الفصل السابع
لغز أرام النحاسية
لكنا حتى الآن لم نجب إجابة دقيقة على السؤال: من هم شعب إرم الوارد في لوحات
حتشبسوت، كاسم لشعبٍ كان يعيش في بلاد بونت؟ إن محاولة الإجابة على هذا السؤال بحد
ذاتها، ستعطينًا دليلًا آخر وداعمًا آخر لكل دقائق وتفاصيل بلاد بونت، التي لم تصبح
الآن بلادًا غامضة، بل نظن أننا قد تمكنا من رسم لوحة كبيرة واضحة التفاصيل والدقائق،
جمعناها من شواردٍ شتى لنؤكد بها صحة نظريتنا، التي ستزداد مع البحث عن شعب إرم استقامة
وثباتًا ورسوخًا.
وإبان ذلك سيتأكد لنا أن العرب قد عاشوا بهذا الاسم (عرب) في محيط سيناء وشمالي
الحجاز في أزمنتهم الغابرة، قبل ظهور مملكة أحفادهم الأنباط في البتراء بأزمان، وأنه
من
تلك المنطقة هبط أولئك الذين أعطوا شبه الجزيرة اسمها «العربية»، وهو ما ستفصح عنه أكثر
الفصول المقبلة، كما سنرى اللغة العربية وهي تولد أيضًا هناك، لتأخذ خط تطورها الخطي
مع
«شعب إرم» ثم الأنباط من بعد.
أما الذي سيضيف إلى رصيدنا في البحث وراء شعب إرم البونتي، فهو مزيد من التوضيح
والإضاءة لوجود شعب زنجي في هذه المنطقة من العالم، ذلك الشعب الذي كان ظهوره في لوحات
حتشبسوت، مدعاة للمدارس التقليدية لوضع بلاد بونت على الساحل الصومالي.
ونعود إلى «الأخلامو» أو «الأحلاف»، وهو الاصطلاح الذي أطلقه سكان الرافدين على ذلك
الشعب المعروف بالشعب الآرامي، وقد ذهب المؤرخون إلى أن الأراميين قد ظهروا في بوادي
الشام حوالي ١١٠٠ق.م. وبعضهم أعمق في التاريخ قرنًا آخر، فقالوا بظهورهم حوالي ١٢٠٠ق.م.
ومن تهوَّر قال بظهورهم حوالي ١٤٠٠ق.م. لكن ليس قبل ذلك مطلقًا. وقد علمنا ببداية
تواجدهم من بقايا المدن التي أنشئُوها، وأعادها الباحثون إلى تلك التآريخ، والتي انتشرت
في بلاد الشام حتى أقصاه الشمالي. ومنها ممالك أصبحنا نعرف أسمائها مثل: مملكة بيت
جباري أو سمعل وبيت أديني وقرقميش وأرباد، وأنطاكية وحلب وقادش العاصي وحماة وتدمر
ودمشق. هذا إضافة لمدنٍ أخرى ذكرها المقدس التوراتي، ولم تفصح الأرض بعد عن آثارها، مثل
فدان آرام معكة وأرام نهرين وأرام صوبه، والأخيرتان تأتيان عادةً على التبادل، مما يشير
إلى احتمال أنهما كانتا مملكة واحدة.
ويقول لنا المؤرخون: إنهم عند ظهورهم في المنطقة، أزاحوا منها جنسًا عريقًا قديمًا،
كان يستوطن تلك الأماكن منذ الألف الثالث قبل الميلاد. وهو الجنس الذي عرف التاريخ
أصحابه باسم الأموريين، وبعد أن أزاحوا الأموريين استوطنوا أماكنهم في وادي العاصي
والفرات الأعلى، رغم أن الأراميين ظلوا ممالك صغيرة متشظية، وأخفقوا في إقامة أي وحدة
بينهم فيما يذهب المؤرخون، والأغرب أن التراث اللغوي والثقافي الآرامي الوافد الجديد،
قد ساد المنطقة (كيف؟ لا يقولون لنا؟!) بل وتجاوز الأمر ذلك إلى أن لغتهم أصبحت فجأة
ودون إنذار هي اللغة السائدة في المنطقة، بل ونجدها دون مقدمات هي لغة التخاطب
الدبلوماسي بين عواصم الدول الكبرى في المنطقة، ذات الحضارات العريقة السامقة، مثل مصر
وآشور وبابل وبلاد تركيا الحيثية ودول المدن في فلسطين والشام (كيف؟ أيضًا لا يقولون
لنا أية إجابة، وعلينا أن نستسلم ونسلم فقط: هذا ما أمكن معرفته، وفقط هذا ما قد
حدث؟!)
ونستمر نتابع أهل التاريخ، فيقولون لنا إن اللغة الآرامية، تطورت عنها لغات أخرى في
خطوط فرعية أهمها الكنعانية (رغم أن الكنعانية وفق حساباتهم هي الأقدم لتزمينهم وصول
الكنعانيين فلسطين في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد) والنبطية، وأن الآرامية ربما
سبقت وربما لحقت اللغة الكارية الحورية، فبينهما تشابه أصيل يشير إلى وحدةٍ قديمة، وعن
الآراميين أخذ الإسرائيليون خطهم المربع، أما النبطية فقد تطورت حتى أصبحت خط اللغة
العربية، التي نعرفها في خط شمالي الجزيرة ولغة قريش وخطها بعد ذلك.
وتلخص لنا موسوعة تاريخ العالم أمر اللغة الآرامية وأصحابها الآراميين في قولها:
أصبح الآراميون هم التجار الدوليين في العالم، منذ القرن العاشر حتى القرن
الرابع ق.م. وأصبحت لغتهم هي اللغة الدولية في غرب آسيا … ومعظم الآداب الدينية
اليهودية والمسيحية «السريانية» مكتوبة باللغة الآرامية.
ومن جانبٍ آخر نقف نستمع للباحث «فليكوفسكي» يقول: «إن العلماء قدروا أن وصول
الحوريين للمنطقة، كان فجرًا لحضارةٍ جديدة، وأنهم كانوا قوةً هائلة ومنتشرة انتشارًا
واسعًا، ما بين أرمينيا حتى جنوبي فلسطين والمتوسط، وشرقًا حتى فارس.» ثم يعقب يائسًا:
«واللغة الحورية تبدو كلغةٍ بلا شعب، فلا هي سامية ولا هي هندوآرية.»
١ أما نحن فقد قلنا وأعدنا وزدنا حول الاندماج الجنوب جزيري مع الحامي مع
الكوشي مع الهندوآري في وادي عربة، والذي لا ريب قد أنتج هذه اللغة التي حيرت الأفهام،
لغة الحوريين الكارية، اللغة الأم للساميات فيما نريد تأكيده.
إلا أن الموسوعة تلمح من طرفٍ خفي وحذر، إلى أن ظهورهم المفاجئ جاء نتيجة طرد الهكسوس
من مصر سنة ١٥٨٠ق.م. لكنها تلتوي ولا تقول صراحة ولو بصيغة الاحتمال والظن: إن
الآراميين الذين ظهروا في النصف الثاني من الألف الثاني قبل الميلاد في بوادي الشام،
ربما كانوا من الهكسوس الذين طُردوا من مصر، إنها متشككة فتسوق قولًا، يحتمل الالتباس
المقصود نتيجة عدم اليقين.
