سالع/البتراء … ونظرية جديدة
كانت مدينة البتراء الواقعة تقريبًا في منتصف المسافة ما بين البحر الميت وبين خليج العقبة، آخر عاصمة لآخر دولة كبرى قامت في تلك البلاد، تلك الدولة التي عُرفت باسم دولة الأنباط. وجاءنا ذكر البتراء مع الشعب الذي عاشَ في تلك المنطقة، زمن الإمبراطورية الرومانية باسم شعب الأنباط. وهي مدينة لا مثيلَ لها ولا شبيه في العالم أجمع، وتقع على بعد ستين ميلًا شمالي العقبة، على تقاطع خط طول ٣٥٫٢٦ شرقًا مع خط عرض ٣٠٫٢٠ شمالًا، إلى الغرب مباشرة من معان. وهي معان التاريخية التي كانت محطة ترانزيت كبرى باسم «معان مصران» أي معان المصرية. وترتفع البتراء بحوالي ٢٧٠٠ قدم عن سطح البحر، وتحيط بها سلسلتان من المرتفعات، يفصل بينهما مقدار مِيل.
وتقع مدينة البتراء وسط مجموعة جبال هضبية، بعضها أقماع صخرية هائلة، يغلب على صخرها اللون الأحمر، الموشى بكل ألوان قوس قزح، مع الدرجات اللونية الانتقالية بين الألوان الفصيحة.
وتبعد البتراء عن عمان العاصمة الأردنية بحوالي ٢٦٢كم إلى الجنوب منها. وتحدها من الشمال قرية وادي موسى ذات الينابيع الشهيرة بمياهها المعدنية المتميزة، والتي كانت لا شك أشد تدفقًا من الآن في القرون البعيدة الخوالي. وإلى الغرب من «البتراء»، وعلى الحدود مع شبه جزيرة سيناء، يقع وادي عربة بجماله الجليل. وفيه يقع الجبل المعروف باسم هارون، والذي يقول الكتاب المقدس إن اسمه كان أيضًا «جبل موسير»، وتزعم أنه حمل اسم «هارون»؛ لأن هارون مات ودفن فيه. لكن رواية المقدس ذاته تقول: إنه كان يحمل اسم جبل هارون، قبل أن يعرفه هارون شقيق موسى. أما إلى جنوبي البتراء، فيقع وادي صبرة وجبل تمناع، الذي تكتبه التوراة جبل «تمنه»، حيث توجد هناك بقايا مناجم النحاس، وأفران قديمة لتصنيعه. وقد سيقت بشأن تلك المناجم والأفران فروض كثيرة، لتحديد زمن إقامتها هناك، فنسبها البعض إلى المصريين، وهناك من نسبها إلى الملك الإسرائيلي سليمان. أما شمال البتراء فهو الامتداد الطبيعي لوادي موسى والبيضا.
وعند زيارتك للبتراء ستكتشف أنك أمام موقع من أشد المواقع المحصنة تحصينًا طبيعيًّا في العالم. في جبالها تتناثر «الكهوف» التي تكشف كل يوم عن آثارٍ تركها لنا أهلوها. لكن ما يعلمه التاريخ الآن عنها بثقة لا يبعد أكثر من القرن الثالث قبل الميلاد، حيث قامت في تلك البوادي مع اتصالها ببادية الشام، دولة كبرى وَسِعت حدودها جنوبًا، حتى بلغت وادي القرى شمالي جزيرة العرب، وشمالًا حتى دمشق، وغربًا كل سيناء حتى السويس بمصر. ووصلت إلى مجدها القصي في القرن الأول الميلادي، فأصبحت في زمنها دولة تجارية كبرى في العالم آنذاك، وساعدها مركزها الاستراتيجي جغرافيًّا على الإمساك بعنان تجارة العالم حينها. فما كان ممكنًا أن تمر تجارة عبر أي خط من خُطوط الجهات الأصلية للعالم القديم، دون المرور على دولة الأنباط. وقد أمسى واضحًا أن توسع تلك الدولة حتى دمشق شمالًا، كان القصد منه الإحاطة بمساحة الخطوط التجارية جميعًا، بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، فتحكَّمَت تمامًا في طرق التجارة، ووقفت تضغط بمُكوسها وجُباتها الجمركية الباهظة على عصب حياة الدول المحيطة بها جميعًا، فاكتسبت عداءها جميعًا.
