الفصل الأول
العمالقة
يفيدنا المؤرخ «هروشيوش» أن المنطقة السينائية الواقعة بين ذراعي البحر الأحمر، أو
كما أسماه اليونان البحر الأريتري، أو بحر «سوف» كما أسمته التوراة، مع امتداد هذه
البوادي السينائية شرقًا إلى شمالي الحجاز، قد سكنها ثمانية وعشرون جنسًا، وهي في رأينا
بطون وأفخاذ وفروع وأسباط لعددٍ من الأجناس البشرية الرئيسية، ساعدت ظروف تاريخية على
التقائها في هذه المساحة من العالم القديم. وهو الأمر الذي سيتم بحثه تفصيلًا في مواضعه
من هذا البحث. لكنا حتى الآن قد أمسكنا على الأقل بشعبين منهم، يجمعان بين عدة أسماء
نطقته ألسن مختلفة، للدلالة على المكان أحيانًا، وللدلالة على الشعب نفسه حينًا،
وللدلالة على صنعة هذا الشعب طورًا، أو صفاته الجسدية طورًا آخر، ذلك الشعب الذي حمل
اسم «الشعب الحوري» (الآدومي، الأحمر، والشعب المدياني، القيني) الذي يعيش في سراة سعير
حول وادي عربة.
والشعب المدياني واحد من أوائل الشعوب، تلك التي سكنت تلك المواضع القديمة، وذكره
الكتاب المقدس تفصيلًا، وهو ما نقابله أول ما نقابله في قصة السبط يوسف وإخوته الأحد
عشر أبناء البطرك يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. وتحكي الأقصوصة أن الأسباط المكرمين قد
أرادوا التخلص من أخيهم المتميز فتاك الجمال يوسف، فأخذوه بحجة قضاء يوم مرح في البراري
وقد أضمروا له السوء، وتخلَّصوا منه بأن ألقوه في بئر، وهنا تقول التوراة:
جلسوا ليأكلوا طعامًا فرفعوا عيونهم ونظروا، وإذا قافلة إسماعيليين مقبلة من
جلعاد، وجمالهم حاملة كثيراء وبلسانا ولادنا، ذاهبين لينزلوا بها إلى مصر. فقال
يهوذا لإخوته: ما الفائدة أن نقتل أخانا ونخفي دمه؟ تعالوا فنبيعه
للإسماعيليين، ولا تكن أيدينا عليه؛ لأنه أخونا ولحمنا، فسمع له إخوته. واجتاز
رجال مديانيون تجار، فسحبوا يوسف وأصعدوه من البئر.
(تكوين، ٣٧: ٢٥، ٢٨)
النص واضح وبسيط ومباشر، فالإخوة الكرام من أسباط النبوة، فكروا في التخلص من أخيهم
الحالم الحلوم المختال بنفسه، مع تحقيق فوائد إضافية ببيعه لقافلة من قبائل التجار
الإسماعيليين، لكن فجأة يختلط الأمر بالنص، فيخبرنا أن قافلة من القبائل المديانية،
شاهدت يوسف بالبئر الجاف فسحبوه منه، لكن ليعود الكتاب المقدس، ويقول:
إن إخوته باعوا يوسف للإسماعيليين، فأتوا بيوسف إلى مصر.
(تكوين، ٣٧: ٢٨)
ثم لمزيدٍ من إرباك المؤمن والباحث معًا وتعميقًا للالتباس، تعود قصة التوراة إلى
المديانيين فتقول:
وأما المديانيون؛ فباعوه في مصر لفوطيفار رئيس الشُّرط.
(تكوين، ٣٧: ٣٦)
وتكرر التوراة ذهابها ومجيئها بين الإسماعيليين والمديانيين، لتعود فتقول:
وأما يوسف فأنزل به إلى مصر، واشتراه فوطيفار، خصي فرعون رئيس الشرط، رجل
مصري من يد «الإسماعيليين».
(تكوين، ٣٩: ١)
فهل كان الكاتب التوراتي يحمل هذا الكم من الإرباك والارتباك في نصٍّ واحد صغير
بالكتاب المقدس؟ الواضح لنا أن المحرر التوراتي لم يكن يشعر بأي تناقض، وهو يروي تلك
الرواية؛ لأنه كان يعلم أن الإسماعيليين هم ذاتهم المديانيون، خاصة إذا تذكرنا أن
البرية التي سكنت فيها هاجر مع ولدها إسماعيل في قصة طرد إبراهيم لهما، كانت تحمل اسم
برية فاران، والتي حددنا نحن موقعها بشرقي سيناء عند وادي باران، إلى الغرب مباشرة من
البتراء حيث سكن المديانيون. أما الصفة اللاصقة بالإسماعيلي والمدياني فكانت التجارة،
وضمنها تجارة العبيد، بحسبان بيعهم يوسف في مصر.
ولمزيدٍ من التأكيد من صحة زعمنا أن المدياني كان هو ذات عين الإسماعيلي، وأن محرر
التوراة كان يعلم ذلك يقينًا، نتصفح الكتاب المقدس على أناةٍ، لنجد كثيرًا من الشواهد
الواضحة التي تؤيِّد زعمنا هذا، ففي الحروب التي حدثت زمن قضاة إسرائيل، وقفت إسرائيل
ضد مديان في معركة شرسة، كان قائد الإسرائيليين فيها يحمل اسم جدعون، وهنا يقول الكتاب
المقدس:
فقام جدعون وقتل زُبح وصلمناع، وأخذ «الأهِلَّة» التي في أعناق جمالهم. وقال
رجال إسرائيليون لجدعون: تسلط علينا أنت وابنك وابن ابنك لأنك خلصتنا من يد
مديان … فقال لهم جدعون: أطلب منكم طلبة، أن تعطوني كل واحد أقراط غنيمته؛ لأنه
كان لهم أقراط من ذهب لأنهم إسماعيليون.
(قضاة، ٨: ٢٤، ٢٢، ٢١)
النص هنا يعطينا كثيرًا من المعلومات التاريخية القديمة، التي حفظتها لنا ذاكرة
المحررين التوراتيين، فنفهم أن القبائل الإسماعيلية كان رجالها يتزينون بأقراطٍ ذهبية،
مصنوعة على هيئة الهلال، ويزينون جمالهم بها، وهو ما يشير إلى اليسار المادي كما يشير
إلى قدسية الهلال. ومعلوم أن الهلال كان دومًا كبير أرباب البوادي والبراري، ولم تزل
الأهلة (جمع هلال) الذهبية في بلادنا، هي الزينة المستحبة لدى نساء العربان المتبدين
على حافة الوادي. وكان شرط جدعون كي يستمر في قيادة الإسرائيليين ضد المديانيين، أن
يأخذ مكافأته ونصيبه من الغنيمة، ذلك الذهب المصنوع في شكل أهلة. ثم يوضح النص أن لبس
الأهلَّة كان خاصية إسماعيلية؛ فلماذا يلبسه المديانيون؟ هو ما يجيب عليه النص بوضوحٍ
كاشف: «لأنهم إسماعيليون». مرةً أخرى نؤكد أن المحرر التوراتي كان يعلم أن كليهما كان
واحدًا، أو أن المدياني كان بطنًا إسماعيليًّا، وأنهم كانوا معًا يتوطَّنون ذات المنطقة
في جبال سراة سعير ووادي عربة.