لكن الكل يغمض عينيه تمامًا عما جاء في نصوص سرجون الأكدي حوالي ٢٤٥٠–٢٣٥٠ق.م. من
إشاراتٍ واضحة لآرام، والتي لم تكن الإشارات الوحيدة اليتيمة حتى يمكن التغاضي عنها،
بل
تكررت مثل هذه الإشارات، لكن لأن التاريخ علم مهيب رزين لا يعرف المجازفات، فقد عقب
المؤرخ العراقي المرموق «طه باقر» يقول: «من المستبعد أن يكون للموضع الوارد بهيئة
أرامي
ARAMI، وأسماء بعض الأعلام على هيئة
أرامو
ARAMU، صلة بالآراميين، بالنظر إلى قدم
العهد؛ لذلك يرجح أن يكون ذلك مجرد تشابه لفظي، ولا يُعرف على وجه التأكيد معنى الكلمة
أرامي، على أنه قيل في أرام وإرم — ولعل الكلمة الواردة في القرآن (يقصد إرم ذات العماد
التي لم يخلق مثلها في البلاد [المؤلف]) لها صلة بالآراميين — أنها تعني النجد أو الهضبة.»
٢ ورغم أن معنى النجد أو الهضبة يدخل في معنى الصخرة، ورغم أن معنى إرم في
الآرامية هو الصخرة على وجه التدقيق، فإن «باقر» لم يلمح حتى إليه، ربما لأنه رآه بلا
معنًى (فماذا تعني الصخرة؟!) لأنه لم يكن يعلم ما كشفناه عن علاقة الآراميين بالبتراء،
لكن قارئي يرى الآن أي معنًى معناه؟
ومثل «باقر» عقبت موسوعة تاريخ العالم على ورود إشارات للآراميين في ذلك العهد البعيد
القدم بقولها:
حوالي ٢٤٥٠–٢٣٥٠ قاد سرجون ملك أكاد، ونارام سين، حملات حربية إلى شمال
سورية، والإشارة إلى أرام في نقوش هذين الملكين تدعو إلى الحيرة.
أما حسب منظومتنا التي ننسجها هنا يكون مفهومًا أن تتحدث نصوص سرجون ونرام سين عن
الآراميين قبل الألف الثاني للميلاد؛ لأنهم إذا كانوا هم الهكسوس كما ألمحت الموسوعة،
فلا شك أنهم لم يسقطوا على مصر من السماء، إنما كانوا موجودين بالمنطقة قبل دخولهم مصر،
وأنهم قضوا فترةً زمنية كافية تسمح لهم بتكوين قوة مقتدرة، تمكنهم من احتلال كبرى دول
المنطقة.
وفي نصٍّ بسفر صموئيل حكاية تعني ما نحاول قوله هنا وإيضاحه بل وإثباته، والنص حكاية
عن الأسلاب التي غنمها الملك الإسرائيلي داود، بعد أن هاجم جميع الدول التي تجاوره من
الشرق ومن الجنوب، يقول النص:
وهذه أيضًا قدسها الملك داود للرب من الفضة والذهب الذي قدسه، من جميع الشعوب
الذين أخضعهم؛ من أرام ومن مؤاب ومن بني عمون ومن الفلسطينيين ومن
عماليق.
(صموئيل الثاني، ٨: ١١، ١٢)
وعجبنا هنا من عدم ذكر آدوم في نصٍّ يعدد بالحصر جيران مملكة داوود من الشرق والجنوب،
وعدنا نقلب صفحات المقدس نبحث عن تعليل، فوجدنا ذات الإشارة تتكرر بعد ذلك في سفر أخبار
الأيام الأول، بل بذات الكلمات لم يتغير غير كلمة واحدة، لم يلتفت الكاتب إلى اختلافها
عن النص الأول، بحسبان أنه كان يعلمهما كلمة واحدة ومعنًى واحدًا وإن اختلفتا، والنص
يقول:
هذه أيضًا قدسها الملك داود للرب مع الفضة والذهب الذي أخذه من كل الأمم، من
آدوم ومن مؤاب ومن بني عمون ومن الفلسطينيين ومن عماليق.
(أخبار الأيام الأول، ١٨: ١١)
وهنا جاءت آدوم بديلًا عن أرام، بل وفي ذات مكانها من النص، مع عدم تغيير يذكر فيما
عدا ذلك، ولمزيدٍ من التأكيد نستنطق المحرر التوراتي: هل كان يعلم أن أرام بالفعل هي
آدوم، أو حتى إن الآدومي هو بطن من البطون الآرامية، ومرات ومرات كدأبنا طوال بحثنا
نقلب أسفار الكتاب المقدس، فنعثر على نصين آخرين حدث معهما ذات ما حدث مع النصين
السالفين. محرر كتب هذا ومحرر كتب ذاك، لكنهما كانا يتفقان على أن ما اختلف بينهما من
أسماءٍ، ليس إلا أسماء لشعبٍ واحد، يقول النص الأول:
ونصب داود تذكارًا عند رجوعه من ضربه ثمانية عشر ألفًا من أرام في وادي
الملح، وجعل في آدوم محافظين، ووضع محافظين في آدوم كلها، وكان جميع الآدوميين
عبيدًا لداود.
(صموئيل الثاني، ٨: ١٣، ١٤)
أما النص الثاني الذي دونه محرر أخبار الأيام، فيغير فقط كلمة واحدة هي «آرام»
الواردة في أول النص، ويستبدلها بكلمة آدوم، انظر:
ضرب من آدوم في وادي الملح ثمانية عشر ألفًا، وجعل في آدوم محافظين، فصار
جميع الآدوميين عبيدًا لداود.
(أخبار أيام أول، ١٨: ١٢، ١٣)
واضح إذن أن التوراة تتحدث عن أرام باعتبارها آدوم، ولمزيدٍ من حسن الطالع لنا، أن
التوراة تذكر الموضع الجغرافي لأرام في النص الأول، فهي تقع في وادي الملح، الذي يقع
جنوبي بحر الملح «البحر الميت» حيث تقوم دولة آدوم.
هل يمكن أن نجد المزيد لتدعيم معمارنا هذا؟
في الكتاب المقدس نصٌّ آخر لا يحمل لبسًا، يؤدي إلى المعنى الذي نقوله هنا، والنص
يؤكد أن ميناء «أيلة» الآدومي على العقبة كان ميناء أراميا، والنص يحكي عن تعاصر الملك
اليهوذي «أحاز» مع الملك «رصين» ملك آرام دون تحديد أي أرام يقصدها، بين مدنٍ كثيرة
عددها لنا عند حديثه عن أرام فيما سبق، كقوله أرام معكة وأرام بيت رحوب وأرام صوبا
وفدان أرام … إلخ. يبدو لنا أنه قصد بالفعل أرام بعينها لا تحتاج تحديدًا، يكفي أن يقال
بشأنها أرام، أرام مركزية لا تحتاج توضيحًا، ثم يحكي النص أن رصين هذا قد تحالف مع
مملكة إسرائيل الشمالية، مع ملكها فقح بن رمليا، ضد أحاز ملك يهوذا، فالنص يقول:
كان أحاز ابن عشرين سنة حين ملك، وملك ستة عشرة سنة في أورشليم، ولم يعمل
المستقيم في عيني الرب … حينئذٍ صعد رصين ملك أرام وفقح بن رمليا ملك إسرائيل
إلى أورشليم للمحاربة، فحاصروا أحاز ولم يقدروا أن يغلبوه، في ذلك الوقت أرجع
رصين ملك أرام أيلة للأراميين وطرد اليهود من أيلة.
(ملوك ثاني، ١٦: ٢، ٦، ٥)
رصين ملك أرام غير المحددة ولا المعرفة، استرجع مدينة أيلة — الواقعة على خليج العقبة
الآن باسم إيلات — من يد مملكة يهوذا الجنوبية، حيث يبدو أن إيلة خضعت ليهوذا منذ زمن
سليمان، لكنه هنا لم يسترجعها لآدوم بل للآراميين، الواقع أن رصين كان ملكًا آدوميًّا
تتبعه ميناء أيلة، التي كانت مستلبة من بلاده منذ زمن، فتمكن من استعادتها لآدوم أو
أرام، النص كما هو واضح لا يرى هنا أي فرق بين الآدوميين والآراميين.
