وفجأة … لمعَ ضوء قوي!
شَرَدَ الشياطين، وكان كل منهم يفكِّر في المصيدة التي سيدخلونها … لم يكن أحد منهم يعرف متى يعود «خالد»، فهو لم يحدد لهم الوقت، وهم أيضًا لا يستطيعون عمل شيء، ما دام «خالد» لم يقدِّم لهم خطة ما، كانت المسألة مسألة وقت. ولذلك، فقد قام «مصباح» وأحضر رقعة الشِّطْرنج … ثم نظر إلى «أحمد» قائلًا: ما رأيك؟ هزَّ «أحمد» رأسه وقال: لا بأس!
التفَّ الشياطين حول رقعة الشِّطْرنج … وبدأت المباراة. لكن لم يكد «مصباح» يحرك أول عسكري، حتى أُضيئت لمبة جهاز الاستقبال. أسرع «باسم» لتلقِّي الرسالة، وكانت من «خالد» … «تَغيَّر الموقف … الرياح أسرع … مصيدة جديدة فتحَتْ فمها!» نقل «باسم» الرسالة إلى الشياطين. كانت الرسالة غامضة … غير أنَّ «أحمد» شرَدَ قليلًا ثم قال: هل تذكرون كلمات البحار الذي سأل إن كانت المركب ستصل الليلة؟ … أعتقد أن هذه هي معنى الرسالة.
قال «مصباح»: هذا يعني أننا قد نتحرك الليلة!
صمت الشياطين، غير أن «أحمد» نظر إلى رقعة الشِّطْرنج، فاستغرقوا في المباراة من جديد. ولم يشعر الشياطين بالوقت … فقد استغرقت المباراة ساعتين. ولم يكد «مصباح» يتمطَّى وهو يرفع أصبعيه علامة الانتصار ﻟ «أحمد» … حتى كان «خالد» يدخل عليهم … فعقدوا اجتماعًا سريعًا. قال «خالد»: هناك باخرة نقل بضائع … تصل الليلة، وسوف يتغير طاقم البحارة الذي عليها بطاقم جديد يكمل الرحلة … حيث تكمل الباخرة رحلتها إلى ميناء بوسطن في الولايات المتحدة. لقد عرفت من الكابتن «بال» أن عملية تغيير طاقم البحارة نظام تسير عليه ناقلات «زوس»، وهناك بحارة لشرق الرحلة وبحارة لغربها!
صمت «خالد» قليلًا، في نفس اللحظة قال «بو عمير»: إن هذه هي نفس كلمات البحارة فعلًا.
نظر «خالد» إلى الشياطين. فأخبره «أحمد» بالحديث الذي سمعوه في المقهى، فقال «خالد»: لقد اتفقتُ مع الكابتن أن أكون على ظهر الباخرة معه، فهو الذي يقود الباخرة في نصف الرحلة الغربي.
وسكت «خالد» لحظة … كانت أعين الشياطين تركز على شفتيه. أخيرًا قال: لقد أعدتُ كلامي مع الكابتن لتعملوا معنا … فوافق على أن تعملوا في تموين البواخر مؤقتًا، ثم يبحث عملية نزولكم إلى البحر.
قال «أحمد»: سوف تكون وحدك في الباخرة، وهذا سوف يجعل المدة طويلة، إن خطتنا أن تمر الباخرة في سلام، وهذا يحتاج إلى معرفة خط سير الباخرة في رحلتها.
سكت «أحمد» قليلًا، ثم قال: إننا نعرف أن الانفجار يتم عند جزر «أزورس» وسوف نسبق رحلة الباخرة … وعليك أن تحصل على خريطة الرحلة، وموعد قيام الباخرة.
خالد: سوف ألتقي الليلة بالكابتن. وصمت لحظة ثم قال: عليَّ الآن أن أُتمِّم على طاقَم الباخرة، وأتأكد من تموينها. ثم وقف وأكمل: موعدنا الليلة لنبدأ عملنا.
جلس الشياطين صامتين، حتى قال «مصباح»: إننا نحتاج إلى زورق بخاري، ولا بدَّ أن نعده من الآن … حتى إذا وصلتنا خطة الرحلة انطلقنا.
