الفصل الثالث
عاد وثمود
يفهم من المادة التي قدمها لنا «سليم حسن» أن مدونات الملوك الحيثيين، قد ورد بها
ذكر
الحوريين مرات عديدة، كما جاء في ذات المدونات حديثًا عن الخابيرو. ويقول «سليم حسن»:
إن تلك المدونات تفصح عن علاقات قوية ومتينة، بين أولئك الذين حملوا في تلك المدونات
اسم «الحوريين»، وبين أولئك الذين حملوا اسم «الخابيرو»، وهكذا يبدو سليم حسن ميالًا
إلى ربط الخابيرو بالحوريين، أو التأكيد على أن المدونات الحيثية هي التي ترى ذلك، ومع
ذلك يؤكد سليم حسن من جانبه، أن الخابيرو كانوا من العنصر السامي، بينما الحوريون من
عنصرٍ مخالف تمامًا هو الهندوآري.
١
وفي موضعٍ آخر، وفي إشارةٍ عابرة، يُبدي ذلك المؤرخ الكبير دهشته من الانتشار الواسع
للمواد الحورية، بطول حوض المتوسط الشرقي وعرضه، دون سبب واضح، خاصة أنه ينظر إليهم
كبقية المؤرخين، بوصفهم شعبًا منكور الشأن ينزوي على استحياء بين شعوب المنطقة. ويجد
أن
فنون الفخار الحوري تتطابق في كل المنطقة، فهي في فلسطين كما في أعالي الرافدين، كما
في
مصر كما في قبرص، يضاف إلى ذلك أن مصر بداية من عهد الدولة الحديثة، قد أخذت تشير إلى
فلسطين باسم بلاد حور/حوري، مما يفيد بغلبة هذا العنصر على منطقة شرقي المتوسط،
٢ بل وصل مد الآثار الحورية حتى وجدناه ضمن آثار الحيثيين بشمالي الأناضول.
٣
إن ذلك جميعه يؤكد نظريتنا حول الإمبراطورية، التي قامت بذرتها في بلاد آدوم، ثم
توسعت لتضم المنطقة جميعًا، فيما عرفه التاريخ باسم إمبراطورية الهكسوس … ونستعيد
المشاهد الأولى لدخول الهكسوس مصر في حديث «كاسيدوفسكي»، وهو يؤرخ قائلًا:
في حوالي ١٧٨٠ق.م. اجتاحت بلاد مصر أحداث ثورية عاصفة هزتها هزًّا عنيفًا …
واهتزت القوة المصرية بشدة عانت فيها مصر من انهيارٍ سياسي حقيقي، حلت بالبلاد
كارثة رهيبة، فقد اندفعت من الشرق جحافل لا حصر لها من الجنود الأغراب، واجتاحت
مصر كسيلٍ جارف، وكان هؤلاء الجنود يركبون عجلات سريعة، تجرها الخيول ويحملون
سيوفًا طويلة، ويلبسون دروعًا من حديد.
٤
ويضيف «سليم حسن» أن معدن البرونز المصنوع من سبيكة خليط من القصدير والنحاس، والذي
ظهر في مصر مع الهكسوس، كان معروفًا في الأناضول منذ عام ٢٥٠٠ق.م. وأن ذلك يعد في علم
التاريخ من الحقائق الثابتة. مع ملاحظاتٍ عدة أخرى، تؤكد أن الهكسوس قد أتقنوا في
موطنهم الأصلي فن صناعة المعادن القوية بشكلٍ لم تعرفه مصر من قبل.
٥
ويجد المؤرخون تبريرًا معقولًا لسقوط مصر بحجمها المعلوم أمام ما كان مظنونًا أنه
شراذم بدوية، بكون هؤلاء كانوا — فيما تقول جوليا سامسون — «يتسلحون بأسلحةٍ صنعت من
الحديد، وهذه النوعية من التسليح لم تكن معروفة بعد في مصر. هذا إضافة إلى الصلافة
والشراسة التي طبع عليها الهكسوس، من طول الحياة البدائية التي قضوها في الصحراء.»
٦
وعن الحوريين تقول موسوعة تاريخ العالم: إنه «كان أعظم عمل للحوريين، هو إدخال العربة
ذات العجلتين التي تجرها الخيل إلى مصر وغربي آسيا، حيث أصبحت معروفة بعد عام ١٦٠٠ق.م.
عثر الباحثون في سجلات بوغاز كوي (عاصمة الحيثيين [المؤلف]) على كتابٍ في تدريب الخيول،
كتبه أحد الحوريين المعروف باسم كيوكولي، ويحتوي الكتاب على كثيرٍ من التعبيرات الفنية
الهندية.»
والمعلوم من علم التاريخ أنه «لم يظهر الحصان في مصر حتى عصر الهكسوس، عندما أدخل
من
آسيا لجر العربات أصلًا.»
٧ ويؤكد «بتري» أن الحصان قد ذكر في لوح كارنافون باسم «حترو»، وهي كلمة
حورية أصلًا وليست مصرية، تنبهنا إلى الأصل الحوري للحصان.
٨
وعن الحصان يحدثنا تشيلد: «إن الحصان له علاقة أصيلة بالأقوام الآرية، والظاهر أنه
يمكن اقتفاء أثر الكلمة المصرية والسامية الدالة على لفظ الحصان إلى اللغة الآرية، وهي
«أسوا» من السنسكريتية (آسفا). ومن الواضح أن الكلمة المصرية «سسمت
Ssmt» مشتقة من اسم الجمع العبري «سوسيم»، وكلمة سسمت لا تمثل إلا
الحروف الساكنة للاسم، وحرف التاء فيها للتأنيث. وعلى أية حال، فإن وجود وسيط سامي في
نقل الكلمة إلى المصرية، يجعلنا نظن بعض الشيء أن الجنس الآري يحتمل أنه اختلط بعنصرٍ
سامي من بين الهكسوس. ولدينا كلمة أخرى هي مرين، ومعناها خيال وسائق عربة، والظاهر أنها
تنتسب إلى الكلمة الميتانية مارينا، وهذه الكلمة الأخيرة قرئت بالكلمة السنسكريتية
ماريا، ومعناها الرجل الفتي الشاب.»
٩
هكذا تجمع الدلائل إلى درجة القطع واليقين، على أن الهكسوس هم أول من أدخل إلى منطقة
شرقي المتوسط، فن صناعة المعادن الثقيلة كالحديد، وأن معدن البرونز تحديدًا كان معروفًا
في بلاد الحيثيين بالأناضول منذ وقتٍ مبكر. ولعلنا نتذكر الآن رسالة الملك الحيثي
حتوشيليش الثالث، لملك صديق يعتذر عن الوفاء بطلباته؛ لأن موسم الحديد كان رديئًا.
١٠ ثم نلمس علاقات قوية بين الكوشيين الذين احتلوا بابل (الكاسيين) وبين
الحيثيين، وصلت حد التضامن الكامل. فتضرب جيوش حيثي بلاد بابل لتتركها فريسة سهلة
للكوشيين، مع علاقةٍ أخرى طوال الوقت تجمع الحيثيين بالحوريين.
وإن نسبة الخيل والعربة العسكرية والحديد إلى الحوريين مرة، وإلى الحيثيين مرة أخرى،
لا يشكل سوى مشكلة ظاهرية؛ لأن الحوريين الذين ظهروا في فلسطين وآدوم، يعودون بأصولهم
إلى هجرةٍ قدمت من منطقة أرمينيا ومحيط بحر قزوين، بينما تموضع الحيثيون إلى الغرب منهم
مباشرة في الأناضول، وهناك رواية تاريخية تقول إن الحوريين قد سبق لهم التموضع في
الأناضول، حتى ظهر الحيثيون وأزاحوهم من هناك ودفعوهم جنوبًا، لكن الواضح ويجب استنتاجه
دون جهد، هو أن هناك حلفًا قد قام بين كليهما، وأن كلا الشعبين: الحوري والحيثي قد
تسربا جنوبًا عبر نسيج هذا الحلف وخيوطه الرابطة، بحيث نجدهم بالكتاب المقدس كشعبين من
شعوب فلسطين وبلاد آدوم.
وهكذا يظهر بالتدريج أن منطقة آدوم التجارية، قد استوعبت في شريط ضيق لكنه طويل
وهائل، كل هذا التداخل التدريجي لشعوب هندوآرية (آرامية) قادمة في بلاد أرمينيا، عنصره
آري (فارسي)، ومكوناته حوري وحيثي، في حلفٍ امتد على الخط التجاري العالمي القادم من
أعلى بوادي الشام عند الرافدين الأعلى، ممتدًّا عبر بوادي الشام وبلاد آدوم، مستمرًّا
في امتداده عبر بلاد الحجر والخط التجاري الحجازي الواصل إلى اليمن، ليلتقي في وادي
عربة وجبال سعير حلفاء الشمال الآراميين بحلفاء الجنوب من شعوب (عمورية)، قادمة من
الجزيرة العربية بصحبة العنصر الزنجي، الذي عبر المندب إلى الجزيرة ببضائعه
الإفريقية.
وحتى يتضح سر هذا التضارب علينا الآن العودة إلى مشكلة أصل الساميين، فقد نشأ القول
بأن هناك أصلًا واحدًا للمتكلمين باللغات الأكادية (بابلية وآشورية)، وبالكنعانية
والعبرية والفينيقية والآرامية والحبشية والنبطية والعربية، بحساب المشتركات اللغوية
التي تجمع بين لغات هذه الشعوب. فجذور الأفعال فيها جميعًا ثلاثية، وتتطابق فيها جميعًا
الألفاظ الدالة على القرابة والعلاقات الاجتماعية. وهو ما يشير إلى مشتركٍ أول جمع
بينهم جميعًا في تنظيم المعاملات وبخاصة التجارية، وهو ما أدَّى جميعه بالعالم النمساوي
لودفيج شلوتسر عام ١٧٨١م، إلى إعلانٍ عام أن الشعوب التي تتكلم هذه اللغات، تنحدر من
أصلٍ واحد أطلق عليها اصطلاح الساميين، وأنهم لا شك بهذا المعنى قد جاءوا من أصلٍ وطني
قديم واحد هو وطن الساميين الأم.
لكن ما حدث هو أن الباحثين تضاربوا تضاربًا هائلًا، عند محاولة تحديد هذا الوطن الأم
الأصلي للعنصر السامي، الذي انتشر في حوض المتوسط الشرقي بدءًا من شرقي الدلتا المصرية
وسيناء وآدوم وفلسطين وبوادي الشام، وصولًا إلى تركيا في أقصى الشمال واليمن في أقصى
الجنوب، فذهب فريقٌ كبير إلى أنهم قدموا من جزيرة العرب في هجراتٍ كبرى، ويمثل هذا
الفريق الجانب الأعظم من العلماء الذين اهتموا بتلك المشكلة. ومنهم دي جوييه De Goege وشرادر Shradar وونكلر Wincklr وتيلي Tiele وماير Mayer
وروبرتسون سميث Robertson Smith ولانج Samuel Lang وسايس Wright Sayce وروجرز R. W. Rogers.
وخلاصة ما توصل إليه أصحاب هذا الرأي، هو أن
شبه جزيرة العرب لم تكن منطقة صحراوية جافة في كل عصورها القديمة؛ فقد تعرضت لهطول
أمطار غزيرة طوال عصر البلايستوسين (آخر العصور الجيولوجية)، شأنها في ذلك شأن بقية
المناطق المدارية، ونتيجة ذلك غطتها الغابات والنباتات التي تسكنها المجموعات البشرية.
وانتهى عصر البلايستوسين بأمطاره حوالي سنة ١٠٠٠٠ق.م. وبدأ الجفاف يزحف على المنطقة
لتحل الصحراء محل الغابات، إلا حيث نحتت الأنهار لها مجرًى كنهر النيل ودجلة
والفرات.
نتيجة لذلك بدأت تتضاءل إمكانيات الحياة، واضطر
الناس إلى النزوح منها كلما زحف الجفاف والإجداب، وهو ما أدى إلى موجاتٍ متتالية من
الهجرات من شبه الجزيرة إلى المناطق الخصبة على تخومها، وكانت آخر تلك الهجرات تلك التي
جاءت مع الفتوح الإسلامية في القرن السابع الميلادي، وقد حملت هذه الهجرات لغتها معها،
وهو ما أدَّى إلى تعدد في الشعوب السامية وتقارب في اللغة، سواء في الألفاظ أو في
التراكيب أو في التصريف.
وقد رتب أصحاب هذا الرأي هذه الهجرات، استنادًا إلى ما استنتجوه من شواهد تاريخية،
على النحو التالي:
الأكديون وقد استقروا في وادي الرافدين في الألف الثالث والرابع قبل
الميلاد.
الكنعانيون بما فيهم الفينيقيون والأموريون، وقد استقروا في المنطقة السورية
ووادي الرافدين خلال الألفين الثالثة والثانية قبل الميلاد.
الآراميون وقد استقروا في كل مناطق الهلال الخصيب، والعبرانيون الذين استقروا
في المنطقة السورية في النصف الثاني من الألف الثاني قبل الميلاد.
الأنباط وبعض القبائل العربية الجاهلية، وقد استقروا في منطقة الهلال الخصيب
بين القرن الثاني والقرن السادس قبل الميلاد.
العرب المسلمون وقد استقروا في منطقة الهلال الخصيب وشمال إفريقيا منذ القرن
السابع الميلادي.
ويدعم هؤلاء نظريتهم بالقواقع الحجرية التي عثر عليها في شبه الجزيرة، وهي لا تعيش
إلا في الماء، وبقايا عظام متحجرة وأدوات حجرية، تشير إلى وجود الماء والحياة فيما قبل
التاريخ، إضافة إلى عددٍ من الوديان الجافة الآن، مثل وادي الدواسر ووادي الرمة ووادي
السرحان التي يحتمل أنها كانت أنهارًا عظيمة، هذا مع حيواناتٍ وأشجار كانت معروفة في
جزيرة العرب أيام الكتاب الكلاسيك يونانًا ورومانًا ٥٠٠ق.م.–٥٠٠ب.م. أو الكتاب العرب.
وقد اندثر بعضها الآن مما يشير لاستمرار زيادة الجفاف والتصحر.
لكن أصحاب النظرية اختلفوا حول أي موطن في الجزيرة الواسعة كالقارة، كان يعيش
الساميون؟ بعضهم رأى أنه من اليمن، وأنه من الخط المسند اشتقت سائر الخطوط التي كتبت
بها الشعوب السامية. وبعضهم رأى ذلك الموطن هو شرقي الجزيرة على ساحل الخليج، أما البعض
الثالث فرأى أن موطن الساميين هو حافة شبه الجزيرة الشمالية الغربية، وهو ما يعني محيط
بلاد آدوم وسيناء.
١١
أما الفريق الآخر من علماء الأجناس فقد نحَى منحًى مخالفًا، ويعتمد أصحابه على أدلة
لغوية تربط ما بين السامية وبين الأحباش، للقول أن الجنس السامي جاء من أفريقيا الشرقية
عبر باب المندب والبحر الأحمر، وأن أفريقيا هي أصل الساميين والحاميين معًا، الساميون
عبروا مضيق باب المندب إلى جزيرة العرب، والحاميون عبروا شمالًا نحو مصر ثم عبورًا
لسيناء إلى آسيا.