لكنا هنا ندفع بالأمر دفعة أخرى، فنتابع أرام هذه المعلومة والمعروفة ولا تحتاج
تعريفًا، تلك التي وردت في مواضع أخرى بالكتاب المقدس باسم «أرام صوبا»، التي لم يتم
التعرف في علم التاريخ على مكانها حتى الآن، رغم علمنا باسمها من مصادر أخرى غير الكتاب
المقدس. فيفيدنا «طه باقر» — مشكورًا — أنها لا بد واقعة في الأنحاء الجنوبية من بلاد
الشام، وقد خرج بهذه النتيجة من دراسة النصوص الرافدية القديمة، التي تحدثت عن أرام
صوبة، لكن أقصى جنوب وصل إليه هو البقاع جنوبي زحلة بلبنان، فموضعها هناك.
٣
معقبًا بالقول: «والمرجح أن مدينة صوبا هي المذكورة في المصادر الكلاسيكية الرومانية
باسم خلسيس.»
٤
وبهذا الشأن يقول الباحث الفارس «فراس السواح»: «فيما يتعلق بمملكة صوبا، احتار
الباحثون بشأن موقعها وحدودها، وخرجوا باستنتاجاتٍ واهية، من شأنها خلق صورة مضخمة عن
هذه المملكة، والباحث هاليفي يقول: إن صوبة هي تحريف لكلمة صهوبة، التي تعني بريق الذهب
أو النحاس … ومن المرجح أن صوبة كانت تشمل الأراضي الممتدة إلى الشمال الغربي من دمشق
…
وقد سار بقية الباحثين على منوال هليفي، ويقول واين بيتار في كتابه «دمشق في العصور
القديمة» ما يلي: في أيام داود كانت مملكة صوبة أقوى وأهم دولة في وسط وجنوب سوريا،
وخصمًا عنيدًا للمملكة الإسرائيلية الجديدة. أما عن موقع هذه الدولة وحدودها، فإن معظم
الباحثين يضعونها اليوم في البقاع الشمالي، مع امتداداتٍ نحو الشرق تصل إلى سهول حمص
وتتجاوزها حتى البادية.»
ويتابع السواح: «لقد ورد اسم صوبة لأول مرة في سفر صموئيل الأول، الذي يذكر أن الملك
شاول قد ضرب ملوك صوبة، وحارب جميع أعدائه حواليه، موآب وعمون وآدوم وملوك صوبة
والفلسطينيين (صموئيل أول، ١٤: ٤٧)، وهذا يعني أن صوبة منطقة جغرافية، وليست مملكة، وأن
الملوك المذكورين هنا ليسوا سوى مشايخ قبائل، نظرًا للإشارة إليهم بصيغة الجمع، ولكننا
في عصر داود نجد صوبة، فجأة وبعد عدة سنوات، عبارة عن مملكة يحكمها ملك واحد اسمه حدد
عزر.»
ثم يضيف: «ولم تتوفر لدينا من منطقة البقاع الشمالي حتى الآن أية لُقًى أثرية، يمكن
أن تشير إلى وجود هذه المملكة أو عاصمتها.»
ويستمر مشيرًا إلى ما جاء في الكتاب المقدس في عبارةٍ مبهمة وملتبسة تقول: «فجاء
أرام
دمشق لنجدة هدد عزر»، ويعقب عليها بالقول: «ويستنتج المؤرخون من هذه الإشارة أن مدينة
دمشق كانت في ذلك الوقت تابعة لهدد عزر ملك صوبة»، «وفي المعركة مع أرام صوبه يقول
النص: إن «هدد عزر قد أبرز أرام الذي في عبر النهر، فأتوا إلى حيلام وأمامهم سوبك رئيس
جيش هدد عزر، ويبني المؤرخون على هذا الخبر أن ملك صوبة كانت له سلطة غير مباشرة على
الدويلات الآرامية القائمة عند الفرات.»
٥
الأمر بهذا الشكل لا يلتقي أبدًا مع مملكة تقع في البقاع الشمالي، إنما يلتقي مع
بلاد
آدوم التقاءً واضحًا؛ لأن «خلسيس» التي أطلقها المؤرخون اليونان على مملكة صوبا هي
«كلسيس»، التي أطلقها المؤرخون اليونان على مملكة صوبا، تلتقي مع بلاد آدوم التقاءً
واضحًا؛ لأن «خلسيس» هي «كلسيس» و«كلسيس» تعني «النحاس». والكلمة صوبة نفسها هي صهوبة
هي بريق النحاس، كما أفادنا السواح منذ قليل، وهو ما يستدعي مناجم نحاس تمنة في آدوم.
أما صوبة فلا نشك أنها بقايا باهتة من المملكة الآودمية الكبرى، في حالة نزعها الأخير
بين المد والجزر، وإن «صوبا» ليست سوى تنويع لهجوي للكلمة «سبأ»، فأرام صوبا هي «أرام
سبأ» على التخصيص. وإذا كانت النصوص التوراتية قد أطلقت على الجنس الأسود اسم «كوش»،
فإن النصوص المصرية أطلقت عليه ذات الاسم مع اسمٍ آخر هو «نحاسي»، وكان الحد الذي أقامه
سنوسرت الثالث لمنع سكان الجنوب المصري السود الكوشيين من عبور الحدود المصرية
الجنوبية، قد ذكر كالتالي: «الحد الجنوبي الذي أُقيم في العام الثامن … لمنع أي «نحاسي»
من المرور شمالًا.»
٦ أما الذي يلتقي معنا هنا، وما أكثر ما التقانا، فهو أن نجد لقب «نحاسي» في
بردية تورين، لقبًا لأسرةٍ من الأسرات الهكسوسية إبان الاحتلال «النحاسيون».
٧
ثم لا يغيب عنا معبد روعة الروائع طوال الوقت، فتستوقفنا في تقريره عبارة تؤكد أن
رئيس بعثة حتشبسوت إلى بلاد بونت حمل لقبًا أو اسمًا أو صفة هي «نحاسي»؟! … لقد أرسلت
حتشبسوت في رئاسة بعثتها ترجمانًا من ذات الجنس، يعرف لغة البلاد التي ارتحل
إليها.
أما البليغ فهو التعقيب الهيروغليفي المكتوب أمام رسوم الصف الأول في لوحات حتشبسوت،
وفي الصف الأول في بلاد بونت يقف الملك، ويقول الشرح المكتوب: «عظيم عظماء إرم».
٨
ثم لا يدهشنا أبدًا قول جيمس العابر، الذي لا يعبر علينا دون تدقيق، وهو يقول: «لما
أصبحت مصر تحت حكم الهكسوس لم يبقَ لها قوة في النوبة، وانتهزت بعض القبائل المغيرة
الفرصة وتسربت إلى النوبة، وكانت تجمع بين الجنس الحامي والجنس الزنجي … واستطاعت تلك
القبائل أن تكون دولة مستقلة عاصمتها بوهن … وعقدوا حلفًا مع الهكسوس … ويعزز هذا
التقارب رسالة الملك الهسكوسي أبوفيس إلى الملك الكوشي جنوبًا، حيث يبدأ رسالته بلفظة:
ولدي.»
٩
وإذا كانت الكلمة «ن ح س و NEHSU»، تعني الزنوج
السود، فإن جذرها «نحس» والنحاس في العربية بفتح النون هو: ضرب من الصفر والآنية شديدة
الحمرة، وهو بضم النون دخان أسود لا لهب فيه، ومنها نحش في العبرية، وهي حنش أي ثعبان
في العربية! … لقد جمعت لنا كلمة واحدة في اللغة، حفريات معاني قديمة عن الجنسين الأسود
والأحمر من الناس، وثعبان شجر البخور.
