الفصل الثاني
الشاسو والكاشو والحاثو
في مواضع متعددة من النصوص المصرية القديمة، نجد اصطلاحات متعددة للدلالة على البدو
الشرقيين الآسيويين، منها «ستتيو» الوارد في لوح كارنارفون، و«مونتيو – ستت» الواردتين
في نقش أحمس بن أبانا،
١ وعرفنا أن الاسم هنا منسوب إلى الإله «ست»، وباختلاط الحرفين الشفهيين
الباء والميم؛ فإن «مونتيو» هي «بونتيو» أي البونتيون، إضافة إلى اصطلاحاتٍ أشيع
استخدامًا هي «شاسو» و«عامو»، وبالنسبة للاحتلال الذي عانت منه مصر في نهاية الدولة
الوسطى، فقد أطلق المصريون على أصحابه اسمًا مكروهًا هو الطاعون، بينما وصلنا اسمهم في
وثائق متأخرة زمن يوسفيوس والمؤرخين اليونان الكلاسيك بالصيغة «هكسوس».
وهنا يقول لنا المؤرخ والمصرولوجست المصري الحجة سليم حسن:
عندما يطرح السؤال: من هم الهكسوس؟ فإنه لا يسعنا إلا الاعتراف بالجهل التام!
٢
ورغم هذا التواضع العلمي الراقي الصريح الواضح المباشر، فإن ذلك لم يمنع الباحثين
من
وضع افتراضات حول أصل محتلي مصر، في محاولاتٍ متعددة لكنها متضاربة للبحث عن منطلقهم
المكاني وأصلهم العرقي، فهناك من ذهب إلى أنهم من الجنس السامي، لكن أصحاب هذا المذهب
اختلفوا حول أي نوع من الساميين كانوا؟ فقال بعضهم: إنهم كانوا بابليين، وذهب آخرون إلى
أنهم كانوا كنعانيين، بينما أكد فريقٌ ثالث أنهم جاءوا من عمق بوادي جزيرة العرب.
٣
وعلى الجانب الآخر وقف باحثون لا يقلون علمًا وقدرًا، يؤكدون أنهم أبدًا لم يأتوا
من
فلسطين ولا العراق ولا جزيرة العرب؛ لأن المنبع البشري الذي تدفَّقوا منه على الشرق
القديم، كان المستودع الكبير المعروف في عصر الهجرات الكبرى في محيط بحر قزوين وبحر
الأورال، والبحر الأسود وبحيرة فان، وجبال أرارات، وهو الجبل الذي زعمت التوراة أنه كان
مرسى السفينة النوحية، في ترميزةٍ أسطورية حفظتها الذاكرة الإنسانية، لتشير إلى المنبع
الأصيل لتلك الهجرات،
٤ وهو أيضًا الذي يعرف علم التاريخ أنه كان موطنًا لقبائل متبربرة أسماها
«سكيث». ولنتذكر من الآن وبشدة هؤلاء اﻟ «سكيث»؛ لأن لهم في الفصول المقبلة دورًا
عظيمًا.
وكان تعبير «العامو» كما يقول «خشيم» هو الأكثر شيوعًا في الكتابات المصرية، للدلالة
على غزاة بلادهم، وقد وردت «ع أم و A M U» في صورة
«ع م و A M W» ومفردها «ع
م A M»، لتشير إلى سكان شرقي وادي النيل حيث الهضبة المتصلة مباشرة بصحراء
سيناء، وترجمها معجم فولكنر إلى «آسيوي» و«رجل آسيوي» وجمعها «ساميون SEMITES» ومؤنثها «ع ء م ت، أي امرأة آسيوية.»
وفي معجم بدج نجد الكلمة تعني: رعاة، بدوًا رُحَّلًا، ويترجم «ع ء م ي ت
AMYT» إلى امرأة آسيوية، والعميت هو العبيط بخلط
الميم بالباء، والعبيط في لسان العرب هو العملاق القوي قوة عمياء؛ لذلك نجد
«ع ء م
AM» تعني «حيوان أو سائمة أو بهيمة». وفي
معاني «عامو» نجد اللغة تحمل في جيناتها إشارة إلى الجهة الأصلية التي وفدوا منها على
مصر؛ لأن « أ م و
AMW» تعني أيضًا إلهة الفجر، وهو ما
يشير إلى الشرق حيث تشرق شمس الفجر. ويرى أمبير أن إبدالًا قد حدث بين الراء والهمزة
وبين الباء والميم، بين المصرية والسامية في كلمتي «ع ء
م
AM» و«عرب»، وتفيد معنى البداوة والارتحال والمشي مطلقًا، ولا تدل على
جنس بعينه.
٥
وعند بروغش أن كلمة هكسوس كانت التسمية الشعبية لكلمة العامو (زمن البطالمة
[المؤلف])، وأنهم كانوا آدوميين،
٦ لكن دون أن يتكرم بروغش بأي جهد واضح يؤكد به هذا الرأي السليم فعلًا، فقط
رأى أنهم آدوميون استنادًا لنصٍّ مصري واحد لا علاقة له بالأمر برمته، ثم أصدر قراره.
وحتى قوله هذا قول غير دقيق؛ لأنهم وإن كانوا يعودون بمركزهم الرئيسي إلى بلاد آدوم،
فإنهم كانوا أخلاطًا من البشر، كانوا أخلامو أو أحلافًا.
ويذهب فهمي خشيم إلى أن الهمزة في «ع ء م» مزيدة، والأصل هو «ع م»، وضرب المثل لذلك
أمثلة عديدة منها: «و ء ح ت = واحة، ح ء ت = حيط، خ ء ب ء س = قبس، خ ء ر = خار (صوت
الثور)، س ء ب = صب»، وقد احتج لذلك بأن الهمزة العربية نفسها قد تهمز ما لا يهمز عادة،
وقد تفعل العكس فتحذف الهمزة، فنقول عن البئر «بير» والفأس «فاس» والذئب «ذيب».
وإعمالًا لذلك فإن «ع ء م» هي في العربية «عم»، و«عم» إذا ثلثت دلت على العملقة والقوة،
فنجد «عمت» أي قسر، و«العمثل» هو الضخم الثقيل، و«العميثل» الضخم الشديد العريض، و«عمد»
طال منها العماد والعمود، و«اليعملة» الناقة الفارهة القوية، و«العامل» هو الوالي أو
الحاكم.
وفي معجم بدج نجد الكلمة المصرية «إ ء م ت
I A M T»
تعني النخلة، وجاء في الحديث النبوي «أكرموا عمتكم النخلة.»
٧ ونتذكر قول ابن منظور في لسان العرب: عُم إذا طول، وعم إذا طال، والعم شقيق
الأب وأصله المُسانِد القوي، والعمامة ما يوضع على الرأس، وهي تيجان العرب، وتؤدي إلى
طول لابسها، وكل ما اجتمع وكثر فهو عميم، والعمم عظم الخلقة. فالجذر عم والثلاثي عمم
ورباعيُّه عملق، ومنه العملاق الطويل والجمع عماليق وعمالق، والعمالقة عند ابن منظور
من
عاد وهم بنو عملاق. قال الأزهري: عملاق أبو العمالقة، وهم الجبابرة الذين كانوا بالشام
على عهد موسى عليه السلام.
ومن العامة يأتي معنى الكثرة الوافرة، ومفردها بصيغة النسبة عامي وتجمع عوام، ومن
عامي تطورت الدلالة إلى معنى الجهل وعدم المعرفة، ومنها أمي الذي يجهل القراءة والكتابة
في مواجهة الخاصة. وهنا نتذكر أن فترة حكم الهكسوس في مصر كانت مظلمة تمامًا من حيث
المدونات، فلم يتركوا شيئًا مدونًا بلغتهم، وما وجدناه كتبه لهم المصريون باللغة
المصرية، وهو نادر ندرة شديدة إلى جوار ما هو معتاد في مصر القديمة. ولم نعلم بمدونات
حقيقية إلا بعد خروجهم من مصر، وانتشار اللغة الآرامية كلغة للمراسلات الدولية، بعد أن
أخذت الآرامية الطريقة الرافدية في الكتابة بالمسمار على الطين، هو الخط البابلي،
وكتبته بالكارية أو الحورية.
أما «عم» فهي تعني في لغة جزيرة العرب «أبناء» أو «شعب»، وهي كذلك في الكنعانية،
وهي
ذاتها «ع م» أي أناس، وينتهي فهمي خشيم إلى أن كلمة «ع م» تؤدي إلى «الأميين»، كاسم علم
بمعنى الأقوياء الجبابرة العماليق من الجذر «أم» و«أمم»، وهو ذات لجذر «عم» و«عمم» وفيه
معنى الكثرة الغالبة.
٨
وفي الجزء الأول من هذا العمل سبق وأشرنا إلى أن المؤرخ اليهودي «يوسفيوس فلافيوس»
الذي نقل عن المؤرخ المصري «مانيتو»، قد كرس من وقته زمنًا؛ ليثبت أن الهكسوس كانوا هم
ذات الإسرائيليين، وضمن شواهده ترجمته لكلمة «هيك – سوس» بحسبانها تعني «الأسرى –
الرعاة»؛ لأن بني إسرائيل قد تم أسرهم بمصر بعد ثورة المصريين على حكمهم، إلا أن «وادل»
يحيطنا هنا علمًا: أن يوسفيوس قد تلاعب بكلمة هكسوس التي تتركب من ملصقين: المقطع الأول
فيها «هيك»، وقد قرأه يوسفيوس وكتبه «ح أ ق haq» التي
تعني: يقبض على، يأسر، أسر، بينما كتابتها وقراءتها الصحيحة هي «ح ق hq» وتعني معنًى نقيضًا تمامًا، فهي: من الفعل الماضي حكَم، وجَّه،
قاد، تسلَّط، ويفيدنا «مارسيل كوهين» أن تلك الكلمة هي بالضبط الكلمة العربية حق. وهي
Legalite أي شرعية الحكم. أما المقطع الثاني الذي
جاء في صورة SôS، فيعني عند «مانيتو المصري»: «راع» أو
«رعاة»، ورأى «وادل» أنها من القبطية Shôs أي راعٍ،
وأنها من الأصل «ش أس و» أي بدو. وهنا اختلف «بدج» مع الجميع وأكد أن معنى «سوس» هو:
المشي، السعي، السفر، ومنها البدو الرُّحَّل. ويدعم ذلك «إمبير Ember» إذ يقابل الكلمة المصرية بالإثيوبية
Sosawa أسرع في المشي، هرول، وبالعبرية
SIS التي تعني «حصان»، وهي جميعًا المعاني التي
تفيد المشي والحركة الثابتة دون استقرار، وفي معجم المصرية «س س
م SSM» وتعني زوجًا من الخيل، ومنها في معجم بدج كلمة «س س م ت SSMT» أي فرس.
