أين تقع حَويلَة التوراتية
والسؤال الأول هنا: ولماذا البحث وراء أسماء توراتية مثل حويلة؟ ما الغرض من تحديد موضعها الجغرافي؟
الإجابة تتمثل في عنصرين أساسيين؛ الأول هو أن تحديد مكان حويلة سيساعد في تأكيد مذهبنا حول المواضع التي عاش فيها الإسماعيليون المديانيون وحلفاؤهم؛ لأنها دومًا ترد كإحداثية جغرافية يضعها المحرر التوراتي، كإحدى العلامات لمواطن معيشة هؤلاء.
أما العنصر الثاني فهو أن هناك التباسًا شديدًا حول موضع حويلة التوراتية، أدى لكمٍّ غفير من الأخطاء في استنتاجات زملائنا من باحثين. وقد وجدنا في محاولة التحديد تلك فائدة بحد ذاتها، يمكنها أن تقدم للباحثين تحديدًا دقيقًا يؤدي إلى نتائج بحثية دقيقة.
هذا إضافة إلى اعتقادنا أن هناك أكثر من مدينة حملت هذا الاسم، أدت إلى تلك الالتباسات، وأن أهم هذه الحويلات ثلاث حويلات: الأولى في أقصى شمال فلسطين، وأعطت اسمها لبحيرة الحويلة. والثانية هي المتواترة في الكتاب المقدس، وهي مدينة عماليقية على حدود فلسطين الجنوبية بشبه جزيرة سيناء كما سنرى. ومدينة أخرى هي الأهم، وهي تلك التي عرفناها عاصمة للهكسوس في مصر باسم حواريس بالتبادل بين اللام والراء «حويلة = حويرة»، ويموضعها المؤرخون في مكانٍ ما غير متفق عليه شرقي الدلتا المصرية.
ونبدأ بالسؤال الملحاح الذي لم يجد حتى الآن إجابة قاطعة بين مبعثرات التاريخ القديم وشظاياه: أين تقع المدينة التي اتخذها الهكسوس مركزًا عسكريًّا وإداريًّا في مصر؟ وجاءنا ذكرها عبر المؤرخ المصري «مانيتون ق ٣ق.م.» باسم «حواريس» أو «أواريس» بالنطق اليوناني، أو «حواعرة» أو «هوارة» بالنطق المصري. وهو السؤال الذي أجبنا عليه في الجزء الأول، وعلمنا أن حويلة هي حوير هي حواعرة هي أواريس، هي أفاريس، تل المسخوطة أو الخشبي الآن، والتي أعطاها رمسيس الثاني اسمه، واستُعبد في بنائها الإسرائيليون فيما يزعم المقدس التوراتي.
وكثيرًا ما ربطت التوراة بين مدينة الهكسوس الكبرى في جنوبي فلسطين (حبرون/الخليل)، وبين حواريس المصرية. والتوراة تذكر حواريس باسمين يردان على التبادل، الأول والقديم هو «صوعن»، والثاني الأحدث هو مدينة «رعمسيس». وتشير في تواترٍ متعدد، وفي مناطق متفرقة بالتوراة، إلى أن «صوعن» قد بُنيت بعد «حبرون» بسبع سنين. ويبدو أنها الفارق الزمني بين استيلاء الهكسوس تمامًا على حبرون/الخليل/جنوبيَّ فلسطين عند تحولهم من دولةٍ تجارية إلى دولةٍ توسعية إمبراطورية، وبين دخولهم مصر وإقامتهم في صوعن/رعمسيس/حواريس. لكن الإضافة هنا أنه كان هناك حواريس أصلية أقرب إلى المركز الرئيسي للهكسوس، نظنه هو ذات المركز الذي جاء اسمه في التوراة باسم «حويلة».