والإله المصري القديم «أبيب»، ويُنطق بالتصريف اليوناني «أبو فيس»، تسمى باسمه بعض
ملوك الهكسوس القادمين من بلاد التين والبخور، وكان المصريون يرسمون أبيب في صورة حية
متلوية، تحمل في كل طية من جسمها مدية ماضية، وتصوروها تكمن لإله الشمس مع شياطينها عند
المغيب، وقد وصفت النصوص المصرية تلك الشياطين التابعة للحية بأنها «شياطين سوداء وحمراء».
١٠ وهو إشارة واضحة لسكان آدوم من الجنسين الأسود والأحمر، كذلك نجد كلمة
«النوبة» التي أطلقها المصريون على بلاد كوش الجنوبية تحمل عددًا من المعاني، من الجذر
«ن ب»، فهو في المصرية القديمة يدل على عددٍ من المعاني: كل ما ارتفع من الأرض وهو صفة
بلاد آدوم، كما يعني أيضًا الذهب، واللهب الأحمر، وفي العربية تتبادل اللام والذال
المعجمة، التي تنطق في ذهب «دهب» لتصبح لهب.
وفي العربية تلتقي نحاس ونحاسي، والنحس والنحاس أصلًا في المصرية القديمة، هو العبد
الأسود «الزنجي/الكوشي»، ثم تطورت لتصبح النخاس الدالة على تاجر العبيد.
وتعود العين لتجول في مدون «تجلات بليزر الأول»، ملك آشور الذي سبق وأوردناه، ويتحدث
فيه عن غزوه لإقليم باسم مصري، الذي عرفناه إقليم أدوم وسيناء، لنقرأ المدون مدققين
فنجده يقول: إنه قد «دحر هناك القبائل الآرامية.»
١١
ثم نقلب مرة أخرى ما سبق وسجلناه للفرعون «آمنحتب الثاني»، وتدميره لشمس آدوم، وعودته
من تلك الحملة بعدد ١٥٠٧٠ من الأسرة النجاسو،
١٢ وقد اعتبرت كلمة النجاسو ذات دلالة غير معلومة لنا الآن، على شعبٍ مجهول،
أو طائفة بعينها لا نعلمها، فهل يمكن الآن القول إننا نعلم من هم النجاسو، في ضوء غزوة
أخرى لذات الموضع الذي عاش فيه النحاسو؟ ثم يورد لنا طه باقر أهم المنتجات التي وصلت
الملك الآشوري (آشور ناصر بال الثاني ٨٨٣–٨٥٩ق.م.)، بعد أن اكتسح البلاد الآرامية
والآمورية، حتى وصل «البحر العظيم بحر الأموريين»، وهو إما البحر الأبيض أو البحر
الأحمر، وقد عددت سجلات هذا العاهل الآشوري أهم السلع التي وصلته من ذلك المكان
كالتالي:
تضمنت الجزية الذهب والفضة والقصدير والنحاس وأنسجة الكتان … وقردة صغيرة
وكبيرة، والعاج والأخشاب النفيسة مثل الأبنوس والبقس … إضافة إلى ذلك الحيوانات
الوحشية … والنباتات الغريبة …
١٣
ولا تعقيب لدينا هنا سوى سؤال: أليست تلك ذات صادرات بلاد بونت في لوحات حتشبسوت؟
لا
يَنِي تقرير بعثة حتشبسوت يضيء المنطقة أمامنا، وتنفك ألغازها مع ترميزاته في خطو
بحثنا، فنعرف شعبًا من بين شعبين مجهولين، وشعوب أخرى، كانوا يعيشون في بلاد بونت،
أحدهما أحمر والآخر أسود، لنسمع سليم حسن يردد فقرة من تقرير علماء حملة حتشبسوت في نقش
يقول:
السياحة إلى الوطن والوصول بسلام، إن السياحة إلى طيبة قد قام بها بقلب فرح
جنود رب الأرضيين، ورؤساء هذه الأرض بونت، وقد أحضروا معهم أشياء لم يحضرها من
قبل أي ملك.
ثم يقرأ سليم حسن أسماء الشعوب هناك ليقول لنا تعقيبًا على الرسوم:
ويلي هذا مشاهدة رئيس أرام ورئيس نميو، وهما قبيلتان غير معروفتين من بلاد بونت.
١٤
لكنا نعتقد أننا قد أصبحنا نعرف القبيلة الحمراء الآدومية التي تعود إلى أصولٍ
آرامية، وكانت تعرف باسمها «أرام» منذ زمن قديم؛ بدليل وروده في سجلات رحلة حتشبسوت إلى
بلاد بونت الآدومية الآرامية. كذلك أصبحنا نعرف شعب «نميو»، فالواو جمع ومفردها «ن. م.
ى»، وهي بالقلب ي. م. ن، فشعب «نميو» هو القادم إلى بلاد آدوم/بونت من جنوبي الجزيرة،
نميو/اليمن.
ولمزيدٍ من التأكد حول كون مملكة سبأ في آدوم هي المملكة، التي جاءت إليها إشارات
التوراة باسم مملكة صوبة، نتابع المؤرخين وهم يحصون الدويلات الآرامية، التي تأسست على
أطراف كنعان/فلسطين في القول: «إن الدويلات الآرامية التي تأسست على أطراف كنعان … هي
موآب والعمونيين وآدوم وملوك صوبة.»
١٥ وتأتي صوبة هنا ملحقة بآدوم على التجاور مع موآب وعمون، الواقعتين شرقي
البحر الميت ونهر الأردن، ونعلم من مصدرٍ آخر أن تلك الإمارات الآرامية الجنوبية، قد
تحالفت مع إمارات شمالية مثل مملكتَي صور وصيدا، لمواجهة هجوم آشوري محتمل، وضد عميل
الآشوريين في المنطقة، وهو ملك دويلة يهوذا، وأن هذا التحالف قد ضم «سمس ملكة العرب …
وآدوم انضمت للتحالف، وبقيت يهوذا وحدها غير راغبة في الانضمام.» المهم هنا ألا تفوتنا
الإشارة إلى «سمس» ملكة العرب، لنربطها بأصول العرب جميعًا التي تعود إلى النابتيين أو
الأنباط، سكان وادي عربة الذي غطى باسمه مساحات شاسعة للجنس، الذي حمل بعد ذلك اسم العرب.
١٦
ويسوق «فهمي خشمي» رأيًا للأستاذ «عبد الحق فاضل»، ويصفه بأنه «رأيٌ لطيف» حول كلمة
عربي وكلمة أرمي، وأنهما كلمة واحدة سواء في الدلالة التي تشير إلى بلادٍ صخرية، وفي
اللفظ حيث يمكن تبادل العين في «عربي» والهمزة في «أرمي»، كذلك الباء والميم من جهة
أخرى، وهو ما يعني أن كلمة «عربي» كانت في فجرها تنطق «أرمي»، وباختصار فالعربي هو
الأرمي، ويضرب لذلك مثالًا بتبادل الباء والميم في كلمة «مكة»، التي أوردها القرآن
بلفظها هذا، ثم أوردها أيضًا «بكة».
١٧
ثم يحدثنا «مراد كامل» و«محمد البكري» عن أول ظهور عربي صريح لمملكةٍ عربية في تدمر،
التي تقع إلى الشمال الشرقي من بلاد آدوم، ونعتبرها من جانبنا الامتداد الطبيعي للمملكة
التجارية الآدومية، فيقول:
ظهرت تدمر بهذا الاسم في بداية الألف الثاني ق.م. وكان أهلها في البداية من
الكنعانيين، ثم سكنها جماعة من البدو من أشراف الأراميين، … تمر بها طرق
التجارة … وقد قضى أورليان على استقلالها عام ٢٧٣م في عهد زنوبية زوجة أذينة …
خلف التدمريون العديد من الآثار منها معبد بعل، ووُجِدت في هذا المعبد أشكال
لنساءٍ محجبات … وكانت اللغة المستخدمة في تدمر هي الآرامية، أما القرارات
العامة فدونت باليونانية والآرامية … أما عن مملكة النبط فقد شملت الرقعة التي
شغلتها بعض الممالك، التي ظهرت قديمًا منذ القرن الثالث عشر قبل الميلاد، وهي
آدوم وموآب وعمون وجلعاد، وكانت هذه كلها كنعانية وآرامية، وأول ظهور الأنباط
كان في القرن السادس ق.م. كقبائل بدوية عربية، وكان ملوكهم بني الحارث، وأكثر
أسماء الأعلام الواردة في نقوشهم عربية، مثل حارثة ومالك ومليكة وجذيمة وكليب
ووائل ومغير وقصي وعدي وعميرة ويعمر وكعب ومغن وسعد ومسعود ووهب الله وتيم الله.»
