الفصل السادس
بعل صفون: لغز آخر!
في القصة التوراتية لخروج بني إسرائيل من مصر، نجد إشارات إلى موضع حدودي مصري باسم
«بعل صافون» يقع على الحدود الشرقية للدلتا المصرية مع البحر الذي عبره الإسرائيليون
في
أسطورة شق البحر. ومن المفترض حسب القصة أن تكون تلك الحدود حدودًا صحراوية ملاصقة
لمناطق الخصب الدلتاوية. ويقول الكتاب المقدس إن ذلك الخروج أو عبور البحر، قد تم عند
نقطة اسمها «فم الحيروث»، وهي بالعبرية «بي – ﻫ حيروت» أي «فم الحيروت»، والمقدس
التوراتي يفيدنا بموضعٍ كان يقع إلى الجوار من فم الحيروت مباشرة، يحمل ذلك الاسم
الغريب على اللسان المصري «بعل صافون».
فما هو بعل صافون؟
بالبحث وراء بعل صافون وجدناه اسمًا يرد في الملاحم التي عُثر عليها بمكتبة أوغاريت
«تل شمرا اللاذقية الآن بسوريا»، بحسبانه اسمًا لإلهٍ من أشهر الآلهة الكنعانية، فكيف
أصبح علمًا على موضعٍ جغرافي بالبلاد المصرية؟
ونحن نعلم من الملاحم الدينية للبلاد الشامية، أن البعل تعني السيد عمومًا أو الرب،
وعادةً ما تشير إلى ربٍّ بعينه، ارتبطت به تلك الصفة «بعل»، بحيث إذا وردت وحدها دون
ذكره، نعرف أنها تشير إليه. هو رب الحرب والسلام والخصب والدمار والأوبئة معًا، الإله
«هدد» أو «هدٌّ» بتشديد حرف الدال، وينطق أيضًا «حدٌّ» و«حدُّو» و«حداد» و«أدٌّ» و«أدد»
وأيضًا «ود»، وكلها اختلافات لهجوية باختلاف ألسنة قبائل المنطقة، لكنه دومًا كان بعل
صافون، وصافون هنا صيغة نسبة لمكانٍ جغرافي، حيث يقع معبد أو هيكل ذلك الإله، فهو «رب
صافون» أو إله الموضع صافون.
وتحيطنا ملحمتان على الأقل من الملاحم الأوغاريتية علمًا بشأن السيد البعل «بعل
صافون» هما: ملحمة البعل، وملحمة كارت ملك صيدون، والملحمة الأولى (ملحمة البعل) تحكي
لنا قصة هذا الإله، فهو رب الصاعقة والمطر والحرب والوباء، وقد ترك عابدوه لنا نقوشًا
له، يمسك بصاعقةٍ ذات ثلاثة شعب، تشبه المذراة أو الشوكة، في شكل أداة حرب حديدية. مما
يشير إلى أنه ربما كان أيضًا ربًّا لصناعة الحديد والمسبوكات المعدنية، وهو ما يطابق
اسمه «حداد» أي صانع الحديد أو الفيتي. وهذا الاجتهاد من جانبنا لا يتعارض مع ما
استنتجه الباحثون، من كونه ربَّ خصب لشعوب متبدية تستوطن الجبال والبراري، وتعتمد على
المطر وبرقه ورعده في زراعتها، لكن مثل هذا الإله في بلدٍ مثل مصر سيغدو إله نقمة وليس
رحمة، فهي تعتمد بالكامل في ريها على نيلها الهادئ اللطيف المنضبط، وشهور المطر فيها
هي
شهور الشتاء، والشتاء في مصر فصل جدب ومرَض للبنات وموت للخضرة؛ لذلك عادةً ما قرن حداد
أو هدد البعل عند المصريين برب الصحارى الشرير «سيت»، قاتل أخيه أوزويريس رب الخصب
والزرع، وهو تناقضٌ بين حالين طبيعيين في المنطقة، أدى إلى تناقضٍ مماثل في تصور الآلهة
ووظائفها. وهكذا فالبعل في الأسطورة السامية إله خصب يحمل اسم حداد، أما صافون فهو
المكان الذي ورد بالأسطورة كمقر لهيكل البعل وكمسكن له، وللبحث عن الموضع الشامي للإله
صافون، نرجع إلى ملحمة البعل نقتطع منها المقاطع التالية:
رفعت «شمش» صوتها تقول: اسمع يا «عشتر» «ثور إيل» أبوك
يميل إلى «يم»،
يؤثر «القاضي نهر».
