزوجته في إكس لوبان، في ذلك الوادي الحبيب الطافح بتذكارات الشاعر.
وكانت زوجة لامرتين قد عرفت بذلك الحب العظيم الذي أيقظ جذوة الشاعرية في روح زوجها، فشاطرتْهُ حسرتَهُ على تلك المرأة التي أوحت إليه قصيدة «البحيرة».
وبعد مرور بضعة أشهر على إقامة الشاعر بقصره في ماكون، رُزِق ابنةً جميلة سُمِّيت جوليا؛ تذكارًا لمدام جوليا شارل أو «إلفير».
وفي تلك السنة ١٨٢٢، أصدر لامرتين الطبعة التاسعة من «التأملات» مضافًا إليها أربع قصائد جديدة، وباشر إعداد الجزء الثاني من هذا الديوان الشعري. أما الطبعات الثماني من «التأملات» فقد بيع منها عشرون ألف نسخة.
التأملات الجديدة
في ١٥ شباط ١٨٢٣ كتب لامرتين إلى صديقه فيريو يقول: «لقد بعتُ ديواني الجديد بمبلغ أربعة عشر ألف فرنك يُدفع نقدًا في هذا الصيف.» ولما صدر هذا الديوان كتب ألفرد ده فينيي إلى فيكتور هيغو يقول: «إن مجموع قصائد هذا الديوان الجديد لا يوازي مجموع قصائد الديوان الأول، على أن هناك قصيدة «البريلود» وبعض فقرات من قصيدة «بونابرت» لا أظن أن لامرتين سبق له أن نظم مثلها. وعلى كلٍّ أرى في شعره قلبًا وشعورًا يُعبد من أجلهما، فهو قد عرف أن يمتزج بجميع القلوب.»
موت سقراط
في السنة ١٨١٧ كان الكاتب الفرنسي فيكتور كوزان، الذي عُزل من مركزه في جامعة السوربون، قد نَقل إلى اللغة الفرنسية جميع مؤلفات أفلاطون مشروحة شرحًا وافيًا، وكأنَّ تعشُّق لامرتين للفيلسوف اليوناني أيقظ في مخيلته طيف أستاذه العظيم سقراط؛ ففي ١٥ شباط ١٨٢٣ كتب إلى صديقه فيريو يقول: «أشرُعُ اليوم بعملٍ فكَّرت فيه منذ ست سنوات، وهو نشيد في موت صديقنا سقراط.» وبعد مرور شهر كتب إلى فيريو يبشِّره بإنجازه النشيد. أما النشيد هذا فكان يحتوي تسعماية بيت لم يسبق للامرتين أن نظم أروع منها؛ ولقد باع الشاعر قصيدته هذه بستة آلاف فرنك، على أن يعود إليه حق نشرها بعد مرور تسع سنوات.
قال لامرتين في المقدمة التي وضعها لهذا النشيد ما يلي: «لقد حارب سقراط طوال حياته سلطان الحس الذي هدمه المسيح؛ ففلسفته كانت فلسفة دينية وديعة، عذبة، خاضعة، لقد حزرت وحدة الله وخلود النفس.»
آخر أناشيد شيلد هارولد
بعد أن صدر ديوان «التأملات الجديدة» وقصيدة «موت سقراط» اللذان استقبلهما النقاد بفصول قاسية فيها كثير من التحامل، صحَّت عزيمة لامرتين على أن ينزوي في قصره ويعتزل العالم الأدبي، وأقسمَ على أن الأوساط الأدبية لن تسمع صوته قبل عشر سنوات أو اثنتي عشرة سنة. وفي شتاء ١٨٢٣-١٨٢٤ وجَّه فكره نحو الملحمة الكبرى التي حلم بها في العام ١٨٢١، وانصرف إلى نظم النشيدين اللذين استعرض فيهما أنبياء التوراة وفرسان القرون الوسطى. ولم يخرج من قصره إلا في مطلع الخريف؛ ليرشِّح نفسه لكرسي المجمع العلمي الذي فرغ بموت بيير لاكروتيل. على أن الشاعر لم ينجح هذه المرة، وإن يكن أتباع المذهب الرومانطيقي قد ناصروه، وناصره شاتوبريان، وفيللمان، وفيكتور هيغو — كان فيكتورهيغو وقتئذ في الثانية والعشرين من العمر — فقنط لامرتين وعاد إلى عزلته وانزوى في قصر سان بوان.
وكان أنَّ الشاعر الإنكليزي بيرون توفي في ميسولونغي (اليونان) حيث كان قد تطوَّع للدفاع عن اليونان في وجه الترك، فتأثَّر لامرتين تأثرًا شديدًا لموت شقيقه في الروح، وصحَّت عزيمته على أن يحيي شعرًا ذلك الشاعر البطل الذي أحبَّه وأُعجب به في حياته وموته. وكانت العاطفة المسيحية قد خمدت في روح الشاعر وبدأت جذوة الشكوك تضطرم فيه، فكتب نشيده «شيلد هارولد» تحت هذا التأثير الفجائي، فكان نشيدًا فلسفيًّا أكثر منه مسيحيًّا.