وعادة ما يلمح الكتاب المقدس إلى حلفٍ كبير، كان يربط بين مجموعة القبائل التي
استوطنت جنوبي فلسطين في العربة. وأهم تلك التلميحات المتكررة ما جاء يربط بين
المديانيين أو الإسماعيليين، وبين قبائل عاشت في ذات الموطن حملت اسم العمالقة. وقد ذكر
العمالقة كجنس باعتبارهم نسلًا لآدوم (عيسو الحوري)، فهم آدوميون حوريون بدورهم، وأنهم
كثرة عددية هائلة كالرمل الذي على شاطئ البحر أو كالجراد، وأن جِمالهم لا عدد لها ولا
تحصى. وقد أورد المقدس تكوين هذا الحلف أكثر من مرة، بحسبانه يتكون من المديانيين
والعمالقة وبني المشرق. و«بنو المشرق» هو الاصطلاح التوراتي الذي يأتي على التبادل مع
اصطلاح «الآرامي»، والآرامي نسبة إلى آرام وإرم، والإرم هو في اللغات السامية كومة من
الأحجار المرتفعة، أو هرم، أو هضبة، أو جبل، أو صخرة. وبالطبع يعنينا هنا معنى الصخرة
التي نحيلها فورًا إلى سالع (البتراء، الصخرة، بونت).
وهنا فقط يمكن أن نلمس امتدادًا لهؤلاء في عدد من الممالك المتناثرة بالفرات الأعلى،
حيث أنشأ الآراميون في منتصف الألف الثاني قبل الميلاد عددًا من الممالك هناك، يغلب على
ظني أنها مما أوعز للمؤرخين بوضع بلاد آدم في ميتاني بأعالي الفرات، لعل أشهرها مملكة
بيت جباري التي سميت أيضًا «سمعل» و«مملكة بيت أديني»،
١ ومملكة بيت أديني هي مملكة بيت آدون أو عدن أو آتن على مختلف التنغميات،
وأديني تعني سيدي أو ربي، أما «سمعل» فكما هو واضح تحيل إلى الاسم «إسماعيل»، وإسماعيل
حسب تقسيم الأجناس على الشجرة التوراتية فرع إبراهيمي، شقيق للفرع الإسرائيلي.
والمدهش حقًّا أنه ما إن يظهر الآراميون «على صفحة التاريخ، حتى يبدأ ذكر القبائل
الإسرائيلية على الترافق، مع ذكر لقبائل تحمل اسم العابيرو(الخابيرو، الأبيرو، العبري)»
في نصوص المنطقة، والأكثر انسجامًا هو إصرار الكتاب المقدس على تذكير الآباء التوراتيين
بأصلهم الجنسي، فيشير دومًا إلى ذلك الجنس أو الأب البعيد، والجد السالف بقوله:
آراميًّا تائهًا كان أبي.
(تثنية، ٢٦: ٥)
والمقدس يسفر عن صلات نسب وقربى وأصل واحد بين البيت الإسرائيلي، عبر الفرع الآدومي
وبين البيت الإسماعيلي، وأن تلك الصلات الحميمة تمثلت في زيجاتٍ متبادلة كما حدث في
زواج عيسو آدوم من بنت إسماعيل:
فذهب عيسو إلى إسماعيل، وأخذ محلة بنت إسماعيل بن إبراهيم أخت نبايوت زوجة له
على نسائه.
(تكوين، ٢٨: ٩)
كما تزوج موسى وهو إسرائيلي من مديانية، هي صفورة بنت رعوئيل (يثرون) وهو مدياني،
ورغم ذلك فقد بدأت العداوات بين الإسرائيليين والمديانيين مبكِّرًا، كذلك حدث صراع اشتد
أوراه زمن قيام مملكة بني إسرائيل في فلسطين، فدخل الإسرائيليون غمار حروب عدة مع
أسلافهم الآراميين، الذي انتشروا في المنطقة جميعًا، وأسسوا عددًا من الممالك في سوريا
على تخوم إسرائيل الشمالية، وكانوا دومًا شوكة في حلق الإسرائيليين. وفيما يبدو أن عداء
الأقارب الإسرائيليين والأراميين كان عريقًا، فماذا يقول علم التاريخ عن
الآراميين؟
يمثل الآراميون واحدة من بين آخر الموجات
المهاجرة، التي تدفقت على منطقة بلاد الشام، ويميل بعض المؤرخين إلى تزمين ظهورهم في
التاريخ لأول مرة بحوالي عام ١١٠٠ق.م.،
٢ وبعضهم يبعد بالآراميين إلى الوراء قليلًا، فيحدد ظهورهم بما بين عامي ١٤٠٠ و١٢٠٠ق.م.
٣ لكن ليس قبل ذلك إطلاقًا، ويبدو أن أصل الآراميين ظل مثار تخمينات عديدة،
ولم يستقر علم التاريخ على المنطلق الأصلي والوطن الأول لهم، فهم يظهرون فجأة كعنصر
جديد في المنطقة، يتدفقون على بوادي الشام ويزيحون منها الأموريين والحيثيين في وادي
العاصي ويحتلونه جميعه، ثم يستوطنون الفرات الأعلى، ويقيمون عددًا من الممالك، في
المواضع المفترض زعمًا أنها كانت من قبل ذلك مملكة «ميتاني» الحورية في أعالي الفرات.
على أنهم أخفقوا في إقامة وحدة سياسية تجمع شتات ممالكهم الصغيرة، ورغم إخفاقهم السياسي
فقد انتشر تراثهم اللغوي والثقافي لينتشر في المنطقة، وتصبح لغتهم لغة رئيسية ولغة
للحوار الدبلوماسي بين دول المنطقة، وقد حدث ذلك فيما يقول المؤرخون بعد أن أخذوا
الحروف الهجائية الفينيقية، وعن الآراميين أخذ الإسرائيليون خطهم المربع في القرن
السادس قبل الميلاد،
٤ وتحيطنا المراجع العراقية القديمة علمًا أن أشهر القبائل الآرامية الأولى،
التي ظهرت في المنطقة قد دونت باسم «قبائل الأخلامو» التي تترجم إلى «الأحلاف»، وكان
ذكرهم قد جاء في مدونات حداد نيراري الأول الآشوري عام ١٣٠٠ق.م. حيث سجلت نصوصه أن
والده قد حارب قبائل الأخلامو.