إذا سمعت «إيل»
يغضب، يزيل عرشك، يحطم صولجانك.
أجاب «عشتر»:
لا هيكل لي كما لسائر الآلهة، لا قصر لي كما لسائر أبناء القدس.
***
لكن «إيل» ثبت سلطان «يم» قائلًا: لا زوجة لك يا «عشتر» أنت قاصر لا تصلح للملك،
ونادى «إيل» «كاسروخاسس» وقال له: هيا ابن هيكلًا ﻟ «يم»، هيا ابن قصرًا ﻟ «القاضي
نهر».
أرسل «يم» رسلًا إلى «إيل» أبي السنين قائلًا لهم:
اذهبوا إلى مقام «إيل» عند نبع النهرين قرب أفقا، أما «إيل» تسجدون، تقولون … (تلف
بالنص).
***
«البعل» لا هيكل له كما لأبناء «أشيرة» ربة البحر.
هيا سيري يا «عناة» إلى «أشيرة» ربة البحر، توسلي إلى خالقة الآلهة أن تذهب إلى «إيل»
تستعطفه، فيسمح ببناء هيكل لي.
***
ها «كاسروخاسس» قد هيأ كيره أخذ الملاقط بيده، ها هو يعد الفضة، يرقق ألواح
الذهب.
***
أسرِج مهرًا ياغلام.
ضع سرجًا غنيًّا بالحلي يا «قادش»،
سر بنا إلى مقام «إيل» عند نبع النهرين بالقرب من أفقا.
سار «قادش» أمام المهر.
أضاء لها الطريق كوكب
بلغت حِمى «إيل»، دخلت هيكل أبي السنين، أمامه انحنت،
وسجدت بإجلال.
رفع «إيل» بصره، ورأى «أشيرة» … وأجاب:
ليكن له بيت أيها الإله «إيل»،
فيرسل المطر في حينه.
تمطر السماء زيتًا، وتسيل الأودية عسلًا عندما يرسل صوته
رعدًا وضياءه برقًا.
فليكن للبعل بيت كما لسائر الآلهة.
سيكون لك بيت كما لإخوتك.
هيكل كما لسائر بنات «أشيرة».
ادع البنائين إلى بيتك.
الجبال ستخرج لك أجود فضتها والتلال خير ذهبها.
أسرع يا «كاسر» في بناء الهيكل، ستبنيه في أعالي جبل صافون، بالفضة والذهب سترفع
بنيانه، جاء الحطابون بأرز لبنان اتجهوا نحو سريون.
الأرز أجمله في سريون، أجوده في لبنان.
***
ها إنني قد بنيت بيتي من فضة.
من ذهب خالص شيدته.
راح البعل يطوف البلاد،
ضم إلى ملكه ستين مدينة، بل ضم إليه ثمانين، تسعين …
اسمع يا «جفنة» يا رسولي الأمين
اسمع يا «حقلة» يا رسولي الأمين
قبل طلوع الفجر تتوجهان إلى طور غزى وشور ماجي الجبلين
المحيطين بأقصى الشمال … (تلف بالنص)
***
الآن وقد قتلت الحية الملتوية
الحية المعلونة ذات الرءوس السبعة … لواياثان
صعد البعل إلى مسكنه في أعالي جبل صافون،
على قمة جبل الشمال،
في جبل «إيل» سُكناي.
تذكر ملحمة البعل كما رأينا
عددًا من الأسماء، يمكن الاستعانة بها لتحديد المواقع الجغرافية للملحمة الأسطورية،
ونظرًا للحديث عن جبل صافون بوصفه في ترجمة النص الملحمي جبل الشمال، فقد افترض
الباحثون أن يكون هو الجبل الأقرع الآن في أقصى الشمال السوري؛ خاصةً أن التسمية «جبل
صافون» أو «سابون» أو «جبل سابان» — ولا خلاف — كانت تأتي في الأساطير الأوغارينية على
التبادل مع التسمية «جبل أقرع».
ويوجز لنا «شيفمان» ما وصل إليه الباحثون بشأن التحديد الجغرافي لموضع جبل صافون،
وأسماء صافون المتشابهة لدى شعوب مختلفة فيقول: «وإلى الجنوب من المسير الأدنى لنهر
العاصي يتموضع جبل القصير الذي يتراوح ارتفاعه بين ٤٧٠–٤٩٠ مترًا، وتتصل معه من جهة
الغرب قمة جبل سابانو/صافون في التوراة، وخازي في اللغة الأكادية، وكاسي عند اليونان
والرومان، وهو ما نسميه اليوم جبل أقرع.»
