لغز بلاد بونت
وقد تمَّ تدوين أمر تلك الرحلة الكبرى بكثيرٍ من التفاصيل الدقيقة، مما سَمَح للمؤرخين بوضع مجموعة فروض؛ لتحديد «أين تقع بلاد بونت» في ضوء تلك التفصيلات. ومع ذلك فقد جاءت هذه الفروضُ شديدةَ التباعد عميقةَ التنافر، فهناك مَن افترض أنها تقع في قارَّة أفريقيا؛ استنادًا إلى ما جاء ذكرُه مكتوبًا، أو مرسومًا بالنقش عن مُنتجات بلاد «بونت»، خاصة بعض الحيوانات المُستقدَمة من بونت، والتي توجد بإفريقية وحدَها. ولما كانت الرحلة قد خرجت من العاصمة طيبة/مدينة الأقصر، واتجهت إلى «قفط» إلى الشمال منها مباشرة، ومنها أخذَتْ طريقَها بريًّا عبر الصحراء الشرقية، حتى ميناء القصير على ساحل البحر الأحمر. ومن هناك انطلقت السُّفن إلى بلاد «بونت». فقد ذهب الفرضُ إلى أن الرحلة قد أبحرت من ميناء القصير في البحر الأحمر جنوبًا، إلى بلاد الصومال ملتزمةً السَّاحل الإفريقي، أو ربما إلى بلاد أثيوبيا. وهو ما سنرى نموذجَه عند المصرولوجيست «جاردنر» وآخرين.
ولم يزلِ الخلاف قائمًا حول النخيل المرسوم في لوحات حتشبسوت؛ هل كان نخيل أشجار الدوم كما ذهب هيرتسوج وكتشن، أم هو نخيل البلح كما يعتقد «عبد المنعم عبد الحليم» في رسالتيه الماجستير والدكتوراه؟
هذا بينما افترض آخرون أنَّ بلاد بونت المذكورة في الوثائق المصرية هي ذات بلاد «أوفير» التي جاء ذكرُها بالكتاب المقدس، وكانت محلًّا لبعثاتٍ متشابهة أرسلها الملك الإسرائيلي سليمان بن داود أشهر مُلوك إسرائيل الموحدة. إلا أن «أوفير» نفسَها وجدت في تحديد موضعها تضاربًا في الفروض، أشدَّ اتساعًا من التضارُب حول موضع بلاد بونت. ولم تزل حتى اليوم بلدًا مجهولًا بدَوْرها.
ولحل الإشكال تم اللجوء إلى حلٍّ وسطي أو تلفيقي، يلخص الأمر في إنهاءٍ يائس للإشكال، يقول: إن المصريين قد استخدموا اسم بونت بمعنيَيْن؛ الأول: معنى عامٌّ يشير إلى أي موقع جغرافيٍّ يزرع اللبان/المر/البخور. ومعنى خاصٌّ قصدوا به سواحلَ إفريقيا من الصومال جنوبًا حتى السودان شمالًا.
ورغم أن حلَّ لغز بلاد بونت يُمكن أن يؤدِّي إلى حلولٍ تسلسلية لمجموعة من المتشابكات التاريخية المُلغزة، كما يمكن أن يفصح عن تدقيقاتٍ هامَّة لتحديد ملامح العالم القديم، مع فرزٍ واضح للأجناس والهجرات، فقد ظلَّت جميع الفروض ناقصةَ التمام والإقناع، وظلت أرض الإله بونت لغزًا يبحث عن حل.
وعلى مُتون صروح معبد روعة الروائع بالدير البحري، نقَشَ الفنان المصري القديم صورًا وكتابات جدارية، تصف أهم حدثَيْن في حياة الفرعونة حتشبسوت. الحدث الأول: هو قصة ميلادها الإلهي من أبيها الإله آمون نفسه، إضافةً إلى الحدث الثاني، والأهم تاريخيًّا، وهو مجموعة جداريات بونت التي تصِفُ رحلتَها إلى أرض الإله.
وفي الجزء الأسفل من جدارياتِ بونت في معبد روعة الروائع، يمكنك أن تشاهد مرسًى بحريًّا، رُسمتْ تحته الأسماك في المياه للتوضيح. وعلى يمين المرسى يقف الملك البونتي، الذي دُوِّن بالاسم «بارح» أو «فارح» أو «فرح» أو «باروخ» مع اللقب «عظيم عظماء إرم». أما الملكة فكانت ضخمةَ الجثة، ورسمها الفنان بواقعيةٍ شديدة، أراد بها أن يُبرز ما يكتب باعتباره تقريرًا تسجيليًّا.
والواضح تمامًا أن حتشبسوت كانت ترى في تلك الرحلة أهمَّ إنجازاتها على الإطلاق، وهو الأمر الذي تشِي به ببساطة ووضوح روايتُها المدونة، ناهيك عن تكريسها كل هذا البناء الهائل؛ لتسجِّل عليه ذلك التقرير عن بَعثة بونت. كما تتضح الأهمية في أن الفرعونة قد أولت عظيمَ اهتمامها إلى الجانب المعرفي العِلمي، فأرفقت برحلتها خبراءَ يقومون بدور الصحفيين الذين كتبوا بالفعل ريبورتاجًا مصورًا علميًّا دقيقًا رائعًا، وصفوا فيه أرضَ الإله وصفًا طبيعيًّا وبيئيًّا، وراعوا الجغرافية البشرية لبيان الأجناس التي تسكن تلك البلاد. كما أولوا عنايتهم لبيان عادات وتقاليد أهلِها، مع دراسةٍ علمية مُمتعة لمختلف أنواع الأسماك والحيوانات البحرية، إضافةً إلى مسحٍ تفصيلي لمنتجات بلاد بونت، من أخشاب ثمينة وجلد الفهد، وسبائك الذهب والفضة، مع أحمال البخور والعطور والتوابل، والأعشاب التي ربما كانتْ للكيمياء العلاجية. ولم ينسَ التقرير أن يوضح أهمية أشجار بلاد بونت، التي دفعت البعثة المصرية إلى الإتيان بها بجذورها إلى مصر، مما يعني أنها أشجارٌ لا تنمو في مصر، وأنها نوعٌ خاص ببلاد بونت. حتى التفاصيل الصغيرة لم تَفُت عين الصحفي المدققة، مثل إحضار البعثة لكُحل العيون (الإثمد)، مع تصويرٍ واضح لأنواع الحيوانات المستجلبة من هناك. فترى كلابًا أشبه بالكلاب السلوقية الموجودة اليوم، مع القردة التي تعلقتْ بصواري السفن، لتضيف إلى اللوحة بهجةً تستدعي الابتسامة، مع الزراف وتنويعاتٍ أخرى، قُصد بها أن يكون التقرير مشوقًا، إلى جانب كونه مستوفيًا.