ويعقب هنا فهمي خشيم بقوله: «وعلى هذا الأساس ترجمت هكسوس إلى الملوك الرعاة … لكننا
عرفنا أن الجذر س س يعني الحصان، ومن المسلَّم به تاريخيًّا أن وادي النيل لم يعرف أهله
استخدام الحصان قبل هجرة الهكسوس إليه.»
ومما هو جدير بالذكر هنا أن مدينة الهكسوس «حواريس» التي هي في الأصل المصري «حوارة»
أو «هوارة»، لم تزل تُطلق على كثيرٍ من المدن الصحراوية المتطرفة المتاخمة للصحراء،
فنجد الهوارة في صعيد مصر وفي الفيوم والحدود الشرقية، كذلك تحمله قبائل من أصول عربية
تمصرت.
وينقل ابن خلدون عن الصولي البكري أن قبائل الهوارة تنتسب إلى «حمير بن سبأ»، ويزعمون
الانتساب إلى قبائل كندة، وبالتحديد إلى قبيلة «السكاسك»، وهو ما يلتقي مع كلام الصولي
البكري حول أصولهم الحميرية السبئية؛ لأن لسان العرب يقول:
سكسك بن أشرس من أقيال اليمن، والسكاسك والسكاسكة حي من اليمن، أبوهم ذلك
الرجل، والسكاسك أبو قبيلة من اليمن، وهو السكاسك بن وائلة بن حمير بن سبأ،
والنسبة إليهم سكسكي.
ومن جانبه، ينسبهم ابن خلدون إلى «هوار بن أوريغ بن حمير بن سبأ»، وعليه يرى فهمي
خشيم أن الكلمة سكاسك ربما كانت تحريفًا للكلمة اليونانية هكسوس، التي كانت بدورها
تحريفًا للكلمة المصرية «ح ق. س س».
٩
وعن أصل بربر أفريقيا يقول ابن خلدون: «إنهم من أبناء إبراهيم وأوزاع اليمن»، والخلط
هنا واضح بين جنسين متباعدين: جنس إبراهيم الآرامي الشمالي وجنس الجنوب اليمني، ثم
يقول: «فلما وصلوا إلى مصر منعهم ملوك مصر من النزول، فعبروا النيل وانتشروا في البلاد،
وهم من ولد النعمان بن حمير بن سبأ.» ثم في إشارة فصيحة يقول: إنهم «تلاقوا بالشام
واستجاشهم أفريقش لفتح أفريقية.»
فالهكسوس في الذكريات العربية ينتسبون من جانبٍ إلى عرق شمالي يعود إلى إبراهيم
الآرامي، وعرق جنوبي يعود إلى سبأ وإلى حمير الحموري أو العموري أو الأموري، وأن هؤلاء
الجنوبيين من قبائل يمنية كانت تحمل اسم السكاسك، وهو فيما نرَى يفسر لنا اسم أحد مواضع
تكثف الوجود الهكسوسي في مصر؛ فهو لم يزل يحمل في طياته اسم السكاسك؛ لأنه حتى الآن
(الزقازيق) عاصمة محافظة الشرقية.
١٠ ويدعم ذلك التفسير ما جاء في أزمنة سوالف على دبوس قتال الفرعون المعروف
بالملك العقرب، حيث وردت إشارات إلى صراعٍ خاضَه العقرب مع البدو، وقد أطلق عليهم اسم
«قوم الزقزاق/ السكاسك». و«الزقزاق» اسم لطائرٍ تم تصويره بأعلى دبوس الملك العقرب، وقد
وردت قصص مصرية قديمة عن ذلك الطائر، باعتبار أنه كان غذاء لبحَّارة مصريين ضلوا الطريق
ونفد طعامهم، فعاشوا على الاغتذاء بهذا الطائر المهاجر الذي كان يحط في طريقهم،
١١ وهو ما سنعرفه بعد ذلك في التوراة باسم السلوى، ونعرفه اليوم في مصر باسم
السمان، وطعمه شبيه بطعم الحمام، وهو ما عرفناه في بحثنا باسم السقساق أو الزقزاق. وهو
طائر مهاجر تُعَد شبه جزيرة سيناء محطته الكبرى في رحلته الفصلية الكبرى، ولم يزل حتى
الآن يصدَّر إلى الوطن الأم بعدما يفيض عن حاجة السكان في سيناء.
وفي لسان العرب نبحث عن السكاسك في مادة «سكك»، فنجده يعطينا مضامين تطابق كل ما
علمناه حتى الآن عن الهكسوس، بحسبانهم كانوا يعيشون في بلاد أيك تين وبخور وغياض ملتفة،
وكانوا أصحاب صناعة الحديد والنحاس؛ لذلك لقبوا بالقينيين، وأهم حديد كان السيف وسكة
المحراث، ولاحظ «سكة» وأيضًا «سك» من ضرب المعدن وصنعه، كما نقول: سك النقود وصانعه هو
السكاك، وتسهيلًا للنطق هو سكاسك للفصل بين كافين ثقيلين، وأنهم كانوا تجار الطيوب
والبخور، يقول ابن منظور في اللسان:
… استك النبت أي التف.
… السك تضبيب الباب أو الخشب بالحديد. ويُروى السكي بالكسر. وقيل: هو المسمار. وسكة
الحراث حديدة الفدان. والسكاكة من الرجال هو المستبد. والسك ضرب من
الطيب.
ومدينة الزقازيق تقع ضمن مقاطعات شرقي الدلتا على تخوم الصحراء السينائية مباشرة،
وقد
سبق وكشفنا في الجزء الأول عن اسم مدينة الاضطهاد وموضع خروج الإسرائيليين قرب
الزقازيق.
المهم أن لدينا الآن مزيدًا لتدعيم ما قلناه حول السكاسك والزقازيق، فقد جاء في
الآثار المصرية أنه بين مقاطعات الدلتا الشرقية، كان يوجد إقليم باسم «عنزتي
Anzti»، نسبة إلى إلهٍ قديم بذات الاسم، وهو من الجذر
«ع ن ز
Anz»، وهي كلمة
تعني عند «بدج» في معجمه: ملك، قوي، مضيء، شديد،
ثابت، مشرق، قادم من الشرق. وكلها كلمات تحيل إلى الملوكية القادمة من الشرق، والثنائي
من الكلمة «ع ز
AZ»، وتعني: الكون في حالةٍ طيبة، ولو
زدناها «ت ي
Ti» فإن معناها يصبح الحامي أو المانع أي
Protector «Azti»، وهي المطابق المصري للكلمة
العربية بذات الصوت والمعنى «عز».
١٢
وفي مادة «عزز» يقول اللسان معاني أهمها: «العزيز، الممتنع الذي لا يغلبه شيء، القوي
الغالب، الشدة، الرفعة»، وبزيادة «م» تصبح «معز»، «والمعز هو الشدة، أما العنز فهي أنثى
المعز، والعزيز من أسماء الله، وعنزة اسم قبيلة عربية.» وفي الحديث القدسي يقسم الإله
في الإسلام «وعزتي وجلالي»، ثم نتذكر ما قلناه عن الحموري والأموري الذي يعني «الشديد»،
وأن اسم إله البطرك إبراهيم كان «إيل شداي»، وأن كلمة «حُر» زجر للمعز، وأن العناق هو
الأنثى من أولاد المعز، وأن عنخ المصرية هي عنز العربية، وأن عنخت زوجة الإله خنوم
المصري صانع البشر من صلصال الفخار، الذي هو خنوف أو
خروف وهو من الغنم، وكلها معانٍ تشير إلى بدو رُحَّل رعاة عنز، شاسو، لا يستقرون أبدًا،
أما مسكنهم فهو ما نحتسبه موصوفًا في لسان العرب تحت مادة شسأ:
شسأ: مكان شئس: الخشن من الحجارة. الشس والشسوس: الأرض الصلبة الغليظة
اليابسة التي كأنها حجر واحد.
يكاد ابن منظور يقول كل ما يحمل اسم عاصمة آدوم/ الصخرة من معانٍ كشفنا عنها، أما
الشاسو؛ فهي برأينا أصل كلمة سوس في المركب «هيك – سوس»، وسوس هي شاس أو شاسو في كشكشة
الكاف في سكاسك، وتعني البدو الرُّحَّل من أصحاب المعز من قبائل السكاسك السبئية
العمورية أو الحميرية، والقبائل الآرامية الإبراهيمية، أما «هيك»؛ فهي كما سبق القول
تعني «حق» أو الحكم بالحق الشرعي، وتشير إلى الملك؛ لذلك فالكلمة هيكسوس تعني لدينا
الحكام الشاسو أو الحكام البدو، أو بشكل أكثر تدقيقًا شيوخ القبائل البدوية.
وإبان رصده لسلسلة أنساب اليمن، يحيطنا ابن قتيبة علمًا بأن «سبأ» لقب؛ لأن اسم الشخص
الحقيقي كان «عامر».
١٣ وعامر يمكننا أن ننسب إليه ببساطة العامريين أو العموريين، وهو ما يدعم
رؤيتنا في قدوم العموريين/الأموريين السبئيين من الجنوب. ويضيف ابن قتيبة أن سبأ قد
أنجب «حمير» أو الأحمر، وأن من أحفاد حمير كان «بنو القين»
١٤ أي أبناء القيني، أي «الحدادين/السباكين/السكاكين/السكاسك/النحاسين». وضمن
هذا النسب عند ابن قتيبة يأتي شخص باسم سعد هزيم، كان عبدًا حبشيًّا زنجيًّا احتضن عامر
فنسب إليه، وهو ما يشير إلى ما قلنا عن احتضان شعبٍ لآخر، زنجي، وجنوب جزيري عموري
(نقصد المعروف بجنوب الجزيرة الآن)، أو التوحد معه في خلف «جنوب جزيري + زنجي».
وقد انفرد الزنجي بحديث لدى ابن قتيبة له لدينا
دلالة، فهو شقيق أفريقيش الذي فتح مصر وأفريقيا، وبه سميت أفريقيا، وهذا الزنجي هو
المعروف باسم «العبد أبرهة»، وكلمة العبد في الكتابات العربية تساوي كلمة الكوشي في
التوراة، والعبد أو الكوشي أو الزنجي أبرهة غير أبرهة المعروف في التاريخ الإسلامي
بغزوة الفيل؛ لأن ذلك الأخِير متأخر عن الأول بقرونٍ طوال. وهذا الزنجي الكوشي العبد
أبرهة قد حاز عند ابن قتيبة لقب «ذو الأذعار، وسمي بذلك؛ لأنه كان غزا بلاد النسنناس،
فذُعر الناس منه؛ فسمي ذو الأذعار». وبلاد النسناس هي بلاد القردة، ولعلنا لم نزل نذكر
بلاد البابون في بونت بلوحات حتشبسوت، ثم ملك بعده حداد بن شرحبيل بن عمرو بن الرانش،
وهو أبو بلقيس صاحبة سليمان عليه السلام».
