لغز بلاد موصرى (؟!)
في منطقة شرقي المتوسط في بوادي الشام والهلال الخصيب، تناثرت جماعات عرقية باسم الحوريين، في شكل مدنٍ ودول. وقد أكد لنا علم التاريخ أن هؤلاء الحوريين قد عرفوا باسم شعب آدم، وأنهم أقاموا لأنفسهم دولة قوية مركزية باسم دولة «ميتاني» وباسم نهارين، وأن الموضع المحتمل لدولة نهارين الميتانية، دولة شعب آدم الحورية، يقع بين الفرات والخابور في أعالي الفرات.
وقد خالفنا ذلك التحديد الجغرافي لدولة الحوريين المركزية، وأكدنا من جانبنا أن «ميتان» وفي المأثور التوراتي أبدًا لم تقم بين الفرات والخابور، إنما قامت في الأرض التي جاء اسمها التاريخي «مديان» و«مدين» كما في المأثور الإسلامي العربي، وأنها تموضعت في شبه جزيرة سيناء وسيناء الشرقية، حيث البلاد التي ذكرها لنا الكتاب المقدس باسم آدوم، وأن ميتان هي بالقلب اللغوي مديان، وأنها فيما نرى قد تمركزت في محيط جبال السراة/سعير، ووادي عربة. وقد ذهب فرضنا إلى أن تلك البلاد التي تأخذ هضابها شكل الأقماع، وقد أعطت لعاصمتها اسمًا من صفتها الجغرافية، فسميت بالصخرة. فهي «سالع» بالعبرية وتعني الصخرة، وهي «بترا» زمن اليونان ثم الرومان، وتعني أيضًا الصخرة. وقد ذهبنا إلى ما هو أبعد من ذلك، فاحتسبنا بلاد مديان الحورية هي تلك البلاد، التي كانت تذكرها النصوص المصرية بأنها «أرض الإله/بونت»، وأن اسم بونت بدوره كان يعني الصخرة حسب تخريجنا. وإليها ينسب حجر «بن بن» المقدس في مصر، كما يعني الحمراء أيضًا؛ لأن البوني هو الفوني أو الفينيقي التي تعني بدورها «أحمر»، كما يعني البلاد الخماسية.
وهنا نتابع البحث عما يمكن أن يدعم فرضنا. ويضيف إلى رصيد ما قدمنا من شواهد وقرائن، وبين رتل أكوام المادة العلمية التي جمعناها لعملنا هذا خلال السنوات السوالف، وجدنا في نص الفرعون مرنبتاح (لوح الانتصارات) أو (لوح إسرائيل)، ما يدعم فرضنا، فاللوح يذكر بلسان الفرعون أنه قد احتلَّ بلادًا باسم بلاد الحور، ووضعها تحت السيطرة المصرية، أو بنصه جعلها «أرملة لتوميري» (توميري هي مصر). وبمتابعة النص يمكنك أن تجد ما وجدناه، وأن تفهم من النص ما فهمناه. وهو أن بلاد الحور الواردة في لوح مرنبتاح، هي بالضبط بلاد الحوريين التي حددناها في شرقي سيناء حيث مديان/آدوم، وأن بلاد الحور تقع عند وادي عربة، وفي محيط خليج العقبة.
يقول الملوك وهم ينطرحون أرضًا: السلام. ولم يعد أحد من الأقواس التسعة يرفع رأسه (الأقواس التسعة تعني بلاد البدو [المؤلف]) والتحنو (ليبيا [المؤلف]) قد خربت، وبلاد خاتي (دولة الحيثيين بالأناضول [المؤلف]) أصبحت مسالمة.
وكنعان (القسم الشرقي من فلسطين [المؤلف]) قد أُسرت مع كل خبيث. وأزيلت عسقلان، وجازر (مدينة فلسطينية قرب الساحل [المؤلف]) قُبض عليها، وينوعام أو (ينو آم وهي مدينة مجهولة [المؤلف]) أصبحت لا شيء، وإسرائيل خربت وليس لها بذر، وحور أصبحت أرملة لتوميري.
الملك المظفر يعدِّد هنا الشعوب التي أخضعها. ملوك جميع البلاد يسجدون على الأرض يطلبون السلام من جلالته، وجميع البدو المحيطين بمصر لم يعد بإمكانهم أن يرفعوا رءوسهم، فقد تم دحر الليبيين الذين هاجموا مصر. وهو ما نعلمه من نصوص أخرى لذات الزمن والأحداث. ثم ينتقل النص بعد ذلك جغرافيًّا نحو الشرق إلى دول شرقي المتوسط، بادئًا ببلاد (خاتي/دولة الحيثيين) بتركيا القديمة في أقصى الشمال، ويؤكد أن الحيثيين قد أصبحوا مسالمين. ونحن نعلم أن ذلك حدث بعد موقعة قادش الكبرى على نهر العاصي، التي خاضها أبوه رمسيس الثاني ضد الحيثيين، وانتهت بترسيم حدود الولايات بين المصريين والحيثيين، في معاهدة صلح عثر على نسختيها المصرية والحيثية. وقد عثر على النسختين كاملتين موثقتين في مصر وفي حاتوس عاصمة الحيثيين القديمة المعروفة موضعها الآن باسم بوغاز كوي.
ينوم وبيت تفوح وأفيقة وحمطة وقرية أربع وهي حبرون وصيعور. تسع مدن مع ضياعها.