أما «حتشبسوت» نفسها؛ فقد سجلت:
وهنا ملاحظة لا تفوت مدققًا، نضعها في الاعتبار حتى يأتي حِينُ معالجتها. وتتمثل في السؤال: ما معنى أن تهدي الملكة ذهبًا لتتلقى ذهبًا، في رحلة قُصد منها تبادل منتجات مع منتجات بونت؟ فهل كان ذهب بونت يختلفُ عن ذهب مصر؟ يبدو ذلك؛ لأن النص قد ميَّز ذهب «بونت» بأنه ذهب أخضر. فماذا كانت تَعني بالذهب الأخضر؟ أما الملحوظة الثانية التي ننبه إلى وجوب تذكُّرها، فهي القول: إن هذا الذهب من بلاد الآمو. والآمو أو العامو هي الكلمة التي استخدمَها المصريون القدماء؛ للدلالة على بدو آسيا الساميين عمومًا، وعلى الهكسوس — خصوصًا — الذين سبق واحتلوا بلادَهم في نهاية الدولة الوسطى. وقد طُردوا منها زمنَ «أحمس» مؤسس الأسرة الثامنة عشرة، وحكم حوالَي ١٥٧٥–١٥٥٠ق.م. أي قبل زمن حتشبسوت بحوالي ستِّين عامًا، أو تزيد قليلًا.
ولا يصح أن نتغافل عن عبارتها «منذ فجر الخليقة» وتكرارها. وهو ما يؤكد على أهمية تلك الرحلة للملكة، ولتقديرها الأمور. أما الغريب حقًّا فكان مسألة تجاهل الفنان لطريق العودة من البحر الأحمر، من ميناء القصير حتى قفط على النيل شماليَّ الأقصر، في رحلة عودة برية عبر الصحراء الشرقية، الممتدة ما بين البحر الأحمر وبين النيل. فعاد بالسفُن فورًا من «بونت» إلى الأقصر عبر النيل، دون المرور بالطريق البريِّ، رغم أنه فصَّل ذلك بوضوحٍ في رحلة الذهاب. فهل تجاهل الفنان الدقيق الدءُوب الفاحص المدقِّق الطريقَ البري، أم أنه كان لم يزل يقدِّم لنا تقريرًا دقيقًا وعلميًّا وحقيقيًّا؟ وإذا كان كذلك فإن لغز «بونت» يكون قد ازداد تعقيدًا. فكيف وصلت السفن إلى طيبة/الأقصر، دون المرور بالطريق البريِّ من ساحل البحر الأحمر إلى النيل في الوادي؟
(لوحات تتعلق بالملكة حتشبسوت ورحلتها السِّلمية إلى بلاد بونت.)
(انظر الأشكال رقم «٣٢، ٣٣، ٣٤، ٣٥».)
ولغز بلاد الحور
أعالي ما بين النهرين «ميتاني»: ربما كان موطن الحوريِّين في بلاد «النايري»، وهو الاسم الذي أطلقه الآشوريون على الإقليم الواقع إلى الشمال والشرق من بحيرة «فان». تحرك الحوريون من هناك جنوبًا في أوائل القرن السابعَ عشر ق.م. إلى شرق آشور وغربها، وأسسوا عددًا من الإمارات اتَّحدت بعد ذلك تحت حكم ملوك «ميتاني». امتدت مملكة «ميتاني» من قرقميش على الفرات حتى قُرب نهر دجلة الأعلى، مشتملة على وديان البلخ والخابور ومقاطعة نصيبين. وفي شرقيِّ دجلة تشتمل أيضًا على مِنطقة «أرابخا/كركوك الحالية»، التي كانت قبل ذلك مملكة حورية منفصلة. وليس من المعروف إذا كانت قد شملت إربيل أيضًا. انتشر الحوريون كذلك في أجزاء من آسيا الصغرى، وسورية وفلسطين، دون أن ينظموا ممالك دائمة. ثبت وجودهم حوالي منتصف الألف الثاني في بوغاز كوي عاصمة الحيثيين (الأناضول)، وفي رأس شمرا (أوغاريت على الساحل السوري قُربَ اللاذقية)، وفي أورشليم وطناخ، وفي بلاد آدم (الحور). وربما اشتملت جموع من الهكسوس على فئات من الحوريين.
أي هذه التزمينات لسقوط دولة «ميتاني/نهارين» نصدق؟! هل سقطت على يد الآشوريين في القرن التاسع/٩٠٠ق.م. قبل الميلاد، كما أفادنا طه باقر المؤرِّخ والعراقي الرصين المعروف، والمعتبر بين طبقات المؤرخين المحدثين؟ أم أنها سقطت على يَدِ الآشوريين بالفعل، لكن زمن شلمناصر الأول الآشوري حوالي ١٢٧٥ق.م. كما قررت موسوعة تاريخ العالم، التي شارك فيها جِلَّة من المتخصصين كما ينبغي أن يكون التخصص؟ أم أنها لم تسقط على يد الآشوريين، بل على يد سكَّان تركيا القدماء المعروفين «بالحيثيين»، زمنَ الفرعون المصري إخناتون، أي حوالي ١٣٤٠ق.م. فيما يؤكِّده المؤرخ الشهير جارستانج؟ أم أنها سقطت على يد الملك الحيثي شوبيللو ليوماش حوالي ١٣٩٠ق.م. فيما يصر عليه جاردنر المؤرخ العالي الذكر؟! وهكذا يصبح بيدِنا أربعة تزمينات بينها فروقٌ زمنية فادحة، لدينا «٩٠٠ق.م.، و١٢٧٥ق.م.، و١٣٤٠ق.م.، و١٣٩٠ق.م.»! وهذا فقط ما وقع بأيدينا ناهيك عما لم يصِلْنا.