١٢
أما الفريق الثالث؛ فيذهب بعيدًا تمامًا ليأتي بالجنس السامي من أرمينيا، والقادم
أصلًا من هضبة آسيا الوسطى، الوطن الأصلي للجمل، وقد جاء الجمل من هناك مع الساميين
المهاجرين من جنوبي شرقي وجنوب بحر قزوين مرورًا بإيران.
١٣
وقد رأى الباحثون المحدثون أن افتراض فكرة موطن أصلي واحد، ليس ضروريًّا لتفسير
التشابه والتقارب بين اللغات؛ فليس ضروريًّا أن تنتمي الشعوب التي تتقارب لغاتها إلى
عنصرٍ واحد ووطن واحد؛ لأن هناك احتكاكًا دائمًا بين الشعوب خاصة في تلك المنطقة
المتوسطة من العالم، وهي منطقة مفتوحة طوال تاريخها، كما أن الاختلاط وتشابك المصالح
غالبًا ما يؤدي إلى ازدواجٍ لغوي.
١٤ ولأننا نعتقد أن ظهور الشعوب السامية لم يكن كما صورت النظريات الدينية
تنحدر من أسلافٍ يعودون إلى أبٍ واحد، تفرقت منه البشرية إلى زنجي حامي وأسمر سامي
وأحمر يافثي، بل نعتقد أن ما حدث هو العكس تمامًا، وهو الموافق لروح العلم، حيث تلاقت
أجناس متفرقة وتلاقحت في مساحة جغرافية أفرزت عنصرًا جديدًا، وأن ذلك تكرر في جهاتٍ
متفرقة من العالم، وبين الشعوب التي ظهرت نتيجة التلاقح الجنسي، كان ذلك الشعب السامي
الشمالي، الذي حمل في جيناته أصولًا حامية زنجية ومصرية مع أصول هندوآرية، وحملت لغته
أصول لغات تلك الشعوب، وأن ذلك قد حدث في سيناء وآدوم وبوادي الشام. ويبدو أن هذا
التلاقي والتلاقح قد بدأ مبكر جدًّا، وأقصى ما يمكن قوله هنا أن عنصرًا زنجيًّا، كان
عبوره المندب بالمنتجات الأفريقية، امتدادًا طبيعيًّا للطريق التجاري الكبير، ليصبح
عضوًا بعد ذلك في الحلف الهكسوسي العظيم، عندما يلتقي في بلاد آدوم بالعنصر الهندوآري
القادم من براري آسيا. وهو ما يفسر لنا كيف كان باني زقورة بابل، ملكًا حكم في بابل
باسم نمرود، ونمرود في المأثور التوراتي والتاريخ الإسلامي، زنجي أسود من أبناء كوش.
أما الوثائق التاريخية فتدون لنا اسم باني البرج، حاملًا فيه حامية زنجية واضحة؛ فهو
«كاريكالزو»، وكان ضمن سلسلة حكام تأكد تاريخيًّا أنهم كانوا أقلية حاكمة على بلاد بابل
وفدت غازية.
ثم تفسر لنا تلك الرؤية انتشار العنصر الحوري الآرامي بطول المنطقة من الفرات الأعلى
من أرابخا في الشمال، حتى المملكة الحورية في آدوم، كما يفسر لنا انتشار العنصر الحيثي
في فلسطين، يحمل فيها سمات سيادية واضحة، كما يظهر من قصة شراء إبراهيم مغارة المكفيلة
منهم وسجوده لهم. ولا يفوت فطنًا أن اسم المملكة الشمالية «أرابخا»، بلسانٍ هندوآري
يُنطق عربيًّا دون التباس (العربية)، ثم إن المنطقة التي هبط منها العنصر الهندوآري
تسمى الآن «البك»، لكن اسمها التاريخي كان «آراب –
خيتيس
Arrapa-chitis»،
١٥ وهي كلمة تحمل تصريفًا اسميًّا حاتيليًّا حوريًّا، يشبه ما نراه في نطق اسم
الإله سيت باسم سيتتش أو سوتخ، فالكلمة أرابخيتيس هي «أراب» أو «عرب»!
وقد نسبت التوراة الشعب العبري إلى جدٍّ بعيد
باسم «أرفكشد» أو «أربكسد»، وأعادت موطن هذا الجد إلى منطقة أرارات بأرمينيا، بحسبانه
من أحفاد نوح حيث رست السفينة الأسطورية، وفي سلسلة أنسابها تؤكد التوراة أن هذا المكان
مرموز له باسم «أربكسد» أو «أراب خيتيس»، هو أصل لسلسلةٍ من الأنساب العبرية والعربية
في نفس الآن (ولنلحظ أن عربي هي عبرى بالميتانيز). ويحيطنا «آرثركيت
Sir Arther Keith» أستاذ علم الأجناس — وفق المنهج
الأنثروبولوجي — أنه قد «ظلت القوقاز وميديا (شمالي فارس [المؤلف]) وعامة منطقة بحر
قزوين حتى العصور التاريخية القريبة نسبيًّا ١٠٠٠–٥٠٠ق.م. مجتمعات رعاة في المقام
الأول، رغم معرفتها بالزراعة.» وقد أسفرت حفائر «ليونارد وولي
Leonard Woolley» و«لانجدون
Langdon»
و«دي مورجان
De Morgan» عن نتائج أساسية، هي أن
الرعاة وليس الفلاحين هم من نزلوا من بحر قزوين في كل اتجاهٍ بالمنطقة، لامتلاكهم وسائل
النقل السريع كالخيل والجمال، لأسبابٍ ديموغرافية كالانفجارات السكانية أو بسبب كوارث
طبيعية كالجفاف، أو بسبب السيول كما سجلتها التوراة رمزيًّا في قصة الطوفان.»
١٦ أما المؤكد عند «آرثركيت» فهو أن الجنس العربي المعروف الآن، كان من أصولٍ
قوقازية تتكلم السامية، مما يعني اختلاطًا شديدًا بين السامي والآري في العنصر الجنسي
وفي اللغة. وهو ما يمكنك ملاحظته في مأثور التوراة وذكريات المحررين عن الجنس الآري،
مرموزًا له بيافث بن نوح والجنس السامي مرموزًا له بسام بن نوح، فتقول: «ليفتح الله
ليافث فيسكن في مساكن سام.» (تكوين، ٩: ٢٧) لكن ما يجب التنبيه عليه هنا هو أن هؤلاء
الذين هبطوا من الشمال الأرميني إلى بلاد آدوم، قد حملوا من أصل مواطنهم إشارات لتسمية
تلك الأصول «آرامية»، ومنهم من كان أولئك القائلون «آراميًّا تائهًا كان أبي» (بني
إسرائيل)، ومنهم من كان سكان وادي عربة، الذين أعطوا للعرب اسمهم، وهنا يفيدنا زياد منى
بأن المراجع العربية القديمة، تعيد اسم العرب إلى نشأتهم في وادي عربة فنسبوا إلى بلادهم.
١٧ وذات المعنى يؤكده مظفر نادوثي؛ إذ يقول عن اسم العرب وأصله البعيد: «نعرف
أن هذه الكلمة أُطلقت بادئ ذي بدء على شمال جزيرة العرب، وليس على جنوبها. ويبدو أن ما
ذهب إليه الجغرافيون من أن أول اسم سميت به بلاد العرب هو عرابة صحيح، وقد أصاب هذا
الاسمَ التحريفُ على مر الزمن، فأصبح بلاد العرب، وتبع ذلك أن سُمي الشعب باسم العرب،
نسبة إلى بلادهم، وتعني كلمة عرابة في كل اللغات السامية صحراء. ومعنى هذا اللفظ في
العبرية حقل أو غابة.»
١٨ وهو ما يصادق على ما قلنا، ويشهد على أن بلاد الغابة أو الأيكة، كانت وسط
الصحارى الصخرية في بلاد وادي عربة.
ولما كنا قد قلنا إن تجمع الأحلاف كان في وادي عربة، وأن الحصان والعجلة قد جاءا
إلى
المنطقة مع الهكسوس، فإن ذلك يفسر لنا لماذا تسمى العجلة حتى اليوم عربة، ولماذا يسميها
المصريون عربية، وهنا نستمع لزياد منى يؤكد أن اصطلاح عرب واصطلاح عبر (عربي/عبري)،
بمعنًى واحد هو البدو المرتحلون دومًا،
١٩ أو كما قاله المصريون القدماء «شاسو»، وأسموا الحيوان القادم معهم «ساسو»
أي الحصان. وهكذا أعطى سكان عرابة لجنس العرب اسمه، بينما سكان جزيرة العرب أنفسهم،
كانوا لا ينظرون لسكان عرابة على أنهم أصلاء، بدليل أنهم أصروا على توضيح ذلك، وتسجيله
بالتفريق بين عربٍ أصلاء سكنوا جنوبي الجزيرة هم العرب العاربة، أي الراسخة في العروبية
بتعبير ابن خلدون، وبين عرب دخلاء اكتسبوا العروبية اكتسابًا عندما سكنوا بين العرب،
واستحقوا اسم العرب المستعربة، أي التي استعربت ولم تكن كذلك، ومقصود ذلك هو عروبة
مكانية، عروبة الجزيرة، مقصود يرى الجزيرة موطنًا للجنس العربي على امتداد تاريخه، ولم
تكن كذلك أبدًا كما هو واضح حتى الآن.
ويقول المأثور التاريخي العربي إن العرب المستعربة، أي القادمين من عرابة، كانوا
يتكلمون السريانية المتفرعة عن الآرامية الأرمينية، وفي الزمن الذي لم يكن العرب بلغتهم
كعنصر مميز قد ظهر في جزيرة العرب، كانت إشارات المؤرخين الكلاسيك عن العرب تشير فقط
إلى وادي عربة، ثم اتسع المدلول بالتدريج ليشمل عرب سيناء والشام، ولم يتسع بمفهوم
المكان الجغرافي العربي، ليشمل جزيرة العرب المعروفة الآن إلا زمن الرومان.
٢٠ ولكن قبل ذلك، عندما لم يكن عرب آرام/أرمينيا قد توراوا تاريخيًّا من
أرمينيا، نقرأ عن إسخيليوس المسرحي اليوناني في مسرحية
Promethees السطر ٤٢٠ عبارة شديدة الدلالة، تؤكد أن
معنى كلمة عرب أطلق في مبدأ الأمر، على أهل البراري والخيول في براري أسيا (آرمينيا)
قبل أن يمنحه مهاجروها لوادي عربة. ولنقرأ هذه العبارة البليغة تقول: «زهرة شباب
Arabia يحمون بأسلحتهم الحصن المنيع على حدود القوقاز.»
٢١ وهنا نقرأ ما ورد عن عبيدة بن شرية أن أحد أبناء سام بن نوح، أنجب ولدين
أحدهما، هو إرم الذي ينتسب العرب المستعربة إلى بنيه.
٢٢ ومن جانبه يحيطنا فراس السواح نقلًا عن طومسون قوله: «أما عن جزيرة العرب
فيبدو أن اللغة العربية السامية، قد جاءتها عن طريق فلسطين وسوريا الجنوبية، في أواخر
عصر البرونز المبكر وأوائل عصر البرونز الوسيط، أي حوالي عام ٢٠٠٠ق.م.»
٢٣
أما التاريخ العربي نفسه فقد أعطى لسكان جزيرة العرب، قبل أن تكون عربية وقبل أن
تتكلم العربية، اسم القحطانيين؛ نسبة لجدٍّ بعيد هو قحطان باليمن، أما العرب الشمالية
مع انفتاح الجزيرة الواسع، دون حدودٍ جغرافية مانعة حتى الأناضول، فقد حملوا اسم العرب
العدنانية نسبة إلى جد باسم عدنان، يبدو أنه ترميز لأصولهم غير الجزيرية العائدة إلى
أصولٍ أسطورية توراتية، في مكانٍ أول لهم على الأرض، كان منطلق البشرية باسم جنة عدن.
٢٤
وهكذا تفسر لنا نظرية الحلف التجاري الكبير كثيرًا من الغوامض والألغاز، مثل إصرار
التوراة طوال الوقت على وجود عنصر زنجي كوشي في محيط جنوبي فلسطين، دون منطق واضح كاشف
يبرر هذا التواجد هناك. فالكوشيون هم في التوراة الأحباش الزنوج سكان أفريقيا السوداء
تحديدًا، لكنهم في التوراة يظهرون جنوبي فلسطين، كشعب له جيوشه. وقد ذهب مرجليوث لتفسير
نص التوراة، الذي يقول إن الفلسطينيين والعرب الذين بقرب الكوشيين، قد هاجموا جنوبي
مملكة يهوذا، بأن المقصود بالعرب هنا عرب اليمن، الذين بجوار الحبشة عبر مضيق باب
المندب (؟!) … هكذا … بينما ذهب موسيل
Musil إلى أن
المقصود هم عرب سيناء، الذين بجوار المصريين باعتبار المصريين حاميين من أبناء حام،
الذي أنجب مصرايم وكوش، فهم المقصودون بالكوشيين.
٢٥
أما نحن فتفسيرنا هو هذا الكتاب جميعه.
كذلك تفسر لنا ذلك نظرية الحلف التجاري حكم الكوشيين لبابل، وأنهم لم يدخلوا في معارك
مع جيرانهم كعادة سكان الرافدين المفتوحة على محيطها، مما كان يخلق دومًا توترًا
عسكريًّا لحماية الحدود، وكان حكم الكاسيين أو الكوشيين في الرافدين على اتصالٍ حميم
ودائم مع الجيران بالمنطقة، مما يشير إلى أن زمن حكمهم لبابل كان هو ذات حكم الحلف
لبقية المنطقة، كان هو ذات زمن الإمبراطورية، بعد أن بلغ الأحلاف من القوة ما يسمح لهم
بالخروج عن الشريط التجاري الطويل لاحتلال دول المحيط شرقًا وغربًا.
وكذلك تفسر نظريتنا انتشار التعدين في أقصى جنوبي آدوم، بينما أصوله الابتداعية كانت
في أقصى الشمال الحيثي، كما يفسر لنا مجيء الخيل والعربة العسكرية مع أسماء سامية
وأسماء هندوآرية، حيرت الباحثين الذين اعتبروا جزيرة العرب مهد الشعوب السامية،
والإشكال أن طبيعة جزيرة العرب لا يمكن أن تكون مهدًا للحصان؛ لأن الحصان والعربة فرز
لا يصلح لفيافي الرمال، بقدر ما هو فرز مسطحات صخرية وجبلية صلبة، كما في الشمال الحيثي
الحوري وكما في بلاد آدوم الصخرية، حتى إن أهل الرافدين أطلقوا عليه اسم «آنشوكرا» أي
حمار الجبل، ولم يطلقوا عليه حمار الصحراء.