٢ ثم يحدثنا «شيفمان» عن أوليمب الآلهة الأوغاريتية، فيشير إلى مكان مماثل
للبلاد التي فيها جنة عدن التوراتية، «أما المكان الذي اختاره بعلو الجبار لسكناه؛ فهو
جبل سابانو، وهو جبل موجود فعلًا فهو جبل الأقرع حاليًّا، ويقع على مسافةٍ قريبة من
أوغاريت … لكن في نصٍّ آخر يوجد بعلو في جبل سابانو الذي في السموات.»
٣
ووفق منظومة بحثنا هذا سيجد قارئنا في فصوله السالفة واللاحقة، ما يؤكد أن التسمية
الأكادية «خازي» واليونانية «كاسي» هي هي التسمية التوراتية والمصرية «كوشي». وفي بلاد
الرافدين والشام الأعلى كان اسم الكاسيين علمًا على القبائل التي غزت بلاد بابل ضمن
الموجة الهكسوسية التي احتلت مصر حوالي ذات الزمان تقريبًا، وهم لدينا عين الكوشيين،
حيث أكدنا ونؤكد أن الكوشيين/الزنج كانوا عنصرًا ضمن عناصر الهكسوس، ومن العناصر
المتقدمة في بلاد آدوم/بونت/مديان، وأنهم كانوا رفاق العنصر السبئي أو هم ذاته،
واقترنوا في وادي عربة وجبال سراة سعير مع العنصر الآري الهابط من الشمال، وبذلك يكون
جبل صافون/خازي/كاسي هو الجبل الكوشي أيضًا، جبل الإله البعل حداد/هدد/ود.
وفي الملحمة وردت أسماء آلهة منها الإله «يم» ويعني البحر، والإله «القاضي نهر» ويكتب
«أور – دان» أي قاضي المدينة «دان من يدين»، أو قاضي النهر والنهر القاضي،
٤ ويبدو أن النهر كان موضعًا لاختبار الخاطئين بجريمة الزنا بشكلٍ خاص،
باعتبار النهر هو سائل الخصب الذي يروي الأرض فتنبت، كسائل الخصب البشري الذي يروي
الفرج فيلد، ويقول «جيمس فريزر» إن القضاء النهري كان ينتشر انتشارًا واسعًا لدى الشعوب
القديمة. وكان يمارس وظيفته بوضع الطفل المشكوك في شرعيته في سفط وتركه للنهر وقتًا
محددًا، فإن نجا كان طفلًا شرعيًّا، وإن غرق كان نغلًا،
٥ لكن هذا القاضي نهر بالملحمة يشير إلى نهر بعينه، أصبح يحمل اسم القاضي
«دان» من «يدين»، و«أدان» هو نهر «أوردان» أو «الأردن»، ونهر الأردن كما نعلم في الجنوب
وليس في الشمال كما تحدد الملحمة مواضع أحداثها. إضافة إلى علامات أخرى تشككنا في ذلك
الشمال، فالعبارة «أبناء القدس» في الملحمة يجب إعادتها إلى أصلها «أبناء قادش». ونعتقد
أن قادش سيناء أو عين قديس الآن الملاصقة لبلاد آدوم هي قادش المقصودة. خاصةً أنها جاءت
مرتبطة في الملحمة بموضعٍ آخر هو «طور غزى»، والطور هو أي جبل مزروع، وقد تم تمييزه
بنسبته إلى مدينة غزة، ثم إنه يقع بالقرب من موضع «شور – ماجي»، الذي يحمل في تركيبه
شقًّا معلومًا هو «شور»، الحد الشرقي للدلتا مع سيناء، أو كما تقول التوراة متكررات حول
شور التي أمام مصر.
أما الإشارة إلى أن ذلك الجبل بأنه جبل إيل وجبل الله، فهو ما يذكرنا بالوصف التوراتي
الدائم لجبل سيناء، بأنه جبل الله حوريب كما في النص:
وأما موسى فكان يرعى غنم يثرون حمية كاهن مديان فساق الغنم إلى ما وراء
البرية وجاء إلى جبل الله حوريب.