وحتى الآن نجد كل ما جاءنا عن «ميتاني»، جاء مدونًا في عددٍ من السِّجلات، ولم يعثر على تلك السجلات أبدًا في الموقع الذي حدَّده المؤرخون لها بين الفُرات والخابور في الفرات الأعلى. وكل معلوماتنا عن «ميتاني» قد جاءت من تلك السجلات التي عُثر عليها في مصر، أو آشور، أو أوغاريت، أو العاصمة الحيثية بشمال تركيا، دونما أثر أركيولوجي حقيقي في موطنها، الذي تمَّ التواضع عليه. ذلك الموطن الدولة الذي تمَّ تحديدُه في ضوء السجلات غير الميتانية، وفق فروض مُعقَّدة تمَّ فيها تتبع خط سير الحملات المصرية نحو «ميتاني»، وعبورًا على أيةِ مواضع؟ مع دراسة الإشارات التي وردت في الرسائل الميتانية إلى فراعنة مصر، ولم يُعثر أبدًا على الخطابات المماثلة في موقع أعالي النَّهرين، مع دراساتٍ مطولة معقدة، انتهت إلى فرضٍ يضع تلك المملكة في الرَّافدين الأعلى، مع حيرةٍ غير خافيةٍ حول ذلك الانتشار والتشظِّي الواسع للشعب الحوري، بطول المنطقة وعَرضِها في الأناضول، وفي جميع بوادي الشام، وفي داخل فلسطين. وأما الأشد أهمية فهو التواجد الذي أشار إليه الجميع، وأهمله الجميع، في بلادٍ باسم آدم حملت أيضًا اسم بلاد الحور، وهو الأمر الذي نراه أمرًا.
آدم أم آدوم؟
«اللغة الكارية» وردت إليها إشارات عدَّة في المصادر القديمة. وربما كانت أقدم تلك الإشارات إشارة «استرابون» المؤرخ الكلاسيكي اليوناني إلى اللغة الكارية، بوصفها لغة لمن يُسميهم «سكان الكهوف». كذلك وردت إشاراتٌ بالكتاب المقدس إلى قومٍ يَسكنون الكهوف، لكن على مستوى التاريخ كعِلم، ظلَّتِ اللغة الكارية لغة مجهولة لشعبٍ مجهول، يسكن كُهوفًا مجهولة في بلادٍ مجهولة.
ومع علوم التاريخ الحديثة التي فكَّت رموز كثيرٍ من اللُّغات القَديمة، يعود الحديث عن اللغة الكارية إلى الظهور، بعد أن تمَّ إسقاطها من حسابات البحث العلمي منذ زمنٍ بعيد. فقد بدأت نصوص الحضارات القديمة تُفصح عن إشاراتٍ إلى اللغة الكارية، فنجد النصوص الأكادية بالرافدين تحدِّثُنا عن لغةٍ باسم «اللغة الحورية»، التي يتحدث بها شعبٌ يعيش في بلادٍ تحمل اسم أصحابِ تلك اللغة، أي الشعب الخوري الذي يعيش في بلاد الخور. ووردت تلك البلاد باسم «بلاد الخور»، كذلك وردت إشارات متكرِّرة في النصوص المصرية القديمة إلى لغةٍ باسم «لغة خارو». وعند فك رموز الهيروغليفية الحيثية بتركيا القديمة، وُجدت إشارات عديدةٌ إلى اللغة الحورية، بل وتم العثور على ألواحٍ مكتوبة بتلكَ اللُّغة. وهو الكشف الذي ترافق مع اكتشاف سجلَّات تل العمارنة بمصر، لنَجِدَ بالعمارنة رسالةً تتكون من ستمائة سطر، مكتوبة بتلك اللغة، موجهة من ملك باسم «دوشراتا» يحكم في بلاد باسم «ميتاني». والرسالة موجَّهة إلى الفرعون آمنحتب الثالث. وهو الأمر الذي أدَّى إلى إلقاء اللُّغَتين أو بالأحرى اللغة الوحدة (الحورية/الخورية) في رحم اللغة الكارية؛ إذ سنكتشف بعد قليل أنها جميعًا ليست سوى لغةٍ واحدة، والربط بينها وبين البلاد التي ذُكرت في تلك الرسائل باسم بلاد ميتاني، واعتبار سكان تلك البلاد هم أصحاب تلك اللغة. ومرة أخرى يعود الاعتبار إلى كلام استرابون والكتاب المقدس، حول اللغة الكارية لغة سكان الكهوف. ذلك الكلام الذي جاء في شكل ومضاتٍ سريعة، تشير إلى شعبٍ يسكن الكهوف ويتكلم الكارية، واحتسب لوقتٍ طويل من خيالاتِ استرابون، ومبالغات المحرر التوراتي.
وبمرور الوقت تزايد الكشف عن تواجد تلك اللغة وانتشارها، في ألواحٍ عُثر عليها في تلِّ تعنك، وفي وادي جرزيل بفلسطين. ثم كانت المفاجأة، وهي أن تلك اللغة لم تكن مجردَ لغة بدائية مجهولة لشعبٍ مجهول. حيث تم العثور على الأقلِّ على مدينة واحدة من مُدن شرقيِّ المتوسط، كان أهلها خليطًا من عدَّة أجناس، ويتحدثون عدةَ لغات بينها اللغة الحورية، بل وضح أنهم كانوا يستخدمونها في المكاتبات الرَّسْمِية. وكانت تلك المدينة هي «أوغاريت» على الساحل السوري قرب اللاذقية، وتحمل الآن اسم «تل شمرا». ثم كان من بين الإشارات التي وردت في أوغاريت، على ساحل المتوسط الشرقي وتل العمارنة بمصر، إشارة أخرى تقول: إن البلاد التي سكَنَها الشعب الحوري الذي تكلم اللغة الحورية، كانت تعرف أيضًا باسم بلاد «آدم»، والتي أطلقت عليها نصوص تلِّ العمارنة اسم بلاد «ميتاني»، وأيضًا «نهارين». وهو الاسم الذي اعتادته المصادر الآشورية في الإشارة إلى بلاد الحور.