١٨ ونستكمل من مصدرٍ آخر يقول: «واتخذوا البتراء عاصمة لهم … وتدخلت
روما في شئون هذه الدولة حتى قضى عليها عام ١٠٦م القائد الروماني كورلينوس
بالما نائب تراجان في سوريا … واستخدم الأنباط اللغة الآرامية، وفي منتصف القرن
الأول ق.م. أصبح للأنباط خط مميز ذو شكل معروف، حتى إن الأحرف العربية أخذت من
الحروف النبطية، ومن الآلهة التي عبدها الأنباط ذو الشرى واللات ومناة والعزى
وهبل واتراجاتيس وعبادة الأفعى.
١٩
ويتابع العبقري الفذ اللمعة «علي فهمي خشيم» دراسته المتميزة في المقارنة اللغوية
بين
الهيروغليفية والعربية، لتصلنا منه الكلمة المصرية القديمة «إ
أب
IAB» وتعني الشرق، كما تعني اليسار؛ لأن المصري كان يوجه وجهه عند
تحديد الاتجاهات الأصلية إلى منبع النيل مصدر الحياة (الجنوب)، ومن ثم فإلى اليسار يكون
الشرق وإلى اليمين يكون الغرب، ويرى أن الهمزة الأولى من إأب مبدلة من العين، وذلك مثل
«ك أب = كعب، إن ق = عنق، ج م أ = جمع»، وهو ما أحاطنا به إمبير
EMPER، ثم إن العربية أيضًا تبدل العين همزة كما في أربان وعربان
«اللسان مادة أرب». أما الهمزة الثانية فهي مبدلة من الراء، فالأستاذ إمبير يقدم لنا
معجمًا لمفرداتٍ طويلة أبدلت فيها الهمزة المصرية براءٍ عربية، وذلك مثل: ب أ ك = برك،
ش أ ع = شرع، ح أ م = حرم، وأ ح = ورخ (القمر)، ع أ ب = عرب، ومن ثم فإن إ = ع، أ = ر
ومعنا باء أصيلة، وهو ما يعني أن إ أب
IAB= عرب، وهي
كلمة تفيد الشرق.
٢٠ وهذا يعني من وجهة نظرنا الإشارة إلى وادي عربة تحديدًا الذي يقع شرقي مصر،
أما التوراة فاعتادت إطلاق تسمية «بني المشرق» على العرب.
وهنا ننبه بوضوح أن كلمة عرب، التي كانت تعني عند المصري القديم الشرق، لا تؤدي
المعنى الذي نفهمه منها اليوم عن الجنس والقومية؛ لأن الحس القومي لم يبرز عند قبائل
الجزيرة إلا عشية ظهور الإسلام، أما قبل ذلك فكان فيما يؤكده لنا «جواد علي» هو:
البداوة والقفر والجفاف، ويستمر قائلًا: «بمعنى البداوة والأعرابية إذن وردت لفظة العرب
في اللغة العبرية ولغات سامية أخرى، مثلما هو الحال في سفر إشعيا وسفر إرميا من العهد
القديم، وقد وجد الباحثون أول نص ذكر فيه العرب، هو نص آشوري من أيام شلمنا صر الثالث
أو الثاني ملك آشور، والمقصود باللفظة إمارة أو مشيخة يتزعمها رجل بلقب ملك اسمه
«جنديبو …/جندب …». واختلف العلماء في قراءة الاسم الثاني لهذا الملك، وكان واضحًا أنه
لقب له هذا ما بين ARIBI, ARBI, URBI, ARABU, ARIBU
التي تعني بوضوح الكلمة «العربي».
وقد وردت في الكتابات البابلية كلمة ماتوأربي MATU-A-RABI أي أرض العرب، وفي نقش برستون لدار الأكبر بالإخمينية جاءت
لفظة أربايا «عربية ARABAYA»، كذلك جاءت في العيلامية،
وفي المواقع الأرامة كان هناك موضع باسم بيت
عرباية BETH ARABAYA، وأول مرة ورد فيها ذكر العرب لدى الكتاب اليونانيين كانت عند
إسخليوس ٥٢٥–٤٥٦ق.م. ثم هيرودوت ٤٨٤–٤٢٥ق.م.
وكان معنى البداوة هو المقصود عند الحديث عن العرب … ويذكر استرابون أن كلمة
أرمبي
EREMBI تعني عربًا عند البعض، ولعلها تحريف
لكلمة
ARABI.
٢١
أما نحن فنتساءل: هل كانت كلمة أرمبي تحريفًا لكلمة عربي، أم أنها كانت حفرية لغوية
تعيش حتى زمن استرابون منذ كان العربي أرمي أو أرامي؟ لكن ما لا يفوت فطن أنه إلى الشرق
من بلاد آدوم، قامت بعد تلك الأحداث إمارة عربية استمدت اسمها من التاريخ القديم هي
مملكة «الحيرة» الحورية، وفي موسوعة تاريخ العالم نجد محاولة لحصر الممالك الآرامية في
أعالي الرافدين، فتذكر لنا: بيت معكة وبيت أدين أو أديني (أي بيت عدن [المؤلف])، وجوزان
(تل حلف الآن) وجرجوم (مرعش حاليًّا)، وسامعل التي كانت تحمل قبل ذلك اسمًا هو: ياودي،
ثم أعيد تسميتها باسم سمعل أو بيت جباري نسبة لمنشئها، وتقول الموسوعة إن مكانها الحالي
هو سنجرلي، وكان من ملوكها حيان بن جبار وشاءول أو ساولم، ونلاحظ أن مواضع تلك الممالك
جميعًا تقع في محيط المنطقة المزعومة، كمكانٍ موضعوا فيه بلاد ميتاني الحورية
المركزية.
الملاحظة الأولى أن اسم حيان بن جبار الذي ملك على مملكة سامعل أو ياودي، يحيل إحالة
قوية إلى أشهر ملوك إمبراطورية الهكسوس الذي عرفناه باسم «خيان».
الأمر الثاني والهام والغريب، أن الكتاب المقدس رغم زيادته وتكراره وتعديده للدويلات
الآرامية، بحيث ذكر دولًا لم يتم الكشف عنها إلى الآن، فإنه لم يعرف مدنًا آرامية كشفت
عنها الآثار. نعم ذكر بعض المدن التي كشفت عنها الآثار مثل بيت أديني أو بيت عدن كما
في
قوله: «وأقطع الساكن في بقعة آون وماسك القضيب من بيت عدن وينفي شعب أرام إلى قير»
(عاموس، ١: ٤، ٥)، لكنه لم يذكر مدينة شديدة الأهمية، جاء ذكرها في المصادر الرافدية
باسم «سمعل»، وهي ذاتها التي ذُكرت على التبادل مع اسمٍ آخر هو «ياودي»، وأن من ملوكها
كان «شاءول» الذي يرد على التبادل مع «ساولم»؛ فهل حقًّا لم تعرف التوراة مملكة سامعل
أو ياودي وملكها شاءول أو ساولم؟
إن ما يبدو لنا أن مملكة سامعل هذه قد قصد بها جماعة بشرية بعينها، لكن هذه الجماعة
لم تعش أبدًا في شمالي الرافدين عند سنجرلي، إنما جنوبًا في دولةٍ أرام صوبا أو أرام
سبأ الآدومية، وأنها كانت تمتد لتتصل بمملكةٍ أخرى تقع إلى الشمال منها، جاء اسمها
ياودي مشيرًا بوضوحٍ إلى اسم اليهودية أي مملكة يهوذا، خاصة أن تلك المملكة قد جاء
ذكرها مصحوبًا باسم شاءُول وساولم، وهما في رأينا اسمان يستقل كل منهما عن الآخر؛
فالأول هو شاول أول ملك لمملكة إسرائيل الموحدة، أما الثاني فهو أشهر ملوك تلك المملكة
ساولم/سليمان. وإن الخلط الذي حدث بين اليهودية وسامعل، أو الإسرائيليين والإسماعيليين
له تبريره التاريخي فيما أسلفنا، وفيما سيأتي ناصعًا في حينه وفي موضعه من هذا
البحث.