لقد كان تفسير خط سير الحملة يذهب بها إلى فلطسين الشمالية وبلاد الشام، ومع سيره المستمر يصل إلى بلاد باسم «حور» و«خارو»، تم افتراض أنها بلاد الحوريين الميتانية، المزعوم أنها تقع بين الفرات والخابور، حيث يفترض أن تقع «ينو عام»، ثم تمَّت إعادة النظر مرة أخرى حيث تضارب ذلك مع خط السير الواضح بلوح مرنبتاح، ومع معطياتٍ أخرى أسقطت ذلك الاتجاه الشمالي، وأخذت بخط السير من الشمال نحو الجنوب. وحينئذٍ أصبحت بلاد حور مشكلة تم الانتهاء منها بالقول: إن المصريين منذ زمن مرنبتاح والأسرة التاسعة عشرة، صاروا يطلقون على بلاد فلسطين اسم بلاد حور أو خارو أو حوري (؟!)، وهي آخر خط حملة الانتصارات ليعود إلى مصر بعدها. هذا بينما يوضح فرضنا التأسيسي أن بلادًا تقع جنوبي فلسطين، وجنوبي مدينة ينوم التي تقع جنوبي يهوذا، تحمل اسم بلاد مديان وآدوم، هي البلاد الحورية المقصودة في نص مرنبتاح. وإن فرضنا يجعل تفسير لوح مرنبتاح مستقيمًا ومقبولًا في حال بدئه من الشمال واتجاهه جنوبًا، ليتناغم لوح مرنبتاح مع منظومتنا تناغمًا واضحًا، ويتحول إلى دليل وقرينة تضاف إلى رصيدنا؛ لأن البلاد الواقعة جنوبًا بعد ينوم ستكون خارج دائرة فلسطين، وليس بعدها جنوبًا سوى بلاد آدوم/آدوم الحورية. ولم يزل الوادي الواقع جنوبي وادي موسى عند البتراء، يحمل حتى اليوم اسم وادي حور. ويقول الفرعون في نهاية نصه حيث وصل نهاية حملته: «وحور أصبحت أرملة لتوميري.»
وهنا نتذكر شكل مساكن بلاد بونت الكهفية، ثم كهوف سالع البتراء المحفورة في الصخر، في تلك البلاد الحمراء، ثم نقف مع كلمة «حور» نبحث عنها في العبرية القاموسية، فنجدها تبلغنا شديد تأييدها لفروضنا، حيث تحمل الكلمة معنيين: الأول هو «أحمر». أما الثاني فهو «كهف»، فيما يسجل قاموس الكتاب المقدس. وهكذا حفظت لنا اللغة تحديدًا واضحًا للمكان، بل وصفة هذا المكان القديمة، فهم الجنس الأحمر الذي سكن الكهوف في بلاد آدوم.
وهكذا يوقفنا هذا التفسير دهِشِين من أمر فرعون عظيم وفاتح كبير، يفاخر أهل زمانه أنه قد أخضع دولة زالت قبل زمانه بزمان كان كفيلًا بنسيان «ميتاني» واسمها زمن شيشنق. ولا شك أن أهل زمانه إما كانوا لا يعرفون ما هي «ميتاني» أو كانوا يعرفونها، ويعلمون يقينًا أنها زالت من صفحة التاريخ منذ قرون. أما الأغرب فهو أن يفاخر الفرعون كاذبًا، وهو منتصر انتصارًا عظيمًا أعاد لمصر أمجاد فتوحات التحامسة والرعامسة. لكن لن تكون هناك أية غرابة لو كان فرضنا المؤسس لهذا العمل صحيحًا، ذلك الفرض الذي يقول إن بلاد «ميتاني» لم تقع دولتها المركزية على الفرات الأعلى، الذي نعرف أنه كان ذلك الوقت بلادًا آشورية بلا منازع، وتحت سيطرة آشور من فجر مطلعها، إنما كانت هي بالتحديد بلاد مديان الحورية الآدومية الواقعة في سيناء الشرقية ووادي عربة وسراة سعير، وأنها هي بلاد بونت (الصخرة/سالع/البتراء)، التي ظلت قائمة حتى زمن الرومان. ولم يكن شيشنق يفاخر كاذبًا، بل هاجم بلادًا كانت قائمة بالفعل في زمانه، هي بلاد آدوم نهارين، كما ذكر اسمها في مقدمة جدوله الكبير بالكرنك.
وهكذا كان لاقتران إقليم «مصرى» مع بلاد «نهارينا» بفتوحات في الرافدين الأعلى، مدعاة لافتراض إقليم «مصرى» إقليمًا ميتانيًّا، أي أحد الأقاليم التابعة لبلاد «ميتاني» نهارينا، الواقعة زعمًا بين الفرات والخابور، لكنه الآن مجهول تمامًا مثله مثل «ميتاني»، ولا توجد عليه قرينة أركيولوجية واحدة. لكن إطلاقًا لم يكن إقليم «مصرى/موصرى» هذا وهمًا، ولا قراءة ملتبسة ننتظر صلاح الحال لنطقها الصحيح؛ لأنه تكرر في نصوصٍ رافدية أخرى، حدثتنا مرات عديدة وفي إشارات متباينة عن إقليم مصرى، ونتيجة التباين في الإشارات التي أحدثت التباسات في تحديده الجغرافي، فمرةً يمكن تفسير النصوص بأنه يقع في منطقة ما جنوبًا، ومرة شمالًا.