الواضح لدينا على المستوى اللساني وحده «الآن»، أن «حويلة» التي تكررت في الكتاب المقدس، أنها بالتبادل بين حرف اللام والراء باعتبارها حروفَ سقف حلقية، فإن «حويلة» ستكون «حويرة»، وبهذا يصبح معناها «الحورية». وهي المسمى التي يلتقي تمامًا مع اسم عاصمة الهكسوس «حواريس»، بعد حذف التصريف الاسمي فتصبح «حوار». وفي المعركة التي قادها أول ملك إسرائيلي، الملك «شاول» ضد العماليق العناقين، يؤكد لنا الكتاب المقدس نتيجة المعركة بقوله: «وضرب شاول عماليق من حويلة حتى مجيئك إلى شور التي مقابل مصر (صموئيل أول، ١٥: ٧)». وهذه النتيجة تعني أن شاول بضربه مدينة العماليق امتد تأثير تلك الضربة على العمالقة، بطول المنطقة الممتدة من «حويلة» إلى «شور» التي أمام مصر. وحتى الآن لم يتم تحديد أين تقع «حَويلة» التوراتية على الإطلاق، إنما ذهب الجميع إلى تحديد «شور» بأنها على حدود الدلتا الشرقية مباشرة، حتى تكون أمام مصر، استنادًا إلى مجموعة إحداثيات أعطتها لنا التوراة، حيث يتكرر ذكر «شور» مرات متعددة. وأول الإحداثيات وأوضحها تأتي في حدث عبور البحر بالعصا المعجزة، حديث نجد، أول موضع ينزل به الإسرائيليون بعد عبور البحر من الدلتا المصرية إلى سيناء، هو برية باسم شور: «ثم ارتحل موسى بإسرائيل من بحر سوف، وخرجوا إلى برية شور» (خروج، ١٥: ٢٢)، مما يعني أنها على الحدود مباشرة مع المدن المصرية العامرة في شرق الدلتا، والتي كان أهمها «صوعن» أو «رعمسيس» مدينة الفرعون التي يزعم الإسرائيليون أنهم اضطُهدوا في بنائها، وعبروا من جوارها البحر في قصة العصا الحية. ويبدو أن هناك طريقًا كان يبدأ من الموضع شور حتى يصل إلى شرقي سيناء نحو فلسطين، أطلقت عليه العبرية «درك شور»، وجاء في الترجمة العربية «طريق شور» (تكوين، ١٦: ١٧)، ومن المتكررات التي تذكر الوضع «شور» بالتوراة ذلك النص الذي يحدد موطن سُكنى الإسماعيليين، ويضعه في ذات الموضع الذي سبق للتوراة وحددته موطنًا لسُكنى العمالقة، والذي ذكرناه من هنيهة في نص الملك شاول، والنص الجديد هنا لسُكنى الإسماعيليين، يؤكدان أنهم قد «سكنوا من حَويلة إلى شور التي أمام مصر» (تكوين، ٢٥: ١٨)، وهو ما يضيف قرينة جديدة إلى ما سبق وذهبنا إليه في كون الإسماعيليين عمالقة، أو أنهما بطنان لقبيلة واحدة. ثم لدينا إشارة أخرى تتحدث عن المواطن التي أقام بها البطرك إبراهيم إبان ارتحالاته بالمنطقة، والإشارة تقول: إنه قد «سكن بين قادش (عين قديس [المؤلف]) وشور، وتغرب في جرار» (تكوين، ٢٠: ١).
وإذا كان قد تم تحديد «قادش» بأنها «عين قديس» في أقصى الطرف الشرقي بسيناء على الحدود الآدومية الغربية، وأنه إذا كانت شور في أقصى الطرف الغربي لسيناء على حدودها مع شرقي الدلتا المصرية، فإنه يجب البحث عن «حويلة» التوراتية بجوار قادش سيناء في أقصى الطرف الشرقي لسيناء، وبالتحديد عند طرف الطريق القديم الذي أسمته التوراة «درك شور»، واكتسب اسمه من وقوع «شور» على طرفه الغربي. وبذلك تكون المسافة الواقعة بين «حويلة» شرقي سيناء و«شور» غربي سيناء، هي المسافة الكبرى التي سكنها العماليق والإسماعيليون، وتكون «مدينة عماليق» التي ضربها شاول بعد حصارها، هي ذات عين «حواريس» أو «حويلة» التوراتية، وليست حويلة/حواريس الموجودة شرقي الدلتا المصرية باسم رمسيس. وفي هذه الحالة يجب البحث عن حويلة التوراتية في مكانٍ ما شرقي سيناء في جوار قادش (عين قديس)، وعلى حدود آدوم الغربية وحدود فلسطين الجنوبية.