وتشير المادة التاريخية المكتشفة في المدونات الرافدية إلى إقليمٍ وُصف بأنه آرامي،
وأنه كان يحمل اسم لاق، وأنه كان تابعًا لمملكة بيت عدن،
٢٢ وهو ما يستدعي اسم العمالقة واحتمالًا آخر للتسمية، فبإضافة «عم» بمعنى شعب
أو أبناء إلى «لاق» تصبح «عملاق».
هكذا يمكن استنتاج أن الآراميين هم الشعب الذي حمل صفة الجنس الأحمر في بلاد آدوم،
بكافة بطونه المذكورة آنفًا، فكان هو الأم الجامعة، وهو الشعب الذي ظهر في نقوش رحلة
حتشبسوت إلى بلاد بونت، إلى جوار جنس آخر يختلف عنه تمامًا، جنسًا زنجيًّا نحاسيًّا،
وموطنه معلوم بالمستودع الأفريقي على الساحل الأفريقي المقابل لليمن، والذي وصل آدوم
بصحبة القادمين من جنوب الجزيرة إلى الشمال، في شكل مستعمرات تجارية استقرت شمال غربي
جزيرة العرب.
وكان طبيعيًّا أن تتزاوج الثقافات كما تزاوجت الأجناس، فتظهر اللغة الحورية التي
ظلت
مشكلة ولغزًا بلا حل، في أصلها، وأصحابها، وأنها لغة تحمل سمات مشتركة بين السامية
والهندوآرية والحامية، وهي الإشكاليات التي انسحبت على جنس الهكسوس، وانقسام علم
التاريخ حوله إلى رأيين يرفض كل منهما التنازل الآخر. الأول يقول إن أصلهم سامي من
جزيرة العرب، والثاني يرى أن أصلهم هندوآري بلا جدال، وكل لديه حججه وبراهينه. أما
المشكل حقًّا الذي ظل مستعصيًا على الفهم ناهيك عن الحل، فهو إشارات الكتاب المقدس إلى
وجود الجنس الزنجي الكوشي بكثافة ضخمة في مناطق جنوبي إسرائيل بالنقب وسيناء وآدوم.
كذلك أشارت إليه الكتابات التاريخية الإغريقية الكلاسيكية باعتباره من سكان شرقي
المتوسط، وقالت إن Kissians يسكنون شرقي المتوسط، وتعني
الكوشيين، ثم جاء بطلميوس المؤرخ ليؤكد من جانبه أن
Kossaeans كانوا يتموضعون في تلك المنطقة، وتم
إهمال تلك الإشارات لاستحالتها التاريخية. لقد كان وجود الأفارقة بكثافة كجنس يسكن
مواضع ما شرقي المتوسط مشكلة إما مهملة أو لغزًا يطلب حلًّا.
ومثال للحلول المتسرعة والسهلة ذلك الحل الذي اعتمد على أن الكتابات التاريخية
والدينية، التي كانت تتحدث عن منطقة شرقي سيناء وجنوب فلسطين، كانت تبدأ الحديث عن
العمالقة لتنتهي إلى الكوشيين، فاعتبرت العمالقة هم الكوشيين، لكن ذلك الربط السريع وقف
حائرًا ما بين الأصل السامي والأصل الهندوآري، بذلك رأت تلك الحلول العَجْلى أن هناك
عمالقة كاسيين أو كاشيين جاءوا من الشمال الأسيوي، من عند أعالي الرافدين، وأن هناك
عمالقة كوشيين زنوجًا جنوبيين، ذاك هندوآري وهذا سامي، وذلك كما في قول «غطاس الخشبة»:
«والأصل في الجبابرة: العمالقة من الناس … طائفتان: العمالقة الكوشيون وكانوا يقطنون
أعالي دجلة والفرات بين النهرين، وهم من نسل نمرود ابن كوش بن حام بن نوح، وهؤلاء كان
البابليون القدماء يسمونهم ماليق، ثم تفرقوا في أنحاء العراق وجزيرة العرب، ثم العمالقة
السوريون من نسل عوص بن أرام بن سام بن نوح، وهؤلاء هم الأخص عند العرب باسم العماليق،
وكانوا يقطنون أرض قادش جنوب فلسطين.»
٢٣
وفي هيرودوت خبر يذكر حادثة إرسال قمبيز الفارسي رسلًا إلى أثيوبيا، وعودة هؤلاء
الرسل بالوصف التالي للشعب الأثيوبي:
إن الأثيوبيين الذين ذهب إليهم أولئك السفراء، أطول الناس في العالم كله
وأكثرهم أناقة، كما أنهم يختلفون عن سائر البشر في عاداتهم خصوصًا الطريقة التي
يختارون بها ملوكهم، فهم يبحثون عن أطول رجل بين جميع المواطنين، على شرط أن
تتناسب قوته مع طوله، ثم يعينونه ملكًا يحكم عليهم.»
٢٤ والغريب أن ذلك المبدأ ذاته هو ما عملت به مملكة إسرائيل الموحدة
من بعد، انظر مثلًا تولية أول ملك إسرائيل باسم «شاول»، وسر اختياره ملكًا
«شاول شاب وحسن، ولم يكن في بني إسرائيل أحسن منه، من كتفه فما فوق كان أطول من
كل الشعب».
(صموئيل أول، ٩: ٢)
أما أن نجد في الآثار الهكسوسية مفردات لغوية حامية، ومفردات من أصول هندوآرية،
ومفردات سامية، ثم أسماء أعلام من تلك اللغات المتباعدة، فكان بدوره مشكلة مؤرقة مستمرة
غير محلولة؛ لذلك رأى فريق أن الهكسوس جاءوا من براري آسيا استنادًا إلى الهندوآرية،
وأن محطتهم الأولى كانت حول محيط بحر قزوين، ومن هناك انحدروا جنوبًا على الشرق الأوسط،
أما الفريق الآخر فيراهم عربًا أقحاحًا قدموا من هجرة كبرى من جزيرة العرب، حتى أصبح
الساميون أنفسهم كعرق وكلغة محل تضارب شديد، فتأتي بهم جلة محترمة من المؤرخين، من
المستودع الصحراوي الكبير في جزيرة العرب، بينما تأتي بهم جماعة أخرى من المؤرخين، لا
تقل احترامًا من بلاد أرمينيا حول بحر قزوين.