وإعمالًا لهذا اقترح الباحثون أحد موضعين لا ثالث لهما لإقليم مصرى، وما أبعدهما عن بعضهما: الموضع الأول في الفرات الأعلى، حيث الموضع المزعوم لبلاد (ميتاني/نهارينا). أما الموضع الثاني وهو الذي يعنينا بشدة، فهو احتمال وقوع إقليم مصرى — حسب قراءات أخرى لنصوص أخرى — في المنطقة المحيطة بخليج العقبة وبعض شبه جزيرة سيناء، ربما نصفها الشرقي كاملًا يقسمها وادي العريش العظيم.
وهنا نعود إلى الإقليم «مصرى/موصرى» نطرح الحل البسيط والسهل: إذا كان المؤرخون قد وضعوا لإقليمٍ مصري احتمالين جغرافيين، أحدهما يقع في بلاد آدوم وسيناء، وإذا كانت الكلمة المصرية «مجر» تعني الحدود الدولية، فلا شكَّ أن «مجر» أو «مصرى» لم تكن تعني مصر بلاد النيل، إنما تعني منطقة حدود مصر الدولية، أي إنها كانت بلاد آدوم بالتحديد والتدقيق المبين، ويكون العاهل الآشوري «تجلاتبليزر الأول» قد هاجم بلاد آدوم، عندما قال إنه هاجم بلاد موصرى. ولأنه كان يتحدث عن إقليم موصرى، ضمن هجوم أشمل على بلاد نهارينا، فإن بلاد نهارينا المقصودة لن تكون بالفرات الأعلى إنما بلاد آدوم. وتصبح الألفاظ الواردة بنصوص تل العمارنة بمصر عن «مشرى، مصر، موصرى، مسرى … إلخ» تشير إلى حدود مصر الدولية عند بلاد آدوم التي حملت اسم «مصر»، قبل أن تحمله مصر المعروفة الآن. فهي الحد الفاصل بين مصر وبين بادية الشام والبوادي العربية، وهي سور عظيم فعلًا؛ لأنها سلسلة جبال منيعة طبيعيًّا. وهو الأمر الذي يفسر لنا لماذا لم يضع المصريون على لفظة بلاد بونت العلامة الهيروغليفية الدالة على البلاد الأجنبية. وفيما سلف عرضنا فرضنا في أن بلاد بونت هي الاسم المصري الأشهر لبلاد آدوم المديانية، وهو ما يوعز أن المصريين كانوا يعتبرون بلاد «آدوم/بونت» حدًّا شرقيًّا فاصلًا للحدود المصرية مع البلاد الأجنبية.
وإن كان التاريخ يشي دومًا باستقلالٍ واضح لتلك البلاد، عن الوطن الأم في فتراتٍ تاريخية متعددة، وأن وجهة نظر المصريين لم تفرض على بلاد آدوم الأمر الواقع بالتبعية، وهو ما كان يستدعي حملات تأديب مصرية متتابعة، يتم تجريدها على سيناء وآدوم، كلما ارتكبت آدوم ما يعتبره الفرعون بحاجةٍ للتأديب والتهذيب. وعليه فإن لفظة مصر بدأ إطلاقها على بلاد آدوم جميعًا من جانب سكان المتوسط الشرقي ولسانهم السامي، الذي غلب على المنطقة بعد ذلك، بينما ظلَّ لفظ «قبط» ثابتًا في اللسان اللاتيني «إيجبت».
وتضيف اللغة مزيدًا من القرائن لنظريتنا التأسيسية؛ لأن الكلمة «مجر» المصرية القديمة المنطوقة في اللسان السامي «مصر»، على اختلاف تنغيماته «مشر، مشارى، مصر، مسرى، مصرى، موسير … إلخ»، تعني دومًا في الساميات معنًى واحدًا هو: «الحمراء». ونتذكر ما سلف بيانه أن بلاد آدوم وصفت بأنها بلاد حمراء، وأن عيسو آدوم سمي كذلك؛ لأنه كان أحمر اللون، حسبما ورد بالكتاب المقدس. لقد كانت مصر هي بلاد سيناء، في امتدادها حتى آدوم، في زمن كانت فيه مصر المعروفة تحمل أسماء أخرى معلومة هي: كيمت، توميري، آيريا، مسترايا، نيلوس، ولم تكن حمراء بل سوداء.
مات هارون ودفن في جبل موسير.
ميتاني ومدياني
ورغم أن التوراة قد اصطلحت على تسمية تلك المنطقة ببلاد «عيسو/آدوم»، إلا أن هناك إشارات أخرى عديدة بها، تؤكد أنها قد عرفت ذات الموضع باسم بلاد مديان، نسبة إلى قبيلة كبرى قطنت هناك بهذا الاسم. فنجد في (سفر إرميا، ٢٥: ٢٠) أن بلاد مديان تقع بين مصر وفلسطين (أي شبه جزيرة سيناء). وفي ذات السفر يذكر النبي إرميا بلاد مديان، بحسبانها تقع في طريق المسافر من مصر إلى بابل، بل وبموضعها في بلاد آدوم (إرميا، ٤٦: ١). وهو الموضع الذي افترضناه موضعًا لبلاد بونت، التي عرفت في سجلات المنطقة التاريخية باسم بلاد «ميتاني/نهارين، الحور». وهو ما يجد له صدًى بالكتاب المقدس، الذي أكد لنا أن سكان النصف الشرقي لسيناء، قد حمل بعضهم اسم المديانيين؛ ولذلك كانت تطلق على تلك البلاد مجموعة مسميات على التبادل: مديان نسبة لقبائل مديان/ سعير نسبة لجبال سراة سعير/ وهي الحدود التي سميت موصرى/ آدوم نسبة للآدوميين الأوائل/ بلاد الحور، وهو الاسم الثاني للآدوميين/ سالع بالعبرية أي الصخرة، وهو اسم العاصمة/ بترا اليونانية، ويعني الصخرة أيضًا/ بونت أي الخماسية باليونانية.