وحتى يمكن الوصول إلى تحديدٍ دقيق، يلاحظ أن الإسماعيليين رغم انتشارهم في سيناء جميعًا، من حويلة التي نبحث عنها شرقًا حتى شور غربًا، فإن أول استقرار إسماعيلي ألمحت إليه التوراة، كان في ترميزها القصصي الذي أكد أن هاجر وابنها إسماعيل بعد طردهما من بيت إبراهيم، هبَطَا من فلسطين جنوبًا ليسكنا في برية فاران (تكوين: ٢١)، التي افترضناها باران الحالية، أي قرب قادش؛ وذلك لأن هناك نصًّا توراتيًّا آخر يحدد لنا موقع «قادش»، بأنها تقع بدورها في برية فاران (عدد، ١٣: ٢٦)، وأن في محيط برية فاران برية أخرى، دعتها التوراة برية صين. فالتوراة تقول إن قادش رغم وقوعها في محيط برية فاران، فإنها تقع في محيط برية أخرى باسم «صين» (وذلك في عدد، ٢٠: ١)، وقد اتفقنا على أن برية «صين» هي «تسين» الحالية في الجوار ذاته إلى الشمال قليلًا من «باران».
أما ما يؤكد لنا صدق تلك الإحداثيات، وأن موطن سُكنى إسماعيل وأمه كان في برية «فاران» و«صين»، قرب «قادش» على حدود سيناء الشرقية التي هي حدود آدوم الغربية، وأن هذه المنطقة كانت الطرف الشرقي أودرك «شور»، يؤكد كل ذلك قول التوراة إن ملاك الرب قابل «هاجر»، وأن ذلك اللقاء قد تم في موضعٍ تحدده التوراة بقولها: «فوجدها ملاك الرب على العين التي في طريق شور» (تكوين، ١٦: ٦، ٧). أما «قادش» نفسها فقد حددت التوراة موضعها بقولها: «قادش على تخوم آدوم» (عدد: ٢٠). وبذلك تقع قادش سيناء أيضًا جنوبيَّ فلسطين أو مملكة إسرائيل القديمة، وهو ما جاء في نصٍّ توراتي يرسم الحدود الجنوبية لأرض تلك المملكة. «وجانب الجنوب يمينًا من ثامارا إلى مياه مريبوت قادش النهر إلى البحر الكبير» (حزقيال: ٤٧).
الآن أمكننا حصر منطقة أضيق للبحث فيها عن «حويلة»، فأي موضع في هذا الصقع الممتد من غربي آدوم إلى جنوبي فلسطين، يحتمل أن يكون هو موقع حويلة التوراتية، تلك التي حارت فيها الأفهام؟
بالبحث لا يمكنك أن تجد موضعًا يحمل في سماته اللسانية اسم حويلة أو حويرة أو حواريس، ويقع في تلك المساحة أو تحديدًا، على الطرف الشرقي لطريقٍ قديم في سيناء يربط شرقها بغربها، سوى مدينة العريش الحالية، التي تلتقي التقاءً مدهشًا مع المعطيات التي لدينا، على المستوى اللساني، وعلى مستوى الإحداثيات الجغرافية.
وفي هذه الحال، يجب أن تكون مقاطعة سترويت المنسوبة إلى الإله «سيت» أي «الستية»، وكما علمنا غير موجودة بالمرة في الجداول المصرية لمقاطعات مصر القديمة، هي منطقة نفوذ إله الصحارى، هو شبه جزيرة سيناء المتصلة بالدلتا المصرية الشرقية.