(خروج، ٣: ١)
ثم يذكرنا «جبل الله حوبيب» أيضًا بالوصف
المصري لبلاد بونت — التي زعمنا أنها بلاد آدوم — بأنها أرض الإله، و«حوريب» أو «هوريب»
ببساطة هي «هو الرب».
والآن ليلحظ معنا قارئنا أن الأسطورة الملحمية قد أوردت أبياتًا، تشير إلى إلهٍ باسم
«كاسروخاسي»، وأن هذا الإله مهمته صناعة المعادن. فهو ينفخ الكير ويعد الملاقط ويطرق
الفضة، ويرقق ألواح الذهب لصناعة عرش الإله بعل صافون، وإن كان شيفمان يفضل ترجمة اسم
«كاسروخاسيس» إلى «كوثروخاسيس»، وحرف الواو هو حرف إلحاق فهو كاسر أو كوثر: الكاسي،
وأصلها الأوغاريتي جاء هكذا
KTR-W-HSS، لكن من جانبنا
نذهب إلى وجوب ترجمته وقراءته سوكار أو شوكار الكاسي. فنحن نعلم أن سوكار أوسوكاريس هو
الإله الصقري رب مدينة منف المصرية، الذي أعطى اسمه لها فأصبحت سكارة أو سقارة، وأنه
رمز الإله المصري أوزيريس. ويدعمنا في هذا المذهب ما جاء عن «كوثروخاسيس» عند «شيفمان»،
حيث يقول: «هو الإله الحرفي ومقره في خيكوبتا/ممفيس … ونشاطه الأساسي يتركز في صناعة
السلاح.» والواضح أن خيكوبتا هي «ايجبت/مصر» في اللسان الأوغاريتي، وهو ما يفيدنا به
«شيفمان»،
٦ إذ يقول: إن كوثر الكاسي كان يعيش في منف في اعتقاد أهل أوغاريت، ويفيدنا
إريك هور نونج علمًا في حديثه عن آلهة مصر القديمة أن سوكر
Sokar كان: «إله الحرفية والموتى وعُبد في منف.»
٧
وهكذا، كما مزج الهكسوس بين الإله سبت والإله بعل حداد، أخذوا أيضًا إله سقارة/منف،
المنسوبة إلى ربها سوكر، ثم نسبوه للكوشيين، فأصبح كوثر الكاسي، لكنه في ملحمة البعل
أصبح تابعًا لسيت أو للبعل بعكس القصة المصرية.
وما لا يفوت عين فاحصة إشارة الملحمة، إلى أن بعل ما إن تمكن من بناء مركز سيادي له
رمزًا للسيادة الهكسوسية، فإنه قام بضم مئات المدن إلى ملكه؛ تعبيرًا عما فعله الهكسوس
لإقامة إمبراطوريتهم.
وإذا كنا قد قلنا إن المركز الرئيسي، الذي تجمعت فيه عزمات الهكسوس كان هو بلاد آدوم،
التي زعمنا أنها ذات بلاد بونت في النصوص المصرية؛ فإننا نجد في الكشوف الأوغاريتية
دعمًا واضحًا لما قلنا، حيث نجد البعل في الملاحم الأوغاريتية ينجب ولدًا مقدسًا يحمل
اسمًا فصيحًا، هو «الإله بونت» على ساحل المتوسط الشامي وليس في الصومال.
٨ وأن «بونت» أنجب الإله «صيدون» الاسم المعلوم للمدينة الرائدة على الساحل
المعروفة باسم صيدا. وتاريخ ديانات المنطقة يفيدنا بأن أسماء المدن أسماء معبودات تعود
إلى آلهةٍ أسطورية أسستها، ولعل أشهرها عبادة مدينة «بيت إيل» في فلسطين؛ فقد عبد
الآراميون والإسرائيليون إلهًا باسم «بيت إيل»،
٩ كما عبدوا إيل نفسه رب المدينة، مما يشير إلى تقديسٍ لبعض المواضع، ورفعها
إلى رتبة القداسة، وتتم عبادتها كآلهة. وهو ما يفسر تقديس المصريين لبلاد بونت، ووصفها
بأنها أرض الإله. وفي «تدمر» كان يكنى عن اسم الإله «بونت»، ولا يلفظ اسمه ويشار إليه
بأنه «ذلك الذي اسمه ممجد إلى الأبد»،
١٠ وهو تقليدٌ مصري بالأساس؛ حيث كان المصريون لا يذكرون الإله أوزيريس باسمه
بل بالإشارة إليه، ولا يبيحون نطق اسمه إجلالًا له، كذلك الإله سيت كانوا لا يذكرون
اسمه؛ دفعًا لشريته ولحضوره السحري، وحتى اليوم يشير المصري إلى الشخص الشرير ﺑ
«المخفي»، و«اللي ما يتسماش»، ويكني عن المرض والموت بالقول: «الشر بره وبعيد»، إبعادًا
لحضوره بعملية إقصاءٍ لفظي سحري، وهو الأمر الذي تكرر بعد ذلك في العقيدة اليهودية،
التي كانت تشير لربها بفعل الكينونة «يكون» أو الإشارة بضمير الغائب المذكر «هو» أو
«يهوه». أما الأشد دلالة هنا؛ فهو أن نعثر في أوغاريت على الإله باسم «المُهلك».