١٥ ومن نسل حمير جاء السكاسك بن وائلة، ثم من السكاسك جاء «قيدار»، فيما قدر
ابن قتيبة.
١٦ وقيدار جماعة عربية سكنت بدورها وادي عربة في أزمنةٍ متأخرة، ثم من قيدار
جاء غسان أو جاسان أبو الغساسنة، الذين سكنوا ذات المنطقة.
١٧
وهكذا كان بين الهكسوس عناصر وأجناس، خلطت بينهم أقدار التاريخ وشطحات الحراك
الإنساني المهاجر، وتركت اسمًا دالًّا عليهم؛ فهم «الأحلاف» أو «الأخلامو»، والأكثر
دلالة أنهم أطلقوا على أنفسهم اسمًا يشر إلى تحالفهم، وذلك إبان احتلالهم مصر، فقد أطلق
مشايخ أو ملوك الهكسوس على أنفسهم اسم «الملوك الإخوة»؛
١٨ مما يشير إلى أكثر من ملكٍ يحكم في نفس الوقت، وهو ما يؤكد ما قلناه حتى
الآن عن إمبراطورية واسعة، يحكم كل إقليم منها ملكًا معينًا مختارًا من قبل مجلس أحلاف
الملوك الإخوة.
والآن ننتقل نقلة أخرى لمزيدٍ من تضفير
استنتاجاتنا، فنحن نعلم أن «الكشكشة» في اللسان العربي، تعني أن هناك عربًا ينطقون
الكاف «تش» أو «ش». ولو افترضنا أن ذلك قد حدث للكلمة «شاسو»، فأصلها سيكون «كاسو» أو
«كاشو»، وهو ما يطابق اسم الهكسوس، فسيكون «هيك كاسو» بدلًا من «هيك شاسو»، أو بالأحرى
«هيكاسو» أو «هيكاسي»، وهو ما يفتح أمامنا بابًا آخر لمعرفة أصل الهكسوس، وهو الباب
الذي سيصادق تمامًا على ما وصلنا إليه حتى الآن، أما هذا الفرض فسيظهر الآن صحيحًا
تمامًا.
يقول «سليم حسن»:
عدت كل من هجرة الهكسوس وهجرة الكاسيين مشهدين من هجرةٍ عظيمة جدًّا، وفدت
إلى الشرق الأدنى في باكورة الألف الثاني قبل الميلاد. وأول ظهور معروف
للكاسيين في بابل كان في خلال حكم الملك حمورابي ١٩٤٧–١٩٠٥ق.م. والظاهر أنهم
كانوا في هذه الفترة سُكانًا مسالمين في هذه البلاد، وعلى إثر موت حمورابي
انتقل عرش الملك لابنه سامسو إيلونا، الذي صد في السنة التاسعة من حكمه غارات
الكاسيين، الذين انقضوا عليه من الجبال. وعلى إثر غارة الخيتا على بابل، أضحت
البلاد تحت سيطرة الأسرة الكاسية ١٧٤٩ق.م.
١٩
وتقول الموسوعة الأثرية العالمية:
الكاشيون
Kassite ترجع أهمية هذه القبيلة
بخاصة إلى الدور الذي لعبته في تاريخ بابل، ويُعتقد أن الكاشيين هم الكوشيون
Kossaeans، الذين ذكرهم بطليموس المؤرخ،
والكيشيون
Kissianas الذين ذكرهم الكتاب
الإغريقي الأقدم منه، وقد ذكرت السجلات أنهم هاجموا بلاد بابل في عام ١٧٨٠ق.م.
استولوا عليها وأسسوا فيها أسرة حاكمة استمرت أكثر من ٥٧٠ عامًا. ومن المحتمل
أن الكاشيين أدخلوا الحصان حيوانهم المقدس في بلاد الرافدين.
٢٠
ويتحدث «كارلتون كون» عن استعمال الأسلحة البرونزية والعجلات التي تجرها الخيول
فيقول:
واستخدمتها أقوام غازية هاجمت البلاد (يقصد الشام) من مكانٍ ما في الشمال في
نحو ١٧٠٠ق.م. وفي هذا الوقت غزا الهكسوس مصر وتولوا حكمها … وغزا الكشيون وهم
من الشعوب المتكلمة بلغة هندو أوروبية أرض العراق.
٢١
ويضيف «إيفار لسنر»:
ولم يلبث تتابع الملوك البابليين أن توقف عندما سيطر عليها الكاشيون
Kassires، وهم شعب بربري من أصلٍ غير سامي
بعد موت حمورابي، وتوالى منهم على السلطة في عاصمة الفرات ستة وثلاثون ملكًا
بلغت مدة حكمهم ٥٧٧ عامًا.
٢٢
أما التدقيق فمع المؤرخ العراقي الرصين «طه باقر»، وهو يخبرنا عن هؤلاء الكاسيين
أو
الكاشيين، الذين هاجموا بلاده واحتلوها، وفي الوقت ذاته — أو قريب منه — احتل الهكسوس
مصر، حيث يقول:
انتهى حكم سلالة بابل الثانية الأولى على إثر غزو الحيثيين بلاد بابل في حدود
١٥٩٤ق.م. وجاء الكشيون إلى بابل، وأقاموا سلالة حاكمة في البلاد عُرفت باسم
سلالة بابل الثالثة، التي دام حكمها زهاء أربعة قرون ١٥٩٥–١١٦٢ق.م. واسم هؤلاء
القوم الجدد من الكلمة البابلية كشو التي لا يُعلم أصل اشتقاقها بالضبط. أما
موطنهم الذي نزحوا منه؛ فيرجح أنه كان في مكانٍ ما من الأجزاء الوسطى من جبال
زاجروس الفاصلة بين العراق وإيران. والمرجح أن يكونوا هم القبائل الجبلية الذين
ورد ذكرهم في المصادر الكلاسيكية باسم كوساي Kossaioi. لم يخلفوا لنا من بعد حكمهم في العراق شيئًا مدونًا
بلغتهم، بل إنهم اتخذوا اللغة البابلية. ولما برزوا في التاريخ بصفتهم قوة
عسكرية في عهد سلالة بابل الأولى، اتجهوا في توسعهم — لعله بسبب ضغط أقوام أخرى
إلى وادي الرافدين، ولكن خلفاء حمورابي ولاسيما سمسو إيلونا وأبي يشوخ استطاعوا
أن يصدوهم، فاتجهوا عبر نهر ديالي ودجلة إلى الجهات الشمالية الغربية، وتمركزوا
في منطقة الفرات الأوسط، أي في منطقة خانة القديمة. وأخيرًا حانت الفرصة
المواتية على إثر غزو الحيثيين لبابل، وهناك مشكلة تاريخية تعترض المؤرخ عن بدء
الحكم الكشي في العراق، وعلاقتهم بالحيثين الذين غزوا بابل، فأولًا أن بداية
حكمهم لا تنطبق مع نهاية سلالة بابل الأولى؛ ولذلك فينبغي أن يكون الملوك
السبعة الأوائل من السلالة الكشية، ابتداء من كنداش المعاصر لملك بابل سمسو
إيلونا، قد حكموا خارج بلاد بابل، وأن السلالة الكشية بدأ حكمها في بلاد بابل؛
ابتداء من الملك الكشي المسمى آكوم الثاني/آكوم كا كريمه Agum kakrime، وأن هذا الملك هو الذي انتهز فرصة الغزو
الحثي، فزحف على بابل في حدود ١٥٩٥ق.م. لكن ماذا كانت علاقة هذا الملك الكشي
بالملك الحثي مورشيليس؟ … هل تحالف مع الملك الحثي، فكانت حملة عسكرية مشتركة
على بابل؟ لعل التساؤل أقرب إلى الواقع التاريخي؛ لأنه يفسر لنا سبب انسحاب
الحيثيين من بابل. إن الملوك الكشيين حكموا مملكة واحدة، من أقصى الجنوب إلى
حدود بلاد آشور في الشمال … وكان الكشيون أقلية حاكمة بالمقارنة مع الأغلبية من
سكان البلاد. وأهم ما يميز العهد الكشي الطويل الأمد قلة ما وقع من أثنائه في
اصطداماتٍ حربية مهمة، سواء كان ذلك مع الآشوريين المجاورين أم مع دولة الشرق
الأدنى المعاصرة، مثل دولة «ميتاني» في شمالي ما بين النهرين أم مع الدولة
المصرية. اتخذ الملوك الأوائل من السلالة الكشية مدينة بابل عاصمة لحكمهم،
لكنهم أسسوا في منتصف عهدهم تقريبًا مدينة جديدة ضخمة، أطلق عليها اسم دور
كوريكالزو، وتعرف بقاياها الآن باسم عقر قوف على بعد نحو ٢٠ ميلًا غرب مركز
بغداد. ويشير اسم هذه المدينة الذي يعني حصن أو مدينة كوريكالزو إلى أن مؤسسها
أحد ثلاثة ملوك سموا باسم كاريكالزو، شيدت في زمن قديم من العصر الكشي، يرجع
إلى ما بين القرن الخامس عشر والرابع عشر ق.م. والملك كوريكالزو الثاني يرجح أن
يكون هو الذي شيد برج المدينة «الزقورة». وبرج المدينة بقي من ارتفاعه الآن
زهاء ستة وخمسن مترًا (تعرفه الأساطير الدينية باسم برج بابل حيث بلبلت الألسن
[المؤلف]). وقد تميزت جدران العهد الكشي بالضخامة المفرطة، فجدران قصر عقرقوف
وجدران معابدها بلغ معدل سمكها ثلاثة أمتار، مشيدة باللبن الكبير الحجم. والاسم
الجغرافي الجديد الذي أطلقوه على بابل هو كار دُنياش؛ أي بلاد أو قطر دنياش وهو
اسم أحد آلهتهم (ودونياش بدون التصرف الاسمي هو دون أو تون أو أدون
[المؤلف]).
ويرى جمهور المؤرخين أن الكشيين هم الذين أدخلوا استعمال الخيل في بلاد وادي
الرافدين، الأمر الذي أحدث تبدلات جوهرية في أساليب الحرب والقتال وسرعة
المواصلات. وما قبل العهد الكشي لم تكن الخيول شائعة الاستعمال في العراق. جاء
ذكرها في النصوص المسمارية، ولا سيما في عهد سلالة أور الثالثة ٢١١٢–٢٠٠٤ق.م.