وكانت منتجات العالم القديم من بخورٍ وعطور ومواد طبية ومنسوجات وحرائر، تجد طريقها أولًا — عند العبور — إلى مخازن مدينة البتراء. ومن ثم وجدت روما أن دولة الأنباط قد توسَّعت على حسابها أكثر مما ينبغي، وحققت ثراءً فاحشًا قد يُغريها بمزيدٍ من الأطماع التوسعية. فدخلت صراعًا مريرًا مع البتراء، ووقفت فيه البتراء ندًّا شديد المراس. ولم يجد الرومان من سبيل سوى خطة طويلة النفس، بدأت بإيجاد طرق أخرى فرعية بديلة لطرق التجارة التي تمرُّ ببلاد الأنباط لضربها اقتصاديًّا. وما إن بدأت بوادر الضعف تظهر على دولة التجار، حتى حان وقت الضربة القاضية، فوجهت روما نحوها حملتها الكبرى، لتحتلها عام ١٠٦ ميلادية، وتحولها إلى ولايةٍ رومانية تابعة، ثم عاملتها بإهمالٍ شديد نكاية في مقاومتها السالفة. ولم يأتِ القرن السابع الميلادي، حتى كان آخر ضوء خافت للبتراء يضيع باهتًا في الألوان البارزة لأفق التاريخ. وضاعت معالمها من ذاكرة الإنسانية تمامًا، وظلت في عزلتها الصخرية، حتى أعاد اكتشافها وتذكير العالم بها، الرحالة السويسري «بوركها ردت».
وإلى الشمال الغربي من عاصمة الأنباط تقع برية «باران» (التي نراها تلك المذكورة في الكتاب المقدس باسم «فاران»). وهي البرية التي تقول الأسطورة: إن هاجر محظية إبراهيم، قد أخذت إليها ولدها إسماعيل، بعدما طردها سيدها إبراهيم هي وولدها بأوامر من زوجته سارة، بدوافع الغيرة والصراع على الميراث، حسبما جاء بالمقدس التوراتي. ونعلم من سلسال النسب التوراتي أن «إسماعيل»، نشأ ورُبي يافعًا في برية «باران/فاران»، وتزوج من العماليق، مما يعني أن العماليق كانوا من سكَّان تلك المواضع، وأنجب أولادًا كان أشهرهم ذلك الذي حمل في التوراة الاسم «نبايوت». وهو بلا شك ذلك الذي ذكره التأريخ الإسلامي باسم «نابت» ابن اسماعيل. وهنا لا بد أن تبرق في الذهن علاقة نابت الذي سكن غربي البتراء في فاران، والشعب الذي جاءنا ذكره قاطنًا للمنطقة ذاتها، باسم «الأنباط» جمع «نابط» أو «نابت»، بالبلاد التي أطلق عليها المصريون اسم «بنط» أو بنت. بالطبع لن تكفينا هنا المطابقات الفونيطيقية وحدها ولا تسعفنا. فقط أردنا التمهيد لغرضنا مؤقتًا بهذه الإشارة: هل كانت بلاد بونت هي المملكة الآدومية القديمة، وأنها نفس المكان الذي قامت من بعدها بزمان، مملكة الأنباط المعاصرة للزمن الروماني؟
وكي تدخل مدينة الصخر، فعليك في حال قدومك من الشمال، أن تمر عبر ممر طبيعي شديد الضيق، ينتهي بك مباشرة إلى قلب العاصمة، يطلق عليه سكان المنطقة الآن اسم «السيق». ويبدو أن الاسم تلوين لهجوي على كلمة الشق، فهو بالفعل شق — يثير الرهبة العظيمة — في جبلٍ هائل. ويبلغ عرض السيق في أغلب المناطق مترين، ويتسع في بعضها إلى عشرة أمتار تقريبًا. أما بعض مناطقه فربما لا يمكنك أن تدور فيها بحصانك.
ويعتمد الأهلون هناك الآن في معاشهم على السياحة، وأهمها تأجير الخيول للسائحين لعبور السيق. وهو العبور الذي يستغرق حوالي نصف ساعة رهابية، بين حائطين جبليين عظيمين يكادان ينطبقان، ويكادان يخفيان ضوء النهار في ذلك الشق الأخدودي، الذي ترتفع حوائطه الجبلية حوالي مائة متر أو يزيد، حسب تقديراتي الشخصية.