١١ وهو ما يذكرنا بالمهلك الإلهي الإسرائيلي لأبكار مصر ليلة الخروج، ثم
يستدعي ذلك وصف التوراة لربها بذات صفات الإله طيفون/سيت رب الأوبئة؛ إذ تقول: «قدامه
ذهب الوباء وعند رجليه خرجت الحمى» (حبقوق، ٣: ٥)، ويبدو لنا أن المهلك هذا كان البعل
حداد على التحديد، حيث تنسب إليه نصوص رافدية ذات الوظائف، التي مارسها المهلك يهوه
التوراتي في مصر، من تدميرٍ للزرع والخضرة وكل مظاهر الخصب. وهو ما نقرؤه في نصوص الملك
الآشوري «أدد نيراري الأول/ق ١٣ق.م.» يستدعي قدرات أدد على أعدائه قائلًا:
ليقهره أدد «حداد/هدد» بشؤبوب مدمر، ولتستمر في أرضه الفيضانات والعاصفة
والتشوش والاضطراب، والحاجة والعوز والجفاف والجوع، وليأتِ على أرضه مثل
الطوفان، جاعلًا منها خرائب وأنقاضًا، وليخرب أدد أرضه بالبرق المدمر، وليسلط
عليه الجوع.
١٢
وكما كان بعل حداد يوصف بأنه إله رعد وريح وبرق وصاعقة، ووصف في الملاحم الأوغاريتية
باللغة الحورية الكارية بأنه «راكب السحب»، وأنه «يعطي رعده ويرسل ضياءه إلى الأرض بروقًا»؛
١٣ فإن يهوه العبري يوصف في الكتاب المقدس بأنه «الجاعل السحب مركبته، الماشي
على أجنحة الريح» (مزامير، ٣: ١٠٤).
ويقول لنا المهتمون بالمصريات القديمة، إنه في عصر الدولة الحديثة المعروفة بدولة
الإمبراطورية، انتشرت في مصر عبادات سامية الأصل. فمثلًا تم تكريس الحي الشرقي من مدينة
رعمسيس للإلهة السامية عشتروت، حسبما علمنا من قصيدة تصف تلك المدينة (سبق ذكرها بالجزء
الأول)، كما شيد للبعل عدة معابد. وكان رمسيس الثاني عابدًا متبتلًا للإلهة السامية
«عناة»، زوجة البعل ولقبها بعلات. وكذلك أنشأ معبدًا للإلهة «أشيرة». أما «بعلات صافون»
زوجة «بعل صافون» فقد حازت على شعبيةٍ واسعة، ووصلت من حدود الدلتا لتعبد في منف، إلى
جوار آلهتها المصرية العريقة.