٥
ومن الممالك التي أسسها الآراميون في بلاد
الشام، وتذكرها لنا موسوعة تاريخ العالم ممالك: قرقميش وأرباد وحلب وإنطاكية وقادش
العاصي وحماه وتدمر ودمشق، وترى الموسوعة أن هجرتهم التي أدت إلى ظهورهم المفاجئ هذا،
ربما كان «نتيجة لطرد الهكسوس من مصر حوالي ١٥٨٠ق.م.»،
٦ وهو ظن يفترض ضمنًا أنهم كانوا غزاة مصر الهكسوس.
وهكذا، ورغم اتفاق المؤرخين على عام ١٤٠٠ق.م. كأبعد زمن يمكن تحديده لظهور الآراميين
في المنطقة، فإن هناك ما يشير إلى تواجدهم فيها منذ زمن أبعد مما تواضع عليه المؤرخون،
فتقول الموسوعة ذاتها: «إن «نرام سين» شن حملات عسكرية على أرام»، وتعقب الموسوعة
«والإشارة إلى أرام في نقوش نرام سين تدعو إلى الحيرة.»
٧
أما المؤرخ العراقي طه باقر فيستند إلى رأي يحل المشكلة حلًّا سهلًا فهو يقول: «من
المُستبعد أن يكون الموضع الوارد بهيئة أرامي
ARAMI
وأسماء بعض الأعلام مثل أرامو
ARAMU في نصوص العصر
الأكدي وسلالة أور الثالثة، لها صلة بالآراميين بالنظر إلى قدم العهد؛ ولذلك فيرجح أن
يكون ذلك مجرد تشابه لفظي، ولا يُعرف بالتأكيد معنى كلمة آرامي هنا.»
٨
هذا ما كان من شأن الآراميين، فهم شعب مجهول الموطن والأصل، «اسمهم يعني الصخرة» أو
بالأحرى الصخريين، ظهروا فجأة في انتشارٍ سريع وكثيف في بلاد الشام «بعد طرد الهكسوس
من
مصر»، لكنْ هناك نصوص ربما تشير إلى وجودهم قبل ذلك، أربكت المؤرخين، حتى إن تلك النصوص
تعود إلى حوالي ٢٤٥٠–٢٣٥٠ق.م. أي قبل أبعد زمن مفترض لوجود الآراميين بالمنطقة بأكثر
من
ألف عام إلى الوراء، «ثم إن نصوص حتشبسوت قد حدثتنا عن عنصر قائد سيادي في بلاد بونت،
وأسمته «إرم» منذ ذلك الزمن القديم؟!»
هذا ما علمناه «أن الآراميين كانوا أصلًا لعددٍ
من الشعوب، فكان منهم الأب إبراهيم وبالتبعية الإسماعيليون المديانيون والآدميون
والإسرائيليون»، فماذا عن العمالقة؟ وأين استوطنوا؟ التوراة تدخل العمالقة في ذات
البطون النسبية، فهم نسل عمليق حفيد عيسو/آدوم. وهم بهذا المعنى كانوا عضوًا ضمن أعضاء
حلف الأخلامو أو الأحلاف، فأين عاش العمالقة؟ سؤال تأتي عليه إجابة أولى: أنهم قد
استوطنوا بلاد آدوم لا شك، بحسبانهم أحفاد الجد الأسطوري البعيد عيسو آدوم. لكن التوراة
تعطينا إفادات أخرى، حيث نجدهم ينتشرون في شبه جزيرة سيناء، حيث التقى بهم الإسرائيليون
عند خروجهم من مصر في منطقة باسم رفيديم، قرب الجبل المقدس جبل الله حوريب/ جبل موسى
وكاترين الآن، وأنه قد دارت بينهم موقعة حربية يشرحها نص الكتاب المقدس؛ إذ يقول:
وأتى عماليق وحارب إسرائيل في رفيديم … فقال الرب لموسى: اكتب هذا تذكارًا في
الكتاب، وضعه تحت مسامع يشوع، فإني سوف أمحو ذكر عماليق من تحت السماء … وقال:
إن اليد على كرسي الرب، للرب حرب مع عماليق من دورٍ إلى دور (أي من جيلٍ إلى
جيل [المؤلف]).
(خروج، ١٧: ١٦، ١٤، ٨)
كما نجدهم — حسب ذات المقدس — في مدينة حبرون (الخليل الحالية) جنوبي فلسطين في
التحامها مع امتداد سيناء الشرقي. وتبدو حبرون في القصص التوراتي أحد المعاقل الكبرى
للعمالقة، ويحيطنا قاموس الكتاب المقدس علمًا بشأن حبرون، فيقول تحت مادة «حبرون»:
«حبرون» اسم عبري معناه: عصبة، صحبة،
رباط، اتحاد … مدينة في أرض يهوذا الجبلية (يشوع، ١٥: ٤٨، ٥٤)، ودُعيت أصلًا
مدينة أربع … (تكوين، ٢٣: ٢؛ ويشوع، ٢٠: ٧) … وقد بُنيت سبع سنين قبل صوعن في
مصر (عدد، ١٣: ٢٢)، وكانت موجودة من وقتٍ مبكر في أيام إبراهيم الذي سكَن بعض
الزمن في جوارها تحت بلوطات، أو بطمات ممرا (تكوين، ٣: ١٨؛ ٣٥: ٢٧)، وماتت سارة
هناك فاشترى إبراهيم مغارة المكفيلة لتكون قبرًا، وقد اشتراها من الحيثيين
الذين كانوا يملكون المدينة حينئذٍ (تكوين، ٢٣: ٢–٢٠) … وزارها جواسيس موسى،
ووجدوا العناقين ساكنين فيها (عدد، ١٣: ٢٢)، وكان ملكها هوهام، أحد أربعة ملوك
تحالفوا مع أدوني صادق ضد يشوع … وعندما احتل الآدوميون جنوب يهوذا، وقعت حبرون
ضمن أماكن أخرى في أيديهم … وحبرون الآن هي مدينة الخليل … وحبرون واقعة في
الوادي وعلى منحدر وتعلو ٣٠٤٠ قدمًا فوق سطح البحر، وعلى بعد ثلاثة عشر ميلًا
إلى الجنوب الغربي من أورشليم.
كما انتشر العمالقة الذين يحلمون أيضًا اسم بني عناق أو العناقين في النقب، الذي
تشير
إليه التوراة باسم الجنوب، وهو ما جاء على لسان جواسيس موسى قائلين:
رأينا بني عناق هناك العمالقة، ساكنون في أرض الجنوب … هناك الجبابرة من بني
عناق من الجبابرة.
(عدد، ١٣: ٣٣، ٢٩، ٢٨)
وعند موقع من المواقع المتطرفة في رحلة الخروج على الخط الشرقي لشبه جزيرة سيناء،
جاءنا اسمه في التوراة «حرمة»، دارت معركة كبرى بين الإسرائيليين وبين العمالقة، وهو
الموضع الذي كان أصلًا، فيما يبدو، باسم حمرة أو الحمراء:
فنزل العمالقة والكنعانيون الساكنون في
ذلك الجبل وضربوهم وكسروهم إلى حرمة.