وبعبور السيق تخرج إلى ضوء النهار الفسيح الفصيح مرة أخرى، لتجد في مواجهتك مباشرة ذلك الأثر الهائل الذي يخطفُ بصرك وعقلك وقلبك معًا، ذلك الجمال الأخَّاذ في تفرده المبهر إلى حد الصدمة. ويطلق عليه أهالي المنطقة اسم الخزنة أو خزنة فرعون. وهو حفرٌ عظيم ونحت هائل في صخور الجبل المواجه لمخرج السيق، يشهد لبُناته بالعظمة القادرة، ويعد من بين أروع آثار الدنيا، وأعجب فنون النحت في تاريخ العالم، في صخرٍ ملون يقع في النفس موقع الجليل، لا تملك معه النفس، من الرهبة، سوى أن تسري برجفتها في الجسد تواضعًا أمامه.
وعند دخولك الخزنة ستجدُ نفسك في غرفةٍ كبرى، مساحتها حوالي أربعين قدمًا مربعًا، غير مزخرفة، تفضي بالداخل إلى غرفٍ كثيرة صغيرة، منها غرفتان كثيفتا الزخرف. وعندما يهدأ روعك وتبدأ في متابعة دليلك، ستذهب معه إلى مدرج المسرح الكبير، الذي نُحت بدوره في الصخر نحتًا. كل شيء هنا منحوت في الصخر، حتى مقاعد المتفرجين الأربعة آلاف قد حُفرت على هيئة مدرجات في الصخر، مكونة من ثلاثة وثلاثين صفًّا من المقاعد المنحوتة. كذلك ضريح الجرة، وهو حفر عميق في الصخر، صنع من المكان قاعة شبه مربعة، يبلغ طول الضلع فيها حوالي عشرين مترًا. ولا تملك سوى الانبهار بكم العروق الملونة في الصخر والحجر، الأبيض والأسود والأحمر والأخضر، وما بينهما من درجاتٍ لونية. أحجار ليست ككل الأحجار، فهي إعجاز فني، لكنه من فنون الطبيعة البكر.
وبعد المسرح بمسافة قصيرة تصل إلى وادي بترا، وكله معالم آثارية نُحتت على الجانبين. فعلى يمينك جدار الخبتة الكثيف، وعلى يسارك سلسلة جبل العطوف. وهناك ممر رملي يستدير حول العطوف متجهًا نحو الغرب، حتى يصل إلى بداية الشارع المسقوف. وهناك منحدران: الأول يستمر قدمًا حتى يصل إلى مسافةٍ أبعد نحو الشمال الشرقي، حيث يوقفك في مواجهة قصر «بنت فرعون» أو قصر «البنت»، كما يسميه السكان الآن هناك. وكان فيما يبدو قصر الحكم ومركز الإدارة، أو أن تختار المنحدر الثاني عن يمينك، فيصل بك إلى ما يسمى القبور الملكية. وعند الاقتراب من الشارع المسقوف، لا بد أنك ستصاب بدهشةٍ بالغة، عندما تجد بقايا نافورة عامة كبرى، تقع عند ملتقى وادي موسى بوادي متاهة، وهو الأمر الذي يشير إلى وفرةٍ عظيمة في الماء في ذلك الزمان، وهو ما يعني أيضًا وفرة أعظم زمن الدولة الآدومية القديمة.
وبالعودة إلى الطريق الرئيسي الذي ينفتح على الجبال المحيطة بالمدينة، ستجد مساحةً واسعة كانت فيما يبدو سوق المدينة في عصور ازدهارها. وينتهي ميدان السوق بشارع تم تمهيده بالصخر وتزيينه بقوس نصر، وعلى يساره يقع قصر اﻟ «بنت» الذي يرتفع سامقًا عشرين مترًا أو يزيد. أما الأكثر دلالة فهو أن أهل المنطقة يطلقون عليه تبادليًّا مع اسمه «قصر البنت» اسمًا آخر هو «قصر الفرعون» ثم اسمًا ثالثًا هو «قصر بنت فرعون». لكن الصيغة المتواترة عند سكان المنطقة هي فقط «قصر البنت»، ولا يفسر علاقة فرعون وابنته بهذا الموضع، في الذاكرة والموروث الشفاهي حتى اليوم، سوى الروايات القديمة عن زواج الملك الآدومي بشقيقة الملكة المصرية تحنفيس.