وأقام الرب خصمًا لسليمان هدد الآدومي، كان من نسل الملك في آدوم. وحدث لما كان داود في آدوم عند صعود يوآب رئيس الجيش لدفن القتلى، وضرب كل ذكر في آدوم؛ لأن يوآب وكل إسرائيل أقاموا هناك ستة أشهر، حتى أفنوا كل ذكر في آدوم. إن هدد هرب هو ورجال آدوميون من عبيد أبيه معه؛ ليأتوا مصر. وكان هدد غلامًا صغيرًا، وقاموا من مديان وأتوا إلى فاران. وأخذوا معهم رجالًا من فاران، وأتوا إلى مصر إلى فرعون ملك مصر، فأعطاه بيتًا وعيَّن له طعامًا وأعطاه أرضًا. فوجد هدد نعمة في عيني فرعون جدًّا وزوجه أخت امرأته، أخت تحفنيس الملكة، فولدت له أخت تحفنيس جنوبث ابنه، وفطمته تحفنيس في وسط بيت فرعون. وكان جنوبث في بيت فرعون بين بني فرعون. فسمع هدد في مصر بأن داود قد اضطجع مع آبائه (أي مات [المؤلف])، وبأن يوآب رئيس الجيش قد مات، فقال هدد لفرعون: أطلقني إلى أرضي.
وهذا إنما يعني أن منطلق الرحلة كان من مديان «وقاموا من مديان»، وأن مملكة هدد الآدومي كانت هي مملكة مديان. وخط هروب الوريث الآدومي يحدد لنا بدقة أين تقع مديان، فالنص يقول: «وقاموا من مديان وأتوا إلى فاران». وبالبحث سبق ووجدنا برية باسم «باران» قائمة باسمها حتى الآن، تقع إلى الغرب مباشرة من بلاد آدوم، التي حددنا موقعها بين خليج العقبة والبحر الميت. و«باران» بالضبط هي «فاران»، فحرف الباء والفاء يتبادلان. ثم إن «باران» أو «فاران» محطة واضحة على خريطة سيناء، للمتَّجِه غربًا من آدوم نحو مصر. وإذا كان هدد الملك الآدومي قد أخذ معه رجالًا من فاران كأتباعٍ له، فهو ما يعني أن سلطان آدوم كان يصل تقريبًا إلى «نهر مصر» وادي العريش الآن. إن النص يؤكد بلا لَبْس أن بلاد آدوم هي التي حملت أيضًا الاسم التاريخ مديان اسم كبرى القبائل الآدومية.
ومن جانبهم يفترض المؤرخون الإسلاميون أن «يثرون» هذا هو الذي ورد في القرآن باسمِ شعيب صاحب شعب الأيكة. والأيكة هي الشجرة الضخمة المعمرة أو الغابة، والأيك هو «العيك» بتبادل الهمزة مع العين في «الساميات». وهو ما يذكرنا بأتيكا أو عتيقة، التي وردت في نصوص مصر بحسبانها موقعًا في بلاد آدوم، كما أسلفنا.
وكلام المأثور الإسلامي هنا عن المكيال والميزان، يعبر بوضوحٍ عن صدق فروضنا، التي قلنا فيها إن سكان تلك المنطقة كانوا من طبقة من التجار العسكريين، تمركزوا على عصب طريق قوافل تجارة العالم، في هذه المنطقة الحساسة من العالم المعروف آنذاك.
وكلم الرب موسى قائلًا: انتقم نقمة لبني إسرائيل من مديان، فتجندوا على مديان كما أمرهم الرب، واقتلوا كل ذكر، وملوك مديان اقتلوهم فوق قتلاهم: آوى وراقم وصور وحور ورابع، خمسة ملوك مديان، وأحرقوا جميع مدنهم ومساكنهم وجميع حصونهم بالنار وأتوا إلى المحلة إلى عربات موآب.
با – رع ملك سدوم، وبر – شاع ملك عمورة، وشن – آب ملك آدمة، وشم – إير ملك صبوييم، وملك بالع التي هي صوغر.
وواضحٌ في تلك الأسماء النغمات المصرية «با – رع»، والنغمات السامية العربية «شم – إير» الذي هو «شمر». وما زالت قبائل عربية كبيرة تحمل هذا الاسم حتى الآن في تلك المناطق تحديدًا (الشمريين)، إضافة إلى العموريين أو الأموريين (ولدينا في التوراة مدينة عمورة في بلاد آدوم) والآدوميين أدمة بالتوراة. وبمقارنتنا للوديان المنزرعة التي تتخلل المنطقة الصخرية لبلاد آدوم، والتي تصلح لقيام دول مدن بها، سنجدها الآن وديانًا خمسةً تلتقي مع المدن الخمس، التي أوردها الكتاب المقدس. وهي بأسمائها الحالية: وادي موسى، ووادي جلواخ، ووادي الصدر، ووادي المقر، ووادي الزرابة، وهي بالتحديد المبين كل وديان المنطقة دون زيادة أو نقصان، وديان خمسة تطابق مدنًا خمسة، وهي التي أطلق عليها المؤرخون القدامى مثل هروشيوش «بونتابوليس» (بنط – بوليس) أي البلاد الخماسية.