ثم يفسر لنا الحلف ذلك التوافق العجيب، الذي أفرز في النهاية لغة آرامية مشتقة من
البابلية، مكتوبة بالمسمارية كلغة عامية في المنطقة ولغة مكاتبات رسمية، فقد كانت لغة
الأخلاف التي تم التوافق عليها بينهم، فبدأت بابلية ثم تطورت إلى كارية/حورية، عرفت بعد
ذلك بالآرامية. أما الأعجب الذي أصبح مفسرًا الآن وفق عملنا هذا، فهو الرصد الذي قام
به
لويس عوض، ليكتشف أن اللغة العربية في كثيرٍ من مفرادتها وتراكيبها، تعود إلى أصولٍ
هندوآرية. أما الأكثر عبقرية فهو أن تكشف لنا علوم اللغات كشوفًا حديثة تؤكد ما قلناه،
فالجنوب الحميري أو الجنوب الجزيري الذي تدفق محتضنًا زنج أفريقيا نحو الشمال بصحبة
تجارته، كان عنصرًا له لغة تختلف تمامًا عن اللغة العربية، التي جاءت مع عنصرٍ وافد هبط
جزيرة العرب من آدوم. وقبلها كان مجيئه إلى آدوم من أرمينيا، وهم العرب المعروفة باسم
المستعربة القيسية العدنانية. والباحثون يؤكدون لنا الآن «أن اللغة الحميرية شيء واللغة
العربية شيء آخر، وأن الحميرية أقرب إلى الحبشية القديمة منها إلى العربية.»
٢٦
ثم نعلم إلى أي حدٍّ تأثرت أطراف المنطقة بحدث الهكسوس، عندما نكتشف مدى العلائق
والمشتركات التي حدثت، بين اللغة المصرية القديمة وبين اللغات السامية وبخاصة العربية،
فذات الباحثين يقولون: «إن اللغة المصرية القديمة كانت تشترك مع اللغات السامية في
العديد من التركيبات الجوهرية، وإن كان بها بعض التشابه أيضًا مع لغات أفريقية، مثل
الصومالية في الشرق والبربرية في الشمال، فالمصرية تشترك مع السامية في خاصتها
الأساسية، التي تجعل كلماتها تستخدم مصدرًا واحدًا غالبًا ما يتكون من ثلاثة أحرف، كما
تشتمل على كلماتٍ مشتركة عديدة … وتحتوي اللغة المصرية القديمة على أصوات اللغات
السامية الأساسية، مثل الحاء والعين والضاد، لكنها لا تعرف حروف الثاء والذال والظاء
مثلها في هذا مثل العامية المصرية الحالية.»
٢٧
ومن ثم تتأكد لنا علاقة اللغة المصرية القديمة باللغة العربية (القاموسية)، التي ظهرت
واضحة طوال عملنا هذا، ويتم تفسير وجود ألفاظ مصرية أحصاها بعض الباحثين ﺑ ٣٠٠٠ مفردة
مصرية قديمة دخلت إلى العربية، ناهيك عن الألفاظ الهندوآرية الموجودة بالعربية، وكذلك
المفردات التي تعود إلى لغات ساحل إفريقيا القادمة مع العنصر الزنجي.
وعليه فإن اللغة العربية الحالية لم تكن لغة جزيرة العرب؛ لأن تلك الجزيرة كانت لها
لغاتها التي عرفناها بخط المسند بالجنوب اليمني، هي غير العربية الشمالية التي جاءت
جزيرة العرب، مع العرب العدنانية المستعربة المتأثرة إلى حدٍّ بعيد بالمصرية القديمة،
حتى تكاد تكون في ٦٠٪ منها لغة مصرية قديمة. وإن العرب العدنانية هم من منح جزيرة العرب
صفة العرب، أما قبل ذلك وإن أردنا لغة الجزيرة حقًّا، قبل أن تأتيها عربية الشمال
(مصرية + هندوآرية + اللغة الجغرافية القادمة مع الزنوج)، فإن تلك اللغة القديمة
للجزيرة كانت لغة اليمن أو لغات اليمن أو اللغة الجنوب جزيرية، أما العربية الشمالية
القاموسية فالظل المصري يغطي أكثر من نصفها، حتى إننا لو بحثنا اليوم عن اللغة المصرية
القديمة، فسنجدها تغطي العالم «العربي»، أما لو بحثنا عن اللغة القديمة لسكان الجزيرة،
فهي تلك التي كانت في الجنوب اليمني، وانقرضت وأصبحت من مهام علماء الحفائر
والأركيولوجيا.
كذلك تحل فرضية الحلف الإمبراطوري لغز وصول الحيثيين إلى «ألاشيا/قبرص»؛ لأنها ببساطة
كانت تابعة ضمن مجموعة جزر المتوسط للإمبراطورية الهكسوسية. وفي ذات الجزر عثر على آثار
للملك الهكسوسي خيان ملك مصر آنذاك، الذي يبدو أن زمن حكمه كان زمن أكبر توسع قوي
للأحلاف الهكسوس، فيقول «سليم حسن»: «كان الملك خيان الذي جاء ذكره في قائمة مانيتون
وعلى الآثار، أعظم ملوك الهكسوس الذين حكموا مصر، وقد ورد اسمه في قائمة مانيتو، على
ما
يظهر باسم يناس
Jannas، وآثاره منتشرة في جهاتٍ
مختلفة، وقد عثر على جعارين عدة وأختام باسمه، ومنها نعلم أنه كان يحمل الألقاب
التالية: حاكم البلاد الأجنبية خيان، الإله الطيب خيان، الإله الطيب سوسرن رع، حاكم
المجندين خيان، ابن الشمس سوسرن رع، ابن الشمس خيان … وأهم ظاهرة في حكم خيان، هي وجود
آثار له خارج القطر المصري في جهاتٍ نائية بعيدة جدًّا، لدرجة أن بعض المؤرخين ظن أن
مملكته قد مدت أطرافها إلى تلك البقاع؛ فقد وُجدت له آثار في سوريا وفلسطين من جهة، وفي
بغداد وكريت من جهةٍ أخرى. أما عن وجود جعارين باسم هذا الملك في سوريا وفلسطين فلا
غرابة فيها؛ لأننا نرى أن هذين القطرين كانا ضمن البلاد، التي يسيطر عليها الهكسوس أيام
عظمة مجدهم.»
٢٨ وفي كريت كشَف الأثَري إيفانز في أثناء الحفر بقصر كونسوس على غطاء آنية
مرمرية باسم خيان.
٢٩
ثم لعلنا نذكر أن المصريين قد بنوا حائط الأمير/أو حائط الحاكم الذي يصد الآسيويين
وعابري الرمال، في الوقت ذاته الذي بنى البابليون سورًا عظيمًا مماثلًا باسم «مورق
تدنم»، أي الحائط الذي يصد الأموريين، مما يشير إلى تزامن في انتشار الوافد الجديد
بقوة.
والمؤرخ اليهودي «يوسفيوس» لم يعلم أن الإسرائيليين بطن آرامي صغير، وظنهم ذات عين
الهكسوس الذين حكموا مصر، وقال إنهم بقوا في مصر مدة زمنية تصل إلى ٤٥٠ عامًا، والجميل
في هذا الشأن أنها ذات المدة التي أقرها علم التاريخ لحكم العنصر الكاسي/الكوشي لبلاد
بابل (؟!)
ويحكي لنا الكتاب المقدس عن زواج البطرك إبراهيم بعد موت زوجته سارة من امرأة في
النقب في محيط آدوم بقوله: «وعاد إبراهيم وأخذ زوجة اسمها قطورة» (تكوين، ٢٥: ١) وأنجب
منها شعب مديان، ترميزًا لعلاقات واضحة بالمديانيين.
ثم يحكي لنا أيضًا عن هروب موسى من مصر بعد قتله المصري وزواجه من صفورة المديانية
بنت كاهن مديان رعوئيل/يثرون.
ثم يأتي المؤرخ ابن العبري فيلخص لنا الحدثين في عباراتٍ كانت غير مفهومة بالمرة
حتى
تاريخه، لكنها تصبح واضحة في بحثنا هذا، جمع فيها ابن العبري ذكرات ذلك التاريخ
المتناثرة، ليقول في نصٍّ شديد الأهمية لنا رغم أنه كان من المهملات تمامًا:
فهرب موسى إلى أرض العرب، وتزوج صافورا الزنجية ابنة يثرون بن رعويل المدياني
ابن ددان بن يقش بن إبراهيم من زوجته قطورا التركية.
٣٠
هل أصبحت شهادة ابن العبري إذن ليست من تهريفات القدماء كما توصف عادة؟ ونحن نعلم
أن
الأرض التي هرب إليها موسى كانت بلاد مديان/آدوم في سيناء الشرقية عند وادي عروبة، وهي
ما يسميها ابن العبري «أرض العرب»، مصادقًا على كل ما قلنا، وفي هذه الأرض العربية
اجتمع ابراهيم العبري الآرامي مع الدداني مع المدياني مع — وهناك كان الغريب غير
المفهوم — الزنج والأتراك، وهكذا لا يصح أن نندهش لاسم ددان بشمالي جزيرة العرب، وهو
اسم إله مصري لبلاد النوبة وما والاها من جنوب وهي بلاد الزنج، ولا لمعرفة أن كلمة تركي
في العربية تعني الجوال أو المشاء أو غير المستقر أبدًا، هو «الشاسو».
وهكذا عرف المصريون محتلِّي بلادهم وبلاد بابل باسم الشاسو وهم الكاشو أو الكاشين،
وكان هؤلاء الهكسوس عناصر خليط من شعوبٍ متعددة، تضافرت بطونه في ثلاثة أعراقٍ واضحة،
استظلت جميعًا بالثقافة واللغة المصرية: هي «النحسي الزنجي الكوشي الكاسي»، و«العموري
السبئي القادم من جنوب الجزيرة» و«الهندوآري الأرميني وتفاصيله في العبري والحوري
والحيثي، القادم من براري محيط بحر قزوين»، اجتمعت في دولتها المؤسسية التجارية ببلاد
آدوم، وانطلقت عزماتها من بونت سالع البتراء عاصمتها الكبرى، وحملوا في بابل اسم
الكاسيين، وحملوا في مصر اسم الهكسوس الذي ترجم إلى الحكام الرعاة ومرة إلى الملوك
الرعاة، ومرة إلى الرعاة الأسرى ومرة إلى شيوخ البدو، وفي رأينا أن أصدق ترجمة هي
الحكام الشاسو أو الكاشو من «حق = حاكم بالحق الإلهي = ملك» + «شاسو = كاشو = كوشي»
فهُم الملوك الكوشيون. ولما كانت كاشو وشاسو تعني المتحرك دومًا إشارة للبدو، فهو ما
يؤدي إلى ترجمتها «شيوخ القبائل البدوية».
وتشير المدونات القديمة وتفاسير المؤرخين، أنه كان في ذلك الحكم الهكسوسي طبقتان:
طبقة دنيا من الجند المرتزقة من عناصر وقبائل شتى، وطبقة عليا هي الحاكم الفعلي
المسيطر، وكانوا في معظمهم من العنصر الهندوآري، ويؤكد لنا «جاردنر» أن اصطلاح حق شاسو
أو حق كاشو، أو كما دونه «حيق خاسه» يعني رئيس البلد الجبلية، وأن الاصطلاح يشير فقط
إلى الحكام وحدهم، وليس كما ظن يوسفيوس أنه يشير إلى الهكسوس جميعًا.
٣١ هذا بينما اختلط في نسيج الطبقة الدنيا الزنجي بالجنوب جزيري
بالهندوآري.
ويؤكد ذات المعنى «زينون كاسيدوفسكي» في قوله: «إن الهكسوس أنفسهم لم يشكلوا سوى
فئة
قليلة العدد كانت على رأس المقاتلين، أما الجمهرة الرئيسية من هؤلاء فقد تألفت من شذاذ
الآفاق الذين كانوا يقطنون الصحارى والمغامرين والمتشردين. وقد أظهرت التنقيبات الأثرية
في مدينة أريحا، أن الهكسوس شغلوا هذه المدينة القديمة لوقتٍ ما. وهكذا يجوز لنا أن
نفترض أن مستعبدي مصر، كانوا يسيطرون على فلسطين أيضًا. ويتوقع أن تكون عشيرة يعقوب قد
جاءت مصر مع زحف الهكسوس أو بعد أن أقاموا سيطرتهم فيها. وقد استقبل يعقوب ومن معه
استقبالًا طيبًا في مصر؛ لأنهم كانوا أقرباء المحتلين. ومن جهةٍ أخرى ليس من الصعب أن
نتوقع أن الفراعنة الهكسوس لم يثقوا بالمصريين، وكانوا يثقون بأنسبائهم الآسيويين الذين
يجمعهم معًا المنشأ واللغة.»
٣٢
وعليه نفهم تقسيم السيادة بين بقية عناصر سادة الإمبراطورية، فبينما تُركت بابل
للسيادة الكوشية، وُضعت مصر تحت سيادة النخبة الحيثية، التي ربما كانت الجنس القائد
للإمبراطورية.
ويؤكد ما ذهب إليه كاسيدوفسكي، أن التوراة تكشف عن علاقةٍ حميمة بين سكان المنطقة
السامية، وبين قيادة الهكسوس التي احتسبناها حيثية، حيث تقول التوراة بترميزها عن
عيسو/آدوم: «ولما كان عيسو ابن أربعين سنة اتخذ زوجة، يهوديت ابنة بيري الحيثي وبسمة
ابنة إيلون الحثي» (تكوين، ٢٦: ٣٤). ثم تتأكد علاقة الحثي بالإسرائيلي، فتفصح عنها
الزوجة الأولى لعيسو/آدوم، وكان اسمها «يهوديت»؛ فهي حيثية تنتسب باسمها إلى رب إسرائيل
يهوه.
وعلى ذكر مدينة أريحا يمكننا أن نأخذها، كنموذج نموذج واحد فقط، يدلنا على عدد
القبائل المتعددة التي توحدت في أخلامو الهكسوس، فيقول الكتاب المقدس عن المساحة، التي
أعطاها الرب بني إسرائيل بعد وفاة موسى، وذلك في حديثه ليشوع:
من البرية ولبنان هذا إلى النهر الكبير نهر الفرات، جميع أرض
الحيثيين.
(يشوع، ١: ٤)
ثم يعدد لنا سكان أريحا على أصولهم، فيقول:
أصحاب أريحا: الأموريون والفرزيون والكنعانيون والحيثيون والجرجاشيون
والحويون واليبوسيون.
(يشوع، ٢٤: ١١)
أما أقرب مصرولوجيست إلى ما قلناه حتى الآن، فهو مارييت
Mariette الذي قال عبارة عابرة لم يكررها، أو يستفيض فيها في صدفةٍ
عبقرية:
إن قبائل الهكسوس كانوا أخلاطًا من العرب وأهل الشام، وأكثرهم من الكنعانيين
كما ذكر مانيتون، وكانت أكبر قبيلة حاكمة عليهم تسمى بالقلم الهرمسي خيتا، وفي
التوراة هم الحيثيون، وفي التواريخ العربية العمالقة.
٣٣
ولا يغرب على عينٍ فاحصة أن تلحظ منقار الببغاء الأنفي، أو الأنف الببغائي المقوس
القادم من الشمال الأرميني الحوري الحيثي، في سمات العنصر الإسرائيلي وفي الآدوميين
وعرب الحجاز الشمالي المستعرب حتى الآن. وكان هبوط هذا الأنف إلى الحجاز في رأينا قد
جاء بعد تشتيت قوة الهكسوس على يد أحمس وملوك مصر الذين خلفوه، فتشرذمت قواهم ليهبط
بعضها الحجاز، ويبقى بعضهم في البلاد الحيثية والبابلية متماسكًا، ليستمروا هناك زمنًا
أطول وصل إلى ما يزيد على أربعة قرون. ويدعم رؤيتنا
حديث التاريخ عن عدم توافق بداية الحكم الكوشي في الرافدين مع نهاية الأسرة البابلية
الأولى، واحتمال أن يكون الحكام الكاسيين السبعة الأوائل قد حكموا خارج بلاد بابل؛ لأن
ذلك يلتقي مع ستة ملوك هكسوس حكموا مصر خلال ١٠٨ سنة على التوالي، فيما يقول لنا علم
المصريات الحديث. ويبدو أن الهكسوس قد نقلوا عاصمة الإمبراطورية إلى مصر إبان احتلالها
وقبل طردهم منها. ويزيدنا دعمًا أنه بعد التحرير تأتينا من مصر أخبار: أن آمنحتب الثاني
واجه عصيانًا في بلاد الشام، وكان رؤساء ذلك العصيان يحملون أسماء حورية.