وإضافةً إلى ظاهرة النحت تترافق ظاهرة إقامة المباني عالية فوق أعمدةٍ منحوتة من الصخر. ونموذجًا لها قصر البنت هذا، كذلك المبنى المسمى بالدير، وعدد آخر من البيوت المقامة فوق أعمدة، لا تفسير لرفعها هذا عن الأرض، سوى تعرض تلك الأراضي في بعض فترات العام إلى الغمر بمياه السيول المتدفقة من الوديان إلى البتراء، وأن هذه الأعمدة الحجرية كانت التطور الطبيعي للبُيوت الكوخية، المرفوعة على أعمدةٍ خشبية زمن دولة آدوم القديمة.
وقد بُني قصر «بنت» على مرتفعٍ عظيم من الحجر الملون، مزخرف من الداخل بالجِص، ويقف على منصةٍ عالية من أفاريز الأعمدة. ومن هنا يمكنك أن ترى، غير بعيد منك، صخرةَ الحيس المسماة بالقلعة، والتي لم يتبقَّ من آثارٍ فوقها سوى كسر فخار وبعض الخَرائب. وعلى الجانب الشرقي لصخرة الحيس يمكنك الاستمتاع بزيارة معبد قوس قزح، الذي يطابق مسماه واقعه، فهو قطعة فريدة من الجمال اللوني المتمازج.
وفي الجوار قمة شاهقة منيعة، تسمى الآن أم البيارة، اكتشفت عليها كسر خزفية قديمة من زمن الآدوميين، وبقايا قلعة آدومية. وقد ذهب البعض إلى أن أم البيارة، كانت هي عاصمة بلاد آدوم الواردة في التوراة باسم «سالع». وترتفع أم البيارة من زاويتها الشمالية الغربية، نحو ٣٧٧٢ قدمًا فوق سطح البحر، ومن هنا يمكنك أن تعد حولك على مدى بصرك، ثلاثة عشر مبنًى تطل جميعًا على العاصمة. ومن حواليك فوق صخرة الحيس ستجد أحواضًا ضخمة عميقة، كانت فيما يبدو مخازن للمياه زمن مجد البتراء. ويمكنك ببعض الجهد أن تصل إلى القنوات التي حفرت في الصخر لتجري المياه من خلالها.
ويعد المبنى الذي يُطلق عليه الآن اسم الدير، أضخم آثار مملكة الأنباط. ويقع على قمة جبل (إنهم شعب يسكن دومًا المرتفعات والعليات)، ويرتفع هذا الجبل حوالي نصف كيلو متر، تصلك به من السفح سلالم صخرية تم نحتها في ذلك الجبل تدرجًا نحو القمة. أما الدير نفسه فترتفع مبانيه حوالي خمسة وأربعين مترًا، ولا تقل واجهته بحال عن سبعين متر طولًا، وهي الواجهة التي تقف بدورها على أعمدةٍ تعلوها التيجان، ومن فوقها الشرفات المنحوتة تذكرنا بنموذج الدير البحري، الذي أقامته حتشبسوت بعد بعثتها إلى بلاد بونت.
(انظر الشكل رقم «٤٠».)
أما بقايا آثار الحياة القديمة، التي كانت تضج بها عاصمة الأنباط، فتظهر واضحة في القنوات الجافة المحفورة صناعيًّا في الصخور، وتمتد حتى وادي موسى، عندما كانت مياه العيون في عنفوان تدفقها تروي جنة البتراء. وحتى الآن تتناثر في المنطقة شجيرات برية، تكاد تكون خاصة بهذه المنطقة، وزهورٌ برية تُضفي على المكان مزيدًا من الجلال، وحتى الآن لا تزال قرية وادي موسى، تزرع على مياه الينابيع، التي أخذت في الخفوت بعد مرور عشرات القرون، القمح والشعير والبقوليات، مع مزارع كروم ورمان وتفاح و«تين».
ورغم أن زمن الأنباط كان آخر أضواء المنطقة، مما يشير إلى ذبولٍ مماثل قد حدث على الترافق للينابيع المتدفِّقة هناك، فإن «ديودور الصقلي» قد سجَّل في القرن الأول الميلادي، أن الأنباط كانوا أغنى أهل زمانهم، وأن ثروتهم الرئيسية جاءتهم من التجارة التي كانوا يحملونها من الجنوب إلى الشمال، وإلى بلاد مصر والشام وإمبراطورية الروم، وأنهم كانوا يتجارون بكل شيءٍ يقع تحت أيديهم، حتى الزفت والقار الطافح على سطح البحر الميت، كانوا يحملونه إلى مصر، باعتباره من مواد التحنيط الرئيسية.