ووفق الإشارات التي وردت عن بلاد «ميتاني» في نصوص أكاد ومصر وبلاد الحيثيين، وتفسير تلك الإشارات لدى المؤرخين، فقد انتهى هؤلاء إلى وجوب وقوعها بين الفرات والخابور بالفرات الأعلى. ورغم ذلك فإنه أبدًا لم يعثر هناك حتى الآن على دلائل واضحة، تشير إلى دولة بذلك الاسم «بلاد ميتاني» أو «بلاد آدم». وليست هناك أية كهوف سكنية تشير إلى أصحابها. فقط عثرنا على مخلفات مدينة تُدعى «نوزي»، ربما كانت بعض سجلاتها باللغة الحورية، أو على التدقيق كما ذكرت موسوعة تاريخ العالم «بضع كلمات»، وتلك الكلمات البضع أبدًا لم تتحدَّث عن نفسها، باعتبار أن اللغة المدونة بها هي لغة نوزي، كما لم تفصح لنا عن اسم شعبها، أو دَولتها أو هويتها.
وهكذا تم وضع اللغة الحورية وشعبها الحوري شعب آدم الميتاني ساكن الكهوف، في ملفٍّ صغير يؤكِّدُ أن بلاد الميتاني تقع أعالي الفرات. وربما كانوا هُم، احتمالًا، أولئك الذين حملوا اسم بلاد آدم الحورية، وتكلموا اللغة الحورية، لكن الملفَّ وُضع مرةً أخرى بين عددٍ من الملفات المسجلة، تحت عنوان «غير مؤكد وأقرب للمجهول».
وهنا نمسك من كلِّ ذلك الشتات بطرَف خيطٍ، يتمثل في واحدٍ من الأسماء المتعددة لذلك الشعب، الاسم الذي فضَّل أن يُطلقه على نفسه، «شعب آدم»، الذي ورد له مثيلٌ بالكتاب المقدس لكن باسم «آدوم». وسنحاول الآن تحديد موقع «آدوم التوراتي» الجغرافي؛ للتأكد من مدى التقائِه من عدمه، مع شعب آدم الحوري الميتاني (التاريخي). وهذا التحديد سيعتمد بالضرورة على ما جاء بالكتاب المقدس عن الشعب الذي سكن بلاد آدوم، إضافةً إلى ما يمكن أن نعثر عليه في نصوص المنطقة إن وجدنا. ثم علينا محاولة التأكد والتيقُّن إن كان شعب «آدوم» التوراتي فعلًا هو المذكور في المدوَّنات التاريخية باسم «آدم/الحور/الميتاني/نهارين»؟ وفي حال الوصول إلى إجابةٍ، سنحاول تقديم القرائن والأدلة الممكنة.
يمكن التعرف على موضع بلاد «آدوم»، التي جاء ذكرها بالكتاب المقدَّس من عدة مواضع ومتكررات بهذا الكتاب، أبرزها النص الذي يحدِّثنا عن حدود دولة إسرائيل جغرافيًّا، وكيف تتماسُّ حدودها الجنوبية مع دولةٍ تجاورها من جنوبها. ويصف موقع تلك الدولة بقوله:
وهو ما يعني أن الحدود الجنوبية للدولة اليهوذية — حسب سياق النصِّ الذي ورَدَ به الاقتباس — كانت على خطٍّ حُدودي مع بلاد تسمى آدوم، وأن على تلك التخوم (الحدود) تقع برية باسم برية «صين». ومن جانبنا جهدنا بحثًا على تلك الحدود في خريطة المنطقة الحالية، حتى وجَدْنا برية تحمل اليوم اسم برية «تسين»، دون تغيير لساني يُذكر عن برية «صين»، وتقع في ذات الموضع الذي حدَّدَتْه التوراة لبرية صين. ثم إن هذه التخوم تقع عند أقصى بحر الملح جنوبًا. و«بحر الملح» هو الاسم التوراتي للبحر الميِّت، وإن تخوم «حدود» آدوم هذه تبدَأُ عندما ينتهي لسانُ البحر الميت الممتدِّ جنوبًا.
وتقول التوراة: إن سكان تلك المنطقة سُموا آدوميين؛ لأسبابٍ صاغتها التوراة على طريقتها. وأهم تلك الأسباب: أن جد الآدوميين البعيد كان يُدعى آدوم، وأن آدوم هذا كان شقيقًا توءَمًا ليعقوب بن إسحاق بن إبراهيم المعروف باسم إسرائيل. لقد كان المحرر التوراتي يعلم أن هناك لونًا من القَرابة القبلية، بين سكان بلاد آدوم، وبين الشعب الإسرائيلي، فجعل الآباء الأسطوريين للشعبين أشقَّاءَ، بل وتوائم.
فقال عيسو ليعقوب: أطعمني من هذا الأحمر؛ لأني قد أعييت؛ لذلك دُعي اسمه آدوم. فباع بكوريته ليعقوب، فأعطى يعقوب عيسو خبزًا، وطبيخ عدس.
فلما أكملت أيامها لتلد؛ إذا في بطنها توءَمان. فخرج الأول أحمر كله كفَروةِ شعر، فدعوا اسمه عيسو. وبعد ذلك خرج أخوه ويده قابضة بعقب عيسو، فدعي اسمه يعقوب.
مرة أخرى تفسر لنا القصة ذلك الأمرَ الذي كان يعرفه المحرِّر التوراتي، وهو أن الشعب الآدومي كان «شعبًا أحمر» كما هي عادة التوراة في وضعِ معانٍ لأسماء الأعلام، مثل بنيامين أي: ابن اليمين. ويعقوب سُمي كذلك؛ لأنه كان يمسك بعقب أخيه التوءَم عيسو عند ولادته. كذلك سُمي عيسو بهذا الاسم؛ لأن اسم عيسو يعني الأحمر، واسمه الثاني آدوم يعني أيضًا الأحمر. وكان الترميز إلى اللون الأحمر في الاسم عيسو «فروة شعر»، والترميز إلى اللون الأحمر في الاسم آدوم «طبيخ عدس». أما معنى كلمة «آدوم» في اللغتين العبرية والعربية، فهو الصخر أو التراب «الأحمر». والمقصود هو اللون الأشقر الضارب إلى حمرة، أو الأحمر الضارب إلى غُبرة. وهو الأمر الذي يرجح استنتاجاتِ المؤرخين أن الشعبَ الميتاني — حسب موسوعة تاريخ العالم — من الجنس الهندوآري. وعادةً ما يحمل هذا الجنس صفة الشقرة الضاربة إلى حمرة. وهذا أول القطر في محاولة التيقُّنِ من تطابق القصة التاريخية، عن شعب آدوم الحوري الميتاني التاريخي، مع الشعب الذي ذكره الكتاب المقدس باسم شعب آدوم.