٣٤ لقد كان الهكسوس الحوريون ما زالوا حتى زمن آمنحتب الثاني سادة في الهلال
الخصيب، بعد سقوط سيادتهم على مصر بعد ثورة أحمس.
وتحمل العجلة التي تجرها الخيل القادمة من براري قزوين، لتتمركز ردحًا في وادي عربة
تسمى «عربة»، أو في اللسان المصري الحديث (عربية)، بدلالة لا تحمل لبسًا فيما وصلنا
إليه من نتائج، حول مركز تجمع قوى الهكسوس مركزيًّا في وادي عربة، حيث من هناك هبط
جنوبًا فرع آرامي أرميني، هو الفرع الإسماعيلي ليسكن الحجاز ويستعرب، كما ظن المؤرخون
العرب أنه استعرب، بينما هو منح الجزيرة عربيته ولغته العربية، التي تقبع في ثناياها
اللغة المصرية القديمة فصيحة. بينما كانت ذكريات المنطقة تتواتر في مدونات التأريخ
العربية، فيقول برهان الدين الحلبي راوي السيرة: «إن إسماعيل عليه السلام أول من ركب
الخيل. وقد قال النبي
ﷺ: اركبوا الخيل؛ فإنها ميراث أبيكم إسماعيل.»
٣٥
وهنا ينبه «لويس عوض» في قراءته لتاريخ الهكسوس، إلى أن اصطلاح «حق – كاش» الذي يقرؤه
«حكا خاز
Heqa-Khase» يرتبط فونيطقيًّا باسم
الحجاز بجزيرة العرب، ويرى أن «الهكسوس لم يأتوا إلى مصر من الحجاز ومن شبه جزيرة
العرب، وإنما استقروا فيها بعد طردهم من مصر، أما المنبع البشري الذي تدفقوا منه على
الشرق القديم، ثم عبرو إلى مصر سواء على مرحلةٍ واحدة أو دفعة واحدة، فهو حول بحر
قزوين. وربما كان هذا المنبع ذاته مجرد محطة وسطى، استقروا فيها زمنًا منذ هجرتهم من
وسط آسيا، شأن كافة القبائل التي كانت تسمى آرية وطورانية وسامية. والهكسوس إذن ليسوا
بني إسرائيل، إنما بنو إسرائيل على الأرجح قبائل دخلت كنفهم، ثم طردت من مصر بعد رحيل
الهكسوس بقرون. ولعل بني إسرائيل هم العمو
Ammou، التي
كثيرًا ما يرد ذكرها مع الخازو
Khasou أو الهكسوس في
النقوش المصرية القديمة، وكانت متمركزة معهم في شرق الدلتا بصفةٍ أساسية.»
٣٦
ورغم بعض الخلط عند الدكتور عوض، فإن التقاطه تطابق الهكسوس مع اسم الحجاز، وأن
الحجاز قد اكتسب اسمه من الشراذم المطرودة من مصر، وهبوط بعضهم إلى شمالي الجزيرة، هي
لقطة شديدة الإضاءة والتميز. ثم نتذكر فرع «سمعل» أو «إسماعيل» الآرامي ومملكة بيت عدن
أو أدنى أو آدون أو عدن، والإله الذي كان ينتشر شرقي المتوسط باسم عدن أو أدن أو
أدونيس، ويعني الرب أو السيد مرادف البعل. ونجد الإسرائيلي ينادي ربه بالتوراة: أدوناي
أي يا سيدي، ولم تزل أدون بمعنى سيد في العبرية من الأصل عدن، أو السيد الرب الذي تُنسب
إليه قصة جنة عدن، التي تتحدث عن ذكريات عالم سعيد عاش فيه الأسلاف تحت رعاية ذلك
السيد، قبل أن يغضب عليهم فيشتتهم من جنته الرباعية الأنهار، وهي الجنة التي لو دققنا
في مواصفاتها الجغرافية بالتوراة، لأعطتنا مساحة الإمبراطورية الهكسوسية من دجلة
والفرات إلى نهر النيل بالضبط وبكامل الموضوع.
وربما كان سيجموند فرويد محقًّا، وهو يربط الاسم الإلهي آدون باسم الإله، الذي تبناه
أخناتون وعرف باسم «آتون»، والذي يلتقي مع اسم بلاد «آدوم»، قياسًا على استخدام التوراة
كما في عمران وعمرام. كما تلتقي مع الذكريات الأسطورية للإنسان الأول في جنة السيد الرب
المعروف باسم «آدم»، وهي تسمية الجنوب اليمني لسكان بلاد آدوم، كما أسلفنا التوضيح، ومن
ثم كانت بلاد آدوم هي بلاد آدون أو بلاد آتون أو بلاد عدن أو جنات عدن. وكانت تقع شرقي
مصر حيث تشرق منها الشمس على مصر كل يوم؛ لذلك استحقت أن ينعتها المصريون باسم أرض
الإله؛ لأن «آتون» في المصرية القديمة كانت تعني قرص الشمس، وتنسب تلك الأرض أيضًا
للإله ست، الذي يمنع أبوفيس في الأسطورة المصرية من ابتلاع الشمس فهي سيترويت، المقاطعة
المصرية غير الموجودة في جدول المقاطعات المصرية، فهي مصرية شبه مستقلة، كذلك لم يتم
تدوينها بتلك الجداول.
وبين سكان تلك البلاد الآدومية أو الآتونية أو العدنانية، كان العنصر القادم من بلاد
أرابخيتيس أو بلاد «عرب»، الذين هبطوا وسكنوا الحجاز مستعربين، وفق رأي يرى جزيرة العرب
هي موطن العرب، وأن من دخلها واستوطنها استعرب. لكن ما نراه قد حدث هو العكس، حيث منح
هؤلاء اسمهم أولًا لوادي عربة، ثم منحوه لجزيرة العرب عندما استوطنوها. ومن هنا احتسب
الرأي العربي في كتاباته التاريخية، أن العرب الأقحاح هم عرب الجنوب، أما عرب الشمال
الوافدة فهي ليست من أصولٍ عربية إنما استعربت. رغم أن امتداد الجزيرة مستمر، من بحر
العرب والمحيط الهندي جنوبًا، حتى بلاد الأناضول شمالًا دون عوائق جغرافية، حتى إن
اصطلاح جزيرة العرب جغرافيًّا، يدل على المنطقة من المحيط الهندي حتى جبال زاجروس
شمالًا حتى اليوم.
وقام النسابة العرب ينسبون المستعربة إلى جدٍّ أسطوري بعيد، باسم عدنان على وزن فعلان
من «عدن»، والكلمة عدن معرفة بلسان الجنوب، بأداة تعريف هي «ن» تلحق بآخر الكلمة، كما
في «رحمن» و«رحمنن»، فالكلمة عدن في أصلها غير المعروف هي «عد» و«أد» و«حد»، والإله
حداد هو أدد أيضًا، ويمكن أيضًا ببساطة أن تكون «ود» دون خلل، ونحن نذكر الإله البعل
حداد أو هداد أو أد، كما لا شك نعرف الإله «ود» الذي عبد في بلاد آدوم وجزيرة العرب،
على نطاقٍ واسع حتى ظهور الإسلام، حيث ذكره القرآن ضمن أرباب العرب، وهو ذات الإله
البعل حدد أو عد أو عدن.
وهو ما يستدعي آيات القرآن الكريم، التي كانت تحدثنا عن مدينةٍ كبرى، اشتهر أمرها
في
العصور الخوالي، في دولةٍ مركزية كبرى أطلقت عليها الآيات اسم «عاد إرم ذات العماد».
ويؤيدنا تمامًا هنا أن «عاد» عند ابن قتيبة الدينوري، هو اسم علم لأب قبلي، يعطينا اسمه
موافقًا لكل ما قلناه، فهو عنده «عاد بن عوص بن إرم»، فعاد هنا قبيلة من نسل عيسو،
وعيسو من نسل إرم، وإرم تلقي بنا في عمق التاريخ مع الآراميين القادمين من أرمينيا، ومع
الإرم بمعنى الصخرة والصخرة عاصمة آدوم.
وبشأن عاد والعماد نقرأ لسان العرب، فيطالعنا تحت مادة «عدد»:
العد هو الكثرة. عادَّهم الشيء: تَساهموه بينهم فساواهم. والعدائد: الشراكة.
ويعني ابن الأعرابي بالشراكة جمع شريك، أن يقتسموها. والعديد الذي يعد من أهلك
وليس معهم (لاحظ هذا وضع بلاد آدوم الستروي بالنسبة لمصر، فهي من أهلها، ليست
معها [المؤلف]) والعد ماء الأرض الغزير. وعدان: الشباب والملك. ومعد أبو العرب
وهو معد بن عدنان.
ثم نستطلعه كلمة العماد، فتأتينا في مادة عمد في قوله:
العماد الأبنية الرفيعة. وفي قوله تعالى: إرم ذات العماد قيل معناه أي ذات
الطول. ورجل طويل العماد إذا كان معمدًا أي طويلًا. وعميد القوم وعمودهم:
سيدهم. والعمود: القضيب الحديد. والمعمد: العمد والعمدان. والعمداني: الشاب
الممتلئ شبابًا. وقيل: هو الضخم الطويل.
والرباعي منه عمرد، والعمرود والعمرد: الطويل، يقال: ذئب عمرد. ويقال العمرد:
الشرس السيئ الخلق. والعمرد: الذئب الخبيث. والعمرد: السير السريع
الشديد.
والثلاثي منه عود: وعاد قبيلة وهم قوم هود. قال الليث: وعاد الأولى هم عاد بن
عاديا بن سام بن نوح الذين أهلكهم الله. أما عاد الأخيرة فهم بنو تميم ينزلون
رمال عالج، عصوا الله فمسخوا نسناسًا. والعيدية ضرب من الغنم، والعيدانة النخلة
الطويلة، والعيدانة شجرة صلبة قديمة.
وهي جميعًا المعاني التي جمعت فأوعت قصة أولئك الذين تحالفوا، ولم يكونوا على قراباتٍ
أصيلة، مع صورةٍ واضحة للمكان وللبشر. وما يلفت النظر تكرار صفة الشباب الممتلئ شبابًا
لدى العاديين، وهي ما يلتقي مع تلك الصفة فيهم، والتي سجلها عنهم التاريخ، عندما قال
إن
قواد الخيول الآرامية يسمون ماريانو أو مرين.
٣٧ لذلك نعود إلى اللسان نقرأ تحت مادة مرن:
مرن: لين في صلابة. قال ابن بري: صوابه معك بالكاف، يقال رجل معك أي مماطل
(نتذكر هنا أرام معكة الآرامية، وصفة تجار شعب
الأيكة المماطل [المؤلف]). ومرنه عليه
فتمرن: دربه فتدرب. والمرن الأديم الملين المدلوك (نتذكر أن الأديم هو التراب
الأحمر صفة بلاد آدوم [المؤلف]). والمارن: الأنف، وقيل طرفه، وقيل المارن: ما
لان من الأنف منحدرًا عن العظم، وفضل عن القصبة. وبنو مرينا: هم قوم من الحيرة،
وليس مرينا بكلمةٍ عربية.
ويقترن الحديث في الآيات عن إرم ذات العماد وقومها عاد، بالحديث عن الذين جابوا الصخر
بالواد، والذين «جابوا» أي الذين حفروا، ففي لسان العرب «جاب = حفر» في صخر الوادي، وهو
ما يحيل إلى بلاد آدوم، وربما أحالت إحالةً قوية إلى الجوبان أي الارتحال، وهو ما
يذكرنا بقول التوراة: «آراميًّا تائهًا كان أبي»، لكن الغريب هنا أن تقترن قصة عاد إرم
في الآيات بفرعون الطاغية، وهو ما انتهى بكارثة قضت على قوم عاد أو العاديين أو «عدن».
وهو ما يستدعي ما جاء في تاريخ هروشيوش، عن النار التي أحرقت بنط بوليس أو بلاد بونت
أو
البلاد الخماسية؛ لأن «بُنت» أيضًا تعني باليونانية رقم خمسة، ومنها جاءت تسمية التوراة
بالأسفار الخمسة «بنتاتك Pentateuch»، ثم نجد تفسير
معنى بونت/الخماسية في الكتاب المقدس، الذي يفيدنا أن مدائن بلاد آدوم في وادي عربة،
كانت خمس ممالك هي سدوم وعمورة وأدومة وصبوييم وبالع، وتحمل بالع أحيانًا اسمًا آخر هو
صوغر (سفر التكوين، ١٤: ٨)، وتقع صوغر باسمها هذا حتى الآن جنوبي البحر الميت، وتطل
عليه مباشرة، وهي الآن «صغر».
ونستعيد الاسم الذي أطلقه الكاسيون على بلاد بابل عندما احتلوها، فهو «كاردونياش»،
أي
قطر «كار» الإله «دون» مع التصريف الاسمي «ياش»، وبدون هذا التصريف تصبح «دون» أو آدون،
أو عدن أو أدن أو آتون أو «دان»، أي الإله السيد القاضي.
وإذا كان معنى «عد» في اللسان، هو كثرة يتساهمون في شركةٍ يتقاسمونها، فقد كان معناها
أيضًا الشباب والملك والسيادة، ومن الكلمة جاء اسم معد بن عدنان أبو العرب. وكلها من
الأصل الثنائي «عد»، مما يحيل إحالة قوية إلى أن الاسم «عدن» هو من الأصل «عد» بعد حذف
أداة التعريف الجنوبية «ن». وعليه فقبائل عاد هي قبائل عد أو الإله عد، أو ود، أو آدون،
أو عدن. القرآن الكريم إذن يقرن عادًا بإرم فتكون عاد إرمًا، أو «أدإرم». وذكر
الجغرافيون الإغريق هذا الشعب تحت اسم «أدرميتاي»، وقد ظن البعض أن تلك الكلمة
اليونانية Adramitae تعني حضرموت،
وهو التباس وخطأ واضح، حيث إن حضرموت كانت تكتب
باليونانية Chataramotitae، وهي غير أدراميتاي التي
تتركب من مقاطع هي على الترتيب:
Ad عاد
|
Ram إرم
|
Tae شعب أو قبيلة
|
= قبيلة عاد إرم
|
وفي إشارة عابرة لا تحمل كل ما قدمنا من جهد، يقول المؤرخ الفرنسي سدل
Sadles على محمل الظن والصدفة في كتابه «تاريخ بلاد
العرب»:
إن عادًا قد امتلكت مصر وبابل سنة ٢٠٠٠ق.م. وقد عرفوا حينئذٍ بالهكسوس.