وإذا كان الدلفين من الآلهة الهامة المعبودة في ذلك المكان الصخري، حسب التماثيل الكثيرة التي وجدت هناك للحوت من نوع الدلفين، فهو يشير إلى علاقةٍ واضحة بالبحر، وأن النشاط التجاري هناك لم يقتصر على الرحلات البرية وحدها.
أما الأشد إبهارًا، فهو أن تجول عيناك في الجبال حولك، لتُطالع تلك الأبنية المقامة على الأعمدة، والتي تتوازى مع فوهات الكهوف التي حفروها في الجبال حفرًا، على مدرجات الصخور. وهي الكهوف التي لا شك كانت مساكن لا قبورًا كما يقال الآن. مساكن فريدة تتناثر في صفحات واجهة الجبال في الأعالي، كما لو كانت أعشاشًا للنحل لمن يراها من بعيد، يصلون إليها بمدرجاتٍ صخرية، ثم سلالم خشبية. بينما تنتشرُ الدرجات الصخرية المؤدية إليها في منحنيات السفوح لتصلك بأعاليها. لكنك دومًا، وفي أي موقع، بحاجةٍ إلى سُلَّم خشبي نقَّال، يضعك في مواجهة فتحة غائرة لكهف من كهوف بيوت الصخر.
والآن يمكننا القول: إن كل هذا العرض لم يكن فقط لمجرد التعرف على المنطقة، التي سبق وقامت فيها حضارة آدوم القديمة، وعاصمتها «سالع»، بل بغرض أشمل من ذلك وأكبر؛ حيث تقوم فرضيتنا الأساسية في هذا الجزء من العمل، على أن بلاد بونت التي جاء ذكرها متكررًا في النصوص المصرية. وما جاء بشأن تفاصيلها الدقيقة في لوحات حتشبسوت بالدير البحري، والتي عرفت باسم «أرض الإله»، وكانت بلادًا تستحق تجريد الحملات عليها بين حينٍ وآخر، كما تستحق الزيارات الودية للتبادل التجاري في أحيانٍ أخرى، وباعتبارها مع ذلك بلادًا ذات صلات حميمة بمصر، للحد الذي لم يرسم فيه المخصص الهيروغليفي للبلاد الأجنبية، عند ورود اسم بونت في المدونات المصرية. إن بونت هذه إطلاقًا لم تكن تقع في إفريقيا، ولا على سواحل عمان، ولا في اليمن، ولا على سواحل عسير بجزيرة العرب الغربية، ولا هي فلسطين زمن سليمان كما ذهب «فليكوفسكي»، حيث ارتحل «فليكوفسكي» ذات الرحلة بالحملة من مصر إلى العقبة. لكن كي تزور حتشبسوت الملك سليمان الإسرائيلي في أورشليم بحسبانها هي ملكة سبأ فيما يزعم، ولا هي في بلاد الهند أو أمريكا، إنما هي على وجه التحديد حسبما جمعنا من مادةٍ علمية هائلة كمًّا وكيفًا، وما حشدنا من قرائنَ وبراهين وأدلة ستتتالى في مواضعها من هذا العمل، هي تلك البلاد التي ذكرتها نصوص مصر باسمٍ آخر هو بلاد «ميتاني». وحسب نظريتنا لا تقع «ميتان» بعاصمتها الكبرى في أعالي الرافدين بين الخابور والفرات. إنما تقع تمامًا في المساحة التي ذكرها الكتاب المقدس باسم آدوم، على الحدود الشرقية لسيناء، حيث عاش الشعب الحوري الغامض، بلغته الغامضة، وتاريخه الغامض، ذلك الشعب الموصوف بأنه شعبٌ أحمر. وفي هذه الحال يكون الميناء الذي استقبل سفن حتشبسوت في بلاد بونت، هو أحد الموانئ القديمة الواقعة على رأس خليج العقبة.