ومع محاولة البحث عن تطابق، نحاول أيضًا تدقيق الموقع الجغرافي لبلاد آدوم التي سكَنَها الشعب الحوري صاحب اللغة الحورية الكارية. نمسك بتلابيب «آدم» التي رأيناها ذات «آدوم»، لنطالع خريطة المكان الذي حدثنا عنه الكتاب المقدس جنوبيَّ البحر الميت. فنجده امتدادًا طوليًّا على الجهتين الأصليتين الشمال والجنوب، يسير مع امتداد «جبال الشراة أو السراة»، التي تطلق عليها التوراة اسم جبال «سعير»، التي يوازيها من الغرب وادٍ عظيم، يمتد بنفس الطول يسمى «وادي عربة».
وفي سعير سكن قبلًا «الحوريون»، فطردهم بنو عيسو، وأبادوهم من قدامهم، وسكنوا مكانهم.
ها قد بدأت الأمور تنجلي بين أيدينا. ولدينا الآن قرينة جديدة، تتمثل في أن شعب «آدم» المزعوم أنه سكن أعالي الفرات، كان يحمل الصفة «حوري»، وهي ذات الصفة التي أكد المقدس على أنها كانت صفةَ شعب «آدوم»، الواقع على امتداد جبال السراة (سعير)، ووادي عربة جنوبي البحر الميت.
لكن النص هنا حاول القول إن «آدوم» أُناس و«الحور» أناس أُخر. لكن الحدث حدَثَ في ذات المكان، حيث أباد الآدوميون (بنو عيسو) الحوريين واستوطنوا بلادهم. ونظن أن ذلك يعود إلى سببٍ تأسيسي. فلما كان الحوريُّون أشقاء للإسرائيليين، وكان معلومًا أنهم هندوآريون وليسوا ساميين. وحتى لا تلحق الهندوآرية بإسرائيل؛ فقد تمت الصياغة بهذا الشكل، لكنها لم تلحق باستنتاجنا أي خلل؛ فنحن ما زلنا في ذات المكان الذي حددته التوراة. وما يشغلنا الآن هو أن ذلك الموضعَ كان سكنًا لشعب الحور الذي نعتقد الآن، أنه ذات شعب آدوم (وهو ما سنقدم عليه قرائن كافية). شعب آدوم الذي سكن جبال عسير/السراة ووادي عربة ذلك الوادي الذي كان سببًا في إطلاق اسم العرب أولًا على سكان آدم وسيناء وبعض بوادي الشام القريبة. ولم يتمَّ تعميم اسم عرب على سكان المحيط الأوسع في بوادي الشام وجزيرة العرب، إلا بعد ذلك بزمنٍ طويل. فظل العرب هم سكان عرابة/عربة ومحطيها في النصوص الرافدية، التي بدأت ذكرهم حوالي ٨ق.م. أو قبله بقليل، حتى زمن المؤرِّخين الكلاسيك قبل القرن الميلادي الأول، الذين أخذوا يتحدثون عن عرب جزيرة العرب المعروفة الآن. وهو أمر سيأتي تفصيل بيانه في مكانِه من هذا العمل.
ونعود نمسك بأول القرائن الدالة والشاهدة «آدم = آدوم = بلاد الحور»، نحاول العثور على مزيدٍ من التحديد الدقيق خاصةً الجغرافي. وليس في أيدينا عن البلاد الذي ذكرَها علم التاريخ باسم «آدوم» سوى شذراتٍ يسيرة تمامًا، إضافةً إلى ما ورد عنها بالكتاب المقدس. وإن نصًّا بالمقدس أو نصَّيْن كما أوردنا، لا يؤكدان شيئًا ولا ينفيان شيئًا، إزاء قضية كبرى كتلك التي بين أيدينا، نحاول فيها تحديد موضع مخالف تمامًا لما تعارف عليه رجال التاريخ، كموطنٍ ومستَقَرٍّ للشعب الحوري الميتاني في منطقة المتوسط الشرقي، الذي أسكنوه أعالي الفرات، دونما دلائل وبيئات حاسمة واضحة كافية مؤكدة، أو حتى شبه مؤكدة.
وأرسل يعقوب رسلًا قدَّامه إلى عيسو أخيه، إلى أرض سعير بلاد آدوم. وأخذ مما أتَى بيده هدية لعيسو أخيه، مائتي عنزة وعشرين تيسًا ومائتي نعجة، وعشرين كبشًا، وثلاثين ناقة مرضعة، وأولادها.
ومثل تلك الهدية أو ضَريبة العبور، تعني أنه كان مع يعقوب مثلها عشرَ مرات على الأقل، لو افترضنا أنه دفع العشر ضريبة العبور المتوافق عليها في الزمن القديم. وهو ما يفسِّر لنا عدم تمكُّنِه من عبور نهر الأردن مباشرة إلى فلسطين، واضطراره للدوران من جنوبِ البحر الميت، بما معه من سوائم؛ لأن عددَها سيصل على الأقل إلى ألفَي عنزة ومائتي تيس وألفي نعجة، ومائتي كبش وثلاثمائة ناقة وأولادها، وعبوره بذلك كله على بلاد آدوم، التي وضح موضعها الجغرافي هنا كحاجزٍ كبير يفصل شرقيَّ المنطقة في البوادي الشامية شماليَّ جزيرة العرب، عن غربيِّها شبهِ جزيرة سيناء، بحيث لم يكن بإمكان يعقوب أن يجد أيَّ منفذ للعبور، مما يعني أن سيطرة آدوم قد امتدَّتْ من جنوبيِّ البحر الميت حتى خليج العقبة، لتغلق المنطقة تمامًا على أيِّ عبور، وأن تلك البلاد كانت قبائل أو عصابات تقطعُ الطريق، أو دولة قوية مقتدرة تأخذ رسومها ممن يعبرون أرضها، أو تستولي على ممتلكاتهم.