لم يرد أحد من الشياطين، وقام «أحمد» بعد لحظة إلى التليفون، ثم طلب رقمًا لأحد عملاء رقم «صفر» في برشلونة، ولم يكد الرنين يبدأ حتى سمِع «أحمد» صوت المتحدث يقول: أهلًا بكم في برشلونة. هل هناك شيء؟
أحمد: نعم … نحتاج الليلة إلى زورق بخاري مجهز للإقلاع في أية لحظة!
صمت الصوت الآخر قليلًا، ثم أخيرًا قال: في الاتجاه رقم ٥ الساعة ١٦ سوف يكون المطلوب جاهزًا.
شكره «أحمد»، ثم وضع سماعة التليفون، ونظر إلى الشياطين وقال: إذا تأخرت رسالة «خالد» حتى الساعة ١٦ فإنَّ علينا أن ننطلق إلى الاتجاه رقم ٥.
نظر «باسم» في ساعة يده، ثم قال: لا يزال الوقت مبكرًا … وما كاد ينتهي من جملته، حتى كانت هناك رسالة من «خالد»: يتحرك القطار مع مطلع الشمس … يمرُّ بالنقط ٣٢ و٣٦ و٤٨ … حركة الفأر ٤ … المصيدة داخلها.
عرف الشياطين ماذا يعني «خالد». كان معنى الرسالة أن الباخرة سوف تتحرك في اتجاه جزر «أزورس»، وأنها ستسير بسرعة ٤ عُقَد في الساعة، وأنه سيكون بمفرده فيها …
كان من الضروري أن يعرف الشياطين إن كانوا سيلتقون ﺑ «خالد» قبل السفر أم لا؟ فقال «مصباح»: هل نرسل له رسالة؟
رد «أحمد»: علينا أن ننتظر، فإذا تأخر أرسلنا له رسالة!
لم يكن أمام الشياطين عمل شيء، إلا أن «بو عمير» قال: أعتقد أننا سوف نحتاج إلى معدات الأعماق؛ فالمسألة ببساطة أن هناك من يزرع ألغامًا في طريق الباخرة، أو أن هناك غواصة تفعل نفس الشيء.
تحرك الشياطين بسرعة، وبدءوا يُعدون ما يحتاجونه خلال رحلتهم … وانقضى الوقت حتى إن «باسم» لفت نظرهم إلى ذلك، فأسرع «أحمد» بإرسال رسالة إلى «خالد» ليتأكد إن كانوا سيلتقون به أم لا.
ظل الشياطين ينتظرون الرد، إلا أن الرد تأخر. لم يزعجهم ذلك، فقد قال «أحمد»: لا بد أنه لا يجد الفرصة للرد … هيَّا بنا.
خلال لحظات كان الشياطين يأخذون طريقهم إلى الموقع الذي حدده عميل رقم «صفر». كانت الشوارع هادئة في ذلك الوقت المتأخر … وكان الليل يحمل برودة تبعث النشاط في الأجساد … كانوا ينطلقون في هدوء، وقد فتحوا نوافذ السيارة. بدءوا يسمعون صوت الموج عند ارتطامه بالشاطئ … أخذوا يتنفسون بعمق، واقترب الصوت أكثر … حتى إذا وصلت السيارة إلى الشاطئ كان هناك زورق يقف وحيدًا. تلفَّت الشياطين حولهم. لم يكن هناك أحد. نظر «أحمد» في ساعته ثم قال: لا يزال أمامنا نصف ساعة حتى يمكن أن ننطلق …
قال «مصباح» في هدوء: سوف أعود بالسيارة إلى المقر، ثم ألحق بكم. لم يرد أحد من الشياطين … إلا أنهم بعد لحظاتٍ كانوا يأخذون طريقهم إلى الشاطئ مغادرين السيارة … وانطلق «مصباح» بالسيارة في سرعةٍ. ظلوا يتتبعونه حتى اختفى، فاستداروا إلى حيث تمتد مساحة من الأراضي إلى داخل المياه، وحيث يقف الزورق، حتى إذا وصلوا إلى هناك قفز «بو عمير» أولًا، ثم تبِعَه الآخرون.
كان الموج هادئًا … نزلوا يتنقلون في أنحاء الزورق … كان متوسطَ الحجم … مفروشًا بطريقة بديعة، حتى إن «باسم» قال: إنها لرحلة ممتعة.
أدار «أحمد» محرك الزورق، فارتفع الضجيج … تقدَّم به، ثم انطلق في دائرة واسعة … وقال: إنه جاهز تمامًا.