وعمل بنو إسرائيل الشر في عيني الرب، فدفعهم الرب ليد مديان سبع سنين، فاعتزت يد مديان على إسرائيل، بسبب المديانيين عمل بنو إسرائيل لأنفسهم الكهوف التي في الجبال، والمغاوير والحصون. وإذا زرع إسرائيل كان يصعد المديانيون والعمالقة وبنو المشرق، يصعدون عليهم وينزلون عليهم، ويتلفون غلة الأرض إلى مجيئك إلى غزة، ولا يتركون لإسرائيل قوت الحياة، ولا غنمًا ولا بقرًا ولا حميرًا؛ لأنهم كانوا يصعدون بمواشيهم وخيامهم، ويجيئون كالجراد في الكثرة، وليس لهم ولجمالهم عدد، ودخلوا الأرض لكي يخربوها.
ويفهم من النص أن المديانيين كانوا يشكلون حلفًا قويًّا مع العمالقة، والعمالقة شعب مجهول إلى حدٍّ بعيد. لكن شجرة الأنساب التوراتية تعيد العمالقة إلى أبٍ أسطوري بعيد اسمه «عماليق»، وتقول: إن عماليق هذا من نسب آدومي، فهو حفيد عيسو آدوم، الجد الأسطوري البعيد لشعب آدوم» (انظر: سفر التكوين، ٣٦: ١٢). وهو ما يفسر لنا وجود العماليق في بلاد آدوم.
وفي التوراة نصوص عديدة يُفهم منها أن العمالقة أو العماليق كانوا ينتشرون في سيناء وآدوم، والنقب، والمناطق الجنوبية من فلسطين. أما بنو المشرق فهو اصطلاحٌ معلوم بالكتاب المقدس، يشير إلى القبائل الآرامية. والنص السالف يشير إلى كثرة عددية هائلة في جيوش هذا الحلف «كالجراد في الكثرة»، لكنه يشير إلى أن المديانيين قد دفعوا الإسرائيليين لحفر الكهوف التي في الجبال. وهو كلام ملتبس؛ إذ يبدو لنا أن كاتب هذا الجزء من التوراة، كان قد عرف مساكن بونت آدوم الكهفية المحفورة في الصخور، ورأى عظمتها وعاينها، فنسب فعلها إلى الإسرائيليين. وهو دأب توراتي يعلمه المعتاد على التعامل مع الكتاب المقدس، حيث يحاول المحرر التوراتي دومًا أن ينسب الأعمال الكبرى لبني إسرائيل.
قينيون: اسم سامي معناه حداد، والقين باللغة العربية معناه الحداد، وبنو القين قبيلة من قبائل العرب والنسبة إليها قيني. ومن (سفر التكوين، ١٥: ١٩) نرى أن القينيين كانوا أمة مجاورة للقدمونيين والقنزيين الساكنين في آدوم، وقد تطلع بلعام من مرتفعات بعل موآب، فرأى القينين وشبه موضعهم بالعش في صخرة (سفر العدد ٢٢: ٤١ و٢٤: ٢١، ٢٢) ليكن مسكنك متينًا، وعشك موضوعًا في صخرة.
وهنا نتذكر أن بيوت بلاد بونت قد صُوِّرت كأعشاش النحل في الصخور، وأنها ذات عين مساكن الحوريين في بلاد آدوم. وسفر القضاة يقدم لنا تقريرًا واضحًا، يؤكِّد أن القينيين هم ذات المديانيين، وأن القيني صفة للمدياني، وذلك في قوله: وبنو القيني حمو موسى (قضاة، ١: ١٦)، ونحن نعلم أن حمى موسى «يثرون/رعوئيل»، كان مديانيًّا.
اذهبوا وحيدوا وانزلوا من وسط العمالقة؛ لئلا أهلككم معهم، وأنتم قد فعلتم معروفًا مع جميع بني إسرائيل عند صعودهم من مصر، فحاد القيني من وسط عماليق.
ومن جانبٍ آخر عثر علماء الدولة الإسرائيلية أثناء وقوع سيناء المصرية تحت الاحتلال بعد هزيمة ١٩٦٧م، على بقايا ميناء في جزيرة فرعون المصرية المقابلة لميناء إيلات. فذهبوا إلى أن هناك كان موقع ميناء عصيون جابر، الذي استخدمه الملك سليمان قاعدة لأسطوله إبَّان توسعه على حساب آدوم.
وبعد تحرير سيناء توجهت بعثة من المجلس الأعلى للآثار المصرية؛ للتحقُّق من صدق ما وصل إليه علماء إسرائيل، حيث عثروا على تحصيناتٍ حربية ترجع إلى عهد صلاح الدين الأيوبي. كما عثروا على فرنٍ يُستخدَم في إسالة المعادن بغرض التصنيع الحربي، مبني من الطوب الحراري، إضافة إلى بعض أبراج المراقبة وخزانات المياه، وأبراج حمام زاجل كانت تستخدم في عمليات الاتصال العسكري والمراسلة. وعندئذٍ صرح المشرف على البعثة المصرية، أن أهمية كشف تلك المنشآت التي تعود لزمن صلاح الدين الأيوبي، تكمن في دحضه لمزاعم الآثاريين الإسرائيليين. وكان الإسرائيليون قد عثروا على بقايا معدن الحديد المنصهر. ولما كان عصر الحديد في المنطقة قد تم تزمين بدايته بحوالي عام ١٠٠٠ق.م. فقد تم ربط المكتشفات بزمن سليمان الذي حكم حوالي ذلك الزمن. لكن رئيس البعثة المصرية نفى أن يكون لهذا الحديد علاقة بزمن سليمان، إنما يعود إلى فترة حكم الأيوبيين.