وهكذا كان المحرِّر التوراتي يعرف بصلةٍ قوية بين القبائل الآدومية والقبائل الإسرائيلية. وكان يعلم بالتحديد وبالقطع وباليقين، الموضع الدقيق لبلاد آدوم ومساحة سيطرتها، وأن آدوم قد سكنوا جبال سراة سعير، ووادي عربة جميعًا، «فسكن عيسو في جبل سعير وعيسو هو آدوم (تكوين، ٣٦: ٨)». أما بلاد سعير نفسها فقد اكتسبت اسمَها، حسب التخريج التوراتي، من اسم ساكنيها الأوائل «بنو سعير الحوري» (تكوين، ٣٦: ٢٠).
أوصِ الشعبَ قائلًا: أنتم الآن مارون بتحكم إخوتكم بني عيسو الساكنين في سعير، فيخافون منكم فاحترزوا جدًّا. لا تهجموا عليهم؛ لأني لا أعطيكم أرضَهم ولا وطأةَ قدم؛ لأني لعيسو أعطيت جبلَ سعير ميراثًا. فعبرنا عن إخواننا بني عيسو الساكنين في سعير على طريق العربة (أي وادي عربة [المؤلف]) وعلى أيلة (حاليًّا ميناء إيلات [المؤلف]) وعلى عصيون جابر (في الجوار الغربي منه [المؤلف]). ثم تحولنا ومررنا في طريق برية موآب.
مرة أخرى يسجل المحرر التوراتي، بشديد الدقة، ذكرياته عن بلاد آدوم، فهي بلاد عيسو السَّاكنِين في سَعير، وأن بلادَهم تقع في جِبال تُعرف باسمهم، فهي جبال سعير ووادي عربة. ومن موانيها المشهورة: ميناء أيلة، وكلها تقع في المساحة الواقعة بين البحر الميت وخليج العقبة. ويؤكِّد هذه الموضعة الجغرافية أن النص يقول إنه بعبور وادي عربة وجبل سعير من غربه إلى شرقه، يصلون إلى طريق برية موآب. وموآب دولة تاريخية معلومة تقع إلى الشرق من البحر الميت في قسمه الجنوبيِّ، أي تلاصق بلاد آدوم المفترضة في هذا الموضع من الشرق، والشمال الشرقي، وهو الأمر الذي يفيد بمدى وضوح الجغرافيا ودقَّتِها عند المحرر التوراتي.
والآن هل نجد في وثائق التاريخ كعلم ما يؤيد ما ذهَبْنا إليه؟ وهل ثمة إشارة إلى بلاد «آدم» كما نقصدها نحن «آدوم سعير»، في أي مدونات أو وثائق في علم التاريخ؟ وهل نجدُ في هذه الوثائق أية إفادات، تدعم الموقع الجغرافي الذي حدَّدَتْه التوراة لبلاد آدوم؟
وتحكي الملحمة، بالأسلوب الرمزي الغنائي الملحمي، قصةَ تحرُّكِ جيوش عظيمة من صيدا، تحت قيادة ملكها الذي حمل اسم كارت، ليتزوج ابنة ملك آدوم. فيما يبدو أنه كان فرضًا لاتحادٍ بالقوة، حيث كان الزواج هو عقدَ الوحدة والأحلاف بين الأُسر الملكية. ولا يفوتنا التنبيه إلى أن اسم «كارت» نفسه يلتقي مع اللغة «الكارية»، ومع اسم مدينة «أوغاريت» التي عُثر فيها على تلك الملحمة. فهي مدينة «أو كارت»، وورد اسمها في سجلات العمارنة، بإسقاط الراء المعترضة «أوكات». فالاسم كارت يعني إذن: الكاري، أو الحوري.
ونحن نعلم أن السعيريين تعني سكانَ جبال سعير، لكن النص هنا لا يحدد لنا مكانًا. فقط يقول: «السعيريين من قبائل شاسو». والكلمة «شاسو» كانت تعبيرًا مصريًّا شائعًا، يشير إلى بدوِ شبهِ جزيرة سيناء، مع اصطلاحاتٍ أخرى مثل «عامو» و«ستيو»، التي تطلق على الآسيويين عمومًا، وعلى الهكسوس خصوصًا.
هكذا وصف النص قبائل الشاسو بأنهم من الآدوميين. والنص الأسبق يتحدَّث عن الشاسو بوصفهم من جبال سعير. وهكذا أصبح لدينا قرائن كافية على معرفة المصري القديم أن الشاسو هم الآدوميون الذين يسكنون جبال سعير، مما يدعم رؤيتنا التي تموضع مركز دولة «آدم» الحورية الرئيسي في بلاد آدوم، في وادي عربة وسراة سعير؛ لأنها هي فقط التي تحمل اسم «سعير»، وليس أي مكان آخر. ولكنا نطمح إلى المزيد من القرائن التي يمكن أن ترقى بفرضنا، من مستوى الفرض المحتمل إلى مستوى النظرية، التي تحمل أدلة كافية على صدقها.
وبسبيل ذلك نتذكر النصَّ التوراتي السالف إيراده. ويحدثنا عن ميناء باسم «عصيون جابر»، يقع إلى الجوار من ميناءٍ يُدعى «إيله»، وأن كِلا الميناءَين يقع في بلاد آدوم، حيث عبر موسى برجاله. وإن ما يؤكد لنا أن كلًّا من المينائين كان يقع على خليج العقبة، وأن «إيلات» الحالية هي بالفعل ميناء يقعُ بجوار إيلات. والعقبة الحالية هو أن محرري التوراة كانوا يُطلقون على البحر الأحمر اسم بحر «سوف»، والشديد الدلالة هنا هو أن محرري التوراة رغم اختلافِهم مشربًا وزمنًا بتعدد الأسفار، فإن الجغرافيا كانت واضحة لديهم؛ لأنها معالم مستقرة وثابتة. وليس هناك أية حاجة واضحة للَّعبِ بها لصالح أسطورة الشعب المختار، كما هو دأب الكتاب المقدس. فيقول لنا سفر ملوك أول: «وعمل الملك سليمان سُفنًا في عصيون جابر، التي بجانب أيلة في أرض آدوم» (ملوك أول، ٩: ٢٦). والنص هنا يُشير إلى اتساع ملك سليمان — حقيقة أو مبالغة من المحرر التوراتي — على حساب دولة آدوم، حتى إنه اتخذ من الميناء الآدومي «عصيون جابر» ميناءً له على البحر الأحمر.