وإعمالًا لذلك سبق ووضحنا حلنا الافتراضي، وهي أن تكون شبه جزيرة سيناء هي التي عُرفت في أعمال المؤرخين الكلاسيكيين، باسم مقاطعة «سيترويت» نسبة للإله «سيت»، وهنا علينا أن نلحظ أن «سيترويت» هي المقلوب اللساني للكلمة المصرية «دوسريت» أو «دوشريت»، الدالة على الصحارى الشاسعة.
وقد أفادتنا المصادر المتخصصة في الساميات، أن «سيناء» قد حملت اسم «سيناء»، نسبةً إلى إله القمر المنطوق باللسان السامي «سين» أو «زين»، وأنه كان يُنطق مختصرًا «سي» بإمالة السين إمالة طويلة، و«سي» وحدها دلالة اسمية على السائمة من الحيوانات ذات القرون، ومنها جاءت كلمة «ساة» أو «شاة». وقد اقترنت السوائم المقرنة بإله القمر خاصة في حالة الهلال، بعد أن قرن الإنسان القديم بين قرنَيِ السوائم وبين قرنَيِ الهلال، فاعتبر القمر ثورًا أو تيسًا أو خروفًا سماويًّا، وسنعلم لاحقًا كيف اقترن الإله ست بالإله القمر رب الصحارى والبداوة والبوادي، وهو ما يرجح أن يكون اسم «سين للقمر»، جاء أصلًا من المفرد. «س» في «سيت»، مضافًا إليه أداة التعريف السامية الجنوبية «ن»، التي كانت تلحق بآخر الكلمة للتعريف، كما في «رحمن» التي كتبتها نصوص المستند اليمني «رحمن – ن»، ويبدو لنا أن «ن» لحقت أولًا بالثنائي «ست»، فأصبحت «ستن» التي ستصبح بعد ذلك الشيطان كما سلف، وكما سيأتي بيانه، وهي صفات الإله «سيت» المصري، إلا أن ما يهمنا هنا هو أن سيناء اسم منسوبة للإله المصري «سيت» في إحدى تجلياته وتمثلاته، وهو هنا التجلي القمري لقربه من حال سيناء البدوي، تصبح «سيناء» أو «سيترويت» كليهما وعلى اختلاف نطقهما منسوبة إلى الإله «سيت» المصري.
وهنا نتذكر ما جاء في حديث التلمود عن الشيطان، وأنه كان يطلع بين قرني ثور، والثور هنا هو قمر هلالي لتجلي سيت … والثور في السامية القديمة وبخاصة البابلية كان يُنطق «شيد» وهي ببساطة «سيت». أما التوراة فقد جاءت بكلمة «شيد» بمعنى عفريت، والعوام حتى اليوم يقولون عن العفاريت «الأسياد»، وهي تسمية تشير إلى أصحاب «سيت»، باعتبارهم أصحاب سيادة/هكسوس كما سلف البيان، والكلمة «سيت» نفسها تنطق أيضًا «سيد»، وتحمل معنى السيادة. أما الرب التوراتي زمن النبي إبراهيم فقد جاء في التوراة العربية باسم «الرب القدير»، وتلك ترجمة عن الأصل العبري المازوري لذات الكلمة بالعبرية «إيل شداي». وهي كلمة تتركب من ملصقين: الأول «إيل» أي رب، والثاني «شداي»، وشداي تحيلنا إلى «سيت» مرة أخرى «سيت/ شيت/شيتاي/شيد/شيداي». وقد أشرنا في كتابنا «قصة الخلق» إلى علاقةٍ واضحة بين «شداي» هذا وبين «الشذى» أو الريح، وكلها تلتقي مع ما جمعناه من معطياتٍ حتى الآن بشأن ذلك الإله، وتتناغم معنا تناغمًا بينًا واضحًا.