(انظر شكل رقم «٧١».)
وإذا كنا من جانبنا نزعم أن بلاد بونت التي أوفدت إليها الفرعونة حتشبسوت بعثتها هي ذات بلاد آدوم عند العقبة، فإننا لم نجد في نصوص حتشبسوت أي ذكر لا للحديد ولا للنحاس في منتجات بونت. لكن ما لا يصح التغافل عنه ذلك النص الذي تقول فيه الفرعونة: «لقد منحتهم الذهب، فتلقيت منهم الذهب الأخضر من بلاد الأمو». وإذا أخذنا العبارة بظاهرها، فلن يكون مفهومًا أن تهدي الفرعونة ذهبًا لتتلقى ذهبًا، خاصةً وأن مصر كانت غنية بالذهب، الذي يأتي من مناجم النوبة بوفرةٍ عظيمة؛ إلا أن الكلمة الإلحاقية التوضيحية بالنص «الذهب الأخضر»، تعطينا معنًى يطابق النحاس والحديد مطابقة مدهشة، فكلاهما يأخذ اللون الأخضر مع التأكسد، وأن يُقال عن تلك المعادن إنها نوع من الذهب. فلكون الحديد ثم النحاس الممزوج بالقصدير الذي يُعطي سبيكة البرونز، كان فاتحة عصر جديد في أساليب الحروب وأسلحتها، فكان أثمن من الذهب في ذلك الزمن.
أما الإشارة في نصوص حتشبسوت إلى أن تلك البلاد، التي كانت تصنع هذا الذهب الأخضر في بلاد بونت هي بلاد الآمو؛ فهو باب آخر يفتحه النص أمام بحثنا هنا؛ لأن كلمة آمو أو عامو هي الاصطلاح المصري المعلوم الذي أطلقه المصريون على غزاة بلادهم باسم الهكسوس، الذين احتلوا مصر في زمنٍ سابق حوالي ١٧٨٨–١٥٧٥ق.م. وهو الأمر الذي سنُتِمُّ معالجته تفصيلًا مع السير في العمل بهذا البحث. لكن ما نوضحه هنا في إشارة سريعة، هو أن بلاد بونت وفق هذا المعنى التي هي بلاد العامو كانت موطنًا للهكسوس. وإذا كان الهكسوس العامو حسب نص حتشبسوت هم سكان بلاد بونت، فمن المستحيل أن تقع بونت في الصومال أو أثيوبيا أو سواحل اليمن، إنما يجب أن تقع في الشرق من حيث جاء الهكسوس. هذا ناهيك عن كون كثير من المدارس، يرجح أن يكون الهكسوس من شعبٍ قديم عُرف باسم العمالقة. وهنا نتذكر فورًا نص الكتاب المقدس السالف الذي أحاطنا علمًا، في قصة حملة الملك الإسرائيلي شاول على العمالقة، بأن المديانيين أو القينيين كانوا يعيشون مع العمالقة بذات المواضع الجغرافية.
وكما سلف في النص المذكور يأمر النبي موسى بقتل ملوك مديان وبينهم ملك باسم «رابع»، وفي موضعٍ آخر بالكتاب المقدس نعلم أن اسم «رابع» هذا اسم كنعاني يعني العدد أربعة، وذكر في مواضع أخرى باسم «أربع» صريحة، مع وصفه بأنه كان أعظم ملوك العماليق. وهنا نتساءل: هل كان رابح ملك بلاد بونت في لوحات حتشبسوت هو رابع هذا؟ كان رابع فيما يبدو اسمًا متواترًا لملوك مديان منذ بارح أو رباح أو رابح في نصوص حتشبسوت، وأنه كان أيضًا بارح أو رابح في زمن آمنحتب الثاني، الذي كان يحلو له — كما أسلفنا — التحدث باحتقارٍ عن رابح وقوم نخسى! والمقدس التوراتي يذكر للعماليق اسمًا آخر يأتي على التبادل مع «عمالقة»، هو الاسم «عناقين» و«بني عناق». وقد سميت مدينة الخليل باسم كنعاني هو «أربع» زعيم العمالقة، قبل أن يتغير اسمها إلى حبرون ثم إلى الخليل انظر: (سفر يشوع، ١٤: ١٥، و١٥: ١٣). وهو ما يؤكد صدق تحديدنا للمواطن التي اخترناها للمديانايين والعمالقة.
أما الاسم الثاني فهو يبدو كما لو كان وصفًا للمكان الذي التقى فيه مصريو بعثة حتشبسوت بالبونتيين، بميناء علي سواحل بلاد بونت، والصيغة كما جاءت هي «حرجسوى واج ور»، وتعني أن المقابلة قد تمت على شاطئ البحر. وهو برأينا تسمية لواقع حال المكان، كعادة المصريين والشعوب القديمة عمومًا في التسمية على واقع الحال وشكل البيئة. ونعتقد أن «على شاطئ البحر» هو اسم المدينة لوصفها بكونها ميناء، فهي باختصار تعني «الميناء»، التي تلتقي مع ذات التسمية التي أطلقها المأثور الإسلامي في غزوة زيد بن حارثة، زمن الدعوة الإسلامية على بلاد مدين، على المكان الواقع عند العقبة باسم «ميناء»، في النص السالف «إن رسول الله ﷺ بعث زيدًا بن حارثة نحو مدين … فأصبا سبيًا من أهالي ميناء»، لقد كانت كلمة ميناء المعنى الذي أصبح اسمًا من كلمة «حرجسوي واج ور»، للميناء الذي استقبل سفن الفرعونة حتشبسوت باسم «ميناء».