وقد دُعيت في هذه النصوص
Anshu-Kar-Ra أي حمار
الجبل أو حمار البلد الأجنبي، ويرادف ذلك في اللغة الأكادية سيسو
Sisu. الكشيون استبدلوا طريقة التأريخ بالحوادث
المشهورة المتبعة في العصور السابقة للعصر الكشي، بطريقةٍ أسهل في تأريخ
الحوادث وتقويمها هي التأريخ بسنى الملوك، فصاروا يؤرخون من السنة الأولى التي
تعقب تتويج الملك الجديد. وشاع في العهد الكشي استعمال ما يسمى بأحجار الحدود،
واسمها باللغة الأكدية كودورو
Kudurru وانتشرت
في العصر الكشي اللغة البابلية بخطها المسماري؛ بحيث اتخذت من هذه اللغة لغة
للمراسلات الدولية الدبلوماسية بين ملوك الشرق الأدنى وحكامه، كما تدل على ذلك
رسائل تل العمارنة الخاصة بفراعنة مصر في القرن الرابع عشر ق.م. حيث كان
الفراعنة في أوج قوتهم واتساع ملكهم، فلا يمكن تفسير اتخاذ اللغة البابلية من
جانبهم بتسلط أو نفوذ من الملوك الكشيين، وانتشر مع استعمال اللغة البابلية أدب
وحضارة وادي الرافدين، وترجمت جملة قطع أدبية مشهورة مثل ملحمة جلجامش إلى
اللغة الحثية والحورية.
٢٣
وهنا يجدر التنبيه أن الأستاذ طه باقر، أكد أن تلك المكاتبات البابلية كانت فعلًا
بالخط المسماري، لكنها كانت باللغة الكارية أو الحورية حقًّا وصدقًا.
ثم يقول لنا علم التاريخ إن هناك خطأ قديمًا تم إصلاحه في مؤلفات المؤرخين، حيث كان
يطلق على ممالك بلاد الشام اسم الممالك الحثية الحديثة، لكن مع مزيدٍ من الكشوف تأكد
أنها كانت ممالك آرامية، تأثرت بشدة في فنونها بالتقاليد الفنية الحثية.
٢٤
إذن الهكاشي أو الكشيون أو الكاشيون أو الكاسيون أو الكاشو، قبائل متبربرة هبطت على
العراق القديم، وقضت على أسرة بابل الأولى، وحكموا البلاد ٤٣٣ عامًا، وليس معلومًا لدى
المؤرخين معنى اسمهم أو أصله. لكن المؤكد لديهم أنهم كانوا هجرة هندو آرية، وأنهم لم
يدونوا شيئًا بلغتهم الأصلية، واتخذوا من لغة بابل المكتوبة لغة لهم، وكان غزوهم بابل
بعد غارة حيثية مفاجئة قدمت من الأناضول، قام بها الملك الحيثي «مورشيليش»، الذي هاجم
البلاد وأسقط أسرتها الحاكمة، ليتركها للكوشيين أو الكاسيين دون أسباب مفهومة أو واضحة.
أما الأكثر غرابة فهو أن بدء الحكم الكاشي لا ينطبق مع نهاية سلالة بابل الأولى، التي
أسقطها «مورشيليس» الحيثي، مما أدى إلى استنتاج أن هناك سبعة ملوك كشيين حكموا في مكانٍ
ما خارج الرافدين قبل أن يحتلوه. والجديد هنا أن الملوك الكاشيين قد حكموا القطر جميعه
موحدًا، بينما كانوا أقلية حاكمة، ولم يتصادموا في معاركَ واضحة مع جيرانهم في منطقة
المتوسط الشرقي، بل كانوا على وئامٍ معهم، وإن أحد ملوكهم المعروف باسم «كوريكالزو
الثاني» هو الذي شيد الزقورة أو البرج المشهور في بابل، وبقي منه بعد أن تهدَّم حوالي
ستين مترًا، وقد أطلقوا على بلاد الرافدين اسم «كار دويناش» أي قطر «دونياش»، وهو اسم
إلهٍ لهم. ومن المرجح أنهم هم من جاءوا بآلةٍ عسكرية جديدة على المنطقة، هي العربة
العسكرية التي تجرها الخيول، حتى إن الخيول لم تكن معروفة في المنطقة قبل ذلك، وكان
الأكاديون في الرافدين يتحدثون عن رؤيتهم للكائن المعروف بالحصان، بحسبانه كائنًا
خاصًّا ببلادٍ أجنبية اسمه «سيسو»، وأسموه Anshu Kar Ra
أي الحمار الجبلي، كما ابتدعوا تقويمًا جديدًا يعتمد على التأريخ بسنى حكم الملوك، وأن
الكاسيين أو الكاشيين قد أخذوا الخط المسماري واللغة البابلية وطوروها واستخدموها.
ولأسبابٍ غير معلومة أصبحت تلك اللغة لغة عالمية. ويرفض «طه باقر» وجلة المؤرخين أن
يكون ذلك بسبب قوة وتسلط أو نفوذ للكاشيين خارج الرافدين، وأن هناك آدابًا بابلية
مكتوبة بالخط المسماري، قد وُجدت خارج الرافدين (كما في تل العمارنة بمصر)، ولكن باللغة
الحورية.
وهنا عدة مسائل بحاجةٍ إلى توضيحٍ وحلول، تتمثل في تساؤلات بسيطة لكنها إشكالية في
التاريخ أهمها:
-
من هم «الكاشيون/الكاسيون/الهكاشيون» الذين احتلوا الرافدين ما يزيد على
أربعة قرون؟
-
ما هي علاقتهم بالحيثيين والملك الحيثي مورشيليش؟ وما هو السر الذي دفع
الملك الحيثي لفتح بابل، وتركها ببساطة للحكام الكاشيين الذين أصبحوا قلة
حاكمة في بلاد الرافدين.
-
لماذا لم يدونوا شيئًا بخطهم وأخذوا الخط واللغة البابلية وطوروهما،
وكتبوا بهما اللغة الحورية؟ فهل لم يكن لهم خط أصلًا ولم يعرفوا
الكتابة؟
-
كيف نفسر الفجوة الزمنية بين ما دونته المراجع الكوشية عن بدء حكمهم،
والفارق الزمني بين هذه البداية وبين نهاية حكم الأسرة البابلية الأولى؟
وإذا كان الملوك السبعة الأول قد حكموا خارج البلاد؛ فأين كان حكمهم
هذا؟
-
معلومٌ أن بلاد بابل لم تقم دولة مركزية مستقرة متماسكة، للقطر جميعه إلا
في حالات نادرة وقصيرة، لكن زمن الكاشيين كان القطر كله وحدة مركزية واحدة،
فكيف نفسر ذلك؟
-
ومعلومٌ أن العراق القديم كان دومًا مفتوحًا على جيرانه في معارك هجومية
أو دفاعية طوال الوقت، وهو مال لم يحدث زمن الحكم الكاشي، لماذا؟
-
نعلم من المأثور الديني الإسرائيلي والإسلامي، أن باني برج بابل هو
المعروف باسم نمروذ بن كوش، ونعلم من التاريخ أن بانيه هو كوريكا لزو
الثاني، فهل كانا شخصًا واحدًا؟
-
من أين جاء الكاشيون بحمار الجبل «سيسو» أو الحصان؟
وسبق وافترضنا أن الشاسو المذكورين في المدونات المصرية، هم الكاشو أو الكوشيون الذين
تموضعوا في بلاد آدوم، فهل ثمة علاقة بين هؤلاء الكاشو أو الكاشيين وبين محتلي بلاد
الرافدين، باسم الكاسو أو الكاشو أو الكاشيين؟
مجموعة من التساؤلات لا إجابة واضحة عليها، إلا بمزيدٍ من البحث وراء تلك الهجرات
التي غمرت المنطقة، نضيف إليها الآن مزيدًا من التساؤلات الإشكالية التي تتمثل في
العنصر الحليف للعنصر الكوشي، أقصد: الحيثيين، وهو ما سيزيد من البلبلة، لكنه واسطة
العقد لحل كثير من الإشكاليات.
في الوعد المعروف بالكتاب المقدس، الذي قطعه الرب على نفسه لخليله إبراهيم يقول النص:
في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقًا قائلًا: لنسلك أُعطِي هذه الأرض من
نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات: القينيين والقنزيين والقدموينين والحيثين
والفرزيين، والرفائيين والأموريين والكنعانيين والجرجاشيين واليبوسيين.
(تكوين، ١٥: ١٨–٢١)
من بين الشعوب والقبائل التي يعددها المقدس التوراتي، لسكان المنطقة الممنوحة
لإبراهيم ونسله، نجد ذلك الاسم (الحيثيين)، ثم تتواتر النصوص المقدسة لتؤكد أن العنصر
الحيثي كان عنصرًا قائمًا ومستقرًّا في أرض فلسطين، بل كانوا ملاكًا للأراضي، لكنهم في
الوقت نفسه يظهرون كما لو كانوا عنصرًا غير أصيل بالمنطقة؛ لأن أرض فلسطين كانت تخصص
بكونها أرض كنعان تحديدًا.
والملاحظة المهمة بشأن الحيثيين، في النصوص التوراتية، هو الهيئة السيادية التي
يتخذها الحيثيون هناك، التي أوجبت على البطرك إبراهيم السجود لأشخاصٍ عاديين من بينهم،
وهو يطلب منهم شراء مغارة بفلسطين، ليدفن فيها جسد زوجته سارة، والنص يقول:
وماتت سارة في قرية أربع التي هي حبرون في أرض كنعان … وقام إبراهيم … وكلم
بني حث قائلًا: أنا غريب ونزيل عندكم، أعطوني ملك قبر معكم لأدفن ميتي
….
فقام إبراهيم وسجد لشعب الأرض لبني حث … وبعد ذلك دفن إبراهيم سارة في مغارة
حقل المكفيلة، أمام ممرا التي هي حبرون في أرض كنعان، فوجب الحقل والمغارة التي
فيه لإبراهيم ملك قبر من عند بني حث.
(تكوين، ٢٣: ٢٠، ١٩، ٧، ٤، ٣، ٢)
والواضح في التوراة من البدء أنها تنسب أرض فلسطين إلى الكنعانيين دومًا، وإلى
الأموريين أحيانًا، لكنها تجعل الحيثيين عنصرًا أصيلًا فيها، فشجرة الأنساب التوراتية
تجعل الحيثيين أبناء كنعان بن سام بن نوح، فتنسب لكنعان بن سام ابنًا اسمه «حثا»
(تكوين،١٠: ١٥)، مع إشارةٍ أخرى تجعل أورشليم رمزيًّا بنت سفاح لأمٍّ حيثية من رجلٍ
أموري.
قال السيد الرب لأورشليم: مخرجك ومولدك من أرض كنعان أبوك أموري وأمك
حيثية.
(حزقيال، ١٦: ٣)
وقد قصد النص إيضاح أن أورشليم رمز الشعب الإسرائيلي نفسه، هجين من شعبين متباعدين:
الأب أموري وعرفناه حموري عموري قادمًا من جنوب الجزيرة والأم حيثية.