جاء في مذكرات والدته ما يلي: «يكتب ألفونس قصيدة عنوانها «شيلد هارولد» يحيي فيها موت اللورد بيرون في سبيل الاستقلال اليوناني. على أن القصيدة هذه تحتوي فقرات لا تروقني، وأخشى أن يكون قد تأثَّر بالأفكار الفلسفية الحديثة التي ترمي إلى هدم الدين والنظام الملكي.»
وفي اليوم الثاني والعشرين من شهر شباط ١٨٢٥ أنجز لامرتين نشيده الكبير، وقد حيَّا فيه بطولة بيرون وعظمة اليونان الثائرين لأجل الحرية، وحاول أن يثبت أن الشعب اليوناني الحالي إنما هو وارث الشعب الإغريقي القديم، وختم نشيده بتحية هوميروس وأفلاطون والأرض اليونانية، أُمِّ جميع الحضارات.
ولم يكد الناشرون يعلمون بأن الشاعر أنجز قصيدته هذه حتى تهافتوا عليه يتبارون في التزامهم إياها، وما هي أن رست على الناشر دونداي دوبري بتسعة آلاف فرنك، وفي الرابع عشر من شهر ١٨٢٥ صدرت القصيدة في أربع وعشرين صفحة، وبيع منها ستة آلاف نسخة بيومين.
لامرتين في فلورانسا
في العام ١٨٢٥ عُيِّن لامرتين كاتمَ أسرار السفارة الفرنسية في فلورانسا. على أن الطليان لم يكونوا راضين عن الشاعر؛ لأنه كان قد قارن في قصيدته «شيلد هارولد» بين إيطاليا الحاضرة وبين إيطاليا الماضية، ورأى الإيطاليون في هذه المقارنة إهانة لإيطاليا الحالية، فسخطوا عليه وأضمروا له كرهًا شديدًا، وصُوِّر لهم أن توظيف لامرتين في بلادهم إنما هو إهانة لهم وللقضية الوطنية معًا، فراحوا يشيحون عنه بوجوههم وينبذونه في المجتمعات والنوادي، ويسخرون منه في الصحف والمجلات.
ومما جاء في إحدى المقالات التي وجِّهت إليه في الصحف: «إن ناظم «شيلد هارولد»، النشيد السخيف، رجلٌ فارغ صوَّرت له مخيلته العقيمة أن ينال الشهرة الكاذبة عن طريق الطعن والقدح.»
ولكن هذه الحملات ما لبثت أن هدأت عُقيب مبارزة جرت بين الشاعر وأحد الضباط الإيطاليين، أُصيب فيها الأول بجرح في ذراعه، وبقي لامرتين ثلاث سنوات في إيطاليا، كان في نهايتها قد بدأ يحلم بجولة في الشرق وبوضعه يده على زمام السياسة.
لامرتين يُنتخَب عضوًا في المجمع العلمي
في أواخر شهر حزيران من العام ١٨٢٩ حضر لامرتين، في منتدى مدام ريكاميه، قراءةَ «موسى»، وهي الرواية التمثيلية الشعرية التي وضعها الكاتب الكبير شاتوبريان. وكان شاتوبريان في ذلك الحين في أوج مجده الأدبي، وأعظم كاتب في أوروبا؛ فراح الشاعر يعمل لتمكين الصداقة بينه وبين شاتوبريان توصُّلًا إلى كرسي في المجمع العلمي.
وما هي أن تم له ما أراد؛ ففي الخامس من شهر تشرين الثاني انتُخب لامرتين خلفًا للكونت دارو بتسعة عشر صوتًا، مقابل أربعة عشر صوتًا نالها الكونت فيليب ده سيغور، مؤلف تاريخ حملة روسيا ومرافق نابوليون في موقعة ١٨١٢.
على أن وفاة والدته أوقعته في قنوط شديد، وأفقدته يومًا بعد يوم معتقداته السياسية والدينية معًا؛ إذ إنها كانت الصلة الوحيدة بينه وبين النظام الملكي.
لامرتين ينشر ديوانه الثالث
قلنا سابقًا إن الشاعر كان قد نظم في إيطاليا قصائد بينها «يهوه» أو فكرة الله، و«الدوحة» وهي تابعة لقصيدة «يهوه»، و«الإنسانية» وهي تابعة لقصيدة «يهوه» أيضًا، و«ميللي» أو مسقط الرأس، و«أنشودة المسيح»، و«الحسرة الأولى»، وهي مناجاة تذكَّر فيها الشاعر طيف غرازييلا، و«أنشودة الصباح» وغيرها. ولقد شاء لامرتين أن يبيع حق نشر هذا الديوان بأربعين ألف فرنك، ولا ننسى أنه كان شديد الرغبة في أن يستثمر مؤلفاته ويَهَبَ عروس الشعر الفرنسية ذهبًا وفضة. على أنه لم ينجح هذه المرة، فتريَّث إلى أن نجحت المساومة.
وفي ١٥ يونيو ١٨٣٠ ظهر الديوان في جزأين يحتوي كلٌّ منهما ٣٥٠ صفحة. أمَّا ملتزِمُهُ، فكان الكتبي الشهير شارل غوسلين المشمول برعاية الدوق ده بوردو، وأما الديوان فقد استقبله الأدباء بكثير من الثناء إلا بعضًا منهم حمل عليه حملةً شديدة لم يعبأ بها الشاعر.