٣٨
ثم نلحظ أن كلمة «عاد» في العبرية تعني: مرتفع، وشهير، وهو ذات معنى كلمة إرم وكلمة
سام في العربية، فهي الصخرة والتل المرتفع الشهير، وقد وصف الجغرافيون اليونانية موضع
سُكنى هؤلاء، فقالوا إنه كان على خليج العقبة، وأطلقوا عليهم اختصارًا اسم
Oaditae أي العاديين، وبعدهم جاء بطليموس ليقول في
زمانه (أي بعد عودتهم جنوبًا نحو اليمين) أن العاديين قد أصبحوا سكان بلاد اليمن.
٣٩
وإعمالًا لكل ذلك؛ فقد وفد إلى وادي عربة القادمون من آراب خيتيس وهم آريون، مع
القادمين من الجزيرة التي عرفت بعد ذلك بجزيرة العرب. وفي وادي عربة يلتقون بالكوشيين
القادمين من ساحل أفريقيا الشرقي. ويفيدنا سميث أن أول ما ذكر اسم العرب ذكر منسوبًا
إلى وادي عربة، وسكان هذا الوادي المعروف باسم عرابة، وهي الكلمة التي تحمل معنى صحراء
في كل اللغات السامية، إلا في العبرية فمعناها غابة.
٤٠ وهو ما يعني أن العبريين كانوا يعرفون أنها أيكة. وبهبوط شراذم من هذا
النسيج إلى جزيرة العرب، أعطى الجزيرة اسمها فانقسم أهلها إلى أصيل ووافد: عرب قحطانية
وعرب عدنانية مستعربة، أو عرب يمنية وعرب قيسية والقيسية هي المستعربة، وقيل فيهم قيسية
نسبةً إلى جدٍّ بعيد باسم قيس، وخلال التاريخ بطوله نجد تنافسًا شديدًا داخل جزيرة
العرب، وصراعاتٍ طويلة بين اليمني والقيسي يمتد حتى اليوم، فالكلمة يمن تعني الجهة
الجغرافية الجنوبية، وقيس تعني شمال. ولا شك أننا لم ننسَ أن هؤلاء القيسيين الشماليين،
كانوا يحملون في منظومة الأخلامو اسم الكاسيين أو القيسيين الذين احتلوا بلاد
بابل.
وهنا أسجل إضافة هامة؛ فقد زارني في بيتي بالهرم يوم الخميس ٧ / ٣ / ١٩٩٦م العالم
الجليل الأستاذ المبرز، علي فهمي خشيم إبان زيارته لمصر، وهو رجل قد تخصص ببراعةٍ تستحق
الإكبار في كثير من اللغات القديمة، وبخاصة المصرية القديمة. وقد اعتمد كتابنا هنا
كثيرًا من تخريجاته المبهرة، وتحادثنا طويلًا وجرنا الحديث إلى ما أكتبه الآن بين يدي
قارئي، وجاء ذكر لغز الملكة بلقيس. ذلك الاسم المتواتر في كتب التراث باعتباره اسم
الملكة التي زارت سليمان. رغم أنه لم يذكر أبدًا لا بالكتاب المقدس ولا بالقرآن الكريم.
وطرح الدكتور خشيم في هذا اللقاء الذي أعتز به فهمًا جديدًا لاسم بلقيس، فاقترح أن يكون
كلمة مركبة من ملصقين: الأول هو بعلة أي سيدة أو ربة أو ملكة. والملصق الثاني هو قيس
فهي بعلة قيس، وبالتخفيف سقطت العين لتصبح لقيس. وهو التخريج الذي يلتقي بشدة مع كل ما
وصلنا إليه في تناغمٍ مدهش رائع.
وهكذا كان سقوط كثير من المعلومات التاريخية في مصر، إبان الفترة غير الكتابية زمن
إمبراطورية الهكسوس، قبل أن يأخذوا الخط البابلي ويطوروه إلى الآرامية، الذي تطور بعد
ذلك إلى نبطية، مدعاة لألغازٍ كبرى في التاريخ، يمثلها تأريخ «إحسان عباس» في كتابه عن
الأنباط، سكان جبل سعير السراة ووادي عربة؛ إذ يقول:
مع أن الأنباط عاشوا على المشارف الشمالية من الحجاز، فليس لهم أي ذكر في
مصادرنا العربية، عرف العرب من يدعون النبط بأنهم أهل سواد العراق، أو السكان
الأصليون في الشام والعراق. وعرفوا بأنهم حاذقون في الزراعة وعمارة الأرضين،
وفي استنباط المياه واستخراج المعادن، وأن لهم لغة خاصة بهم هي النبطية، أي
الآرامية والسريانية، وكل هذه الخصائص التي ذكرت تنطبق على أنباط بترا. ولعل
العرب عرفوها باسمٍ آخر. إن عرب الجنوب أنفسهم الحريصين على التدوين، لم يذكروا
اسم النبط في رقمهم المنقوشة، مع أن الأنباط كانوا على الدوام يعاملونهم
تجاريًّا. نعم عرف العرب الجنوبيون ن. ب. ط لقبًا لشخص، ون. ب. ط/ك. ر. ب علمًا
على آخر، أو ن. ب. ط. م اسمًا لعلم أيضًا، ولكنهم لم يعرفوا قومًا بهذا الاسم،
مما قد يرجح الافتراض بأن يكون أنباط بترا، قد عُرفوا باسم آخر ترجيحًا قويًّا.
ومن الباحثين من ربط بينها وبين لفظة نبايوت. ومنهم من قرنها بلفظة النبياتيين
والنبأيتي، التي وردت في مدونات تجلاتبلاسر الثالث، وفي مدونات أسر حادون، ومن
بعد لدى آشور بانيبال. ويبدو أن اللفظة كانت تشير إلى قبيلةٍ آرامية، كانت تعيش
في القرن الثامن ق.م. ويقرن بالأنباط عادة شعبان هما: الإيدوميون أو الآدوميون
وبنو قيدار، وقد كانت بلاد الآيدوميين منطقة يمثل حدها الشرقي — على وجه
التقريب — خطًّا ما أصبح يسمى طريق الحج من دمشق إلى مكة، وربما كان وادي
العريش هو حدها الغربي، أما جنوبًا فقد كانت المنطقة تمتد حتى رأس خليج العقبة،
ويقف حدها الشمالي عند النهير المعروف اليوم بوادي الإحسي، وهو يجري إلى الشمال
الغربي مخترقًا غور الصافية/الصافي، ويصب في الطرف الجنوبي من البحر الميت.
٤١
وهنا علينا أن نقدم اجتهادًا واضحًا، يفسر السر وراء ذلك التحول الكبير لمنطقة بلاد
آدوم، ونشوء ذلك الخط التجاري العظيم في المنطقة، وأننا نعتقد أن ذلك قد حدث تحديدًا
مع
هبوط العنصر الآرامي الحيثي الحوري القادم من الشمال، والذي جاء معه بثلاثة أعمدة كانت
أساس ذلك التحول نحو إمبراطورية تجارية مركزية. العمود الأول منها هو الجمل ذلك الحيوان
الذي حل مشكلة النقل التجاري من أطراف المحيط الهندي جنوبًا حتى تركيا شمالًا، حيث لم
تعرف بلاد الشرق المتوسطية الجمل إطلاقًا قبل ظهور الهكسوس في المنطقة، وكان مجيء الجمل
إيذانًا بنقل تجاري أسهل وأقل مخاطرة من الإبحار في البحر الأحمر. ذلك البحر المليء
بنتوآته الصخرية وشعابه المرجانية مع سفنٍ بدائية، وكان مجيء الجمل عوضًا حميدًا عن تلك
المخاطر، فالجمل الواحد يمكنه حمل أربعة قناطير (أي ما يقرب من حمولة سفينة كاملة
حينذاك) يقطع بها ستين ميلًا في اليوم في الصحراء (وبذلك يكون أسرع من أي سفينة بحرية)،
زد على ذلك أنه بإمكانه أن يسافر عشرين يومًا بدون ماء في درجات حرارة عالية (وهو غير
متوفر بالسفن البحرية)، ثم يمكنه أن يسافر أكثر من ذلك، إذا أُعطي شيئًا من الكلأ
الأخضر، ويمكنه أن يواصل السفر لخمسة أيام أخرى بدون كلأ أو ماء قبل أن يموت.
٤٢
وعليه فقد صدق التعبير «الجمل سفينة الصحراء»، الذي لا شك لم يأتِ من فراغ بل من
مقارنته بالسفن فعلًا وقولًا، فأنشأ خطًّا تجاريًّا آمنًا عبر الصحراء، أدى إلى اجتذاب
التجارة إلى مركزها الرئيسي في سالع البتراء. وكان لا بد أن يجذب هذا النشاط التجاري
العالمي مجاميع وصنوفًا من البشر، سيطرت عليها القوة الأكبر «الحيثيون»، الذين تحولوا
بالطريق التجاري إلى إمبراطوريةٍ كبرى.
أما العمود الثاني فهو الحصان، الذي ارتبط بالعمود الثالث وهو المعدن القوي من
البرونز، أو الحديد الأكثر تطورًا من البرونز، حيث أصبح بالإمكان صناعة عجلات قتالية
حديدية قوية، وخفيفة في الوقت نفسه تعمل بالبرامق (مثل عجلات الدراجة الهوائية الآن)،
وتحتمل الصعاب، لتشكل مع الحصان والسيف الحديدي تحولًا هائلًا في عالم تسليح ذلك
الزمان. والمتفق عليه أن الحديد جاء تحديدًا مع الحيثيين الذين تدفقوا في البداية
كعناصر متاجرة، وكجند لحماية القوافل، وشركاء في التجارة، ثم بعد ذلك في المكان. ويبدو
أنهم قد أقاموا معامل التعدين في جبال تمناع عند العقبة. وبعضهم حمل اسم القيني أي
الحداد. وبعد فترةٍ وجدوا في أنفسهم من القوة ما يمكنهم من السيطرة الفعلية على المنطقة
حولهم، في وقتٍ كانت المنطقة نفسها مهيئة لذلك، فمصر تمر بصراعاتٍ داخلية وثورات مزقتها
تمزيقًا وهيأتها للغزو المرتقب، بعد أن كانت القوة الكبرى في المنطقة التي عليها العول
والمعتمد من بقية دول حوض المتوسط الشرقي.
وهنا نستمع إلى عبد المنعم أبو بكر يربط بين الميتانيين الحوريين (بعضهم بالفرات
الأعلى كالعادة/وهم مديانيون سيناويون في رأينا)، وبين الحيثين والهكسوس جميعًا دفعة
واحدة فيقول: «تعرض العالم القديم منذ القرن العشرين قبل الميلاد لهجراتٍ متعددة قامت
بها قبائل جبلية غير متمدنة تسكن المناطق الوسطى من آسيا، وتُعرف في التاريخ باسم
القبائل الهندو أوروبية … كانت فلول منهم عرفها التاريخ باسم القبائل الكاشية، قد وصلت
إلى أوسط العراق، وهاجمت مدينة بابل بعد موت حمورابي بثماني سنوات، فقضت على الأسرة
الملكية، وتولت فئة منهم الحكم في بابل لفترةٍ من الزمن، كما نزل البعض الآخر إلى
المناطق الشمالية من العراق، واستقروا في وادي الفرات الأعلى، وكوَّنوا هناك دولة
الميتاني التي امتدت حتى قاربت حدود الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط، وهؤلاء من عرفهم
التاريخ تحت اسم الحوريين، وهناك القبائل التي استمرت في هجرتها نحو الغرب، ووصلت آسيا
الصغرى (تركيا)، واستقرت فيها وظهرت في التاريخ باسم الحيثيين، ومنها أخيرًا تلك الفلول
التي استمرت في هجرتها البطيئة نحو الجنوب، ووصلت إلى مناطق سوريا فلسطين. وبعد أن
استقرت فيها بعض الوقت وامتزجت بأهلها، عاودت التحرك نحو مصر التي كانت تعاني من التفكك
والاحتلال في عصر الأسرة الثالثة عشرة، فدخلت الدلتا حوالي عام ١٧٨٨ق.م. واستقرت فيها،
ومدت سلطانها على البلاد حتى أسيوط جنوبًا، وعرفهم التاريخ باسم الهكسوس.»
٤٣
ومن التلاقح الذي حدث بين الجنس الجنوب جزيري وبين الجنس الزنجي الكوشي الحامي، وبين
الجنس الهندوآري، ظهر على صفحة التاريخ جنس أحدث نسبيًّا هو الجنس السامي في بلاد
سيناء/آدوم وبوادي الشام، وما زلنا نذكر النظريات الثلاث حول أصل الجنس السامي، ومن
بينها النظرية التي تعيده إلى شمال شرقي أفريقيا في التقائه مع آسيا عبر سيناء، وهو
كلام بعض المؤرخين قد ألقوه، كان قد تم القاؤه إلقاءًا، رغم صحته الشديدة التي برهنت
عليه نظريتنا حتى الآن.
وقد حدثنا القرآن عن قوم «عاد»، وأنهم كانوا يسكنون الأحقاف ببلاد اليمن، لكن
المؤرخين الكلاسيكيين حدثونا عن زياراتهم لدراسة البلاد القابعة عند خليج العقبة، وأن
اسمها كان «عاد» لكنهم لم يحدثونا عن سُكنى عاد لليمن، وفي آياتٍ أخرى من القرآن الكريم
نجد موطنهم ليس في الجنوب، إنما في الشمال بالقسم الشمالي الغربي للجزيرة عند العقبة،
وسط غابة من الكتابات الثمودية، التي تنتشر في تلك المنطقة بآلاف النماذج، وهو الأمر
الذي أدى إلى القول بعادين يمثلان مرحلتين زمنيتين في مكانين مختلفين لقوم عاد، فهناك
عاد الأولى التي كانت في أحقاف اليمن، وأرسل الله لهم رسولًا هو النبي «هود»، ثم عاد
الثانية التي أقامت عند العقبة، وقد أشار القرآن الكريم لمساكن عاد، لكن ليس في اليمن،
إنما حول خليج العقبة، فتحدث عن آثارهم الباقية في مساكن منحوتة بالجبال.
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ
اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي
الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ
الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ *
وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ
….
(العنكبوت: ٣٥–٣٨)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ … وَاذْكُرُوا
إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ
تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ
بُيُوتًا.
(الأعراف: ٧٣، ٧٤)
وظل ذكر قوم عاد حتى وقتٍ متأخر، فهم يظهرون في خرائط الجغرافي المصري اليوناني
بطليموس كلاوديوس Ptolmaios Claudios ١٢١–١٥١ق.م.
المعروف عند العرب ﺑ «القلوذي»، تحت اسم Oaditae
العاديون عند العقبة بالتحديد.
وقد أوجز «لطفي عبد الوهاب» ما جاء بالقرآن بوجودين في مكانين متباعدين لعادٍ، على
مرحلتين زمنيتين هي عاد الأولى وعاد الثانية بقوله: «أما عن وجود مكانين مختلفين لعاد
الأولى والثانية، فتفسير ذلك هو الهجرات التي عرفها عرب الجنوب إلى شمالي شبه الجزيرة.