وإعمالًا لذلك نجد لدينا مذهبًا يرى شبه جزيرة العرب مهدًا أولًا لكل الشعوب السامية،
ويمثله شبرنجر
Sprenger وشرادر
Schrader،
٢٥ والعلامة كيتاني
Coetani الذي يرى أن كل
حضارات الهلال الخصيب من العراق إلى الشام الكبير إلى ساحل المتوسط الشرقي حضارات
سامية، حدثت نتيجة نزوح الفائض من بدو جزيرة العرب إلى الشام، ويؤيد كيتاني في مذهبه
العلامة موسكاتي. وبعض أصحاب هذا المذهب يفترض أن جزيرة العرب كانت في زمنٍ موغل في
القدم أكثر خصوبة ثم أصابها الجفاف، مما أدى إلى هجرة سكانها إلى وديان الأنهار والسهول
الشمالية في الشام والعراق، إلا أن موسكاتي نفسه يرفض مثل تلك التعقيدات التي ليس عليها
شواهد علمية، بل إن تلك الشواهد تؤكد أنه إذا كانت مثل هذه التغيرات الطبيعية الكبرى
قد
حدثت، فكانت قبل فجر التاريخ بقرونٍ طويلة، وربما تعود إلى أبعد من عشرين ألف عام قبل
الميلاد. وتأسيسًا عليه فإن مثل تلك الافتراضات خاطئة تمامًا، بمقاييس الأنثروبولوجيا
الطبيعية والجغرافيا الجنسية.
٢٦
وعلى الخط الآخر النقيض تمامًا نجد اتجاهًا آخر، يأتي بالجنس السامي من أرمينيا
بالاستناد إلى ترميزات الكتاب المقدس، الذي يعيد الأصول البشرية السامية إلى
أرفكشاد
Arpachsad(تكوين، ١٠: ٢٢–٢٤)، وهو اللقب
التاريخي لبلدة
Arrapachitis المسماة اليوم البك
Albak بأرمينيا الحالية، مع ترميزاتٍ أخرى تشير بالكتاب
المقدس إلى بداية الأصول البشرية من نوح، والترميزة هنا تقول إن السفينة النوحية قد رست
على جبلٍ باسم أرارات، وما زال هذا الجبل بنفس الاسم يقع بأرمينيا عند بحيرة فان
بالمحيط الجنوبي لبحر قزوين … وهو ما يعني مجيء السامي والهندوآري من موطنٍ واحد، هو
بلاد أرمينيا القديمة.
٢٧
وقد انسحب ذلك التناقض حول الأصول على الشعب الآرامي، فرغم الأصل الاسمي الواضح
للآراميين، حيث أرم = أرب التي تحيل إلى «أرب – خيتيس» أو أرابخيتيس في أرمينيا، وحيث
عثر هناك على كتاباتٍ باللغة الآرامية القديمة، وحيث لم تزل توجد جماعات هناك تتكلم
الآرامية القديمة حتى اليوم، ناهيك عن اسم أرمينيا نفسه كشاهد على موطن الآراميين،
فإننا نجد عالمًا حجة مثل كريلنج يلتبس عليه الاختلاط الجنسي الناتج حسب نظريتنا عن
التقاء شعوب آدوم في أحلاف أو أخلامو، وما نتج عنه من اختلاط ثقافات ولغات، فيؤكد سامية
الشعب الآرامي حتى إنه يعيدهم إلى بلاد نجد بجزيرة العرب، ويأخذ من المدونات التاريخية
اسمهم القبلي الذي اشتهروا به وهو سوتي، وهو ما رأيناه ليس دلالة مكانية جغرافية، إنما
نسبة للإله «سيت» المصري.
٢٨ أما «دي بنسومير
Du Pont-Sommer» فيرى أنه
ليس هناك أي دليل وثائقي حقيقي، يقطع بموطن الآراميين الأصلي.
٢٩
والمعلوم أن منطقة فلسطين ومحيطها عمومًا ومنطقة آدوم بشكلٍ خاص وبلاد الشام بشكلٍ
أعم، قد تعايشت فيها أجناس عديدة ولغات مختلفة، لم تنصهر معًا إلا بعد مرور وقت كافٍ،
وانتهينا إلى القول بسيادة اللغة الكارية بسيادة الآرامية المتطورة، وهو الأمر الذي
كثيرًا ما حدث في التاريخ، وقد نبه لويس عوض إلى مثل ذلك بقوله: «إنه في الشعوب
المستقرة تتعايش اللغات داخل القومية الواحدة، وتتعايش الأجناس والسلالات داخل القومية
الواحدة، بل وتتعايش الأديان داخل القومية الواحدة.»
٣٠
والقومية الواحدة في حال نضوجها تصاحبها دولة مركزية واحدة، وهو بالضبط ما نظنه قد
حدث في آدوم ومدينتها الرائدة (الصخرة)، وأنها لم تكن فقط مجرد دولة مركزية، بل كانت
مركزًا رئيسيًّا لإمبراطورية عظمى، امتدت من المحيط الهندي جنوبًا حتى تركيا شمالًا،
ومن العراق شرقًا حتى حدود مصر الليبية غربًا، وشملت ضمن ما شملت جزر البحر المتوسط،
وهي الإمبراطورية التي أطلق المصريون على زعمائها اسم الهكسوس، وكما يفسر لنا كيف خضعت
مصر لسيادتهم، فهم لم يكووا شراذم بدوية كما يصورهم علم التاريخ، بقدر ما كانوا قوة لها
مركزها التأسيسي الجغرافي، لقد كانوا إمبراطورية تجارية كبرى، تليق باحتلال بلد عظيم
كمصر.
ووفق هذا الطرح يمكن تفسير السر في التضارب الهائل في إثنيات سكان فلسطين وآدوم
وسيناء وتعدد أعراقهم ولغاتهم، ذلك التضارب الذي نعلمه من وثائق علم التاريخ ومن الكتاب
المقدس معًا، وهو التضارب الذي لحق بمحاولة البحث عن الأصول الآرامية، فالآراميين عند
البعض قادمون من الشمال الأرميني، وعند البعض الآخر أنهم جاءوا من جزيرة العرب، لكن ما
نعلمه الآن بعدما قدمنا وأعدنا وزدنا، أن المنطقة قد حوت عددًا من الأجناس، أبرزه
الأسود الزنجي القادم عبر مضيق باب المندب والبحر الأحمر، بادئًا بالتواصل مع سكان جنوب
الجزيرة «سبأ»، ثم ممتدًّا معهم حتى معان المصرية، ليلتقي في وادي عربة بالآري القادم
من الشمال الآرامي ممثلًا في الآراميين الهندوآريين، لتقوى المملكة التجارية ويستفحل
شأنها في حلف الأخلامو، وتنضم إليها ممالك المنطقة تكسبًا، أو تخضع لها بالقوة، ليصلوا
أوج قوتهم في جيوشٍ هائلة في أحلاف تكتسح المنطقة وتقيم فيها إمبراطورية كبرى، حتى وصل
الائتلاف حدًّا تعلم معه أنه قد تم تنصيب أحد مشايخ أو ملوك تلك الأحلاف، حاكمًا على
بلاد بابل يُعرف باسم «نمرود»، وأن نمرود هذا كان كوشيًّا زنجيًّا أسود.
٣١
لقد بدأت آدوم مركزًا لتجمع شراذم من الشمال ومن الجنوب طلبًا للرزق التجاري، عبر
تواصل المركز مع محطات الأطراف، في المساحة الشاسعة الواقعة ما بين أرارات شمالًا
واليمن جنوبًا، لتتوحد في النهاية في بلاد آدوم، وتشكل تيارًا جارفًا، يضم تحت جناحيه
المنطقة جميعًا في الإمبراطورية التي أسمى المصريون أصحابها بالهكسوس.