ومن ثم لا شك أنه قد ضاعت بهذا الفعل الطبيعي معالم كثيرة، كان يمكن أن توفر كثيرًا من العناء لحلِّ ألغاز التاريخ، وضمن ذلك لا شك مساكن ومزارع وحياة كاملة، لم يبق منها إلا آثار صهر النحاس في جزيرة فرعون، وبعض المباني التي تشير إلى ضجيجٍ قديم كان يملأ المكان. أما باقي تلك المساكن كالأكواخ التي تقوم على أعمدة، فلا زالت تتناثر في سيناء بمحيط الترابين ونويبع ومواضع أخرى. أكواخ تحملها قوائم يصعد إليها الأهلون هناك بسلالم خشبية، وهو ما يلقي بنا في مرآة زمان بعثة حتشبسوت إلى بلاد بونت، فلم يزل أهل تلك المناطق يستخدمون الأسلوب القديم في بناء المساكن كما هو، وبذات الأسلوب البنائي البدائي.
وهكذا فإن «بلاد بونت/بلاد الصخر» قد عاش فيها شعب يسمى الشعب الحوري، منسوبًا إلى جد أسطوري باسم سعير الحوري، حتى جاء الآدوميون «أبناء عيسو/آدوم» فاقتحموا المكان واستوطنوه. وفي ذات المكان استوطن فرعًا قبليًّا من فروعهم، هو الفرع المدياني الذي اشتغل بالحدادة والنحاسة فسمي القيني. وفي ذات المكان وعلى امتداد نحو الشمال الفلسطيني، استوطن بطن نسيب آخر هو الفرع العماليقي أو العناقي، وامتدت المساحة التي شغلتها تلك الممالك أو البطون القبلية المتحالفة، من جبال سراة سعير (موصرى) ووادي عربة حتى عمق سيناء غربًا، ربما إلى وادي العريش، مع جزءٍ واسع من بادية شمال جزيرة العرب شرقًا، وجنوبًا على الساحل الشرقي لخليج العقبة، وإلى الشرق منه، حيث مدن ددان «العلا» ومدائن صالح وتيماء … (المدن التجارية الواقعة على خط التجارة من الجنوب للشمال، والتي يبدو أنها ذُكرت في النصوص المصرية القديمة باسم بونت)، وجمع الحلف والمكان بين ثلاثة عناصر بشرية متمايزة بوضوح: «العنصر الحامي الزنجي الأسود، والعنصر الأحمر الذي نظنه هندوآرى، والعنصر القادم من جنوب جزيرة العرب، ويمكن الاصطلاح على تسميته هنا (الجنوب جزيري)».
وقد رأت التوراة من جانبها أن تجد علاقة بين تلك القبائل الممالك، فوضعت لها شجرة أنساب جعلت فيها اسم القبيلة اسمًا لسلفها البعيد، وقالت إن بين هؤلاء الأسلاف كانت روابط دم وعلاقات رحم. ومن هؤلاء الأسلاف الأسطوريين السلف الأول لشعوب المنطقة «نوح»، الذي أنجب أبناء ثلاثة هم: «سام أبو الساميين، وحام أبو الحاميين أو الكوشيين الزنج، ويافث أبو الهندوآريين»، وأنه من حام جاء أخلاف هم المصري والكوشي أشقاء، والكوشي هو الزنجي، وأنجب الكوشي سبأ وحويلة وددان. أما الابن الآخر لنوح وكان يحمل اسم سام، فقد أنجب أرام أبو «يقطان/قحطان» وحضرموت وأوفير، ومن نسله جاء البطريرك إبراهيم الخليل، وأنجب إبراهيم عددًا من الأولاد منهم إسماعيل، ومن أبناء إسماعيل كان نبايوت «نابت» وقيدار ودوما وتيما، «وكان لإسماعيل أخ يعنينا اسمه هو «مديان»، ثم كان له شقيق آخر هو إسحاق الذي أنجب «عيسو/آدوم»، و«يعقوب/إسرائيل»، ومن عيسو جاء نسل الإخوة تيمان ورعوئيل وعماليق».
المهم أن ذكريات الكتاب المقدس لديها علم بصلةٍ قديمة قوية، بين منطقة سيناء وآدوم وشمالي الجزيرة وبين بلاد مصر النيل، وهو ما يلتقي مع اعتبار المصريين لتلك المنطقة كحدٍّ شرقي مصري لبلادهم. كما أن تلك الذكريات كانت تعلم أن هناك صلة وثيقة بين عيسو (آدوم الحوري) وبين المدياني، فجعل المحرر التوراتي عيسو ينجب رعوئيل، الذي عرفناه حَمًى للنبي موسى، ونعلم أنه كان مديانيًّا قينيًّا، كما تجد الابن الثاني لعيسو المسمى تيمان، ذات صلة وثيقة لغويًّا وجغرافيًّا بكلمة ميتان أو ميديان! كما ربطت شجرة الأنساب التوراتية تلك بين عيسو/آدوم وبين العمالقة، فجعلت جد العمالقة «عمليق» حفيدًا لعيسو/آدوم، ثم أعادت تلك القرابات جميعًا إلى إسماعيل بن إبراهيم تارة، وإلى إبراهيم نفسه تارة أخرى، في محاولة لتفسير التحالف السياسي بين مجموع تلك الممالك الصغيرة بأعدادها الكبيرة معًا؛ ربما لأن لغتهم كانت متقاربة، وربما لأن ثقافتهم توحدت بحلفهم، ناهيك عن التطابق المُدهش بين ذكريات المحرر التوراتي، وبين نصوص الفرعونة حتشبسوت عن بلاد بونت؛ إذ كان العنصر الزنجي في لوحات حتشبسوت مدعاة طوال الوقت عند المؤرخ التقليدي للذهاب بموقع بلاد بونت إلى أفريقيا، وذكريات التوراة تقول إن الكوشي (الزنجي) كان شقيقًا للمصري. لكن نفس الذكريات كانت تقول كلامًا شديد الغرابة، وهو أن أبناء كوش كانوا يعيشون في منطقة شرقي مصر وليس جنوبها، وشرقي مصر في سيناء وآدوم، في آسيا وليس في إفريقيا، وأن واحدًا من أبناء كوش (الزنجي) نحن على يقين من موضعه الجغرافي، وهو ددان (العلا حاليًّا) جنوب شرقي آدوم. وسيتضح لنا فيما بعد مدى مصداقية ذلك القول التوراتي العجيب، بشأن وضع الكوشي الزنجي في آدوم ومحيطها وليس في أفريقيا.