إن هجرات قد تمت من الجنوب إلى الشمال بشكلٍ أو بآخر، وإن بعض هذه الهجرات اتخذ شكل
مستوطنات أقامها التجار أو الحكام الجنوبيون في شمال شبه الجزيرة لمحطاتٍ تجارية
لقوافلهم في البداية، لكن هذه المستوطنات لم تلبث أن تحولت إلى كياناتٍ قائمة بذاتها
…
وقد كان بعض هذه المستوطنات يتخذ اسم القوم أو البلد الذي جاء منها لمستوطنين في
البداية …»
٤٤
وتذكر عاد وثمود في القرآن الكريم متلازمتين بشكلٍ متكرر ومتواتر، وهو ما يشير إلى
تجاورٍ مكاني، ويتحدث عن أرض الثموديين باعتبارها جنات وعيونًا وزروعًا ونخيلًا (١٤٧،
١٤٨ الشعراء)، وإذا كنا لم نتأكد من موضع عادٍ الأولى، فإن الواضح رفقتها وملازمتها
المكانية والزمانية لثمود، التي نحن على يقينٍ من موضعها في شمال غربي الجزيرة؛ لما
تركوه من مخربشاتٍ كدليل أركيولوجي تام الوضوح، ولدينا إضافة لذلك قش آشوري منذ حكم
الملك سرجون يظهرهم يقطنون شمال الجزيرة في القرن الثامن ق.م. كذلك نجدهم في كتابات
بلينوس أواسط القرن الأول الميلادي، وأنهم ما زالوا موجودين هناك تحت اسم ثموادي
Tamudaei، وفي النصف الأول من القرن الميلادي الثاني
نجد بطليموس القلوذي يرسمهم على خريطته شرقي العقبة باسم
Thamydeni، على التعامد مع قوم عاد الذين وضعهم
القلوذي إلى الشمال منهم على الخط التجاري العالمي، وظل الثموديون في مواضعهم حتى كتب
عنهم يوسابيوس
Eusebois حوالي ٢٦٠–٣٤٠ق.م. وظلوا
مذكورين حتى تاريخ بروكبيوس
Prokopios المؤرخ الروماني
الذي توفي في ٥٦٥ق.م.
٤٥
لكن الباحثين يتضاربون جميعًا حول تزمين سيادة القبائل التي سادت وحكمت وأعطت اسمها
لحضاراتٍ متأخرة في الغسق الأخير لأضواء منطقة العقبة، فيشيرون إلى سيادة قبائل توصف
بأنها قبائل عربية باسم قيدار، وقيدار هو اسم الابن الثاني لإسماعيل بن إبراهيم في
خريطة الأجناس التوراتية، وقبائل باسم الأنباط وتنتسب إلى نابت بن إسماعيل الابن الأول
والأكبر، إلا أننا نعتقد من جانبنا بتعاصر قبائل ثمود مع زمن قيام الحلف الكبير، وأنها
كانت في مواطنها بمنطقة الحجر المعروفة بمدائن صالح الآن، نسبة إلى نبيٍّ حدثنا عنه
القرآن باسم صالح، وأنه ضمن تلك القبائل كانت قبائل قيدار أيضًا. فعلى امتداد بلاد آدوم
الجنوبي وعلى الخط التجاري العالمي قرب ساحل البحر الأحمر الشرقي، قامت محطة كبرى
للتجارة في منطقة الحجر قطنتها قبائل ثمود، التي يزعم المؤرخون أنها ظهرت متأخرة إلى
حدٍّ بعيد عن زمن الأحداث، التي نحكي عنها زمن الهكسوس/الأخلامو، فيعيدونهم في أبعد
تزمين إلى ق ٩ق.م. ثم يقولون لنا إنه مع ثمود ظهرت قبائل عربية باسم قيدار، التي نراها
من جانبنا ذات قبائل ثمود، كما نعتقد أنه في ذات الزمن أيضًا كان الأنباط النابتيون.
كل
ما في الأمر أنه بعد سقوط الحلف، وتشتته بعد ضربه من قبل المصريين في ثورة التحرير،
التي طردت الهكسوس، ثم طاردت فلله في آسيا في حملاتٍ متتالية. وبعد فشل عدة محاولاتٍ
جدية لإعادته فقد توالى أخلاف القبائل ذلك الحلف بعد ذلك — أو من بقي منهم بعيدًا عن
الشتات — على زعامة المنطقة، فظهر حكم الثموديين والقيداريين والأنباط … إلخ. لكن ذلك
لم يكن أول ظهور لهم، بل كانوا قائمين وموجودين طوال الوقت منذ زمن الأخلامو، وحتى آخر
دولتهم التي ظهرت في المنطقة «اللحيانيين» و«الغساسنة» و«الصفائيين»، لينتهي بهم خط
تاريخ تلك البلاد إلى ظلام السكون، حتى جاء الرحالة بوركهاردت ليعيد اكتشاف بلاد آدوم
مرة أخرى.
وأول القرائن الواضحة التي تؤكد أن ثمود التي سكنت بلاد الحجر، كانت امتدادًا للحلف
الكبير على الطريق التجاري في زمنه البعيد، أن المُشاهد لمنطقة مدائن صالح/الحجر، سيجد
نفسه أمام نسخة أخرى من البتراء، من حيث النحت في الصخر، والسكن في الكهوف الصخرية،
التي تشبه أعشاش النحل، ناهيك عن كون الحجر كان في محيط السيطرة المباشرة
لسالع/بونت/البتراء. وتقع الحجر ضمن دائرة مدن كانت من أعمال العاصمة الكبرى، فمعها مدن
سبقت الإشارة إليها كامتدادٍ للعاصمة، ففي محيطها الشرقي مباشرة نجد تيماء، ثم دومة
الجندل التي حملت في أسمائها «تيماء، دومة»، ترديدًا لاسم البلاد الأم آدوم، وكذلك وادي
القرى.
وبسبيل التأكد من صدق ما نعتقد نستمع إلى المؤرخ الدءوب مظفر نادوثي يقول: «إن
للإسماعيليين تسمية أخرى هي الهاجريين، وقد أشير إليهم في العهد القديم بهذا الاسم. وقد
أشارت التوراة إلى عشيرتين من الإسماعيليين في قولها: قطعان قيدار وخراف نبايوت. وهناك
قبيلة أخرى أشير إليها باسم ماعون، وهي التي أطلق عليها العربُ اسم معين.»
٤٦
الإشارات هنا واضحة، فالقيداريون يعاصرون النابتيين الأنباط يعاصرون معين أو معان،
ومن جانبها أشارت التوراة بما يفصح عن تحالف تلك المنطقة، مرموزًا لها بأسماء أشخاص
ربطتهم التوراة بصلة قرابة الدم، فالتوراة تؤكد في خريطة الأجناس أن «تيما» أو «تيماء»،
بدوره كان ابنًا لإسماعيل (تكوين، ٢٥: ١٥؛ وسفر أيام الأول، ١: ٢٩-٣٠)، والمبهر أنها
ذكرته بالترافق مع سبأ التي تأكدنا من وجودها شمالًا بذات المنطقة (سفر أيوب، ٦: ١٩؛
وحزقيال، ٢٧: ٢١-٢٢)، ثم بالترافق مع مدينة العلا/ددان (سفر إشعيا، ٢١: ١٣، ١٤؛ وإرميا،
٢٥: ٢٣)، ويلخص حزقيال تلك العلاقات لهذه المدن بدولة يهوذا، بقوله:
ددان تاجرتك بطنافس للركوب، العرب وكل رؤساء قيدار هم تجار يدك، بالخرفان
والكباش والأعتدة. في هذه كانوا تجارك، شبا ورعمة هم تجارك، بأفخر أنواع الطيب
وبكل حجر كريم وبالذهب أقاموا أسواقك.
(حزقيال، ٢٠: ٢٢)
أما إشعيا فكان يتنبأ بضرب إسرائيل لقومٍ يأتي ذكرهم في قوله:
وحي من جهة بلاد العرب، في الوعر في بلاد العرب تبيتين يا
قوافل الددانيين، هاتوا ماء لملاقاة العطشان، يا سكان أرض تيماء وافوا الهارب
بخبزه، فإنهم من قدام السيوف قد هربوا، يفنى كل مجد قيدار؛ لأن الرب إله
إسرائيل قد تكلم.
(إشعيا، ٢١: ١٣–١٧)
واضح أن شمال الجزيرة الآن قد أخذ يكتسب اسم بلاد العرب، وأن التوراة تتحدث هنا في
زمنٍ متأخر، بعد هبوط العرب المستعربة الشمالية العدنانية الإسماعيلية إلى الجزيرة
ليمنحوها اسمها «جزيرة العرب». ويتواتر في ذلك الزمن ظهور اسم العرب لوصف سكان الجزء
الشمالي من الجزيرة، ونجد في نقوش الملك الآشوري «شلمناصر الثالث ٨٥٨–٨٢٤ق.م.» ذكرًا
لانتصاره على تحالف ملوك أرام ضده، ويطابق شلمناصر بنقوشه ما وصلنا إليه بوضوحٍ كاشف
ومضيء، فهو يعدد لنا أعضاء هذا الحلف الآرامي، لنجد منهم «جنديبو» الموصوف في نقوش
شلمناصر بالعربي، وجماعة توصف بأنها عربية بدورها باسم «أدوماتو» وهي «آدوم»
بوضوح.
ثم نجد في نقوش الملك الآشوري «آشور بانيبال ٦٢٦ق.م.» تعدادًا لحلفٍ عربي يعدد
أعضاءه، فيقول إنه مكون من قبائل هي: السبئي والتمئي والثمودي والعاديد والمارسمانو
والنبط وقيدار، الذين هم: سبأ، تيماء، ثمود، عاد، مارسمانو، (لم نعرف المقصود بمارسمانو
بالتحديد)، الأنباط، القيداريون.
ونفهم من نصوص آشوربانيبال أن هؤلاء الأحلاف كانوا تجارًا، وأن تجارتهم كانت في
التعدين الذي برعوا فيه: الذهب والقصدير والحديد، والملابس المصبوغة باللون الأرجواني
الأحمر، والطيوب من بخور مر ولبان، والعاج، بل وتاجروا في حيوانات لا يمكن أن يجمعها
سوى مركز تجاري كبير ممتد حتى جنوب البحر الأحمر عند المندب، فمن تلك الحيوانات كان
الفيل، وهو حيوان إفريقي أو هندي، ولكن نصوص آشوربانيبال تؤكد وجوده في آدوم، ثم تاجروا
بحيواناتٍ أصبحت من حيوانات المنطقة بعد مجيئها من الشمال الأرميني، واستيطانها في بلاد
العرب الأولى «آدوم وسيناء». ومن هذه الحيوانات الجمال والخيول، فهل نستغرب بعد ذلك
وجود الزراف في واردات بلاد بونت مع بعثة حتشبسوت؟
والزائر لمدينة العلا/ددان سيجد نفسه أمام نقوش وكتابات ددانية ومعينية وثمودية
ونبطية معًا،
٤٧ مما يشير إلى تعاصرٍ وتعاضد وتحالف، أما مدينة الحجر فتكتظ بألوف الكتابات
الثمودية المتناثرة على الصخور، ويسميها المؤرخون مخربشات لقيمتها التاريخية المحدودة،
فهي فقط تحوي أسماء أفراد وأدعية للآلهة وحسابات تجارية وعوائد. وقد عثر بالحجر على
أختامٍ تجارية على شكل أسطوانات ومربعات ودوائر. وتكاد تلك الأختام خاصة تلك التي عثر
عليها في ددان/العلا، أن تكون نسخة أخرى من الأختام الرافدية القديمة، مما يشير إلى أن
تلك المنطقة الجغرافية كانت رقعة واحدة في زمنٍ مضى.
٤٨
وفي محيط الحجر/مدائن صالح يقع عدد من المستوطنات، أهمها القرية التي اشتهرت بكهوفها
المنحوتة بالجبال، وبآثارٍ كثيرة وفخار أعادها المكتشفون إلى الحضارة المعينية، وأعادوا
بعضها الآخر إلى زمن سيطرة الأنباط،
٤٩ وبدراسة مخربشات تبوك والعلا ومدائن صالح وتيماء ووادي السرحان وحائل وجبل
رقم الثمودية، تم اتفاق العلماء مؤخرًا على أنها تعود إلى زمنٍ موغل في القدم، يصل إلى
الألف الثالث قبل الميلاد. ومن آثار تيماء قصر زلوم المعروف بالأبلق الذي اشتهر في
أساطير العرب باسم قصر السموأل.
٥٠ والسموأل بالعبرية شموئيل وصموئيل، والثلاثة يتجمعون عند الاسم العربي
لصاحب ذلك القصر، الذي لا شك حكم منه يومًا وهو اسم «إسماعيل»، ويظهر لنا عند العرب اسم
غريب هو «الرقيم»، ظهر قبلهم عند المؤرخ اليهودي يوسفيوس، وقد رجح الباحثون أنه التسمية
العربية لمدينة البتراء أو لمدينة الحجر أو لكليهما. وأورد إحسان عباس رأيًا يقول: إن
الرقيم هي المدينة التي وردت في المصادر الصينية باسم «لي – قن» من «ري – قم»، مما يشير
إلى مساحة التوسع في التواصل التجاري العالمي، الذي لا يمكن القيام به إلا لإمبراطوريةٍ
قوية كبرى، ثم ورد اسم الرقيم في رسالةٍ سريانية تحدثت عن زلزال دمر الرقيم، ونحن نعلم
أن هناك زلزالًا قد دمر البتراء عام ٣٦٣م.
٥١ وهو ما يذكرنا بهروشيوش المؤرخ، الذي قال إن بلاد بونت أو الدولة الخماسية
المدن أو الخماسية الحلف «بنط بوليس»، الواقعة بين العقبة والبحر الميت حسب تحديده، قد
نزلت عليها نار من السماء فدمرتها. وأشهر تلك المدن التي تم تدميرها سدوم وعموره.
والمعلوم أن المنطقة تقع على خط زلزالي ساخن، فوق امتداد الأخدود الإفريقي العظيم. وقد
ذكر القرآن الكريم بدوره دمارًا أصاب عادًا وثمود، التي هي في رأينا ذات سدوم وعمورة؛
لأن سدوم هي بالقلب سمود أو ثمود، ويبقى أن تكون عاد هي عمورة، ولا ننسى أن العاديين
أو
أهل عاد كانوا من العموريين، التي تنتسب إليهم عمورة أو ينتسبون إليها، ويؤكد هذا
المعنى أن ترتيب المدن الخمسة يبدأ من الجنوب إلى الشمال بمدينة سدوم ثم مدينة عمورة،
وتصبح سدوم بهذا التخريج هي ثمود/مدائن صالح، وتليها شمالًا عمورة (عاد/إرم ذات
العماد/بونت/سالع/الصخرة/البتراء).
ومن القبائل الإسماعيلية المشهورة كان النابتيون أو الأنباط المنتسبون رمزيًّا إلى
الابن الأكبر لإسماعيل «نابت أو نبايوت»، ثم القيداريون نسبةً إلى الابن الثاني
لإسماعيل «قيدار». وفي المقدس التوراتي ذكر لملكٍ عربي باسم جشم (سفر نحميا ٢: ١٩)،
الذي يبدو صيغة من «جاسم». وقد تطابق هذا الاسم مع اسمٍ عثر عليه في نقشٍ على طاسة في
تل المسخوطة بوادي طميلات قرب الإسماعيلية بمصر، في أقصى شرقي الدلتا على الحدود
السينائية، ويقول النقش المكتوب بالآرامية: «نذر إلى هاب — إيلات من قينو بن جشم ملك
قيدار».