وللمزيد نبحث عن أسماء مواضع وردت في التاريخ ضمنَ بلاد آدم، وعن أسماء مواضع وردت في الكتاب المقدَّس، تقَعُ ضمن بلاد آدوم، لنحاول مطابقتها معًا، ومع واقع الجغرافيا. لذلك نسير مع الأسفار شوطًا بعيدًا، إلى ما بعد قيام مملكة إسرائيل الموحدة زمن شاول وداود وسليمان، وانقسامها بموت سُليمان إلى إسرائيل في الشمال ويهوذا في الجنوب، لنستمع إلى حديثٍ عن حرب وقعت بين المملكة الجنوبية يهوذا، زمن مُلكها المعروف باسم «أمصيا بن يوآش»، وبين مملكة آدوم. يقول ذلك الحديث: «هو (أي أمصيا [المؤلف]) قتل من «آدوم» في وادي الملح عشرة آلاف وأخذ «سالع» بالحرب» (ملوك ثاني ١٤: ٧). والمعنى أن الملك الإسرائيلي أمصيا احتلَّ بلاد آدوم بمجازر، واستولى على عاصمتها سالع. و«سالع» كلمة عبرية كنعانية تعني «الصخرة»، وظلت سالع تعرف بهذا الاسم حتى زمن اليونان الذين أطلقوا عليها اسمًا جديدًا. لكنه يحمل ذات المعنى الذي كان يحمله اسم سالع، فأسموها «بترا» أي الصخرة باليونانية. واستمر ذلك الاسم بعد ذلك زمن الرومان، وحتى الأزمنة الحديثة والمعاصرة، فهي لم تزل تحمل اسم البتراء. ثم نعلم أنه في زمن الرومان كانت بترا هي عاصمة البلاد الواقعة بين البحر الميت وخليج العقبة. وهكذا تكون سالع التي ذكرتها التوراة تقع في الموقع ذاته. وهو ما يؤكد لنا طول الوقت أين تقع بلاد آدوم، التي افترضنا أنها بلاد آدم الحورية (ميتاني) التاريخية، التي مَوْضَعَها المؤرخون بالفرات الأعلى بين الفرات والخابور.
ويستمر بحثنا على دأبه؛ لتأكيد موقع بلاد آدوم، بين العقبة والبحر الميت، فنجد سفر إشعيا يقول: «وحي من جهة «دومة» صرخ إليَّ صارخ (من سعير)» (إشعيا، ٢١: ١١).
هوذا على آدوم ينزل، وعلى شعب حرمته للدينونة للرب ذبيحة في بُصرة، وذبحًا عظيمًا في أرض آدوم، وتتحول أنهارها زفتًا وترابها كبريتًا، وتصير أرضها زفتًا مشتعلًا ليلًا ونهارًا لا تنطفئ.
كما هو واضح، إشعيا الأريب يلحظ الأرض البركانية في المنطقة، فيتنبأ بأن فناء آدوم سيكون بالزفت المشتعل والكبريت. وطوال الوقت نجد آدوم بلادًا لا تقع عند الفرات الأعلى. فالنص يذكر من مدن آدوم مدينة باسم «بُصرة». وليس في أعالي الرافدين أي «بُصرة»، لكنا نجد حتى الآن بُصرى شمالي البتراء في سراة سعير. ثم لا يفوت المدقق أن نص إشعيا يشير إلى أن بلاد آدوم كان بها حتى زمنه أنهارٌ تسقيها، تلك التي يتنبأ أن مياهها ستتحول إلى كبريت.
وأمد يدي على آدوم، وأقطع منها الإنسان والحيوان، وأصيرها خرابًا من التيمن إلى ددان، وأجعل نقمتي في آدوم بيد شعبي إسرائيل.
ويضيف النص هُنا إلى معلوماتنا الجغرافية، كي نرسم خريطة واضحة لبلاد آدوم، فيقول: إن من مدن بلاد آدوم إضافةً إلى «بُصرى» مدينتين أخريين، هما «التيمن» و«ددان». وتقع «التيمن» في شرقيِّ جبال سعير شمالي جزيرة العرب. كذلك «ددان» هو الاسم الثابت تاريخيًّا لبلدة العلا الحالية شمالي السعودية، مما يشير إلى توسعٍ جغرافي نحو الشرق يتبع دولة آدوم، قد يصل بنا إلى تيماء ومدينة العلا، وجميعها كما نرى لا تقع في الرافدين الأعلى. فليس هناك أي موضع باسم «التيمن» ولا باسم «ددان».
إن هدد هرب هو ورجال آدوميون من عبيد أبيه معه ليأتوا إلى مصر، وكان هدد غلامًا صغيرًا. وقاموا من مديان وأتوا إلى فاران، وأخذوا معهم رجالًا من فاران إلى مصر إلى فرعون مصر. فأعطاه بيتًا، وعين له طعامًا وأعطاه أرضًا. فوجد هدد نعمة في عيني فرعون جدًّا وزوجه أخت امرأته، أخت تحفنيس الملكة. فولدت له أخت تحفنيس جنوبث ابنه، وفطمته تحفنيس في وسط بيت فرعون. وكان جنوبث في بيت فرعون بين بني فرعون.