ولأن المصادر التاريخية تضن علينا بأية إضافات يمكن التعامل معها بشأن أواريس الهكسوسية، التي قامت داخل الحدود المصرية في الدلتا الشرقية، فسنعمد الآن — وإلى حينٍ فقط — إلى حواريس أخرى، هي حويلة التوراتية التي حددنا موضعها بالعريش شرقي سيناء، بحسبانها «حواريس» متقدمة، للإشراف على أرجاء الإمبراطورية الهكسوسية، وفي بلاد الشام وجزر المتوسط ومصر نفسها. أما الأهم فهو قربها من المركز الرئيسي لانطلاق الهكسوس، الذي انعقدت عنده أحلافهم في آدوم.
حَويلة: اسم سامي معناه رملية … هو اسم لرجل من بني كوش (تكوين، ١٠: ٧)، واسم لرجلٍ من بني يقطان (تكوين، ١٠: ٢٩)، واسم لمقاطعةٍ من بلاد العرب يسكن بعضها الكوشيون، ويسكن البعض الآخر اليقطانيون، وهم شعب سامي، (تكوين، ١٠: ٧ و٢٩؛ وأخبار أيام أول، ١: ٩ و٢٣). والصلة بين حويلة وحضرموت وأماكن أخرى، تشير إلى موقعها في وسط البلاد العربية، أو في جنوبها وفي حويلة نهر فيشون، والمنطقة غنية بالذهب والمقل، وهو صمغ عطري طبي، والأحجار الكريمة (تكوين، ٢: ١٢، ١١). ويفضل البعض أن يحققها بمنطقة خولان، في القسم الغربي من بلاد العرب شمالي اليمن، ولا يُعرف إلى أي حدٍّ كانت تمتد الحويلة شمالًا، ومن قصة محاربة شاول مع العمالقة، قد نستنتج أن قسمًا من الصحراء العربية، يمتد عدة مئات من الأميال شمال اليمامة، ويحمل اسم حويلة (صموئيل أول، ٧: ١٥؛ وتكوين، ٢٥: ١٨).
إذن ووفق ما ساقه لنا قاموس الكتاب المقدس، الذي اشترك في إعداده جلة محترمة من علماء الكتاب المقدس، فإن كلمة «حَويلة» تعني «الرمل»، فحويلة تقع في منطقةٍ صحراوية، وكذلك العريش، وعلى عادة المقدس التوراتي في تصنيف المواضع والأجناس، منسوبة إلى أشخاصٍ قُدامى أسطوريين، آباء لأقوامٍ وشعوب، فإنه يقول: إن حويلة كان اسمًا لرجلٍ (كوشي)، أي من الجنس الأسود الزنجي، وقد قلنا إن هناك عنصرًا زنجيًّا قد سكن المنطقة، ورفض المؤرخون، بل ولم يتصوروا وجود عنصر زنجي في هذه المنطقة، رغم ما جاء في المدونات التاريخية الكلاسيكية والكتاب المقدس، وأسقطها الباحثون دومًا من حساباتهم؛ لذلك نحن أول المفسرين بلا منازع ينازعنا، ثم إن الاسم كان في الوقت ذاته اسمًا لرجلٍ من نسل «عابر» العبري هو «يقطان»، وبالعربية هو قحطان. ونحن نعلم أن قحطان جنوب جزيري سكن الجنوب اليمني، لكنه وفق نظريتنا جاء من الجنوب إلى الشمال، يرتحل إلى آدوم تاجرًا ومقاتلًا. ثم إن القاموس المقدس يضيف لحويلة معنى ثالثًا، فهو اسم لمقاطعة يسكنها العرب والزنوج، ويصفها بأنها عربية. ونحن نعلم مما أوردناه أن المؤرخين الكلاسيكيين قد أطلقوا على المنطقة جميعًا من آدوم حتى الدلتا الشرقية اسم العربية، أو المقاطعة العربية. أما الأشد فصاحة لأمرنا هنا، فهو القول أن تلك المقاطعة كانت تنتج المر/البخور/اللبان/الصمغ العربي العطري، ولكن لأن القاموس وأصحابه لم يصلوا إلى ما وصلنا إليه حتى الآن في بحثنا؛ فقد ذهبوا يضعون حويلة في شبيهها اللساني «خولان» غربي جزيرة العرب عند اليمن. ويكون شاول الملك بذلك قد قام بأكبر حملة في التاريخ، حملة أسطورية اكتسح بها فيافي الجزيرة من فلسطين حتى اليمن، ويأتينا الخلَل الجغرافي الشديد وفق هذا الرأي، فأين خولان من شور التي أمام مصر؟ المهم أن القاموس يستمر فيؤكد لنا مذهبنا، فحويلة بها الأحجار الكريمة والذهب.