(عدد، ١٤: ٤٥)
وموقع حرمة هنا تم تحديده بإحداثيات، تؤكد أنه
قرب جبال سعير، فيما بين قادش سيناء (عين قديس حاليًّا)، وبين عصيون جابر على خليج
العقبة، وأنه كان على الحد الغربي لبلاد آدوم بالتدقيق والتحديد. وربما كان في الموقع
المعروف الآن باسم وادي حور. ثم لدينا نص آخر يحدد بدقة موقع معركة حرمة على لسان موسى،
وهو يخطب في شعبه:
فكلمتكم ولم تسمعوا، بل عصيتم قول الرب، وطغيتم وصعدتم إلى الجبل، فخرج
الأموريون الساكنون في ذلك الجبل للقائكم، وطردوكم كما يفعل النحل، وكسروكم في
سعير إلى حرمة، فرجعتم … وقعدتم في قادش أيامًا كثيرة.
(تثنية، ١: ٤٣، ٤٦، ٤٥، ٤٤)
والمعلوم أن هذه الرواية كانت تتحدث عن محاولة اختراق الركب الخارج من مصر مع موسى
لبلاد آدوم، متحركًا من مستقره السينائي قادش.
ثم نفهم من المقدس أن العمالقة كانوا ينتشرون داخل فلسطين ذاتها، حيث يقول سفر
التثنية لشعب إسرائيل، عند عبوره الأردن إلى فلسطين:
اسمع يا إسرائيل: أنت اليوم عابر الأردن؛ لكي تدخل وتمتلك شعوبًا أكبر وأعظم
منك، ومدنًا عظيمة ومحصنة إلى السماء، قومًا عظامًا وطوالًا، بني عناق الذين
عرفتهم وسمعت. من يقف في وجه بني عناق؟ فاعلم اليوم أن الرب إلهك هو العابر
أمامك نارًا آكله، وهو يبيدهم ويذلهم أمامك فتطردهم وتهلكهم سريعًا.
(تثنية، ٩: ١–٣)
وكانت وصية الرب لإسرائيل شعبه:
اذكر ما فعله بك عماليق في الطريق عند
خروجك من مصر، كيف لاقاك في الطريق، وقطع من مؤخرك كل المستضعفين وراءك، وأنت
كليل متعب، ولم يخف الله. فمتى أراحك الرب إلهك من جميع أعدائك حولك، في الأرض
التي يعطيك الرب إلهك نصيبًا لكي تمتلكها، تمحو ذكر عماليق من تحت السماء، لا
تنسى.
(تثنية، ٢٥: ١٧–١٩)
وقد حرص يشوع الذي قاد رحلة الخروج بعد موت موسى على تعميق العداء للعماليق العناقين،
وهو ما يقوله النص:
وجاء يشوع في ذلك الوقت، وقرض العناقين من الجبل؛ من حبرون، ومن دبير، ومن
عناب، ومن جميع جبل يهوذا.
(يشوع، ١١: ٢١)
وقد سبق وأشرنا إلى أن حبرون التي تعني «الحلف»،
كانت مقر الملك الأعظم للعمالقة، وكان يُدعى أربع وسميت باسمه، وكانت قبل ذلك تدعى
ممرًّا، وهو ما دونه نص التوراة:
واسم حبرون قبلًا قرية أربع، الرجل الأعظم في العناقيين.
(يشوع، ١٤: ١٥)
وهكذا يبدو واضحًا أن العماليق كانوا البطن الأقوى
بين بطون الأحلاف أو الأخلامو، وكانوا ينتشرون انتشارًا واسعًا في سيناء وسعير وفلسطين
الجنوبية؛ لذلك نجدهم بحاجةٍ لمزيد من البحث وراءهم؛ لتحديد هويتهم، ودورهم في الأحداث
بشكلٍ أكثر تفصيلًا.
ويفيدنا الكتاب المقدس أن الإسرائيليين بعد خروجهم من مصر، وغزوهم لبلاد كنعان
الفلسطينية، عاشوا حوالي أربعة قرون في ظل نظام بدوي ابتدائي، يُعرف بنظام القضاة، حيث
يحتكمون في شئونهم إلى قاضٍ أعلى، عادةً ما يكون هو الكاهن في الوقت ذاته، ويمثل شئون
التقديس والسلطة العليا في المجتمع.
وبعدها تحولوا إلى النظام الملكي، وكان أول ملوكهم الذي حمل اسم شاءُول أو شاول،
الذي
قضى حياةً نشطة حافلة بالأحداث، وأهم هذه الأحداث صدامه مع العماليق في معركة كبرى،
حدثت فيما يقول الكتاب المقدس بأمرٍ من «يهوه» الرب نفسه، وهو ما يرويه الكتاب المقدس
في قوله:
هكذا يقول رب الجنود: إني افتقدت ما عمل عماليق بإسرائيل، حين وقف له في
الطريق، عند صعوده من مصر، فالآن اذهب واضرب عماليق، وحرموا (أي: أبيدوا) كل ما
له، ولا تعفُ عنهم، بل اقتل رجلًا وامرأة، طفلًا ورضيعًا، بقرًا وغنمًا، جملًا
وحمارًا، فاستحضر شاول الشعب وعدَّه في طلايم، مائتي ألف راجل، وعشرة آلاف رجل
من يهوذا، ثم جاء شاول إلى مدينة عماليق، وكمن في الوادي، وقال شاول للقينيين:
اذهبوا وحيدوا وانزلوا من وسط العمالقة؛ لئلا أهلككم معهم، وأنتم قد فعلتم
معروفًا مع جميع بني إسرائيل عند صعودهم من مصر، فحاد القيني من وسط عماليق،
وضرب شاول عماليق من حويلة حتى مجيئك إلى شور التي مقابل مصر.
(صموئيل أول، ١٥: ٢–٧)
ورغم أنه لم يتم تحديد موضع حويلة، إلا أن المظنون أنها كانت تقع على أطراف سيناء
الشرقية، وهو ما يعني أن شاول خاض معركةً كبرى في مدينة العمالقة المجهولة بدورها،
انتهت بضعفهم تمامًا، وكانوا حسب النص ينتشرون من حويلة حتى حدود الدلتا، حيث «شور التي
مقابل مصر». ويبدو أن هذا الضعف الذي أصاب العماليق قد سمح لسبط إسرائيلي، كان يسكن
جنوبي فلسطين هو سبط شمعون، لكي يغزو العماليق في مركزهم الرئيسي، الذي هو جبل سعير في
النص التالي:
ومنهم من بني شمعون ذهب إلى جبل سعير خمسمائة رجل، وضربوا بقية المنفلتين من
عماليق، وسكنوا هناك إلى هذا اليوم.