٥٢ مما يعني أن جشم الوارد في سفر نحميا كان ملكًا على قيدار. أما قينو فهي
القيني/الحداد، وما يؤكد لنا أن القيداريين كانوا من سكان سالع/البتراء ما جاء في سفر
إشعيا يقول:
لترفع البرية ومدنها صوتها، الديار التي سكنها قيدار، لتترنم سكان سالع من
رءوس الجبال، ليهتفوا.
(إشعيا، ٤٢: ١١)
ويدعم لنا أن القيداريين هؤلاء كانوا من سكان الجنوب، الذي هاجر شمالًا للتجارة بصحبة
معين وسبأ وزنج أثيوبيا، في رحلة عمورية عماليقية تدريجية، استوطنت حتى استفحلت وتضخمت
في حلفٍ كبير، هو أن قاموس الكتاب المقدس يقول لنا تحت مادة قيدار: إنه اسم سامي يعني
الصفة اللونية «الأسود» أو «الزنجي».
لقد كانت قيدار من ثمود من العموريين القادمين من الجنوب، لكن الكتاب المقدس أصر
على
أنها من الجنس الآرامي القادم من أرمينيا، فنسبتهم بالبنوة إلى إسماعيل بن البطرق
إبراهيم الآرامي لتأكيد معنى الحلف، حيث يرى الباحثون — دون أن يذهبوا مذهبنا لا في كله
ولا في تفاصيله الدقيقة — إنه «في وقتٍ لم يكن فيه سكان شبه الجزيرة قد عرفوا التكتل
حول أيديولوجيات سياسية، كان التصور الوارد هو التكتل حول العصبية، التي تقوم على أساس
من رابطة العرق أو رابطة الدم، والانتماء إلى أصلٍ واحد سواء كان حقيقيًّا أو موهومًا.»
٥٣
وهنا يتأكد ظننا في تعاصر الجميع زمن الحلف الكبير من «فراس السواح»، الذي يستنتج
من
المادة التاريخية: «أن الأنباط لم يكونوا سوى فريق قيداري أقام في سالع بصفةٍ دائمة،
وتحول اسمها إلى بتراء فيما بعد. واسم بتراء باليونانية يعني الصخر، وكذلك اسم سالع بالكنعانية.»
٥٤ أما امتداد مدينة الصخر الجنوبي، فقد حمل ذات المعنى في مدينة مدائن صالح،
التي كانت تحمل اسم الصخر في اسمها (الحجر). بل إن إحسان عباس يقول: «وتحولت المنشأة
النبطية في مدائن صالح الحجر إلى مدينة كبيرة، وتكاد القبور المنحوتة في الصخر هناك
تضاهي الآثار المنحوتة في الصخور في بترا نفسها.»
٥٥ ثم يتساءل: «هل يمكن أن نوحد بين بني قيدار وأصحاب الحجر الذين ذكرهم
القرآن الكريم؟ يصح هذا لو استطعنا أن نثبت أن بني قيدار هم أنفسهم ثمود، الذين ورد
ذكرهم في القرآن. وهنا يجب أن نعرف أن اسم عاقر ناقة صالح كان اسمه لدى المفسرين قدار.»
٥٦
ولمتابعة مطلب «إحسان عباس» عدنا إلى التاريخ العربي، نقرأ عند ابن
قتيبة قوله:
إن الله بعث صالحًا إلى قومه، وكان رجلًا أحمر إلى البياض. وهو صالح بن عبيد
بن عابر بن إرم. وكانت منازل قومه بالحجر، وعاقر الناقة هو أحمر ثمود الذي يضرب
به المثل في الشؤم، واسمه قدار بن سالف، وكان أحمر أشقر، وكان صالح رجلًا
تاجرًا.
واضح هنا التداخل الذي حدث عند الحجر بين الجنسين الأسود والأحمر، ولو في ذكريات ذلك
الماضي البعيد، فقيدار في الرواية العربية يصبح هو الأحمر كذلك صالح، ويذهب ابن قتيبة
بهم إلى الموطن الشمالي الآرامي عبر نسبتهم لأرام.
ثم يستمر شارحًا:
تزوج إسماعيل بنت مضاض بن عمرو الجرهمي، فولدت لإسماعيل اثني عشر بطنًا، منهم
قيدار ونبت. وكان نبت بكر إسماعيل، وعاش إسماعيل مائة وسبعًا وثلاثين سنة،
ودُفن في الحجر، وفيه دفنت أمه هاجر.
٥٧
وقد ورد في نقش بمدينة بترا بخط وسط بين الآرامي والنبطي، يتكلم عن ضرورة إكمال
النقوش في غرفة العبادة عند بداية السيق، مع اسم لرجلٍ وصف بالصلاح والورع اسمه «أصلح»،
وأن أصلح هذا ربما كان كاهنًا كبيرًا أو حاكمًا؛ لأنه طلب تكريس تلك الغرفة للإله ذي
الشرى.
٥٨ وهو الأمر الذي ظل ذكريات بعيدة تتماوج في تداخلٍ مع روايات أخرى عن ذكريات
أخرى، حتى وصلنا صالح في القرآن الكريم نبيًّا مرسلًا إلى ثمود. فإذا كانت الآيات تردد
ذكريات عن أصلح الموجود بنقش بترا بداخل السيق، فستكون بترا مسكنًا لثمود، وليس فقط
مدينة الحجر، مما يشير إلى تداخلٍ واضح بين مختلف فئات الحلف.
لكن القرآن الكريم يؤخر ظهور الثموديين إلى ما بعد انتهاء زمن عاد، فيقول:
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ
وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا
وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا.
(الأعراف: ٧٤)
والقرآن الكريم يختلط فيه الوعظ والترهيب، والترغيب بالأمثلة من ذكرياتٍ تاريخية
تمت
قراءتها على طريقة القرآن الكريم المعتادة بهذا الشأن، فيقول إن «عاد إرم» قد عصت ربها،
فأرسل الله إليها نبيًّا باسم «هود». وما يؤكد فرضنا في أن عاد كانت البتراء أو مدينة
في محيط آدوم، بل إنها آدومية الزمن وليست جنوبية يمنية، أن ابن قتيبة يذكر لنا نسب
«هود» مرفوعًا إلى «عيسو آدوم»، فيقول:
هو هود بن عبد الله بن رباح بن حارث بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح.
وكانت عاد ثلاث عشرة قبيلة ينزلون الرمل وبلادهم أخصب البلاد.
لكن أهل عاد الآدوميين/الآداميين لا يؤمنون بما جاء به هود، فيغضب عليهم ربهم فيدمرهم
فيرثهم الثموديون، أي إن ثمود هي امتداد في زمنٍ تالٍ لعاد الآرامية. وأفسد الثموديون
بدورهم في الأرض، فأرسل لهم ربهم النبي صالحًا، وكأسلافهم كذب الثموديون صالح فدمرهم
الله بدورهم.
ويشرح المسعودي بشأن الآراميين/الأرمان بقوله، موجزًا تاريخًا رأيناه قد حدث في هذا
المكان:
وقيل إن الأرمان إنما سموا بذلك؛ لأن عادًا لما هلكت قيل: ثمود إرم. فلما
هلكت ثمود قيل لبقايا إرم أرمان، وهم النبطيون الأرمانيون.
وكانت بلاد الكلدانيين العراق وديار ربيعة وديار مضر والشام وبلاد العرب
اليوم، وبرها ومدرها، اليمن وتهامة، والحجاز واليمامة والعروض والبحرين والشحر
وحضرموت وعمان، وبرها الذي يلي العراق، وبرها الذي يلي الشام. كانت جميعًا
مملكة واحدة يملكها ملك واحد، ولسانها واحد سرياني (آرامي [المؤلف]).
٥٩
وحول عناصر من ذلك الحلف يشرح الكتاب المقدس، كيف جاء الرب بكل شعب من موطنه في قوله:
ألستم لي كبني الكوشيين يا بني إسرائيل؟ يقول الرب: ألم أصعد إسرائيل من أرض
مصر والفلسطينيين من كفتور والآراميين من قير.
(عاموس، ٩: ٨)
ويحتمل أن تكون قير الأصلية تلك محطة بعيدة من محطات هجرة الآراميين الشمالية، وربما
كانت الأصل في اسم منطقة قرقيزيا.
٦٠
والنبي محمد كتب لبني جعال بن ربيعة الجذاميين، الذين سكنوا العقبة زمن الدعوة
الإسلامية يقول لهم فيه: «إن لهم إرمًا لا يحلها أحد غيرهم لغلبهم عليهم، ولا يحاقهم
أحد، فمن حاقهم فلا حق له.» لقد كان العرب حتى زمن الدعوة الإسلامية، يعرفون بلاد
العقبة بكونها آرامية.
أما الذي يتأكد طوال الوقت، فهو وجود الجنس الكوشي الزنجي بالمنطقة، بينما كانت نصوص
التوراة التي تذكر الكوشيين بجوار دولة يهوذا وإسرائيل، تصنع ارتباكًا حادًّا لدى
المؤرخين. يقول الكتاب المقدس مثلًا:
وأهاج الرب على يهورام (ملك يهوذا [المؤلف]) روح الفلسطينيين والعرب بجانب
الكوشيين، فصعدوا إلى يهوذا وافتتحوها، وسلبوا كل الأموال الموجودة في بيت
الملك مع بنيه ونسائه أيضًا.
(أخبار أيام ثاني، ٢١: ١٦-١٧)
لقد ظل تعبير «العرب الذين بجانب الكوشيين»
لغزًا غير محلول، يتمثل في سؤال: كيف يكون الزنوج بجوار العرب، وكان الظن هو التجاور
على البحر الأحمر، فالعربي شرقية والزنجي غربية، لكن اللغز ظل لغزًا؛ لأن النص ونصوصًا
أخرى كثيرة، تضعهم جنوبي دولة يهوذا مباشرة، وهنا نقف مع فراس السواح، وهو يحدثنا عن
أحدث الكشوف، فيما يتعلق بتصنيف اللغات إلى سامية وحامية، وأن العلماء لم يعودوا يركزون
على ما يسمى باللغة السامية الأصلية، ثم يقول: «يقوم العلماء الآن بتلمس خيط يربط بين
اللغات السامية باللغة المصرية وبقية لغات شمال أفريقيا، وهم يرون أن الأقرب إلى الواقع
هو وجود لغة أفروسامية، تفرعت فيما بعدُ إلى سامية وإفريقية عند نقطة معينة من التاريخ.»
٦١ ومن هؤلاء العالم الألماني
P. Behrens
والروسي
Diakonoff.
أليس هذا بكلامٍ يلتقي التقاءً عبقريًّا مع ما وصلنا إليه، حول التقاء العناصر
التأسيسية في بلاد آدوم، وما نتج عنه بعد ذلك على مستوى اللغات والأجناس؟ أما الأكثر
إلماعًا وإشراقًا، فهو أن نعلم أن تلك النقطة المعينة في التاريخ، التي افترضها
الألماني بهرنس والروسي دياكونوف، كانت هي زمن قيام إمبراطورية الهكسوس الذي ظل منطقة
مظلمة في التاريخ حتى كتابة بحثنا هذا، بل وإن مكانها كان ذات المكان الذي حددناه في
بلاد مديان الآدومية العربية في شبه جزيرة سيناء تحديدًا وتدقيقًا. فقد عثر الآثاري
البريطاني فلاندر بتري عام ١٩٠٥م عند سرابيط الخادم بسيناء على كتاباتٍ منقوشة على
الصخور، أصبحت تعرف الآن علميًّا باسم الكتابات البروتو سيناتيك، قرب مناجم النحاس
والفيروز. وقد تبين أن البروتو سيناتيك أقدم كتابة تستخدم الأبجدية في التاريخ حتى
الآن، وقد وجد بتري اكتشافه هذا على بقايا أثرية تم بناؤها زمن الفاتح العظيم تحتمس
الثالث خلال النصف الأول من القرن الخامس عشر. وبعد اكتشاف بتري تم العثور على المزيد
من كتابات البروتوسيناتيك، بعد أن عثرت بعثة فنلندية عام ١٩٢٩م على نماذج جديدة،
واتبعتها بعثة جامعة هارفارد الأمريكية؛ لتكتشف ذات الكتابات في مواضع أخرى، حتى بلغ
ما
تم العثور عليه حتى الآن خمسة وعشرين نصًّا.
٦٢ تتحدث عن أعمال استخراج حجر الفيروز من جنوبي سيناء، وتقديم قرابين «تسمى
هنا طاعة» إلى بعلات حات حور، وبعلات لقب سامي هو السيدة مؤنث بعل/السيد أو الرب، بينما
حتحتور إلهة مصرية معلومة الشأن، مما يشير إلى تمازجٍ مصري سامي في تلك المنطقة، استمر
منذ تمازج الإلهين سيت وبعل، وهي تقع إلى الغرب مباشرة من جبال كاثرين، التي اتجه إليها
موسى برجاله عند الخروج من مصر كموقعٍ مقدس. وقد أخبرنا الكتاب المقدس أن تلك المنطقة
كانت أراضي مديانية، وقد أكدنا من جانبنا أن المدياني هو الإسماعيلي، وتأتينا من
كتابات «أو مخربشات» سيناء
Sinaite Inscriptions،
نصوص تؤكد مذهبنا، فنجد نصًّا يقول:
شمعا ما رب عبدم.
ومعناه إسماعيل صبي رئيس العاملين.
٦٣
أو إسماعيل «شمعاما» عبد «عبدم» السيد «رب».
فالكتبة هنا يحملون ثقافة مصرية سامية مشتركة، وكتبوها بذات اللغة التي عثر عليها
في
نصوص تل العمارنة (الكارية)، بأبجديةٍ سينائية هي الأصل الأصيل للأبجدية، الفينيقية
التي ظهرت بعد ذلك، وانتقلت إلى بلاد اليونان ثم العالم. ويعتبر الباحثان نيلسون وسيث
أن اللغة الثمودية المنتشرة بطول ساحل البحر الأحمر الشرقي هي تطوير بسيط للبرتوسيناتيك
٦٤ كما استطاع وينت أن يثبت انقسام الثمودية إلى أشكال مختلفة، تمثل مراحل
تطورها خلال مدة زمنية طويلة.
٦٥ وهو ما يعني عراقة ثمود وقدمها منذ أيام الحلف الكبير.
كذلك تم العثور على كتاباتٍ سينائية في موقع
الكنتلة، على الطريق الذي يصل طابا على خليج العقبة برفح على البحر المتوسط، على بعد
خمسة كيلومترات من الحدود الإسرائيلية، وكذلك في عين القديرات بالقرب منه. والمعتقد أن
هذه الكتابات قد نقشها الخارجون من مصر برفقة موسى في رحلة الخروج. وقد قال
الإسرائيليون: إن تلك الكتابات عبرية، لكن الحقيقة أن العبرية نفسها هي لغو وخط كنعاني
كُتب بحروفٍ آرامية. ولم يحدث أن عُرف وكُتب إلا بعد القرن العاشر قبل الميلاد، أي بعد
أربعة قرون تقريبًا على حدث الخروج؛ لذلك لا تخرج تلك الكتابات بدورها عن
البروتوسيناتيك، التي يبدو أنها كانت أصلًا للعبرية المكتوبة بالآرامية، بعد أن أصبحت
الآرامية الوسيلة الأمثل والأيسر للكتابة. وهو ما يعني أن الخط الآرامي نفسه قد تطور
عن
البروتوستاتيك، التي هي في رأينا الكتابة أو الخط الحوري الكاري، خاصةً بعد ثبوت تطابقه
مع الكتابات الحورية في مكتبة العمارنة. ويعتبر أولبرايت أن البروتوسيناتيك هي الأصل
الأصيل للكتابات الأبجدية بعد ذلك وصولًا إلى اللغة العربية التي ظهرت في سيناء.
