خاتمة
وأصدقُ ما رأينا أن نختم به هذا الكتاب كلمة النَّقَّاد الفرنسي دورفيللي في الشاعر العظيم، قال: «يجب أن نقول للذين تملَّكهم كبرياء نثرهم: عندما تموت زعقات السياسة المعاصرة لا يبقى حيًّا من لامرتين إلا شعره.
شعره! … الشعر! … والشعر هو أجمل ما في لغات البشر أية كانت؛ فلا التصوير ولا الموسيقى ولا التماثيل، من الحجر كانت أو من النثر، توازي ذلك الشيء المعبود: الشعر الجميل! وبالشعر الجميل مَلَك لامرتين على العرش في ماضٍ ليس ببعيد عنا، وسيبقى مالكًا عليه في المستقبل البعيد … مهما بعد! فلا أعرف في عصر من العصور رجلًا أعظم من لامرتين في مصافِّ الشعراء؛ فقد حمل عصره على كتفيه ليعبر به نهر الشاعرية الكاذبة التي كانت تتمرغ فيه، واستطاع بنَفَس واحد أن يرفع عصره إلى سماء الشعر الصحيح الأزلي، إلى السماء العالية المسكرة، إلى سماءٍ كانت فرنسا قد نسيَتْها قبل أن جاء لامرتين.
آه! لم يكن شأن لامرتين كما كان شأن ماليرب! فهو لم يُحدث ثورة في الإنشاء أو في الوزن والقافية، بل أحدث ثورة في المخيلات والقلوب! كان الشعر في فرنسا قد مات بموت راسين، وكان القرن الثامن عشر إذا قرأ شعرًا جميلًا يقول: هذا جميل كالنثر. وفي عهد الإمبراطور حلَّت البطولة والفروسية محل الشعر، وإن تكن البطولة شعرًا فقد كانت تُنشَد بلسان المدفع وحده. ولكن عندما سكت المدفع ارتفع صوت سماوي لم يكن قد سُمع قبل ذلك العهد حتى في أناشيد راسين نفسه، وكان ذلك الصوت: «التأملات»؛ فالتأملات قد نجحت … لا، لا، لندع مثل هذه التعابير المبتذلة، لم يكن ثمة نجاح، بل سحر فجائي عظيم.
لقد استطاع شاتوبريان أن يطرح الأفكار الثورية من النافذة كما طرح بونابرت ممثلي الأمة، إلا أن فوز لامرتين كان أصدق وأعظم؛ لأنه انبثق من نبوغ لامرتين. كان روح النصرانية يرافق شاتوبريان، أما لامرتين فلم يكن يرافقه إلا روحه.
ثمة شعراء يموتون من غير أن يموتوا، فيصبحون توابيت حية لشعرهم الميت، وثمة أنهار من الشعر تتدفق كما تتدفق أنهار الجنة، ولكنها لا تلبث أن تغور وتغيض على مسافة أربع أقدام من مصبِّها، إلا أن لامرتين، لامرتين الذي لا ينضب، بقي طوال حياته شاعر «التأملات» الكبير.»