(أخبار أيام أول، ٤: ٤٢، ٤٣)
وإذا كان العماليق قد سكنوا في المساحة الواقعة من حويلة حتى شور على حدود دلتا مصر
الشرقية، حسب المتكررات التوراتية، فهو ذات الأمر الذي تقوله التوراة عن الإسماعيليين:
وهذه سنو حياة إسماعيل، مائة وسبع وثلاثون سنة، وأسلم روحه ومات وانضمَّ إلى
قومه، وسكنوا من حويلة إلى شور التي أمام مصر.
(تكوين، ٢٥: ١٧، ١٨)
ويحيطنا المقدس التوراتي علمًا أن ذلك المكان الذي عاش فيه العماليق كان موضعًا
مقدسًا، أو أشبه ما يكون بأرض إله، وذلك في نصٍّ مغرق في الأسطورة والبدائية الفكرية،
يحدثنا عن فجر الخليقة وسكن الأرض بالشعوب، فيقول:
وحدث لما ابتدأ الناس يكثرون على الأرض، وولد لهم بنات: أن أبناء الله رأوا
بنات الناس أنهم حسناوات، فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا … كان في
الأرض طغاة في تلك الأيام، وبعد ذلك أيضًا؛ إذ دخل بنو الله على بنات الله،
وولدن لهم أولادًا، هؤلاء هم الجبابرة، الذين منذ الدهر ذووا اسم.
(تكوين، ٦: ١، ٢، ٤)
ولما كنا نعلم أن التوراة تستخدم ثلاث مترادفات على التبادل؛ للدلالة على شعبٍ واحد
هي: العمالقة، العناقين، الجبابرة؛ فإن المعنى أن أناسَ ذلك الزمان قد اعتقدوا أن
العمالقة صنف من الناس نصف إلهي ونصف إنساني. أما الموسوعة العربية الميسرة تحت مادة
«عمالقة»، تشير بإيجازٍ إلى وجهة النظر التي تتبناها الكتابات العربية بشأن العمالقة،
فتقول:
عمالقة: قدماء العرب، خاصة شمالي الحجاز، مما يلي شبه جزيرة سيناء، فتحوا مصر
باسم الشاسو، ويسميهم اليونان هيكسوس، وأصل
لفظة العمالقة مجهول، والغالب أنه منحوت من اسم قبيلة عربية، كانت مواطنها
بجهات العقبة أو شمالها. كان البابليون يطلقون عليها اسم «ماليق» أو «مالوق»،
وأضاف اليهود إليها لفظ «عم» بمعنى شعب، فقالوا: «عم ماليق» أو «عم مالوق»،
فقال العرب: «عماليق» أو «عمالقة»، ثم أطلقوه على طائفةٍ كبيرة من العرب
القدماء.
كان العمالقة على علاقةٍ بالكنعانيين والآموريين والإسرائيليين، وعلى الرغم
من أن علم الإثنولوجيا اليهودي يجعلهم فرعًا من الآدوميين، ويربطهم بقبيلة
إفرايم، فإنه يصورهم باعتبارهم أعداءً للإسرائيليين، نهب العمالقة الشعب
اليهودي في أثناء هروبه من مصر، واندمجوا بينه وهاجموه، ولكنه انتصر عليهم
بزعامة يشوع، وكان العمالقة جزءًا من الجيش الذي جرده أجلون (صحها: عجلون
[المؤلف]) ملك موآب لمضايقة إسرائيل.
٩
وفي لسان العرب:
العَمْليق: الجور والظلم. وعملق ماؤهم: قلَّ، والعملاق: الطويل، والجمع:
عماليق، وعمالقة. والعمالقة من عاد، وهم بنو عملاق. قال الأزهري: عملاق: أبو
العمالقة، وهم الجبابرة الذين بالشام على عهد موسى عليه السلام. قال ابن
الأثير: العمالقة: الجبابرة الذين كانوا بالشام، من بقية قوم عام. قال: ويقال
لمن يخدع الناس ويخلبهم: عملاق. قال الجوهري: العماليق والعمالقة: قوم من ولد
عمليق بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح، وهم أمم تفرقوا في البلاد.
وفي المرادف التبادلي لكلمة عمالقة بالتوراة، «عناقين»، نبحث في لسان العرب، فيطالعنا
تحت مادة «عنق»:
العَنَق: طول العنق وغلِظُه، والأنثى عنقاء. وهضبة معنَّقة وعنقاء: مرتفعة
طويلة. والأعناق الرؤساء. والعنق: الجماعة الكثيرة من الناس. وجاء القوم عنقًا
عنقًا، أي طوائف. قال الأزهري: إذا جاءوا فرقًا، كل جماعة منهم عنق. ويقال: جاء
القوم عنقًا عنقًا، أي رسلًا رسلًا، وقطعًا قطعًا. وقيل: الأعناق: الرؤساء
الكبار. والمعنق: ما صلُب وارتفع من الأرض وحوله سهل. وقال الأزهري: العناق:
الأنثى من أولاد المعزى إذا أتت عليها سنة.
والعناق: شيء من دواب الأرض كالفهد، وقيل: عناق الأرض: دويبة أصغر من الفهد
طويلة الظهر، تصيد كل شيء حتى الطير. قال الأزهري: عناق الأرض: دابة فوق الكلب
الصيني، يصيد كما يصيد الفهد، ويأكل اللحم وهو من السباع. يقال: إنه ليس شيء من
الدواب يؤبر أي يُخفي أثره إذا عدا غيره، وغير الأرنب، وجمعه عنوق، والفرس
تسمية سياه كوش. قال: وقد رأيته بالبادية وهو أسود الرأس أبيض سائره. والعنقاء
طائر ضخم ليس بالعقاب، وقيل: العنقاء المُغرب: كلمة لا أصل لها، يقال إنها طائر
عظيم لا ترى إلا في الدهور. وقيل: سميت عنقاء؛ لأنه كان في عنقها بياض كالطوق.
قال ابن الكلبي: كان لأهل الرسّ نبي يقال له حنظلة بن صفوان، وكان بأرضهم جبل
يقال له دمخ، مصعده في السماء ميل، فكان ينتابه طائرة كأعظم ما يكون، لها عنق
طويل من أحسن الطير، فيها من كل لون، وكانت تقع منقضة، فكانت تنقض على الطير
فتأكلها، فجاعت وانقضت على صبي فذهبت به فسميت عنقاء مغربًا؛ لأنها تغرب بكل ما
أخذته. فشكوا ذلك إلى نبيِّهم فدعا عليها، فسلط الله عليها آفة فهلكت، فضربتها
العرب مثلًا في أشعارها. ويقال: ألوت به العنقاء المُغرب، وطارت به العنقاء
والعقاب، وقيل: طائر لم يبقَ في أيدي الناس من صفتها غير اسمها، والعنقاء اسم
ملك. والأعنق: فحل من خيل العرب معروف، إليه تنسب بنات أعنق من الخيل.