وإن ترتيبنا للأحداث على هذا النحو يفسر لنا سر الاعتقاد الطريف، لكنه الراسخ لدى
الأحباش الزنوج اليوم، فهم يعتقدون جازمين، وهو اعتقاد يدخل في عداد الإيمان الديني،
أنهم أبناء لرجلٍ أبيض هو منليك، ومنليك هو ابن الملك الإسرائيلي سليمان، نتيجة علاقة
جسدية له مع ملكة سبأ، وقد كانت تلك القصة تدخل في عداد الأساطير، لعدم إمكان هذا
التواصل أصلًا، حيث كان معقتدًا أن سبأ قامت فقط في الجنوب اليمني، ثم تم رفض تحقيق
القصة تمامًا؛ لأنه ما العلاقة بين فلسطين والإسرائيليين وبين الجنس الحبشي الأسود؟ لكن
في ضوء ما قدمنا تصبح القصة مفهومة، فلا يفرق الأحباش بين أصولهم البعيدة وبين سبأ في
الجوار عبر المندب. كانا حلفًا متوحدًا قطن شمالًا عند العقبة بجوار مملكة سليمان،
وهناك كان بالإمكان حدوث لقاء أو تحالف تاريخي، تم الترميز له بعلاقة سليمان بالملكة
«سبأ». وتقول القصة الحبشية أن منليك هذا، قد أصبح السلف البعيد لسلسلةٍ من الأباطرة
الأكابر، حكموا إمبراطورية كبرى، ثم تضاءل ملكهم مع الأيام حتى اقتصر على بلاد الحبشة،
وأنه من هذا النسل العظيم كان الإمبراطور هيلاسلاسي آخر أباطرة الحبشة، الذي لقب نفسه
بلقب ينسبه إلى جنسه الأبيض البعيد، فحمل لقب «أسد يهوذا». لقد حملت القصة في ترميزها
أصولًا كشفنا عنها في تزاوج النحسي الكوشي والقحطاني أو اليقطاني اليمني الجنوب جزيري
مع الشعب الهندوآري القادم من أرمينيا، وتقيم الشعوب الثلاث مع التهجين المصري الحامي
في بلاد صخرة الشرق الإمبراطوري في آدوم، ليترك اجتماعها بصمته في التوراة، وهي تؤكد
أن
أجناس البشر الأوائل كانوا ثلاثًا: «حام وسام ويافث»، وأنهم كانوا يجتمعون في مكانٍ
واحد تفرقوا منه بعد ذلك على سطح البسيطة.
ومن جانبها كانت التوراة تؤكد طوال الوقت على الأصل الآرامي للقبيلة الإبراهيمية،
ممثلة في آبائها الأوائل الأباعد، وتردد: «آراميًّا تائهًا كان أبي»، لكنها وضعت في
مصهر التاريخ الجنسين العربي والعبري، فأعادت كليهما إلى أبٍ واحد هو عابر، حتى حملت
الأسماء ذلك التلازم على الوجهين بالتبادل الميتانيزي؛ لأن عبري بالقلب هي عربي، وبذلك
وضعتهما في بوتقةٍ واحدة، كان سببه ومكانه الدولة المركزية الكبرى في بلاد آدوم،
الملتقى التجاري والجغرافي للجهات الأصلية الأربع.
ثم تأتي الكشوف الأركيولوجية لتؤكد صلة الشعب الإسرائيلي الإبراهيمي العبري بالقبائل
الآرامية، في النصوص التي اكتُشفت في مدينة ماري الآرامية القديمة، فيقول لنا
كاسيدوفسكي: «إن أسماء المدن المذكورة في النصوص تلك: ناحور، تارحي، ساروج، تاليكي،
تتشابه مع أسماء أقارب إبراهيم، زد على ذلك أن هذه النصوص تتحدث عن قبائل أبام رام،
ويعقوب إربل، وعن قبيلة تدعى بنيامين … ومما لا ريب فيه أن إبراهيم نفسه وحفيده يعقوب
وأصغر أبناء هذا الأخير بنيامين، لهم علاقة مباشرة بأسماء هذه القبائل.»
٣٢
وفي زمن أحدث، حدثت هجرات يهوذية إلى مصر، إبان الحروب التي خاضتها دولة يهوذا مع
جيرانها، وأقام المهاجرون لأنفسهم جيتو خاصًّا في ألفنتين عند أسوان بجنوبي مصر، وهنا
يعقب باحث مهتم على الوثائق التي تركتها الجالية اليهودية في جنوبي مصر بقوله:
من العسير معرفة الآرامي من اليهوذي، فبعض الأشخاص اعتبروا أنفسهم تارة
آراميين وتارة أخرى يهوذيين، وخاصة في البرديات المدونة في عصرٍ مبكر، ومن
هؤلاء محيسة بن يدينة، فقد ذكر في بعض البرديات أنه آرامي من أسوان، وفي برديات
أخرى أنه يهوذي من ألفنتين (ألفنتين جزيرة بأسوان [المؤلف])، كذلك مسلم بن
زكور، ذكر في بعض البرديات أنه آرامي من أسوان، وفي برديات أخرى أنه يهوذي من
ألفنتين، وأيضًا عنتي بن حجي بن مسلم، ذكر في إحدى الوثائق أنه آرامي من
ألفنتين، وفي وثيقةٍ أخرى أنه يهوذي.
٣٣
وهنا نستعيد أبيات المتنبي عن «شعب بوان» مرة أخرى وهي تقول:
يقول بشعب بوَّان حصاني
أعن هذا يُسار إلى الطعان
أبوكم آدم سن المعاصي
وعلمكم مفارقة الجنان
وقد قيل في تفسير تلك الأبيات، أنه كان يصف موضعًا في بلاد فارس، باسم «شعب بوان»،
ونحن نعلم أن بلاد بوان أو بونت/آدوم، قد جمعت في دولتها
الهندوآري فارسي الأصل مع الكوشي الزنجي المنبت مع
الجنوب جزيري. ثم لنتذكر المناسبة الخاصة التي قال فيها المتنبي شعره هذا؛ فقد غضب من
سيف الدولة الحمداني عندما أهمل قدره، فتركه مغاضبًا، وذهب إلى مصر يمتدح حاكمها آنذاك
كافور الإخشيدي، لكنه لقي هناك ما هو أسوأ، فخرج من مصر عائدًا إلى الشام مصالحًا سيف
الدولة ومغاضبًا لكافور، وألقى بين يدي سيف الدولة تلك القصيدة التي يذكر فيها موضعًا
مر عليه في رحلته من مصر إلى الشام، موضعًا تلتقي فيه بقايا ألسن قديمة متعددة مختلفة،
وبقايا أجناس متباعدة، تعبر عنها أبيات أخرى بالقصيدة تقول:
مغاني الشعب طيبًا في المغاني
بمنزلة الربيع من الزمان
ولكن الفتى العربي فيها
غريب الوجه واليد واللسان
ملاعب جنة لو سار فيها
سليمان لسار بترجمان
وألقى الشرق منها في ثيابي
دنانيرًا تفر من البنان
وقصد بالدنانير التي تفر من البنان، ضوء الشمس المتسلل داخل أيك شعب بوان، ليطبع
على
ثيابه ما يشبه الدنانير، لكنها تفر من اليد، وهو ما دفع سيف الدولة ليقول له مع عطائه
إعجابًا بشعره: «والله لأقرنها في يدك؛ يقصد الدنانير.»
٣٤
إن ما يمكن فهمه من هذا أن شعب بوان حتى زمن المتنبي كان جنة، كان لم يزل أيكًا
وغيضًا، وكان يحمل اسمه القديم بوان أو بونت، وكان ما زال يجمع بقايا الأخلامو الذين
لو
سار فيهم سليمان، على قدرته الأسطورية في فهم اللغات، ومحادثة كل الكائنات، لاحتاج هناك
إلى ترجمان، هذا إذا لم نكن قد أخطأنا في تحديد موقع شعب «بوان». وعلى أية حال فهو
قرينة واحدة، ضمن مئات من القرائن التي قدمناها، فإن فرَّت من بين أيدينا فرار
الدنانير، فلا أسف عليها ولا تثريب علينا.
(انظر مقر الجالية اليهودية الآرامية في أسوان بمصر الشكل رقم «١٢٥».)