وظل الحيثيون يتواجدون كعنصرٍ هام وبارز في فلسطين، حسبما جاء بالكتاب المقدس، إلى
زمنٍ يبعد إلى ما بعد ملك سليمان، وكان أبرز قواد جيش داود من العنصر الحيثي «أوريا
الحيثي مثلًا»، كما تزوج ولده سليمان من نساء حيثيات (ملوك أول، ١١: ١)، والأموريون كما
قلنا كانوا عنصرًا جنوب جزيري قادمًا برفقة الكوشيين، بينما الحيثيون من أصولٍ شمالية
هندوآرية فصيحة.
وقد سبق وأوردنا نصًّا يوزع عناصر سكان فلسطين على خريطتها (سفر العدد، ١٣: ٢٧–٣٢)،
ويجعل الحيثيين من سكان جبال فلسطين، ولدينا هنا نص آخر يجعلهم يشغلون جميع المساحة
الشمالية الواقعة بين جبال لبنان ونهر الفرات، وجبال لبنان في التوراة كان اسمًا يطلق
على جبال فلسطين، بدءًا من الكرمل وصولًا إلى جبال لبنان الشمالية، والنص يقول ليشوع
خليفة موسى بلسان الرب:
قم واعبر هذا الأردن أنت وكل الشعب إلى الأرض التي أنا معطيها لهم … من
البرية ولبنان هذا إلى النهر الكبير نهر الفرات، جميع أرض الحيثيين، وإلى البحر
نحو مغرب الشمس يكون تخمكم.
(يشوع، ١: ٢، ٤)
وهذا إنما يعني احتلال الحيثيين لجبال فلسطين، التي تعد امتدادًا جنوبيًّا طبيعيًّا
لجبال لبنان، وإننا كلما اتجهنا شمالًا اتسعت الرقعة التي يشغلونها بالمنطقة، نحو نهر
الفرات ونحو البحر المتوسط. لكن المثير للاضطراب والدهشة معًا، أننا نجد نصوصًا أخرى
لا
تشير إلى الحيثيين باعتبارهم يعيشون فقط خارج فلسطين، بل إن لهم ممالك ودولًا، وهو ما
نجد التوراة تقوله في أزمنةٍ تالية أحدث، حول استيراد سليمان للخيل من مصر، والتجارة
بها مع «ملوك الحيثيين وملوك آرام» (أخبار الأيام الثاني، ١: ١٧)، وهو الأمر الذي يتكرر
في نصٍّ آخر يقول: «وكان مخرج الخيل التي لسليمان من مصر … وكانت المركبة تصعد وتخرج
من
مصر بستمائة شاقل من الفضة، والفرس بمائة وخمسين، وهكذا لجميع ملوك الحيثيين وملوك
آرام» (ملوك أول، ١٠: ٢٩)، ثم بعد زمن سليمان أيام ملوك مملكة اليهود المنقسمة إلى
إسرائيل شمالًا ويهوذا جنوبًا، نجد نصًّا يؤكد ذات المعنى، جاء في معرض الحديث عن حرب
جرت بين الملك الآرامي بنهدد وبين مملكة إسرائيل الشمالية، عندما فر الجيش الآرامي من
المعركة هاربًا، لما سمع جنوده ضجيجًا هائلًا لسلاحٍ وعربات وخيول، وقال أفراده بعضهم
لبعض: «ها هو ذا ملك إسرائيل؛ فقد استأجر ضدنا ملوك الحيثيين، وملوك المصريين … فقاموا
وهربوا في غبش الليل» (ملوك ثاني، ٧: ٦، ٧).
الحيثيون بهذا الشكل مشكلة، فهم ملوك على دولةٍ
تقع خارج فلسطين، بل وملوك أقوياء يثيرون الفزع، وهو لغز كبير لا يمكن فهمه، في ضوء
احتساب التوراة في أسفار أخرى، أن العنصر الحيثي عنصر يعيش في فلسطين الكنعانية،
ويتناثر في أنحاءٍ أخرى حولها.
هذا ما كان عن نصوص المقدس التوراتي، أما علم التاريخ فيروي لنا رواية أخرى مبهرة،
لكنها للأسف ستزيد الأمر غموضًا واضطرابًا وإلغازًا، فقد جاء في نصوص مصر القديمة، ما
يشير إلى علاقاتٍ وطيدة لملوك مصر مع ملوك دولة، تسمى «خيتا» التي ترجمت أيضًا إلى
الحيثيين، وهناك أيضًا نصوص مشهورة لمعاهدة سلام جرت بين الفرعون «رمسيس الثاني» وبين
الملك الحيثي «حاتوشيليش» بعد معركة قادش الشهيرة. وقبل ذلك بسنوات، في الأسرة الثامنة
عشرة، تقدم الفاتح الأعظم في تاريخ الشرق القديم «تحتمس الثالث» ١٤٩٠–١٤٣٦ق.م. شمالًا
متجاوزًا سوريا، ليعبر الفرات الأعلى في هضبة الأناضول خلال القرن الخامس عشر قبل
الميلاد، ليضرب قومًا جاء اسمهم في مدوناته «أهل خيتا».
وقبل ذلك بقرون، حوالي عام ٢٢٠٠ق.م. حارب «نرام سين» رابع ملوك أسرة أكد
Akkad الرافدية، حلفًا مكونًا نم سبع عشرة ملكًا،
بينهم ملك باسم بامبا
Bamba، وصفته نصوص الرافدين بأنه
ملك حاتي، وضمن الحلف ملك آخر، لكنه آموري اسمه «حوار
واس
Huwruwas»، وهو الاسم الذي يعبر لدينا عن أصل حوري واضح. وبعد ذلك بما يزيد
على ألف عام، أي حوالي ١١٠٠ق.م. نجد في نصوص الملك الآشوري تجلاتيبليزر الأول، أن سوريا
الشمالية العليا تظهر باسم خاتي، وأن عاصمتها زمن تجلاتيبليزر كانت مدينة قرقميش داخل
الحدود التركية الحالية، وهي ذات العاصمة التي اجتاحها قبل ذلك تحتمس الثالث زمن
فتوحاته الكبرى.
٢٥
واضح إذن أن المادة المتجمعة لدينا حول العنصر
الحيثي تتفجر بالتناقضات الحادة، فالكتاب المقدس يظهر الحيثيين كعنصرٍ كنعاني يسكن
فلسطين مرة، ومرة أخرى يظهرهم كقوة كبرى لها ملوك أقوياء خارج فلسطين. وعلم التاريخ
يوضح لنا أنهم كانوا سكان الأناضول التركي ولا علاقة لهم بفلسطين، بل يجب استبعاد هذه
العلاقة تمامًا؛ لأن الوثائق الحيثية المكتشفة حتى الآن، لم نجد بها ما يشير إلى هبوط
الجيوش الحيثية جنوبًا، في أوج عظمة المجد الحيثي، لأبعد من دمشق جنوبًا، ولا نجد إشارة
واحدة لدخولهم فلسطين إطلاقًا. وحتى المنطقة التي خضعت للحيثيين من بلاد الشام، فكانت
على حساب التوسع الحيثي الحدودي الجنوبي، واقتصرت على المنطقة الواقعة شمالي قادش على
نهر العاصي. ويقول المؤرخون إنه بعد انهيار دولة الحيثيين وتفككها إلى دويلات، لم نجد
بين تلك الدويلات الحيثية دويلة واحدة تقع إلى جنوب حماة السورية، وقد شكلت مملكة دمشق
الآرامية الناهضة حينذاك، حاجزًا بين الدويلات الحيثية شمالها وبين فلسطين جنوبها، حتى
صرح «جرني» أهم باحث في تاريخ الحيثيين بقنوطٍ بالغ:
«إن وجود الحيثيين في فلسطين قبل غزو إسرائيل لها (يقصد قبل خروجهم من مصر
وغزوهم فلسطين [المؤلف]) يثير مشكلة عجيبة. وتجمع المعلومات المتزايدة عن أهل
حاتي لم يوضحها، وإنما جعلها أكثر تعقيدًا.»
٢٦
ومن هنا أخذ «جرني» — حلًّا للمشكلة — بالفرض الذي قدمه زميله «فورر»، واعتبره جرني
حلًّا بارعًا؛ إذ يرجع «فورر» إلى سكان الأناضول قبل الحيثيين والمصطلح على تسميتهم
«بروتوحيثيين» أحيانًا و«الحاثيين
Hattians» أحيانًا
أخرى، وأن لغتهم التي تكلموها أطلق عليها الحيثيون من بعدهم اسم لغة خاثيلي أو
حاتيلي
Hattili، وينطلق «فورر» من ذلك إلى افتراض
أن تلك اللغة كانت في وقتٍ ما وسيلة تخاطب في منطقة واسعة جدًّا شملت فلسطين، وربما كان
يقصد ما أشرنا إليه حول اللغة الكارية الحورية، وأن الحيثيين الذين رحل بعضهم من
الأناضول جنوبًا وسكنوا فلسطين زمن الخروج حسبما نفهم من التوراة، إنما كانوا بروتو
حيثيين يتكلمون اللغة الخاتيلية، وأدت ظروف لا نعلمها لاستمرار بقائهم في فلسطين،
فأسماهم المأثور التوراتي باسم لغتهم، وهي اللغة التي استخدمها الحيثيون، فأصبحوا بذلك
حيثيين يسكنون فلسطين في التاريخ التوراتي.
٢٧ (لاحظ هذا نموذج حل المشاكل السريع لدى المؤرخين المتخصصين).
وتدلنا رسائل تل العمارنة المصرية المحفوظة في مدينة إخناتون، على أن العالم في ذلك
الوقت حوالي «١٣٧٠ق.م. زمن آمنحتب الثالث وولده إخناتون»، كانت تتقاسمه أربع دول كبرى
هي: «مصر» التي امتدت سيطرتها إلى فلسطين وسوريا، و«بابل» التي حملت في ذلك الزمن اسم
كاردونياش، و«ميتاني» المملكة الحورية الخورية التي تواضع المؤرخون على وضعها على حوض
الفرات الأعلى بين الفرات والخابور، وكانت تحكمها طبقة أرستقراطية من أصل هندوأوروبي،
ثم المملكة «الحيثية» في بلاد الأناضول.