ونستفيد هنا من الجليل علي فهمي خشيم الذي يبحث في شأن آخر بعيد عن شأننا هنا؛ إذ يتحدث عن «حواريس» الهكسوسية بمصر، فيقول إن المقابل السبئي لها هو في مادة «ح و ر»، وتفيد معنيين نقيضين، فهي بمعنى ذهب، وبمعنى قعد واستقر (أليست تلك حال أولئك موضوع بحثنا حتى الآن، بل وألا تنطبق إلا عليهم؟)
ومن ثم فالاسم حواريس يضم عددًا من المعاني، فهي مدينة كبرى مقدسة مسورة، سكانها من البدو المرتحلين الذين استقروا مؤقتًا، أو استقروا ثم عادوا فتشتتوا، زيادةً على كونها مركزًا رئاسيًّا إداريًّا.
وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقًا، ووضع هناك آدم الذي جبله، وأنبت الرب الإله من الأرض كل شجرة شهية للنظر وجيدة للأكل، وشجرة الحياة في وسط الجنة، وشجرة معرفة الخير والشر، وكان نهر يخرج من عدن ليسقي الجنة، ومن هناك ينقسم فيصيران أربعة رءوس، اسم الواحد فيشون وهو المحيط بجميع أرض الحويلة حيث الذهب، وذهب تلك الأرض جيد، هناك المقل وحجر الجزع، واسم النهر الثاني جيحون، وهو المحيط بجميع أرض كوش، واسم النهر الثالث حداقل، وهو الجاري شرقي آشور، والنهر الرابع الفرات.
الأسطورة هنا تحكي عن خلق آدم ووضعه في جنةٍ باسم عدن، وهذه الجنة تقع على هذه الأرض. ونظرًا لأن العلم بجغرافية الأرض لم يكن قد اتسع بعد، فقد رددت الأسطورة تصورًا متواترًا لدى الشعوب القديمة، يعتقد أن الأنهار جميعًا تنبع من منبعٍ واحدٍ على اختلاف مواضعها، وأن ذلك المنبع لا شك عند مقر الآلهة؛ نظرًا لتشابه الظواهر النهرية وكائناتها على اختلاف مواضعها. وضمن تلك التصورات ذلك التصور الذي وضعه سكان منطقة الشرق الأوسط، وتبنته التوراة، فتقول إنه في تلك الجنة سكن آدم أو آدوم أبو البشرية، وفي هذه الجنة نهر أول هو منبع وأساس، تتفرع منه الأنهار الكبرى الأربعة، وأول تلك الأربعة نهر باسم فيشون، وهو المحيط بجميع أرض حويلة. ووفق ما طرحناه، فإن هذا النهر سيكون هو نهر وادي العريش، وقد اعتادت التوراة على تسميته «نهر مصر». خاصة إذا ربطنا ذلك بما سبق وقلناه، إن سيناء وآدوم هي التي كانت تحمل مصر، قبل أن تنسحب التسمية على مصر المعروفة الآن، وأنها كانت تسمى على التنغيم مصري وموسري ومصري وموسير ومشري، وكان هذا النهر هو آخر الحدود الغربية الجنوبية لدولة إسرائيل الموحدة القديمة حسب زعم التوراة، وأبزر النصوص التوراتية لتحديد تلك الحدود، ما جاء في الوعد لإبراهيم بالنص القائل: «لنسلك أُعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات» (تكوين، ١٥: ١٨).