أما مختصر كتاب البلدان للهمداني فيقول:
كانت منازل العماليق في موضع صنعاء اليوم (وهو ما يذكرنا بقول التاريخ
الفينيقي بقدومهم من بحر أريتريا).
ثم خرجوا فنزلوا مكة، ولحقت منهم طائفة بالشام ومصر، وتفرقت طائفة في جزيرة
العرب والعراق، ويقال إن فراعنة مصر كانوا من العماليق.
١٠
ومع المرادف التبادلي لكلمة عمالقة «عناقين» من «عنق» و«عنك»، نستقرئ المتشابهات
بلسان العرب، فيخبرنا واضحًا فصيحًا، يقول تحت مادة «عنك» باستبدال القاف كافًا:
عنك: وعناك بالنون: الرمل، والعانك الأحمر، يقال دم عانك، وعرق عانك: إذا كان
في لونه صفرة. والعانك من الرمل في لونه حمرة. والعيك الشجرة المتلف، لغة في
الأيك، واحدته عيكة.
وتنويعات على ذات المادة «علك» تحتها، يقول لسان العرب: «والعلك ضرب من صمغ الشجر
كاللبان»، و«علق» وفيها يقول:
علق: العلوق ماء الفحل؛ لأن الإبل إذا علقت وعقدت على الماء انقلبت ألوانها
حمراء، والعلقى: شجرة تدوم خضرتها في القيظ، ولها أفنان طوال، والعوالق: الغول،
وقيل الكلبة الحريصة.
وقولهم «طويل العوالق»؛ أي: طويل الذنب. والعليق نبات معروف يتعلق بالشجر
ويلتوي عليه. وزعموا أنها الشجرة التي أنس موسى عندها النار. وقيل العلق
القامة، والمعلاق اللسان البليغ. والعلق: الدم، وهو ما اشتدت حمرته.
والغريب في بابه، بل والمدهش، أن نجد مقابل «عنق» العربية كلمة «عنخ» في المصرية
القديمة، وتُرسم هيرغليفيًّا بالعلامة الدالة على مفتاح الحياة، تعني أيضًا إكليلًا من
الزهور، وعادةً ما كان المصريون يضعون الأكاليل حول العنق، كما كانوا يعلقون بالرقبة
«العنخ» نفسه مفتاح الحياة، وهو على هيئة الصليب. وهنا يحكي لنا الأركيولوجست «شيفمان»
الباحث في أركيولوجيا أوغاريت (رأس شمراء قرب اللاذقية على الساحل السوري): «تُبين
المواد الأركيولوجية، التي وجدت في أوغاريت، أنه كان يعيش على تخوم الألف الثالث،
الثانية قبل الميلاد، وفي القرن الأول من الألف الثاني قبل الميلاد، شعب أطلق عليه في
الأدبيات التاريخية «ذوو الأطواق»، أما الأصل الذي انحدر منه هذا الشعب فغير معروف،
وبظهوره يرتبط عصر ازدهار تصنيع البرونز، وظهور ضروب جديدة من الأسلحة، رماح ذات نهايات
مسكوبة، الخنجر الثلاثي ذو القبضة، وفئوس ذات شفرة لها ثقبان، ويرتبط بهذا الشعب
التمثالان الفضيان ذوا الطوقين الذهبيين، للإله
والإلهة اللذين وُجِدوا إلى الغرب من معبد بعل في أصٍّ محاط بالحجارة، ويلفت النظر
«شكل الصليب» الموجود على صدر الإله والإلهة، فهو يحمل طابعًا مقدسًا واضحًا، لم يتسنَّ
فك رموزه حتى الآن.»
١١
لكن الخط السليم لسير التاريخ لا يَني يدعمنا بالشرح والتفصيل، فيعيد الأمور إلى
نصابها والأطواق إلى مكانها، فيعلمنا إحسان عباس، وهو يتحدث عن البتراء، أن الإله
الآدومي «ذو الشرى»، كان ذا علامة مميزة واضحة تخصه، وهي أنه «كثيرًا ما يظهر هذا الإله
لابسًا أطواقًا».
١٢
ومعنا تلتقي كلمة «عنخ» المصرية مع كلمة عنق العربية، وبني عناق العمالقة أو
العناقين، ومؤنثها المصري القديم هو «عنخت»، وتشير في مدلولٍ آخر «إلى أنثى الماعز»،
وهو ذات المعنى الذي يورده لسان العرب عن الأزهري، وهو يقول: «العناق: الأنثى من أولاد
المعزى.» و«عنخت» إلهة مصرية هي زوجة الإله المترجم عن الهيروغليفية إلى الأحرف
اللاتينية «خنوم»، الإله الكبش صانع البشر من صلصال كالفخار، والواجب نطقها نطقًا
صحيحًا تمامًا الإله (خنوف/خروف/«غنم»). والكلمة «غنم» دالة على الخراف والماعز كليهما،
ونحن نعلم من قواعد الهيروغليفية أن هناك إبدالًا جائزًا بين الخاء والزاي، فتصبح عنخ
هي عنز، كما يتم ذات الإبدال بين الخاء والقاف، فتصبح عنخ هي
عنق.
١٣
ومن جانبه يحيطنا إريك هورننج علمًا أن الإلهة المصرية عنقت
Anukis، أو عنقة، كانت تُعبَد في مصر في هيئةٍ بشرية؛ تلبس تاجًا من
الريش، والريش على الرءوس في نقوش مصر القديمة يشير إلى البدو الرعاة، ويزيدنا علمًا
أنها كونت ثالوثًا في جزيرة الفنتين هو «عنقت
Anukis +
خنوم أو خنوف أو الخروف
Khnum + سيت
Satis»، والمعلوم أن الفنتين كانت مقرَّ جالية يهودية،
عاشت هناك ردحًا طويلًا من الزمان كما سيأتي بيانه، أما الأكثر دلالة فهو أن الحيوان
الرمزي هذه الإلهة عنقة، أو عنقت
Anukis العنقاء، فكان
العنز أو المعز.
١٤
ومما هو جدير بالذكر أن
Aegyptus اليونانية التي تطلق
على مصر
Egypt، المأخوذة من جباتا الواقعة في بلاد
آدوم على حدود سيناء الشرقية كما أسلفنا الاجتهاد، تعني أيضًا في اليونانية «عنز
متسلق». ويرى الباحثون أن مادة عنز من الأصل «عز»، العنز في الأوغاريتية عز والأكادية
Azzatu وبالسريانية عيزا وبالعبرية عز، ومن هذا
الفعل جاء معنى العزة والقوة،
١٥ ومنها أيضًا العزيز.