١٤
وهنا نستمع إلى عالم المصريات «ياروسلاف» وهو يقول: «إن المصريين قد رأوا في الآلهة
المشابهة ذات الطابع الحربي أو القتالي (وهي صفات بعل وزوجته عناة [المؤلف]) في فلسطين
وسوريا إلههم ست … وهناك رواية أعطيت فيها الأرض السوداء أي مصر إلى حورس، بينما أعطيت
الأرض الحمراء أي البلاد الأجنبية إلى ست … وفي عصر الدولة الحديثة تعرفوا على عددٍ
عظيم من آلهة وإلهات المدن المسماة بعل
Ba’al — سيد في
اللغة السامية — وبعلات
Ba’ala أي سيدة. ومن المناطق
التي أُخضعت جُلب العديد من الأسرى إلى مصر،
واستقروا بها كرقيق. وأتبع ذلك التدفق الاختياري للمهاجرين والصناع والجنود. جلبوا معهم
جميعًا عبادات آلهتهم المحلية … ولقد أضحى ضربًا من المودة عند المصريين تقليد النمط
الآسيوي في العادات؛ فالكلمات السامية تطرقت إلى اللغة المصرية، ومع هذه الكلمات عقائد
الآلهة الأجنبية للوافدين الجدد، من بعل وبعلاتوميكال
MIKAL ورشب
RESHEP أو إرشوب
ERSHOP وعبادة الإلهات عشتار
ASTARTE وعناة
ANAT و قادش
KADESH وكسرت
KESRET
وأخريات. وفي رأس الشمراء — أوغاريت — بسوريا كرست لوحة من ميمي
MIMI إلى بعل
زيفون
BA’AL ZEPHON أو بعل الشمال. ولقد كان
مركز عبادة الآلهة السورية في مصر هي منطقة منف؛ ففي الأسرة الثامنة عشرة كان حيٌّ من
المدينة يسمى حي الحيثيين، وربما كان ذلك الحي هو الذي ذكره هيرودوت فيما بعد تحت اسم
معسكر التيرانيين
CAMP OF THE TYRIANS، باعتبار
أنه مستقر أو مقر الإلهة إفروديت الأجنبية أي عشتار غير المصرية. وهناك بردية مصرية
تعدد أسماء بعلات وقادش وعنات وبعل وزيفون. ويبدو أن رمسيس الثاني كان متعبدًا متحمسًا
لعناة، فضلًا عن أنه أطلق اسم عناة على فرسه، وكذلك أطلق على ابنته المفضلة اسم
بنت عناة
BINT-ANAT، وكان رمسيس الثاني
محبوب حورون
BE LOVEED OF HAURON، وهو إله سامي
نعلم القليل جدًّا عنه، حتى في موطنه الأصلي بآسيا.»
١٥
ومن جانبه يحيطنا «شيفمان» علمًا أنه «كانت عبادة الإله الكنعاني الآموري بعل صفون،
وهو الأوغاريتي بعلو الجبار، منتشرة في مصر في منتصف الألف الأول قبل الميلاد. وهذا ما
تؤكده التوراة (تكوين، ١٤: ٢–٩؛ والعدد، ٣٣: ٧)، والبردي الفينيقي الذي وصلنا من مصر.
ويعود تاريخه إلى القرن السادس قبل الميلاد.»
١٦ ثم يضيف «وإلى زمنٍ متأخر أكثر — بداية حكم الأسرة التاسعة عشرة أي بداية
من القرن الثالث عشر قبل الميلاد — يعود الرسم النافر للكاتب المصري «مايمي» (سبق ذكره
عند ياروسلاف باسم ميمي [المؤلف])، الذي وجد مشوهًا جدًّا في معبد بعلو. وكان مايمي هذا
رئيس الخزانة لدى الملك المصري، ولعب في أوغاريت دور ممثل الإدارة المصرية. وتحوي
الكتابة التي ترافق النصب إياه إهداء إلى الإله المحلي، الأرجح إلى بعلو … لقد نفذ هذا
الرسم الكاتب في وضعية المصلي رافعًا يديه، أمام إله واقف يرتدي قلنسوة عالية فوق رأسه
… أما صورة الإله؛ فهي تقابل الرسم المصري للإله السوري سيت بعلو.»
١٧
وهنا يجب ألا ننسى مسألة الحي الحيثي في منف، حيث ستكشف لنا الفصول المقبلة أنه كان
بقايا لجاليةٍ هكسوسية، وأن نتذكر قلنسوة من يسمى «مايمي أو ميمي» العالية، فلها دور
شارح لغوامضٍ ستأتي في مكانها من هذا البحث. أما دمج
شيفمان للإلهين سيت وبعل معًا في التعبير «سيت بعلو»، فهو ما يعني أن المصريين
والسوريين قد تكونت لدى كليهما فكرة واحدة عن إله واحد، أسماه السوريون بعلًا وأسماه
المصريون ست، وبينما رأى فيه السوريون ربًّا للخصب، فقد ركز المصريون على جوانبه
السلبية كربٍّ للحرب والدمار، وسعيًا وراء التيقن من هذا الدمج بين سيت وحداد بعل
صافون، نقرأ المعاهدة التي تمت بين المصريين والحيثيين زمن رعمسيس الثاني، لنجد
الابتهالات تقدم إلى «سيت السماء» و«سيت حاتي»، أي سيت بلاد الحيثيين أي بعل الحيثي،
وإلى «سيت حلب» أي إلى بعل حلب، مع طائفة ألقاب تتفق مع ألقاب الحيثيين لرب
العاصفة.