لم يكد يعود إلى نقطة الانطلاق حتى رأى «مصباح» يعود وحيدًا، وأطلق لهم صفير الشياطين، فرد عليه «أحمد»، ثم اقترب «مصباح» حتى أصبح أمام الزورق تمامًا، ثم قفز إليه. ونظر «أحمد» في ساعته، ثم استدار بالزورق وانطلق. كانت عيناه فوق البوصلة التي حددت له اتجاه النقط ٣٢ و٣٦ و٤٨ … كما حدد «خالد» في رسالته.
أخذ الزورق انطلاقه إلى عمق المحيط … وبدأت أضواء مدينة برشلونة تتضاءل. كان الشياطين يرقبون الأضواء التي تشبه عِقدًا من النور … وأخذت تصفر، وتصفر … فجأة قال «أحمد»: إن أجهزة الإنذار في الزورق تُنبئ عن عاصفة في الطريق.
نظر الشياطين إلى بعضهم، ثم بدءوا يستعدون. إن احتمالات العاصفة يمكن أن تكون أكبر مما يتصورون. والتفُّوا جميعًا حول «أحمد» الذي كان يأخذ طريقه إلى غرفة جهاز الاستقبال فقال: الزورق قوي … وأعتقد أنَّ العاصفة لا تستطيع تحطيمه.
بدأت الأمواج ترتفع، ومعها أخذ الزورق يهتز. وصل «أحمد» إلى مكان جهاز الاستقبال، فعرف أن هناك رسالة … بدأت دقات الجهاز، وبدأ «أحمد» يتلقى الرسالة … كانت تقول: لقد تحرك الحوت … إنه في الطريق إلى الطُّعْم. نقل الرسالة إلى الشياطين، ولم يكد ينتهي من كلامه حتى ارتطمت موجة عنيفة بالزورق … جعلته يهتز كالريشة. تماسك الشياطين في أماكنهم، واستمرت اهتزازات الزورق حتى قال «أحمد»: يبدو أنها عاصفة عاتية!
سأل «باسم»: هل تبعد أول نقطة عنا كثيرًا؟
نظر «أحمد» إلى البوصلة التي أمامه وقال: إنها تبعد — حسب جهاز السرعة — حوالي نصف ساعة.
فجأة لمعت لمبة حمراء أمام «أحمد». وعندما قرأ ما تشير إليه اللمبة، عرف أن هناك جسمًا صُلبًا سوف يعترض طريقهم، فانحرف جهة اليمين، واستمرَّ في انطلاقه، وانطفأت اللمبة الحمراء فدار دورة واسعة، ثم عاد إلى نفس الطريق … بدأ جرس إنذار يدق فقال «أحمد»: يبدو أن أمامنا شيئًا غريبًا!
سأل «بو عمير»: ماذا تقصد؟
أحمد: أخشى أن تكون إحدى البواخر وقد أطفأتْ أنوارها!
أبطأ من سرعة الزورق، وكان جرس الإنذار لا يزال يدق … أبطأ السرعة أكثر … حتى كاد يتوقف … ضغط على الكشافات الأمامية، فغرِقت مياه المحيط في الضوء إلى مسافة بعيدة. ثم فجأة ظهر جسم أسود … تقدَّم في اتجاهه ببطء، حتى إذا أصبح قريبًا منه انحرف يمينًا، ثم رفع السرعة، ودار نصف دورة … إلا أنه ما كاد يعود إلى نفس الطريق، حتى دقت أجراس الإنذار، التي كانت قد توقفت … أبطأ السرعة مرة أخرى … ثم أخذ طريقه في هدوء إلى الجسم الأسود، الذي لم يكن محددًا حتى هذه اللحظة … فجأة … اختفى الجسم في مياه المحيط … وظلت أجهزة الإنذار في انطلاقها.
قال «مصباح»: مسألة غريبة! هزَّ «أحمد» رأسه وقال: يبدو أنه حوت ضخم، ويبدو أنه لا يزال تحت سطح الماء، ما دامت الأجهزة مستمرة في انطلاقها.
انحرف من جديد إلى اتجاه مختلف، غير أن الأجهزة ظلت تدق … فجأة، لمع ضوء في الظلام، فكشف الزورق كله … وجاءتهم كلمات تقول: اتجهوا ناحية الضوء!
نظر الشياطين إلى بعضهم … ثم أخذ «أحمد» اتجاه الضوء وتقدم بالزورق. لم يكن أحد منهم يعرف ماذا يعني هذا النداء.