ويقول «علي الشوك» عن المواضع التي حددناها لمجيء هجرات الأحلاف نحو سيناء وآدوم:
إنها كانت مواطن العنز، فالعنز أبدًا لم يكن حيوانًا منتشرًا في بقاع الأرض، فقد «أظهرت
الحفريات الآثارية أن موطن الماعز، هو جنوب غربي آسيا، وبالتحديد غربي إيران وشمال
العراق وجنوب تركيا. والماعز كان معروفًا في البيضا جنوبي البحر الميت، والماعز مع
الخراف أو بدونها، تم رعيها بمراحلَ تدريجية عبر سيناء، التي لم تكن صحراء قاحلة
بالتأكيد كما هي عليه الآن، بل ليست تلك الصحراء التي يتصورها البعض.»
١٦
وقد استخدم المصريون للدلالة على بدو آسيا ثلاثة أسماء على التبادل هي: «ستيو»،
واتُّفِق على أنها تعني الآسيويين، وهذا فيما نرى خطأ شائع؛ لأن الأصل في نسبتهم
— حسبما نرى — إلى رب البوادي والصحارى الإله «سيت»، رمز الشر في مصر القديمة، وتعني
ستيو أيضًا الجنوبيين بالنسبة لمصر، وربما في عصورٍ لاحقة بعد الدولة القديمة، أخذت
كلمة ستيو منحاها للدلالة على عبادة الإله سيت، فصبغت البدو الشرقيين باسمه فأصبحوا
السيتين/ستيو، وهو ما يعني أن آسيا اكتسبت اسمها من المصطلح المصري الدال على أتباع
الإله سيت.
والاسم الثاني الذي أُطلق على بدو آسيا، وهو «شاسو»، فيعني الدائب الحركة دون توقف
«خُلِقت قدماه للارتحال/حسب نصائح مري كارع»، فهي تشير عندنا إلى البدو الرحل، وعادة
ما
كانت تطلق «شاسو» على بدو سيناء تحديدًا. وأخيرًا لدينا «عامو» أو «آمو» وكانت الأكثر
استخدامًا للدلالة على غُزاة مصر المعروفين بالهكسوس، والكلمة المصرية «ع م و» جمع
بالواو لكلمة «عم»، وفي لسان العرب:
العرب تقول للرجل إذا سود: قد عُمم، وكانوا إذا سودوا رجلًا عمموه عمامةً
حمراء. والعميم: الطويل من الرجال والنبات، ومنه حديث الرؤيا: فأتينا على روضةٍ
معتمَّة أي وافية النبات طويلة، وكل ما اجتمع وكثر فهو عميم. ويقال: اعتمَّ
النبت اعتمامًا إذا التف وطال. ونخلة عميمة: طويلة. والعمم: عظم الخلق في الناس
وغيرهم، فالعمى العام والقصرى الخاص. وعمعم الرجل إذا كثر جيشه بعد قلة. والعم
الجماعة، والعماعم الجماعات المتفرقون.
وعم في الثلاثي عنم هي:
العنم: أغصان تنبت في سوق العضاه، رطبة لا تشبه سائر أغصانها، حمر اللون،
وقيل: هو ضرب من الشجر له نور أحمر، تشبه به الأصابع المخضوبة. قال ابن
الأعرابي: العنم الشجر الأحمر، والعنمي الحسن الوجه المشرب بحمرة. وقال بعضهم:
العندم دم الغزال بلحاء الأرطى، يُطحنان جميعًا حتى ينعقدا، فتختضب به
الجواري.
ومن تلك المعطيات نجد العمالقة يحملون لقب الجبابرة، وأنهم كانوا طغاة وهو ما يعني
أنهم كانوا حكامًا، والمحتمل وفق معطيات الموسوعة العربية الميسرة، أن يكونوا من عرفهم
اليونان باسم الهكسوس غزاة مصر، وأنهم كانوا يسكنون العقبة وشمالها، وربما كانوا من
العرب القدماء، وهم فرع من الآدوميين، أما لسان العرب فيقول إنهم من قوم عاد، وينتسبون
إلى الشخص الأسطوري المعروف باسم إرم ابن سام، الأمر الذي يذكرنا بآيات القرآن عن عاد
إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ
يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ.
وإذا أخذنا بالاسم المرادف «عناقين» جمع عناق، فهو أيضًا يحمل معنى العملقة، فالهضبة
المعنقة هي المرتفعة الطويلة، ويحمل أيضًا معلومة حفظها لنا اللسان في كلمة الأعناق
وهي: الأعناق أي الرؤساء، إضافة إلى كون الكلمة تحمل معنى الكثرة الشديدة، مما يشير إلى
كونهم كانوا شعبًا غفير العدد، ناهيك عن كونهم كانوا طوائف، أي مجموعة بشرية، متحدة
أحيانًا متحالفة أحيانًا أخرى، وهو ما يذكرنا بالتعبير الآشوري «أخلامو» أو أحلاف،
وأنهم كانوا أصحاب «ماعز»، وفي بلادهم كان يعيش حيوان مفترس في هيئة الكلب الطويل
الشبيه بالسلوقي، وتُحكى عنهم أساطير؛ فكان يعيش في بلادهم طائر ضخم باسم العنقاء، الذي
سبق وعرفناه باسم الفوينيكس أو الطائر البونتي، وتكرر الأسطورة العربية الأسطورتين
المصرية واليونانية، فهو يظهر كل دهر وبعد زمان بعيد من ظهوره الأول «طائر عظيم لا يُرى
إلا في الدهور»، ونسب العرب إلى العناقين الجياد العنقاء، أي الفحول الأصيلة منها، ثم
إن منهم كان بعض فراعين مصر، وعلم التاريخ يؤكد لنا أن مصر لم تعرف الخيول طوال تاريخها
إلا مع غزو الهكسوس، فالآثار المصرية والنصوص القديمة قبل الغزو الهكسوسي، تخلو تمامًا
من أي ذكر للحصان أو العربة، كما لم توجد أي دفنة لحصان واحد، أو حتى لعظام من حصان في
أي من المقابر أو الدفنات أو الطبقات الأركيولوجية قبل الغزو الهكسوسي. كذلك تخلو
النقوش والرسوم المصرية قبل الغزو الهكسوسي خلوًّا تامًّا من صورة الحصان، رغم أن
المصريين قد سجلوا ورسموا صورًا لكل حيوانات البيئة المصرية وطيورها ونباتها
بشكل إحصائي دقيق، وهو ما يعني أن المصري حتى غزو
الهكسوس كان يجهل تمامًا، أن هناك كائنًا من هذا النوع يوجد في العالم.
١٧
ومن جانبٍ آخر إذا أخذنا بالتسمية المصرية لغزاة بلادهم الهكسوس «عامو»، فيظهر أن
لهم
علاقة وطيدة باللون الأحمر، وأنهم كانوا قومًا عظام الطول، ضخام الجسد. ويفرق لسان
العرب بين التسمية المصرية رجل من العامو «رجل عمي»، أي مبتدي صحراوي بدائي، وبين أهل
المدر والحضر والخصب، الذين هم سكان القصور «رجل قصري». ويعود اللسان لتذكيرنا أن «عم»
هو الجماعة المتشظية، وباسمهم هناك شجرة حمراء لها نور أحمر، وهي شجرة طويلة عظيمة،
تستحق اسم «الأيكة».