كما تم تحديد وادي مصر هذا أو نهر مصر، مع تحديد التوراة لآخر النقاط الحدودية الجنوبية — لسبط يهوذا — مع مصر، في النص «أشدود وقراها وضياعها إلى وادي مصر والبحر الكبير وتخومه» (يقصد البحر الأبيض [المؤلف]) (يشوع، ١٥: ٤٧).
أما النهر الثاني فهو المحيط بأرض كوش (الجنس الأسود) واسمح جيحون، حسب رؤيتنا هنا هو ذلك الذي يحمل اليوم اسم النيل، حيث كان في جنوب مصر دولة تابعة لمصر باسم بلاد كوش، وكان يحكمها والٍ من قبل الفرعون منوبًا عنه بلقب «ابن الفرعون في بلاد كوش». أما النهر الثالث «حداقل» الذي اتفقت عليه الترجمات بكونه نهر «دجلة» أحد الرافدين؛ لأن النص التوراتي يضعه شرقي دولة آشور الرافدية القديمة؛ لذلك فإن النهر الرابع منطقيًّا يجب أن يكون «الفرات».
هذا نصيب سبط يهوذا حسب عشائرهم، وكانت المدن القصوى التي لسبط بني يهوذا إلى تخم آدوم جنوبًا: قبصئيل وعيدر وياجور وقينة وديمونة وعدعدة وقادش وحاصور ويثنان، وزيف وطالم وبعلوت، وحاصور وحدته وقريوت، وحصرون هي حاصور.
وفي هذا النص تختفي حويلة من تعداد المدن، لتظهر بدلًا منها حاصور، ويقول قاموس الكتاب المقدس تحت مادة «حاصور»: إن حاصور كانت تتبعها قرية باسم «حاصور وحدته» بالجوار، وإن «حاصور» كانت مقاطعة في الصحراء العربية. ويدل على أنها كانت مدينة عظيمة ذات شأن، أنها كانت محل طمع العاهل البابلي نبوخذ نصر، الذي هاجمها ونهبها (انظر سفر إرميا، ٤٩: ٢٨–٣٣)، ثم يضيف القاموس نصيًّا: «ويذكر بيروسوس أن نبوخذ نصر قد هز العربية، وربما يكون الاسم اسم مجموعة.»
في الوقت الذي دون فيه هذا الكلام، كان الجنس العربي قد أخذ بالتحدد في جزيرته ونطاقها الشمالي، أما البلاد التي عدت عربية في كتابات المؤرخين الكلاسيك، فهي آدوم ومحيطها من شمالي الجزيرة إضافة إلى سيناء. أما البليغ هنا فهو المعلومة التي تواترت حتى وصلت محرري الكتاب المقدس، ليسجلوا في قاموسهم إن «العربية» ربما يكون اسمًا لمجموعة، أي لحلفٍ بين مجموعاتٍ بشرية، وهو الأمر الذي انتهينا من تقريره بقرائن وأدلة وافية.
حاصور كانت قبلًا رأس جميع الممالك.
وهو ما يفيد أن حاصور كانت مدينة رئيسية بين ممالك المنطقة الآدومية في النقب، وهكذا كان أيضًا شأن حواريس عاصمة الهكسوس الأحلاف في شرقي دلتا مصر. وحاصور في حال الاستبدال السهل بين الحاء والعين تصبح ببساطة «عريش». وإذا كنا نعلم أن كلمة «عريش» بالعربية تعني الحظيرة، فإن الكتاب المقدس القاموسي يعلمنا تحت مادة حاصور بمعناها، قائلًا تحت مادة حاصور: «حاصور: اسم عبري معناه حظيرة.»