اسم عبراني معناه: «صخرة»، وهي أمنع موقع في أرض آدوم، كان يهرع إليها الآدوميون كقلعةٍ حصينة لا تقهر وقت الحصار الحربي؛ لأنها تقع على قمة جبل. وقد أقام سكانها في الأعالي في شقوق الصخر في القرن الرابع قبل الميلاد انتقلت بترا من الآدوميين إلى العرب النبطيين، الذين جعلوها أفضل البقاع الزراعية، بفضل نظام الري الرائع وخزانات المياه، فعمروا الصحراء، كما استخدموا أفضل الأساليب الحربية المعروفة وقتئذٍ، وأدخلوا عليها التحسينات. وكانت بلادهم مركز التجارة القادمة من الشمال والجنوب والشرق والغرب، وكانت الأسرة الحاكمة تضمُّ عددًا من الملوك باسم الحارث. وقد ورد ذكرهم في: (٢ كورنثوس ١١: ٣٢).
انتهت مملكة النبطيين سنة ١٠٥ بعد المسيح، عندما هاجمها الإمبراطور الروماني تراجان، وصارت مدينة الصحراء العربية الجميلة مقاطعة رومانية. وقد كشف مكانها المستكشف والرائد المشهور بركهاردت عام ١٨١٢م، بعد أن أُخربت في عام ٦٢٩م، فتمت فيها نبوءة إرميا (٤٩: ١٦، ١٧). ويزور سالع اليوم سياحٌ كثيرون، ويمكن الوصول إليها من جهة الشرق عن طريق جسرٍ اسمه السيق، ويبلغ طوله ميلًا واحدًا. وهو مُحاط من جميع نواحيه بصخورٍ ذات ألوان طبيعية رائعة، تختلف من فعل الماء. ويسمى هذا الجسر أيضًا بوادي موسى. ويزعم الأعراب الساكنون هناك، أنه تخلف عندما ضرب موسى الصخر بعصاه. ويخترق الواديَ طولًا نهرٌ صغير اسمه عين موسى. وجدران الوادي من صخورٍ رملية منضَّدة بألوان قرمزية ونيلية وصفراء وأرجوانية، واسم قلعة سالع اليوم: أم البيارة.
رؤيا عوبيديا: هكذا قال السيد الرب عن آدوم: إني قد جعلتك صغيرًا بين الأمم. أنت محتقر جدًّا، تكبُّرُ قلبك قد خدعك أيها الساكن في محاجئ الصخر، رفعه مقعده القائل في قلبه: من يحدرني إلى الأرض؟ إن كنت ترتفع كالنسر، وإن كان عشك موضوعًا بين النجوم، فمن هناك أحدرك، يقول الرب.
… فرفع لوط عينيه ورأى كل دائرة الأردن، أن جميعها سقى الرب قبلما أخرب سدوم وعمورة، كجنَّة الرب كأرض مصر، حين تجيء إلى صوغر.
والتعبير «بنطابلس» تعبير يوناني يعني المدن الخمس أو الخماسية، لكنه أيضًا «بنط – بوليس» الذي يعني أيضًا «بلاد بونت». وسنرى أن تلك المنطقة قد اشتملت دومًا على بلادٍ سميت بالأرقام، فأصحابها كان لهم اهتمام خاص بالأرقام؛ لأنهم تجار، مثل مدينة «أربع» وهي حبرون (الخليل حاليًّا)، ومثل مدينة السبعة أو «بير سبع» … إلخ. والمعلوم أن المنطقة الخماسية كانت هي بلاد آدوم تحديدًا؛ لاشتمالها على خمس مدن ممالك متحالفة، سيأتي تفصيل ذكرها في حينه.