وابتداءً يمكن القول بهذا الشأن: إن العلاقات التجارية بين آدوم وبين اليمن والساحل الإفريقي الملاصق عبر مضيق المندب، قد استدعت اختلاطًا للعناصر، وانتقالًا وهجراتٍ، الأمر الذي سمح بوجود العنصر الزنجي في بلاد بونت (آدوم)، أما الذي نعتز بالكشف عنه، فهو أن البلاد التي كانت النصوص المصرية تطلق عليها اسم ميتان (ن ح ر ن) أو بلاد الحوريين، هي ذات بلاد مديان (آدم، النايري، أو النهرية، أو النارية، أو ذات النهارين)، هي ذات بلاد موصرى (مديان) الواقعة في وادي عربة وجبال سراة سعير في حضن الصخور، وأن العاصمة كانت هي الصخرة الكبرى (آدوم الكبرى، شمس آدوم، بونت، سالع، البتراء)، وكلها تعني معنى واحدًا هو الصخرة.
وقد سبق وعلمنا أن علماء المصريات قد عثروا ضمن ما عثروا عليه من آثارٍ مكتوبة، تعود إلى دولة «ميتاني» (المزعوم أنها تقع أعالي الفرات) على خطاب ضمن مكتبة تل العمارنة بمصر، مُرسل من قبل الملك الميتاني «دوشراتا» إلى صديقه الفرعون «آمنحتب الثالث»، ومع اسم «دوشراتا» هذا نقف هنيهة.
إنها إذن شبه جزيرة سيناء في امتدادها من خليج السويس «خليج العرب» نحو المشرق، وقد سبق وعلمنا كيف أن صفة خليج العرب، قد أصبحت تطلق على خليج «السويس»، منذ زمنٍ سابق على المؤرخين الكلاسيك. ومصر الأقصى عند هروشيوش تبدأ في غربها من مصر الأدنى «السفلي/الدلتا»، وهو الموقع الذي يتطابق مع تفسيرات المؤرخين للموطن مصرى، الذي ورد في الكتابات الرافدية وكتابات العمارنة، وقلنا إنه هو سيناء وآدوم وجزء من شمالي جزيرة العرب.
أليست تلك بقرينةٍ شديدة الوضوح والدلالة على صدق كل ما وصلنا إليه حتى الآن؟
ومن المفيد هنا أن نستمع إلى الدكتور عبد المنعم عبد الحليم، وهو يسلم بمسلمةٍ منتهية، رغم تناقضه في أبحاثه مع الحقائق، وهي أن «الإله حور والإله مين والإلهة حتحور، هي مجموعة آلهة ترتبط ببلاد بونت». ورغم أنه من أتباع المدرسة التقليدية التي تذهب ببلاد بونت إلى الصومال، إلا أنه في الوقت ذاته يعيد تلك الآلهة إلى أصولٍ عراقية رافدية قديمة (؟!) وأنها قدمت من الرافدين لتُعبد في مصر، منذ زمنٍ مبكر «عبر الطرق الصحراوية الشرقية»، ونحن نعلم أن حتحور ظلت طوال تاريخ مصر القديمة ربة سيناء العظمى، ثم يقول: «إن خط انتقال هذه المؤثرات كان يمر عبر مناطق أفريقية وآسيوية، وعلى هذا فمن المرجح أن انتقال هذه المؤثرات إلى مصر قد تم بواسطة شعب «أو جماعات، كانت تسكن مناطق متوسطة بين مصر والعراق»، وتقوم بدور الوسيط في الاتصالات بين الطرفين، وربما كان هذا الشعب أو الجماعات نوعًا من «الوسطاء التجاريين»، ولعلهم كانوا الوسطاء الذين يشتغلون بتجارة البخور الرائجة على السواحل الإفريقية والآسيوية للبحر الأحمر منذ العصور المبكرة، كما يشير إلى ذلك نص من عصر حتشبسوت فيما بعد.
وبالنسبة للتأثير العراقي فإنه سيتضح في الفصول القادمة، أما أن يكون الإله حور قادمًا من بلاد «الحوريين»، الذين حددنا موضعهم في بلاد آدوم، فهي قرينة أخرى نضعها ضمن رصيدنا الذي تكاثف، وتحول إلى دلائل وبراهين.
(انظر تمثال الإله: ذي الشرى من البتراء: شكل رقم «٧٢».)