وهنا نستمع إلى «جاردنر» وهو يحدثنا عن حجر القاهرة المعروف باسم «حجر باليرمو»،
وفيه
إشارة إلى ما حدث في عهد الملك الثاني من ملوك الأسرة الأولى التأسيسية، وفي هذا الزمن
المبكر زمن الملك المدعو «جر»، إشارة إلى ضرب الملك لمناطق «ستية».
١٨
ثم بعده نقرأ عن ملكٍ باسم «عنخاب»، أنه قد ضرب شعب «الأيونتيو» أو «عنتيو»، والعنتيو
هو البخور الأبيض في اللسان المصري القديم، ويعني أيضًا عند جاردنر وعبد العزيز صالح
«أصحاب العمد»، ومع تعقيب يقول: «وهذا اصطلاح مبهم ربما يشير إلى شعوب قطنت شمال شرقي
الدلتا، أو بدو الصحراء الشرقية وسيناء وما وراءهما»،
١٩ هذا بينما كان عبد المنعم عبد الحليم لم يزل يصر على أن شعب العنتيو/أي
اللبان الدكر هم سكان الصومال؟!
(انظر أعمدة البتراء (إرم ذات العماد؟!) الشكل رقم «٧٦، ٧٧».)
ويضيف نجيب ميخائيل على ذات النصوص شارحًا مَن هم العنتيو أصحاب العمد
بقوله: «وقد أطلق عليهم سترابو اسم سكان الكهوف، الذين كانوا يعيشون على النهب والسلب
والتجارة في قوافل تقطع صحراء العرب»،
٢٠ لقد كان العنتيو هم العماليق ضمن سكان بلاد آدوم ومحيطها، أصحاب البخور، أم
يا ترى عنتيو أو أنيتو هي مقلوب «تينو/تين»، تلك الثمرة المقدسة التي أتت بها بعثة
حتشبسوت، لتستزرعها أمام معبدها «شجرة البيرسيا المقدسة»؟ ربما! وتشترك «عنتيو» في
جذرها الثلاثي مع «عتي» و«عاتي» و«عتو» من القوة والشدة والعملقة. وهنا نقف نستمع إلى
ديودور الصقلي يروي قائلًا: «بعد أن جعل الملوك في الإسكندرية طريق البحر ميسرة لإبحار
تجارتهم، لم يكتف هؤلاء العرب بمهاجمة من تحطمت بهم سفنهم، بل أنزلوا إلى الماء سفن
قرصنة تطارد التجار والمسافرين، محاكين بتلك الأعمال الوحشية الجامحة للطائوريين من أهل
بنطس.»
٢١
وهو ما يعني أن عرب وادي عرابة يشبهون في
لصوصيتهم سكان بلاد بنطس شرقي البحر الأسود بأرمينيا. لقد أدرك ديودور التشابه لكنه لم
يدرك أن من سكان عرابة جنسًا قادمًا من أرمينيا من منطقة بنطس «بنط»، حيث كان يقوم
ميناء بونت على البحر الأسود ولم يزل، وإن هؤلاء المهاجرين قد منحوا موطنهم الجديد في
عرابة اسم موطنهم القديم «بونت».
ثم يدخل هيرودوت ليعطينا دعمًا قويًّا لنظريتنا، فيقول عن حدود مصر الشرقية، حيث
المواطن التي عرَفها هيرودف ورفاقه من مؤرخين بأنها البلاد العربية.
وتضيق مصر ابتداء من مدينة هيروبوليس جنوبًا، فعلى أحد جانبيها تمتد سلسلة
الجبال العربية (الهضبة الشرقية الآن [المؤلف]) من الشمال إلى الجنوب … ويستمر
امتدادها حتى البحر المسمى بحر إروتري (هنا يشرح د. أحمد بدوي في الهامش أن بحر
إروتري هو البحر الأحمر، وبالتحديد الخليج العربي منه، وهو خليج السويس
حاليًّا)، وهنا توجد مقالع الأحجار (وقد وجدت بالفعل هناك مقالع الأحجار،
وبخاصة الفيروز [المؤلف]) … وأقصى اتساع مسيرة شهرين … وحدودها الشرقية تنتج البخور.
٢٢
(هيرودوت، ٧٧-٧٨)
إن هيرودوت هنا يحدثنا عن المسافة بين الخليج العربي (السويس) وبين خليج العقبة عبر
سيناء، حيث الوصول عبر سيناء يستغرق مسيرة شهرين، وهناك عند خليج العقبة، أو الحدود
الشرقية لمصر، منطقة تنتج البخور أو بتعبيره «وحدودها الشرقية تنتج البخور»، ولأنه يريد
بالضبط المسافة بين السويس والعقبة، يستمر شارحًا اتجاهًا آخر من خليج السويس، «أو خليج
العرب» نحو الجنوب في عمق البحر الأحمر المتَّجه نحو المندب فيقول:
ويوجد في بلاد العرب غير بعيد عن مصر، خليج يوغل في الداخل من البحر، الذي
يسمى ببحر أروتري، وهو خليج طويل وضيق جدًّا كما سأوضح، إذا بدأ المسافر من جوف
الخليج وضرب في عرض البحر، فإنه يستغرق في عبوره طولًا أربعين يومًا مع استخدام
المجاديف.
هنا لا يقول هيرودوت إن المسافة مسيرة، إنما إبحار بالمجاديف يستغرق أربعين يومًا،
ثم
يحدثنا عن عبور الخليج العربي عرضًا في أوسع أجزائه بقوله: «في حين أن اجتيازه عرضًا
في
أوسع أجزائه يستغرق إبحار نصف يوم، وبه يحدث مد وجذر كل يوم.»
ولمزيدٍ من تحديد المكان الذي يتحدث عنه يقول: «فمناطق الساحل العربية مأهولة بالسوريين»،
٢٣ وكلمة السوريين للتعبير عن البدو الآسيويين لدى هيرودوت.
لقد عمدنا إلى تفصيل رواية هيرودوت، حتى لا يكون هناك أي لبس بين الإبحار من خليج
السويس جنوبًا، وبين الاتجاه من خليج السويس شرقًا بالسير البري، وهناك، كما قال في
أقصى الحدود الشرقية، سنجد الخليج الثاني (العقبة)، حيث أكد هيرودوت أن البلاد كانت
هناك «تنتج البخور» أو العنتى.
(انظر مفتاح الحياة المصري «العنخ» ولوحة لبدوٍ ساميين من مصر القديمة.)
(الشكل رقم «٧٨، ٧٩».)