وقد ظل أمر مملكة الأناضول الحيثية مجهولًا، فقط كنا نعرف أن هناك شعبًا اسمه الشعب
الحيثي يعيش بفلسطين، وذلك من الكتاب المقدس، حتى تم اكتشاف رسائل تل العمارنة عام
١٨٨٧م، وتحوي رسائل دبلوماسية وإدارية واردة إلى الملك آمنحتب الثالث وولده إخناتون،
وتغطي الفترة ما بين ١٣٧٠ و١٣٤٨ق.م. ورسائل كتبها ولاة مصر في سوريا وفلسطين، وقد جاءت
في تلك الرسائل إشارات متعددة لملك على دولة اسمها «حاتي»، وإلى تحركات جيوش حاتي. كما
تم العثور على خطاب كتبه الملك الحيثي «شوبيلو ليوماش»، يهنئ فيه «إخناتون» لتوليه
العرش، لكن شوبيلو ليوماش ظل ملكًا مجهولًا لدولةٍ مجهولة حتى عام ١٨٧٢م، حين تمكن
«وليم رايت» من نقل خمسة أحجار كانت ضمن أحجار منازل مبنية في حماة السورية وفي حلب،
بعد أن اكتشف عليها هيروغليفية شبيهة بالمصرية، لكنها ليست مصرية، فأطلق عليها اسم الخط
الحاماتي Hamathit نسبة إلى حماة؛ حيث عثر على
الأحجار. ولم يمضِ غير بضع سنوات حتى تم اكتشاف نقش صخري عظيم، على ترعة إفريز
Ivriz في جبال طوروس مدون بالخط الحاماتي، وهو ما
وجه الاهتمام إلى آثار وأطلال ونقوش كانت مهملة، وتقع عند بوغاز كوي Boghaz Koy والجاهويوك Alaja Huyuk عند منحنى نهر الهاليس Halys المعروف الآن باسم «قيصل يرموق» في شمال تركيا
الحالية.
لفتت أنظار الباحثين بوابة حجرية كبرى، يقف على
جانبيها تمثالان لأبي الهول، فبدأت حفائر المتحف البريطاني عام ١٨٧٩م لتكشف عن كثيرٍ
من
النقوش الهيروغليفية الحاماتية، حتى تمكن «هوجو
فنكلر Hugo Winckler» من الحصول على تصريحٍ بالحفر سنة ١٩٠٦م في بوغاز كوي ليكتشف
كشفه الهائل، حيث عثر على حوالي ١٠٠٠٠ لوح مسماري مكتوبة بلغة غامضة، تشبه ما عثر عليه
في مكتبة رسائل تل العمارنة.
وبالبحث الدءوب أعلن أن تلك الثروة الهائلة،
ترجع إلى عاصمة لمملكةٍ عظمى كان مقر عاصمتها، حيث عثر على تلك الألواح، أي في بوغاز
كوي التي اكتشف أنها عاصمة تلك المملكة — وكانت تحمل اسم خاتوشاش Hattusas أو «حاتوسا»، وأن تلك المملكة كانت تعرف في زمانها بمملكة
الحيثيين، وأنها استخدمت في الكتابة خطها الهيروغليفي. أما العجيب فهو أن الألواح
الهائلة العدد، فقد تم التأكد أنها كتبت بخطٍ آخر، وباللغة الحورية التي كتبت بها ألواح
العمارنة في مصر. وكان المؤرخون يعلمون أن هناك دولةً مجهولة، دفعت الجزية للملك رمسيس
الثاني كانت تحمل اسم «خيتا العظمى»، لكنهم افترضوا لها موقعًا في بلاد سوريا إلى جوار
«ميتاني» المزعومة، حتى أعاد ذلك الاكتشاف العظيم الأمور إلى نصابها، ثم تتالت
الاكتشافات المبهرة في العاصمة «خاتوشاش» الواقعة على مبعده مائة ميل شرقي أنقرة
الحالية. ولما كان قد وضح أن الحيثيين يصرفون الأسماء بحرف «ش SH» و«تش CH» تلحق بنهاية الاسم، فإن
اسم العاصمة دون تصريف يصبح «خاتوشا» أو «حاتوسا»، وهو اسم يحمل في طياته اسم
الحيثيين.
ومن الرسوم والنقوش وبقايا جماجم هؤلاء القوم، أمكن تكوين فكرة واضحة عن سماتهم
الجسدية، فهم قوم مكتنزون، عظام أوجههم بارزة، أنوفهم طويلة قليلًا وأشبه بمنقار
الببغاء، ذقونهم قصيرة.
واكتشف أنه في ذات المكان وقبل ظهور الحيثيين أو مجيئهم من مكانٍ ما في الشرق، كان
يعيش قوم يتحدثون لغة باسم الحاتيلية ويطلقون على أنفسهم عبارات: رجال حاتي، نساء حاتي،
أبناء حاتي، ويرى «إيفارلسنر» أنه من هنا جاء اسم الحيثيين، الذي أطلق على الأقوام
الجديدة التي احتلت الأناضول، وتركت لنا هذا التراث العظيم. ويرى «مورتمارت» و«زومر»
أن
ثقافة الحيثيين جميعًا تعود إلى أبناء حاتي الأصليين، مما يشير إلى أن الحيثيين حين
وفدوا على الأناضول كانوا بلا ثقافة محددة تقريبًا، فأخذوا بثقافة البلاد التي احتلوها.
وقد أكد ذلك «بيتل» الذي عاش سنوات في خاتوشا يبحث، ليكتشف أن الحيثيين الذين سيطروا
هناك كانوا متخلفين ثقافيًّا عن السكان الأصليين، وبعد ذلك اكتسبوا حضارة الحاتيين وتشربوها.
٢٨
ويحيطنا «وليم كون» بخبر شديد الأهمية لعملنا هذا، فيقول: إن الحيثيين كانوا أول
أمة
عرفت خام الحديد واستخرجته وصنعته، وأنهم كانوا يتكلمون لغة هندوآرية. ويبدو أن معرفة
تعدين هذا المعدن، كانت كشفًا خاصًّا بهم عرفوه من قبل في وطنهم الأصلي الذي هاجروا منه
بوسط آسيا. أما السمة الأخرى التي لا تفوتنا، فهي أن الخيل لم يظهر في المنطقة الشرق
أوسطية، وكذلك العربة التي يجرها الخيل، قبل ظهور الحيثيين فيها. ويبدو لنا أن إشارات
أهل الرافدين إلى حمار البلد الأجنبي أنشوكرا
Ansha-Kar-Ra، كانت نتيجة مشاهداتهم له في بلاد جيرانهم الجدد في شمالهم
التركي. وقد ثبت أنهم أقدم أمة عرفت الحديد وتصنيعه، من رسالة وجهها الملك الحيثي
حتوشيليش إلى ملكٍ من أصدقائه، يعتذر له عن تلبية طلبه؛ لأن موسم إنتاج الحديد ذلك
العام كان رديئًا، مع وعد بإرسال المطلوب إلى أخيه الملك، حالما ينتهي الصناع من ذلك.
٢٩
وفي الموسوعة الأثرية العالمية نجد تحت مادة عصر
الحديد
Iron Age، إشارة إلى خطاب وصل الفرعون رمسيس الثاني من الملك الحيثي،
يقول إنه قد أرسل إليه خنجرًا حديديًّا يليق بالملك، وتشير الموسوعة إلى أن الحديد وصل
بلاد اليونان قادمًا من منطقة تقع في محيط بحيرة فان وبحيرة قزوين، وأنه حول ذلك الوقت
عرفت المملكة الحورية المجاورة للحيثيين صناعة الحديد منهم (الموسوعة تذهب مع الفرض
المعتاد في وضع المملكة الحورية «ميتاني» بأعالي الرافدين بين الفرات والخابور، بجوار
الحيثيين جنوبًا منهم مباشرة)، وأن من منتجات الحديد الميتاني ذلك الخنجر المحلى بالذهب
والأحجار الكريمة، الذي تم العثور عليه في مقبرة «توت عنخ آمون».
٣٠
وقد عبد الحيثيون إلهًا يظهر في هيئة رب جنود، في نقشٍ يؤكد معرفتهم المبكرة للعجلة
والحديد، فهو يركب عجلة قتال ممسكًا ببلطة حديدية في يد، وبالصاعقة في يدٍ أخرى يركض
بها على قمم الجبال،
٣١ فهو إله رعد وبرق مثل البعل، ويرمز له بدوره بالثور، ثم تنسب له الأساطير
الحيثية أنه هو الذي قتل التنين المتعدد الرءوس المعروف باسم لواياثان،
٣٢ وهو ذات الفعل التأسيسي الذي قام به الإله في الديانة الكنعانية، عندما قتل
تنينًا بنفس الصفات وبذات الاسم، في ملحمة البعل التي عثر عليها في أوغاريت/رأس شمرا،
ثم كرر الإله يهوه ذات البطولة بقتلة لواياثان الحية المتعددة الرءوس بالكتاب المقدس
(للمزيد ارجع لكتابنا: الأسطورة والتراث).
ومع دراسة الوثائق الحيثية أمكن معرفة أنهم كانوا يحبون الرجوع إلى أصلٍ ملكي مع
أول
ملك لهم باسم لابارناس
Labarnas؛ لذلك يبدأ المؤرخون
به تاريخ الحيثيين، ويقولون إنه في عهد خليفته خاتوشيليس الأول
Hattusilisi، تم نقل العاصمة من مدينة باسم كوسارا إلى خاتوشا أو
حاتوسا (بوغاز كوي)، وبعده بدأت المملكة تتسع، وتخرج جيوش مملكة حيثي من خلف الحواجز
الجبلية في طوروس نحو الجنوب، اصطدمت بداية بمملكة يمخد
Yamhad الغنية، وكانت عاصمتها حلب
Aleppo الحالية، وذكرها الحيثيون باسم خالاب
Khalap، وفي عهد الملك الحيثي مورشليش قام الحيثيون بغزوة على مملكة
بابل، وأسقطوا دولة بابل الثانية، حيث نجد في آثارها نصًّا يؤكد تلك الغزوة يقول: «إلى
شمشو ديتانا زحف رجال حاتي، وزحفوا إلى بلاد أكد.» وقد ربط ذلك الحدث بين ثبت التاريخ
البابلي وثبت التاريخ الحيثي،
٣٣ وبدأ تأريخ الحيثيين من ذلك العام أي حوالي عام ١٥٩٤ق.م. لكن الغريب الذي
يشكل لغزًا غير مفهوم، هو انسحاب الحيثيين من بابل بعد فتحها، ليتركوها فريسة لغزاةٍ
عرفهم التاريخ الرافدي باسم الكاسيين، فاحتلوا بابل عام ١٥٩٥م في إثر الغارة الحيثية
مباشرة، وسيطروا عليها أربعة قرون متصلة، حتى عام ١١٦٢ق.م.
٣٤ ولمزيدٍ من الدهشة لا يأتي عام ١٤٠٠ق.م. حتى نجد الثقافة الحورية واضحة
تمامًا من بلاد الأناضول شمالًا حتى العقبة جنوبًا عند آدوم.