ثم نجد ذات الدمج في قصيدة تخلد انتصار الفرعون رمسيس الثاني في موقعة قادشن؛ إذ نجد
بيتًا من الشعر يقول:
يهتف أعداء الفرعون
ليس إنسانًا هذا الذي بيننا
بل هو سيت عظيم القوة
والغريب أن الحيثيين الذين عاشوا في بلاد تركيا القديمة، كانوا قريبين
في تصورهم لرب العاصفة تيشوب/بعل/ست من تصورات المصريين؛ فمعظم النصب الحيثية تصور إله
العاصفة بمظاهر قتالية متسلحًا بهراوة أو فأس راكبًا عربة حربية، وقليلًا ما تشير إلى
أية صفات إخصابية.
١٩ وهو ما يعني لدينا تأثرًا أكثر من جانب الحيثيين بالتصورات المصرية، رغم
هذا البعد الشاسع جغرافيًّا، وهو ما سيجد مبرراته في الفصول القادمة التي تتحدث عن
الحيثيين تفصيلًا.
ومعلومٌ أن أكمل القصص التي وصلتنا عن إله الشر المصري سيت، قد جاءت ضمن رواية
بلوتارك اليوناني لأسطورة أوزيريس رب الخير، وصراعه مع سيت رب الشر. وبعد مقتل أوزيريس
على يد ست، يستمر الصراع يقوده حور أو حورس ابن
أوزيريس، انتقامًا لأبيه من عمه الشرير سيت، لينتهي الصراع بهزيمة سيت الشرير على يد
حور، يقول بلوتارك:
وبعد أن هزمه حورس … هرب ست من المعركة راكبًا على حمار، واستغرقت رحلته سبعة
أيام على ظهر الحمار … فكان لاستعمال ست للحمار ولغباء الحمير ولونهم الأحمر،
أن انتسب الحمير إلى تيفون (تيفون الاسم اليوناني للإله سيت [المؤلف]) وكان ذلك
سببًا في كره المصريين لهم في عقيدتهم؛ لذلك لقبوا أوخوس أقسى ملوك الفرس
وأشرهم (هو أرتكسيركسيس الثالث [المؤلف])، لتعسفه وشدة ظلمه بالحمار، فكان رده
على المصريين: إن هذا الحمار سيحتفل بأكل عجلكم. أما القائلون بأن رحلة ست في
هربه كانت سبعة أيام على ظهر حمار ونجاته، وأنه أصبح أبًا لهيروسوليموس HIEROSOLYMOS ويودابوس JUDAEOS، فهؤلاء كانوا يريدون أن يدخلوا
التقاليد الإسرائيلية في الخرافة المصرية … فالواقع إذن أن المصريين بعد أن
عرفوا بني إسرائيل … ألحقوهم بأبناءٍ من أب هو ست إله الشر والشيطان، الإله
العدو في عقيدتهم … وأصبح بنو إسرائيل في مصر أولادًا للإله ست، الذي يسميه
اليونانيون تيفون.
أي إنهم ينحدرون من أصلٍ شرير. جعل منه المصريون رمزًا لكل الحيوانات
والنباتات الضارة والبحر المالح والحوادث المفجعة … وهيروسوليموس وياهو دايوس
هما آباء العبرانيين اليهود.
٢٠
وهكذا ردد بلوتارك ما يؤيد ما قلناه حول أحد صور التجلي للإله سيت في
هيئة الحمار واللون الأحمر، وكان اللون الأحمر رمزًا على الجدب، كما كان علامة على بلاد
آدوم وسيناء وسكانهما، ونسبة الإسرائيليين إلى ذلك الإله تشير إلى لونٍ من القرابة
تربطهم بقبائل آدوم، وسبق لنا أن شرحناها وأكدناها. ولعله من الواضح هذا أن هيروسوليموس
هي «أورشليم»، وأن «ياهودايوس» هي اليهودية أو يهوذا، مما يؤدي إلى التباس الإسرائيلي
بالهكسوسي، وهو ما يتأكد دومًا بشكلٍ مستمر منذ بداية هذا البحث، فنجد الإسرائيليين هنا
أبناء للشرير ست الذي سبق واختاره الهكسوس ربًّا خاصًّا لهم إبان احتلالهم لمصر.