وتلك الرواية تَشِي بأكثر من سر؛ فهناك صلة حارة بين ملوك آدوم وبين الفراعنة. وهي الصلة الحارة التي حدثتنا عنها وثائق تل العمارنة، بين الفراعنة وبين الميتانيين في بلاد آدم الحوري. لكن الملحوظة الهامَّة هي أن التقليد المصري كان يسمح للمصري بالزواج من أجنبية، لكنه لم يكن يحقُّ للمصرية إطلاقًا أن تتزوج من غير مصري، فما بالُنا والنص هنا يقول إن المصرية التي تزوجت الأجنبي الآدومي كانت أميرة من البيت المالك، بما لها من قداسةٍ دينية وقانونية. إنه أمرٌ لا يجبُ أن يمر بسرعة نضيفه إلى رصيدنا نحو الكشف المأمول، حيث لم يصلنا من علم التاريخ في الوثائق المصرية، أن هناك أميرة مصرية تزوجت أجنبيًّا سوى في حالة «ميتاني» فقط. وهو ما تؤكد التوراة أنه قد حدَث مع ملك آدوم. أفلا يعني ذلك أن «ميتاني» هي ذات عين آدوم؟
وربَّما حدَث مرةً أخرى في حالة زواج سليمان من بنت الفرعون، الذي لم تذكر التوراة اسمه. وربما كان هذا الفرعون هو شيشنق؛ لأن شيشنق هجم على دولة سليمان بعد موت سليمان مباشرة، على أن نقبل رواية التوراة عن هذا الزواج، بتحوطٍ وتحرز، وربما بشكٍّ عظيم، فقد تكون كاذبة تمامًا. أو ربما نصدقها إذا نظرنا إلى زمن شيشنق كبداية لانحطاط القوة المصرية الصلفة، ناهيك عن كون هذا الزمن زمن حكم الشناشقة لم يكن زمنَ حكم مصري؛ لأن الشناشقة وشيشنق هذا لم يكونوا مصريين بل ليبيون؛ لأن شيشنق الأول هو مؤسس لأسرةٍ ليبية حكمت عرش مصر. ومن هُنا يمكن أن نفهم عدم حرصِهم على التقاليد المصرية المقدسة.
ونعود إلى قصة حملة آمنحتب الثاني، الذي اضطر عند عودته من بلاد رتنو إلى تدمير موضع باسم «شمس آدوم». وليس في المناطق الشمالية بين الفرات والخابور، أي آدوم. وليس هناك موضعٌ باسم شمس آدوم. فقط لدينا آدوم التي نتحدث عنها، الواقعة في البلاد في البلاد الصخرية، في محيط جبال سراة ووادي عربة. ومن هنا يجب استبعاد ملاحظة جاردنر التوضيحية، التي ليست بالنص المصري، والتي تقول: إن شمس آدوم تبعد عن «قطنا/حمص» مسيرة يوم. ويجب في ظلِّ ما جمعناه حتى الآن، أن نفهم أن حملة آمنحتب الثاني عند عودتها إلى مصر، هبطت إلى بلاد سعير الحوري في حملةٍ تأديبية، اضطرَّ معها إلى تدمير شمس آدوم، أو عاصمة آدوم. ويدعمنا في ذلك التفسير أنه قد ترافَقَ في النص مع اسم شمس آدوم، اسم لموضعٍ آخر باسم قادش. فبماذا تفيدنا قادش هنا؟
إنَّ الدارس للجغرافيا القديمة للمنطقة، سيكتشف أنه كان هناك أكثر من «قادش». فالكلمة تعني الحرم والمقدس والقدس والقديس (قديش بالعبرية). فهناك واحدة من تلك القوادش في الشمال السُّوري على نهر العاصي، ثم هناك أخرى في الجليل الفلسطيني تعرف في التوراة باسم قادش نفتالي، ثم لدينا أهم القوادش قادش أورشليم التي استقرَّ اسمها في العربية «القدس». ثم نعلم من التوراة بوجود قادش أخرى تقع في سيناء وجنوبي فلسطين، وردت مُعرَّفة مرتين: مرة باسم «قادش برنيع»، ومرة أخرى باسم «قادش عين مشفاط». وورد ذكر قادش سيناء هذه أكثر من مرة في قصة البطرك إبراهيم، وفي قصة الخروج الإسرائيلي من مصر، حيث كانت محطة كبرى للخارجين من مصر عند آخر حُدود سيناء الشرقية. وقد استقروا فيها ثمانيةً وثلاثين عامًا بعد رحيل في سيناء استمر سنتين، وهو ما جعل رحلة التيه تستغرق أربعين عامًا.
ووفق الإحداثيات المعطاة لنا بالتوراة حول قادش سيناء، فإنَّها لا بد أن تكون قد قامتْ على الحدود الغربية لبلاد آدوم الجنوبية لبلاد فلسطين الشرقية لشبه جزيرة سيناء. ونظنها هي بالتحديد المقصودة قادش الواردة في نص آمنحتب الثاني؛ لترافقها مع شمس آدوم.
وللتبسيط السريع نقتطع بعض الإحداثيات التي أعطانا إياها الكتابُ المقدس، وتتعلق بالموضع «قادش» لتأكيد ارتباطها بشمس آدوم، وبلاد آدوم فيما نزعم.
وكانت المدن القصوى التي لسبط يهوذا إلى تخم آدوم جنوبًا: قبصئيل، وعيدر، وياجور وقينة، وديمونة، وعدعدة، وقادش، وحاصور، ويثنان.
وإعمالًا لهذه المعطيات الإحداثية تم تحديد قادش سيناء عند الأركيولوجي «ترامبول»، بموضع «عين قديس» الآن شرقي سيناء. وكان معنى أن يسكنها عدد هائل من البشر الخارجين من مصر تحت قيادة موسى لمدة ثمان وثلاثين سنة، أنها كانت عامرة ومؤهلة طبيعيًّا بكميات من المياه؛ لإيواء هذا العدد من البشر. وتتكرر إشارة الكتاب المقدس مرة أخرى إلى أنهار بالمنطقة، كانت تجري في هذه المنطقة زمن الأحداث، فهي «قادش النهر» (حزقيال: ٤٧).
وفوق كل ما سلف، فإنك تلمس في قراءتك للمقدس التوراتي إشارات واضحة، إلى أن شعب آدوم لم يكن شعبًا عاديًّا في المنطقة، بل كان شعبًا من الكبار الأذكياء الحكماء، وهي صفات تشير إلى كيانٍ هام بالمنطقة، يردد عنه الكتاب المقدس الذكريات بلسان الرب الإسرائيلي مهددًا:
ألا أبيد في ذلك اليوم — يقول الرب — الحكماء من آدوم، والفهم من جبل عيسو؟ فيرتاع أبطالك ياتيمان؛ لكي ينقرض كل واحد من جبل عيسو بالقتل، من أجل ظلمك لأخيك يعقوب، يغشاك الخزي وتنقرض للأبد.