ومثلما كانت بلاد بونت لغزًا غير محلول، فإن اسمها نفسه لم يجد حلًّا، ولم يزل يحير العلماء حتى الآن. وهل كان اسمًا له معنى؟ وهنا نسوق اجتهادات افتراضية، ربما تكون مُصيبة وربما تكون خاطئة، فربما كانت تعني ما تعنيه في اليونانية «البلاد الخماسية». ثم هناك افتراضات أخرى نؤجلها لموضعها من البحث، ونطرح الثاني، وهو أن بونت مؤنث «بون»، والبون هو الحجر القمعي المخروطي. وهو ما تجده في تسمية الحجر الهرمي المقدس في مصر القديمة المسمى «بن – بن»، كما لو كان تيمنًا بأرضٍ مقدسة تأخذ هذا الشكل المخروطي (جبال موسى وكاترين كلها أقماع مخروطية)، وعادة ما كانت قمة المسلة ترمز إلى ذلك الحجر. والمقصود أن «بونت» تحمل بذلك شرحًا لمعنًى وصورة جغرافية صادقة لجبال البتراء الحورية، أي إن «بونت» بدورها ربما — وإلى حدٍّ مقبول — كانت تعني الصخرة، واسمها يلتقي مع الأنباط، أي سكان الصخر أو الصخريين، وهم من قلنا إنهم ينتسبون باسمهم إلى نابت أو «نبت» ابن إسماعيل بن إبراهيم، واسمه بالقبل «بنت». وإذا كانت البتراء هي بلاد بونت كما نزعم، فإن ذلك يفسر لنا الحكمة في رحلة حتشبسوت إلى بونت، ومن قبلها فيالق القائد العسكري «حنو»، وكلاهما كانا أهم ما سعى لجلبه من هناك إضافة إلى البخور، أحجار بلاد بونت. وما كان ممكنًا إدراك الحكمة في بعثةٍ تسافر عبر المياه وعبر اليابس؛ لتحضر أحجارًا، لولا أن أحجار البتراء تحديدًا ليست ككل الأحجار؛ لأنها كانت إعجازًا طبيعيًّا فنيًّا حقيقيًّا.
لكن التفسير المعتاد لبيوت بلاد بونت في لوحات حتشبسوت، يقول: إن تلك البيوت أكواخٌ من القش، بُنيت فوق أعمدة، وتناثرت في وسط غابات أشجار اللبان. ولأنها أكواخ فقد تطابقت لدى الباحثين مع الأكواخ الأفريقية بالصومال. وحتى لو افترضنا أنها أكواخ، فربما كانت تصويرًا لمساكن أحد موانئ العقبة الذي نظنه عصيون جابر الميناء القديم. فلم يزل الأهلون في هذه المناطق يبنون بيوتهم (ويسمونها: عشش) فوق أربعة أعمدة من فلوق النخل غالبًا، ويصعدون إليها بالسلم النقال الذي يتم رفعه ليلًا؛ تحاشيًا لضواري الصحراء وواغشها، وهو الموجود أيضًا في محيط نويبع وطوبية والترابين الآن. وربما كان ذلك النوع من السكن هو الأصل الآدومي القديم لبيوت الأعمدة الحجرة في حضارة الأنباط، من بعد أن نضيف توضيحًا شارحًا للوحاتِ بيوت بلاد بونت في جداريات حتشبسوت، يمكن أن يحيلها إلى البتراء نفسها. وإن عناصر اللوحات جمعت بين الميناء والعاصمة، حيث نجد في اللوحات متكررات مع اسم الزعيم البونتي، للمخصص الهيروغليفي لعلامة الجبال يتكرر عدة مرات. ومن هنا نفترض أن الجبال كانت هي خلفية اللوحات التي نُقشت عليها بقية التفاصيل.
ولعل تلك الصورة القديمة لبيوت بونت في لوحات حتشبسوت، هي الأصل القديم الابتدائي للنماذج الفنية الراقية، التي تطورت بعد ذلك حتى بلغت غايتها زمن الأنباط، بتأثير الفنون المصرية والرومانية، لتدخل على الأعمدة القديمة الزخرفة والتيجان. وبالمقارنة بين مشهدٍ مثل مشهد الخزنة في البتراء، وبين مشهدٍ لبيت بونتي في لوحات حتشبسوت، يكشف لنا أن بيوت بونت كانت الخطوط الرئيسية الأولى القديمة لمساكن الآدوميين الحور، والتي ظلت فكرتها قائمة حتى زمن الرومان في النحوت الحالية هناك.
ويمكننا الآن أن نفهم السر وراء ذلك التنوع الهائل في المنتجات، التي جاءت بها بعثة حتشبسوت من بلاد بونت؛ فبلاد يقوم اقتصادها على التجارة العالمية، كان هو الممكن الوحيد لتفسير كل هذا التنوع المتضارب، من أشجار لبان البخور المختلفة الأنواع، والأشجار العطرية كالصندل إلى التوابل الهندية، والعطور اليمنية إلى العاج الأفريقي إلى القردة الجبلية، إلى جلود الفهود إلى الزراف إلى الجنس الأحمر من الناس. نحن الآن مع الكاريين الذين كانوا حتى الآن شعبًا مجهولًا على أرفف مكتبة التاريخ تحت عنوان مجهول.
(معالم البتراء.)
(انظر الأشكال رقم «٤١–٥٢».)