٣٥
وفي عهدٍ متأخر زمن الملك الحيثي «تود خالياش الرابع» ثم «آرندوانداس الرابع»، تظهر
في غربي الأناضول قوة جديدة حول الجزر اليونانية «الفريجيون»، في موجة هجرة كاسحة نحو
الشرق والأناضول، قادمة من جزر بحر إيجة وكريت وسردينيا، وتهاجم مصر في نفس الوقت لكنها
تنكسر هناك،
٣٦ ولا تستطيع الدخول وتتالى الضربات على الدول الحيثية، بينما في ذات الزمن
تقص علينا سجلات «رمسيس الثالث»، كيف أن الجزر اليونانية اضطربت، وكيف غزت تلك الجزر
الأناضول وهرب الحيثيون وشعوب أخرى إلى الجنوب السوري، ليصبح الفريجيون سادة الأناضول
بعد الحيثيين، لتنتهي الدولة الحديثة، وتبقى ثقافتها في المقاطعات الجنوبية السورية
ضياء غسق باهت، استمر حوالي خمسة قرون. بينما استمرت وثائق آشور تشير لسوريا وطوروس
باسم بلاد حاتي، التي سقطت بعد ذلك بزمان في قبضة الآشوريين، لينتهي ذكر الحيثيين
وثقافتهم من التاريخ، وينسى عالم الإنسان ذلك الشعب وتلك الإمبراطورية، ويظل ذكرهم في
الكتاب المقدس حكاية أسطورية لا معنى لها. واحتسبوا في أحيانٍ أخرى مجرد قبائل كأي
قبائل، كانت تعيش في منطقة فلسطين وجنوبها، وعندما توغَّل الرحالة الإغريق بعد ذلك في
بقاع تركيا، وجدوا هناك مقاطعات آشورية فحسب، لا وجود لاسم حاتي والحيثيين،
٣٧ وظل ذكرهم في الكتاب المقدس يثير سؤالًا محيرًا لزمنٍ طويل: من هم
الحيثيون؟ وحتى بعد اكتشاف دولة الحيثيين ووثائقها، ظل وجود الحيثيين بفلسطين مشكلة
تستعصي على الحل، حيث لم يقدم لنا التاريخ كعلمٍ ما، يفيد بأن الحيثيين قد دخلوا فلسطين
أو ضموها لإمبراطوريتهم يومًا، ولم يبقَ مفهومًا بالكتاب المقدس، تلك النصوص التي وردت
في سفر ملوك ثاني (٧: ٦) وأخبار أيام الثاني (١: ١٧)، وتتحدث عن ملوك الحيثيين وحيث إن
زمن ملوك إسرائيل يقع بعد عام ١٠٠٠ق.م. فهو ما يعني أن المقدس التوراتي كان يحدثنا عن
مماليك حيثية، بينما لم تكن هذه المماليك موجودة حينذاك، وهي الإشارة التي رآها عالم
الحيثيات «جرني»، تتحدث عن مقاطعاتٍ سورية ظلت حيثية الثقافة واللغة، بعد سقوط دولة
الحيثيين بخمسة قرون تقريبًا، وقتما كانت الوثائق الآشورية تشير لتلك المقاطعات السورية
الشمالية باسم «حاتي»،
٣٨ وهو بدوره ما لا يفسر وجود الحيثيين داخل فلسطين كعنصر ضمن عناصر الشعوب
المقيمة فيها.
وإضافة لمشكلة وجود الحيثيين كعنصر مستوطن أصيل بفلسطين، فإن هناك أمرًا آخر يشكل
لغزًا، فحيث سجلت المصادر الحيثية أن دولتها القديمة التي أسسها «لابرناس» كانت دولة
إمبراطورية، ولا نجد شيئًا واضحًا في مدونات المنطقة الأخرى، عن توسع الحيثيين فيما عدا
وصوله سوريا، وإسقاط الملك الحيثي مورشيليش لدولة بابل الثانية، ثم انسحابه دون سبب
واحد واضح، ليتركها طواعيةً لغزوٍ آخر مجهول الشأن يستولي عليها، جاء ذكر أصحابه باسم
العنصر الكاسي أو الكوشي، هذا ناهيك عما ذكرته النصوص الحيثية، أن جزيرة ألاشيا/قبرص
كانت تابعة للحيثيين، وهو ما يراه «جرني» أمرًا غير مفهوم؛ لأننا لو صدقناه فذلك يعني
خروج الحيثيين من وراء جبال آسيا الصغرى،
٣٩ ومعنى ذلك أنهم قد بدءُوا تكوين إمبراطورية لم تزل التفاصيل بشأنها مجهولة
تمامًا.
هنا يمكن العثور على طرف الخيط في شبكة الخيوط المعقدة، التي أدت إلى تضاربٍ شديد
في
تحديد الأصل الجنسي للهكسوس، وهو ما سيساعد بعد قليل في تفسير وجود المفردات والصياغات
الهندو الآرية إلى جوار السامية فيما تركه الهكسوس من آثارٍ قليلة، كما يمكن أن يساعد
في حل مشكلة الموطن الأصلي للهكسوس، والتي تأرجحت بدورها بين جنوبي جزيرة العرب وبين
محيط قزوين في أرمينيا، ثم تفسير مذهب بعض المؤرخين القائل بأصول إفريقية للساميين،
استنادًا لمقارباتٍ لغوية مقنعة. فكما قلنا ذهب فريق كبير إلى أن جزيرة العرب كانت
أصلًا منشأ الساميين، ثم خالفهم فريقان: الأول يقول بمجيء الساميين من بلاد أرمينيا،
والثاني فريق يتوارى في الظل، ذهب إلى أن الوطن الأصلي للساميين هو شمال شرقي أفريقيا
(سيناء)، حيث عُثر على أدلةٍ لغوية بالكتابة المعروفة بالسينائية، وأن تلك الكتابة تجمع
سماتٍ سامية مع سماتٍ مصرية قديمة في اللفظ وفي المعنى، وأن تشابه السامية مع المصرية
بعد ذلك يمتد إلى اللغة القبطية ولغات البربر والكوشيين والصومال وأثيوبيا. كما أن
العنصرين السامي والحامي يتشابهان في الصفات الجسدية، خاصةً إذا ما نظرنا إلى جنوبي
بلاد العرب وبلاد أثيوبيا، حيث لم تكن الحبشة منفصلة عن اليمن، وكانتا تحسبان دولة
واحدة رغم مضيق المندب بينهما، وأطلق اليونان عليهما معًا اسمًا واحدًا هو «أثيوبيا».
٤٠
أما الحيرة الناتجة عن الحلف الهكسوسي العظيم؛ فقد تجلت في قول صموئيل لانج: «من
الأمور التي يحوم حولها قدر كبير من الشك معرفة أصل هؤلاء الغزاة الذين عُرفوا بالهكسوس
أو ملوك الرعاة، وقد كانوا يتألفون على الأرجح من قبائل بدوية من الكنعانيين والعرب
وعناصر سامية أخرى، لكن يبدو أن الحيثيين الطورانيين، كانوا على صلةٍ بهم، وأن قادتهم
(أي قادة الحلف الهكسوسي [المؤلف]) كانوا من الطورانيين «سكان الأناضول [المؤلف]»، إذا
حكمنا بما نشاهد من صور وتماثيل ملكين من آخر أسرة من الهكسوس، كشفهما حديثًا نافيل
Naville في بوباسطة، وتدل دلالةً قاطعة على أنها
طورانية الملامح بل أصيلة.»
٤١
وهي الحيرة ذاتها التي تضاعفت بعد كشف مدينة أوغاريت في رأس شمرا بجوار اللاذقية،
«فقد كشفت الألواح أن شعب أوغاريت الصغير هذا، قد تمازج فيه أكثر من شعب وعنصر؛ فقد
كانت فيه في وقتٍ واحد قبائل وجماعات أكادية وحيثية ومينوية ومصرية وعمورية، لكن
الجماعة الأكثر عددًا كانت جماعة الحوريين.»
٤٢ ويقول الأركيولوجي «شيفمان»: «وكان التخاطب في أوغاريت يتم بلغتين محليتين
هما: السامية التي يسميها علم الساميات المعاصر بالأوغاريتية وبالحورية. أما اللغة
الثانية فهي الأكادية التي اقتبست عن بلاد الرافدين، وقامت بدور الوسيط العام كوسيلة
للتخاطب المكتوب بين الدولة الأوغاريتية وبقية الدول، وبين الجماعات الإثنية، وكذلك
كانت لغة الشئون العملية والمراسلات.» ثم يعود إلى اللغة الحورية ليقول: «كانت اللغة
الحورية نسيبة اللغة الأوغاريتية وعدد آخر من لغات شمال القفقاس المعاصر.»
٤٣
وهكذا بعد أن أكد لنا شيفمان أن الحورية لغة سامية، يعود ليقول إنها نسيبة لغة شمال
القفقاس، وهي لغة هندو آرية (؟!)، دون أن يشعر بأي اختلال (؟!)
وما يعضد أمرنا من وثائق أوغاريت (تل شمرا الآن على الساحل السوري)، ذلك النص الذي
يشير إلى خضوع المدينة مكرهة لمحتلٍّ غريب الشأن، هو مزيج من الكوشيين والحوريين
والحيثيين والقبارصة، وأنهم ينتمون إلى مدينةٍ جامعية واحدة، والنص يتحدث عن قربان
يتقدم به شعب أوغاريت للإله. والنص يقول:
ويقدمون ضحية حمارًا ويغني ابن أوغاريت الأغاني، ويزينون أطراف الجدران في
أوغاريت، ويتزين «بامعان» ويتزين «عروماتو» ويتزين … (تلف بالنص) ويتزين
«نقمد».
وقبائل الحوريين
وقبائل الحيثيين
وقبائل الآلاشين
(آلاشيا هي قبرص [المؤلف])
والقبائل المكروهة، القبائل التي نهبتكم، القبائل التي أذلتكم.
قبائل المدينة المتسلطة
ها نحن نقدم قربانًا ونذبح ذبيحة، فليعلو هذا الحمار إلى قبيلة أبناء «إيلو».
٤٤
(أبناء إيلو أي أبناء الله [المؤلف])
ثم نتابع السعي وراء كل ما يؤيدنا، فنجد وثائق مدينة دولة «إيبلا»، التي تعود
بتاريخها إلى نهاية الألف الثالث قبل الميلاد، تحدثنا عن مجتمعٍ باسم ديتانو بالكتابة
«ديدانو»، ويقول «شيفمان»: إن هذا الاسم أطلقه أهل إيبلا على جبال باسم «آمور». ويلحظ
شيفمان أن اسم ديدانو يتطابق مع اسم ددان شرقي آدوم، وأن اسم جبال آمور ويتطابق مع اسم
جبال الأموريين، لكنه لا يرى وجوب مخالفة الرأي السائد فيقول: «ويبدو أن تطابق هذا
الاسم مع اسم أحد مجتمعات شمال شبه جزيرة العرب … مجرد مصادفة؟!
٤٥ هكذا (؟!)