هنا يفيدنا شيفمان المتخصص في أركيولوجيا أوغاريت أن بعلو الجبار الذي هو حداد/هدد
وهو زوج الإلهة «هبات»
٢١ ربة العاصفة التي تهب، والتي سبق وأشرنا إليها كربة في بلاد آدوم من الاسم
«هفا» أي «هوا» أو الهواء في صيغة المؤنث «هبات»، وكانت تُعبد في مصر باسم «هيبات»، ثم
نعلم من جانبٍ آخر أن الإله الحيثي «تيشوب» كانت له زوجة تحمل ذات الاسم «هبات» أو «حبات»،
٢٢ وتيشوب هو رب العاصفة بدوره، هو البعل. وفي وثيقة معاهدة الصلح المصرية
الحيثية نجد الابتهال إلى «ست حلب» و«هبا حلب»،
٢٣ و«هبا» هنا مذكر «هبات»، وست حلب هو بعل حلب، مما يعني أن ست/تيشوب/بعل
حداد طيفون/رب العاصفة أو «الهوا» هو «هبا» زوج «هبات» أو «هوا» زوج «هوات»، وعلى ذات
التنغيم يأتينا اسم الرب الإسرائيلي «يهوه»، الذي فسره فلهاوزن بأنه يعني «يهب» من هبوب
الهواء والريح؛ إضافة للتفسير الآخر أنه من فعل الكينونة «يكون».
أما اسم ذلك الإله الأشهر حداد أو هداد أو هدد، فنجده اسمًا لأحد أبناء إسماعيل
(الكتاب المقدس، سفر أخبار الأيام الأول، ١: ٣٠)، ثم الأكثر إدهاشًا والتقاءً مع
كشوفنا، أن نجد اسم ذلك الإله قد تسمى به ملوك بلاد آدوم تيمنًا، ولدينا منهم على الأقل
ثلاثة: الأول هو هداد بن بداد (تكوين، ٢٦: ٣٥)، والثاني هو هداد الذي عاصر زمن جدعون
الإسرائيلي (تكوين، ٢٦: ٢٩)، وأما الثالث فهو هدد وريث العرش الآدومي الذي هرب إلى مصر
وتزوج أخت الملكة تحفنيس، عندما احتل الملك الإسرائيلي سليمان بلاده، في قصة سبق
وأسلفناها (انظر سفر ملوك أول، ١١: ١٤).
وملمحٌ آخر يؤكد التطابق بين يهوه وبين رب العاصفة، فنحن نجد وصفًا اعتياديًّا للإله
في التوراة، بأنه رب الجنود/ إيل صبأوت في العبرية (سفر الخروج، ١٥: ٣؛ وصموئيل أول،
١٧: ٤٥) مع وصفٍ آخر يقول: «الرب رجل حرب»، وهي صفات البعل حداد/سيت/تيشوب/هفا، لكنا
نعثر على ما يكاد يكون تطابقًا نصيًّا في نصٍّ جاء بمكتبة أوغاريت عن الإله رشب، وهو
بدوره تسمية بعلية لرب العاصفة، ويقول النص حسب ترجمة شيفمان: «إله الحرب صاحب السهام
راشابو الجنود.»
٢٤ ولا معنى لهذا الكلام إلا إذا كان حرف الشين زيادة في اسم الإله المحارب
«راشابو»، تم إهمالها في النطق بعد ذلك ليصبح النص تمامًا توراتيًّا؛ لأنه سيصبح «إله
الحرب صاحب السهام رب الجنود».
وحول اسم رب البحار الإله «يم» أو «يمو»، وهو أحد أبطال ملحمة البعل الأوغاريتية،
يعقب شيفمان بالقول: «إن يمو سُمي أيضًا يافو، الذي يقارنه بعضهم باسم الإله البيروتي
يفو والتوراتي يهو.»
٢٥
وفي بحثه عن خط سير رحلة الخروج الإسرائيلي من مصر، يقول «بيير مونتييه» إن اسم
الموقع الوارد في التوراة باسم بعل صافون بمصر، كان يقع عند قمة جبل مونس كاسيوس، على
شاطئ المتوسط إلى الشرق من الفرما، وهي تسمية إغريقية للجبل، تحمل اسم إله يوناني، أدمج
بالإله بعل صافون هو كاسيوس ومعناه «الكاسي»، وأن موضع بعل صافون يقع تحديدًا عند قمة
ساحل بحيرة البردويل الآن بشبه جزيرة سيناء.
٢٦