ثم يقف «شيفمان» مع اصطلاح «رباتي
RP. THT»، الذي
يرد بكثرة في الألواح الأوغاريتية، وهو ذات اصطلاح «رفائي» و«رفائيين»، الذي يرد بكثرة
في التوراة للإشارة إلى الشعب الطويل العملاق، ويكتشف شيفمان في نصوص أوغاريت أن
الرباتيين قد اتحدوا مع شعب ديدانو، وشكلوا جماعة واحدة ينتمي إليها جميع أهل منطقة
«ددان» جنوب شرقي آدوم، وأن هذا الاتحاد جاء تفصيله وتعداد أعضائه في سفر التكوين (١٥:
١٩–٢١)، وقد رجعنا من جانبنا نبحث وراء هذا النص، الذي أشار إليه «شيفمان»، فوجدناه
فعلًا يعدد أطراف ذلك الحلف كالآتي:
القينيين والقنزيين والقدمونيين والحيثيين والفرزيين والرفائيين والأموريين
والكنعانيين والجرجاشيين واليبوسيين.
ثم يضيف شيفمان أن الرباتين وُصفوا في وثائق أوغاريت بأنهم «شعب عظيم كثير العدد
طويل
القامة»، وهو ذات وصف التوراة للعمالقة بالنص كما سلف إيراده.
٤٦ أما الأشد تلاقيًا مع فروضنا فهو التصور الأوغاريتي عن الرباتيين،
باعتبارهم جنسًا متميزًا هجينًا ينتمي من جانب لجنس البشر، لكنه من جانبٍ آخر ينتمي إلى
عنصر الآلهة.
٤٧ وهو ما يذكرنا بالأسطورة التوراتية عن الجبابرة، الذين كانوا نسلًا مميزًا
من أبناء الله وبنات الناس، الذين اصطلح التاريخ على تسميتهم بالعمالقة.
ومن الطيب فعلًا ثراء تاريخنا العربي، الذي سجل ذكريات تاريخية قديمة عن انتشار
العماليق في المنطقة، والمناطق التي حكموها، وأن بني حام (المصريين) قد طردوهم من تلك
المناطق، وقد تم ذلك التسجيل مع بعض الالتباسات، التي عادة ما شابت الكتابات التاريخية
العربية، ونموذجًا لذلك ما جاء عند ابن قتيبة الدينوري في كتاب المعارف؛ إذ يقول:
وكان من بينهم العرب العمالقة، الذين كانوا يتألفون من قبائل مختلفة، والذين
انتشروا في بلادٍ متعددة، ومن بينهم ملوك مصر وبابل.
وما جاء عند ابن خلدون عالم الاجتماع العربي في كتاب «العبر وديوان المبتدأ والخبر»؛
إذ يقول:
إن عادًا والعمالقة حكموا العراق، ويقال إنه لما طردهم أبناء حام هاجروا من
بابل إلى بلاد العرب.
٤٨
وما جاء عند اليعقوبي وهو شرح أن ملك العمالقة على مصر كان طارئًا عليها، وحدث
لأسبابٍ آنية حينذاك، فيقول:
ولما اتخذ المصريون النساء ملكات عليهم، طمع العمالقة ملوك سوريا (سوريا هنا
تعني بر الشام جميعًا [المؤلف]) في غزو مصر، ومن ثم عاث الوليد بن دومة فيها
فسادًا، وأجبر المصريين على الاعتراف به ملكًا عليهم، وقد حكم مصر مدة طويلة،
وخلفه بعد موته ملك آخر من العمالقة هو ريان بن الوليد الذي عاصر يوسف.
وهو ما يعني أن دخول بني إسرائيل مصر زمن يوسف، قد حدث بينما كانت مصر واقعة تحت
احتلال العماليق بمدةٍ طويلة.
وهنا يورد لنا ابن خلدون سببًا آخر لاحتلال العمالقة مصر؛ لأنه لم يقتنع بسوء حكم
النساء، فيقول:
وقد طلب بعض الملوك القبط في مصر المعونة من أحد ملوك العمالقة في عصرهم،
فاستجاب لرغبته لكنه احتل مصر لنفسه.
هذا بينما يؤكد ياقوت الحموي:
إن فراعنة مصر كانوا من العمالقة، وكذلك كان فرعون إبراهيم وفرعون يوسف
وفرعون موسى.
٤٩
وفي كتب الأنساب نجد أن:
العمالقة من ملوك حمير كانوا بالشام، منهم الزباء قاتلة جذيمة الأبرش،
والعماليق من ولد عملق بن لاوذ بن سام، منهم الفراعنة ملوك مصر … والعنقاء
«العناقين = العماليق»، لقب ثعلبة بن عمرو بن عامر الأزدي.
٥٠
ومن المدهش حقًّا أن يطلق المؤرخون العرب، على أول ملك هكسوسي لمصر هو فاتحها اسم
«شداد»، وهو الأكثر تداولًا في الكتابات العربية، كأول ملك عماليقي على مصر، وليس
الوليد بن دوما، وهو ما يلتقي تمامًا مع اسم أول ملك هكسوسي، حدثنا عنه مانيتون المؤرخ
المصري، وكذلك بردية تورين باسم «شلات»، أو مع التصريف اليوناني «شلاتيس» أو «شلاد»،
وهو ما لا يلتقي معه مبنًى فقط، بل في المعنى أيضًا، فكلمة شداد تعني القوي الشديد،
وكذلك تعني ذات المعنى كلمة Sallat في اللغات السامية،
ومنها «شلات»، ومنها أيضًا سلطنة وسلطان وسلطة.
ويلخص لنا «جارستانج» أمر الحيثيين، فنراهم
مجموعة أجناس وأحلاف، وذلك في قوله إن «القبائل الحيثية كانت تتكلم بما لا يقل عن ست
لغات مختلفة، إلا أنه يتضح بعد إلى أي حد يدل اختلاف طرق الكلام ولغات هذه القبائل، على
وجود تباين حقيقي بين أجناس الناطقين بها. وقد أظهرتها الرسوم المصرية المتأخرة على
أربع أو خمس سلالات (هل ما زلنا نذكر المدينة الخماسية والحلف الخماسي؟) من الفصائل
التي حاربت فرعون، بل إن آسيا الصغرى (تركيا [المؤلف]) ما برحت حتى اليوم آهلة بأقوامٍ
غير متجانسة، منها الجركس والأرمن والأكراد واليونان يحتفظون بجنسياتهن، ويتكلمون لغتهم
الخاصة. وكانوا يجنحون أول ما ظهروا إلى الاندماج في حلفٍ سياسي يؤلف بينهم.
وخضعوا بصفةٍ عامة لسلطان قبيلة خيتي»،
٥١ لكن جارستانج يذهب مع الجميع إلى موضعة «ميتاني» في أعالي الرافدين بجوار
الجانب الشرقي للحيثيين، فيقول: إن الملك الحيثي سبليوليوماس «استغل اتفاقه مع الحريين
فأخذ يرسم خططه على نطاقٍ عسكري أوسع أفقًا، فها هو ذا يعبر الفرات عند منابعه العليا،
ولعل ذلك كان عند ملطية، فيجتاح أرض عيسووه المقابلة، التي كانت لا تزال تعترف بنفوذ
دوشراتا على ما يظهر، فأذل أهلها وأمن بإذلالهم على سلامة هذا الطريق البالغ الأهمية،
وأنجز استعداداته فعبر الفرات بكامل قوته، ثم انتهى به الزحف إلى مشارفواشوكاني
Wassukkanni عاصمة الميتانيين نفسها، وهي التي يُظن
أنها كانت واقعة عند منابع نهر الخابور.»
٥٢
أما نحن فلا نرى في ذلك إلا مزيدًا من الدعم لنظريتنا، فأرض عيسووه التي أشارت إليها
نصوص سبليوليوماس الملك الحيثي، باعتبارها بلادًا يحكمها دوشراتا، وأن فيها عاصمة
الميتانيين، ولا تقع عند منابع نهر الخابور، فليس هناك أي «عيسووه» بعد بحثٍ وتقصٍّ
دقيق، استغرق وحده من بحثنا وجهدنا زمنًا، إنما تقع بين البحر الميت وخليج العقبة في
بلاد مديان الآدومية في بلاد عيسو/آدوم. أما الطريق البالغ الأهمية فهو طريق التجارة
العالمي الذي كانت تمسك بعنقه بونت/سالع البتراء.
وهكذا نعرف كيف حدث التوحد قياسًا على هذا النموذج المتأخر، فهو توحيد ثانٍ قاده ملوك
الحيثيين، أما الأول فقد حدث بنفس الطريقة النموذج، فهبط الحيثيون واستولوا على عنق
الطريق التجاري، وضموا تحت جناحهم تلك العناصر والشعوب، وقادوها لفتح دول الجوار
الكبرى، فيما عرفه البابليون بالكاسيين، وعرفه المصريون بالهكسوس. وهناك، إلى الشرق من
تركيا على البحر الأسود، يقع الميناء المعروف حتى الآن باسم بونت من حيث هجرتهم الأولى،
ثم منح الحيثيون سلسلة الجبال الكبرى شمالي الهلال الخصيب أسماء جبال بونتس ربونت
بدورها، ومن هناك هبطوا جنوبًا مبكرين، ربما قبل أن تصل بقية الهجرات الكثيفة بأزمان،
ليمنحوا منطقة العقبة ووادي عربة أسماء بلادهم القديمة، وهو الأمر الذي يعضد نظريتنا
في
تحديد هذه المنطقة القديمة بحسبانها هي بلاد بونت التاريخية، وجاء الاسم «بونت» مع
الحيثيين الوافدين من بلاد بونت عند البحر الأسود إلى شرقي سيناء/آدوم، وهو الفرع
الهندوآري في الحلف التجاري العظيم.
أما أتباع مدرسة جارستانج ورفاقه، فما زالوا يبحثون عن عاصمة بلاد الميتاني عند نهر
الخابور في الفرات الأعلى.
أما نحن فقد علمنا أن المصريين قد عرفوا محتلي بلادهم (الهكسوس) باسم الشاسو، وأن
الشاسو مزيج هجين من الكوشيين (الكاشو) الزنوج والسبئيين القادمين من الجنوب، وعلى
رأسهم قادة من العموريين، ومن الحاثو (الحيثيين) الحوريين القادمين من الشمال، وهم قادة
الجنس الهندوآري، وبين هذا وذاك تناثرت البطون والأفخاذ الشمالية والجنوبية، عمورية
جنوبية عملاقة وآرامية شمالية حمراء، وكثير من العناصر المزيج، شكلوا ما يزيد على
ثمانية وعشرين جنسًا، فيما أخبر المؤرخ «هورشيوش»، ليتمركزوا في بلاد آدوم، ويتوحدوا
في
خمس ممالك، تحت قيادة قوية تعمل بشكلٍ بدائي من الديموقراطية، مركزها سالع البتراء، ثم
ينطلقون منها لتكوين إمبراطورية تشمل المحيط جميعه، وهو الأمر الذي سيزداد تأكيدًا
ووضوحًا في الصفحات التالية من هذا العمل.