٦٦ وعندما قامت دولة الفرس حوالي ٦٠٠ق.م. اتخذت من الآرامية لغة رسمية لها،
مما يشير إلى مدى حميمية القرابة بين تلك الكتابة الأم للأبجدية وبين الهندوآريين. أما
العربية فقد تطورت عن النبطية المكتوبة بالحرف الآرامي في سيناء وآدوم. ومع ذلك لم يزل
علماء اللغة المهتمون بهذا الأمر، لا يلتفتون إلى العوامل الموضوعية التي أدت لظهور
الكارية بالخط السينائي، ولم يزل قولهم: «منذ القرن الرابع عشر قبل الميلاد ظهرت لغة
سامية مشتركة بين شعوب ممالك الهلال الخصيب ومصر. لم تكن هي لغة الكلام لأيٍّ من شعوب
هذه المنطقة، وإنما استخدمت في الكتابات الأدبية فقط.»
٦٧ «وأنها تطورت وأصبحت تمثل لغة أدبية خاصة، تختلف عن لغة كلام الأكاديين
والكنعانيين والمصريين، فهي لغة أدبية خاصة لا يستخدمها أي قوم في الكلام.»
٦٨ ومع ذلك فإن «العربية الفصحى قد جاءت نتيجة لتطور هذه اللغة المكتوبة،
وأنها كانت خليطًا من لهجات القبائل العربية.»
٦٩ بينما نحن قد كشفنا عن التقاءٍ وحلفٍ ولغة كهوف اسمها الكارية أو الحورية،
تعددت ما بين ددانية وثمودية ونبطية وآرامية وعبرية، لكنها جميعًا كانت تعزف على نوتاتٍ
متشابهة متقاربة، انصهرت معًا جميعًا بعد ذلك في اللغتين العبرية والعربية، وأن نوتتها
الأصلية كانت مزيجًا من المصرية.
وهكذا امتدت المساحة المركزية لدولة التجار من البتراء إلى الحجر جنوبًا، وتيماء
شرقًا وتبوك، والبدع جنوب غربي تبوك، حيث تجد هناك مغاير وكهوفًا أطلق عليها الناس بحكم
ذكريات العصور الخوالي «مغاير شعيب». وأطلقوا على بئر هناك اسم بئر موسى ترديدًا
لذكرياتٍ تاريخية مختلطة. ويقول صاحب معجم البلدان أنه في جبال السراة/سعير تقع
البلقاء، التي حدثت فيها أسطورة أصحاب الكهف، والتي ترد في القرآن الكريم مقرونة
بالرقيم، وأن العماليق قد نزلوا البلقاء وكانوا ملوكها.
٧٠
وتغطي الكتابات الثمودية آثار تيماء التي تقع على خط ٣٨٫٣٠ طولًا و٢٧٫٤٠ عرضًا،
وتتميز تيماء بتربةٍ حمراء، وتؤكد البحوث الجيولوجية أنها كانت مغمورة بالمياه إلى زمنٍ
قريب جدًّا، لدرجة أن أخبار ذلك الماء جاء في أخبار عرب الجاهلية الأخيرة.
٧١
أما مدينة الحجر نفسها؛ فتقع على خط ٣٧.٤٥ طولًا و٢٦.٤٦ عرضًا، وقال فيها القرآن
الكريم:
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا
عَنْهَا مُعْرِضِينَ
* وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا
آمِنِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ * فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ
(الحجر: ٨٠–٨٤).
والزائر للمنطقة يمكنه ببعض المشقة الوصول إلى تلك البيوت الصخرية، لكنه لن يجد سوى
غرف مربعة أو مستطيلة، تحوي عظامًا بشرية، وبها أرفف حجرية على عدة طبقات، تطابق
مثيلاتها في البتراء، وفي تدمر التي كانت بدورها امتدادًا طبيعيًّا للطريق التجاري،
وبالضرورة للحلف العظيم. وهناك يمكنك أن ترى تماثيل لعناق البونتي فوق أحد الكهوف، ذهبت
فيه الآراء إلى أنه حيوان ربما كان لبؤة صغيرة، لكن ذيله المعقوف مثل ذيل الكلب، يشير
لحيوانٍ غريب مجهول، وعلى كهفٍ آخر ستشاهد تماثيل أبي الهول المصري، وعلى كهفٍ ثالث
يمكنك مشاهدة طائر الفينيق ناشرًا جناحيه.
أما الأفصح والأبين والأكثر إعلانًا عن هوية المكان، فأنك تجد هناك بناء يحمل الاسم
الذي أطلق على مثيله الضخم في البتراء، اسمه قصر اﻟ «بنت». هذا بينما يكرر لنا القرآن
الكريم ذكريات العرب عن القرون الخوالي، أيام كانت تلك المنطقة من الجنات الوارفة في
قوله: كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ
قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ
رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ
أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ
الْعَالَمِينَ * أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ *
وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ
طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا
فَارِهِينَ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (الشعراء:
١٤١–١٥٠).
ويؤكد لنا الإخباريون العرب أن العرب المستعربة من أبناء إسماعيل، هم من قالت الآيات
بشأنهم:
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ
الْمُرْسَلِينَ (الحجر: ٨٠). ويقول آخرون: «كانت ثمود تقيم في جنوب شبه
الجزيرة العربية، ولكنها انتقلت إلى شمال غرب الجزيرة العربية في غرب خليج العقبة. وجاء
في الأعلام لخير الدين الزركلي: أن ثمود بن عابر بن إرم من بني سام بن نوح. كانت إقامته
في بابل ورحل عنها بعشيرته إلى الحجر. ثم انتشروا بين الشام والحجاز، وفيها من أعجب
الآثار بيوت منقورة في الصخور.»
٧٢ ويضيف «حمود القثامي» جامعًا أخبار الأولين بقوله: «واختلف في أصل ثمود؛
فقيل: هم من بقايا عاد؛ لأن القرآن الكريم ذكرهم مرادفين لعاد، وقيل إنهم من العمالقة
الذين شيدوا لهم مملكة في مدين والبتراء ووادي موسى، ولكنهم في الثابت كانوا بعد قوم
نوحٍ وعاد. قال تعالى:
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ
مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ (التوبة: ٧٠). وتعتبر مدائن صالح من أهم وأغنى
المناطق آثارًا في جزيرة العرب.»
٧٣ ثم يتساءل مع المتسائلين من أصحاب الدراسات الأركيولوجية في المنطقة
قائلًا: «لا يزال واضعو الدراسات العلمية حول نقوش الثموديين في حيرةٍ من أمرهم، وما
زالوا يتناقضون فيما بينهم. فالنقوش الثمودية تطالعنا في المنطقة الواقعة على امتداد
الجزء الغربي من شبه الجزيرة العربية، من جوار مدينة البتراء حتى اليمن، لكن هذه
المنطقة أوسع بكثيرٍ من المنطقة التي يسكنها الثموديون، كما هو في كتب التاريخ العربي.»
٧٤
وعلى الامتداد نفسه من البتراء قرب العقبة نصل إلى وادٍ لم يزل يحمل الاسم الآرامي
«رم»، وقد وصفه لورانس بقوله: «صخوره الشاهقة كأنها بنايات ضخمة عملاقة، تقع على جانبي
شارع طويل، تبدو القمم العالية التي تكتنفها الضخمة، وكأنها
الأعشاش (ولا بد أن نتذكر هنا قباب مساكن بونت التي
تظهر كالأعشاش [المؤلف])، يشاهد الزائر اللوحات الصخرية، المتناثرة في مختلف الأماكن
من
وادي رم، مكتوبًا عليها باللغة الثمودية: إنه من روائع جمال الطبيعة العذراء، وبقعة لا
مثيل لها في بقاع العالم، فمن خلال الأشكال والألوان يحس الإنسان أنه في أجمل بقعة من
العالم.»
٧٥
ثم يتساءل «قثامي» حول هذا الانتشار الهائل للمخربشات الثمودية من البتراء حتى اليمن،
بينما المفترض أن ثمود قد سكنت فقط منطقة الحجر بقوله: «إذن من هم مؤلفو الثلاثة عشر
ألفًا أو الأربعة عشر ألفًا من النقوش الثمودية، التي باتت الآن معروفة لنا، بالإضافة
إلى الألفي نقش، التي وجدت في شمال شبه الجزيرة العربية، والتي اكتشفها بييرفان دن
براندان … يقول بعضهم: «إن تلك النقوش تعود إلى أصحاب القوافل، التي كانت تعبر الصحراء،
حاملة التجارة عبر الطرق الصحراوية، ومن الغريب أن يكون بعض هذه النقوش من صنع أصحاب
القوافل أنفسهم، والأغرب من ذلك أن حقيقة وجود أعداد كبيرة من هذه النقوش في قمم الجبال
العالية، حيث يصعب على أصحاب القوافل الوصول إليها.»
٧٦ إن مثل تلك النقوش فيما نرى كانت بحاجة إلى وقت وزمن وارتباط بها، لقد كانت
لأناسٍ يقيمون هناك في محطاتٍ دائمة على الخط التجاري للإمبراطورية التجارية.
وإذا كنا قد عثرنا هناك على التأكيد الواضح — في اسم قصر البنت — على ما ذهبنا إليه
حتى الآن، وعثرنا على عناق البونتي والطائر البوني، فإننا نجد أيضًا الرفائيين/
الرباتيين، في اسم معبد الروافة النبطي «والفاء تنطق أيضًا باء» الواقع إلى الغرب من
تبوك على خط طول ٣٦٫٥ طولًا و٢٧٫٤٥ عرضًا. وقد ذكره ديودورس الصقلي باعتباره مكانًا
مقدسًا لقبيلةٍ عربية، وذكره أيضًا الدكتور جواد علي، ووجد على حجر هناك نقوشًا يونانية
قصيرة، تذكر أن البناء يعود إلى Hierontouto، وأنه قد
بُني في أرض الرباتيين أو كما كتبها النص راباتي Rabathai، وهو ما يدفع إلى اعتبار اسم الروافة الحالي من الأصل رفائي
ورباتي.
ويذهب المفسرون المسلمون إلى أن الآيات وَاسْأَلْهُمْ عَنِ
الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ (الأعراف: ١٦٣)، وفَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (البقرة: ٦٥)،
إنما تعني مدينة إيلات/أيلة أو ربما العقبة، ولكنها
في رأينا ميناء عصيون جابر التوراتي، الذي تحول إلى جزيرة فرعون بجوار ميناء أيلة.
ويحكي القرآن ذكريات العربان عمن أبادتهم الحدثان، فيربط بين الحوت/الدلفين، الذي
تتناثر تماثيله في المنطقة، وبين المدينة والبحر وبين الشعب الإسرائيلي وشرائعه، فيقول:
وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ
الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ
سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ
نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ
مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا
شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا
مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ
يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا
كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ
قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (الأعراف: ١٦٣–١٦٦). ولا يبقى
سوى أن تكون حاضرة البحر، تلك التي هي استقبلت سفائن الفرعونة حتشبسوت «عصيون جابر»؛
لأن اسمها المصري بذات النطق فهو «حرج سوى واي ور».
ويتابع «حمود القثامي» ليقول عن شعب مدين: «وقد بقيت آثارهم حتى الآن، وهي عبارة
عن
بيوتٍ نُحتت داخل الحجر، أي إن البيوت حُفرت حفرًا داخل الصخور، فتكونت بيوت من الصخور،
وداخل هذه البيوت غُرف فُصِّلت تفصيلًا دقيقًا، بطريقةٍ فنية تشير إلى المستوى الحضاري
والفني، الذي كان عليه هؤلاء الأقوام. ويظهر من مقابرهم أنهم طوال القامة.»
٧٧ ويسجل عن قائد سلاح الحدود في منطقة مقنا على خليج العقبة، وصفه لها في
قوله: «إن مقنا منطقة أثرية عظيمة، فقد عُثر على كثيرٍ من الجماجم الغريبة الشكل في
طولها، بحيث تدل على أنها لقومٍ عماليق في الحقيقة؛ لأن الجماجم أكبر بكثيرٍ من جماجم
الناس العاديين.»
٧٨ ولنتذكر من الآن هذه الجماجم الطويلة، فسيكون لها شأن عظيم في حل غوامض
تاريخية منغلقة، ستأتي في مواضعها من أجزاء بحثنا هذا.
وعلى صلاية الملك نعرمر مؤسس الأسرة الأولى المصرية، نجد أول ذكر لأول معارك مع البدو
الساميين، وهو رأيٌ يخالف ما استقر عليه التفسير لهذه
الصلاية ونقوشها، بكونها إشارات لتوحيد نارمر
للقطرين المصريين الشمالي والجنوبي، أما حسب قراءتنا نحن للنقوش، فسنجد على أحد وجهي
الصلاية الملك يقبض على بدوي من رأسه ويضربه بدبوس قتال، وفي كلا القطرين المصريين ليس
هناك بدو بالشكل الآسيوي المرسوم بالصلاية، ونلاحظ أن الملك الجليل كان يقف حافيًا، ولا
يتركنا الفنان نتوهم أن المصري القديم لم يعرف النعال، فقد نقش خلف الملك صورة لواحدٍ
من أتباع الملك، يحمل نعلي الملك بشكلٍ واضح، فهل كانت هناك قاعدة ضرورية تلزم صاحب
الجلالة بخلع نعليه؛ لأنه يقف بأرضٍ أو بوادٍ مقدس مثلًا، أو بأرض إله؟
وعلى الوجه الآخر نشهد نقشًا لحيوانين يوصفان في كتابات المؤرخين بأنهما كائنات
أسطورية خرافية، فالرأس أقرب إلى اللبوءة، والعنق شديد الطول كما لو كان الفنان قد بالغ
في إطالة الرقبة لتأكيد تعريفنا بهذا العناق، ويمسك برقبتي العناقين رجلان من أتباع
الملك، رمزًا لانتصاره على تلك البلاد وسيطرته عليها، ممثلة في سيطرته وترويضه لأشهر
أعلامها (التفسير التقليدي لعلماء التاريخ يرى الصلاية والوحشين، رمزًا لتوحيد نعرمر
لوجهي مصر العليا والسفلي).
أما ذيل الحيوان فكان معقوفًا، وهو الشكل الذي يطابق مشهدًا لذات الحيوان، عُثر عليه
فوق الكهوف الثمودية، وقال الباحثون في وصفه: «ربما كان لبؤة صغيرة، لكن ذيله المعقوف
مثل ذيل الكلب.»
ويدعم تفسيرنا أو قراءتنا هذه لصلاية نعرمر، أن على رأس الصلاية نقَشَ الفنان نقشًا
آخر، ليؤكد به الموطن الذي ذهبت إليه جيوش نعرمر، فصور طائر الزقزاق بشكل واضح لا لبس
فيه، وهو طائر غير موجود في القطرين، وعلى الجانبين رأس الإلهة حتحور، وهي ربة سيناء
الشهيرة عند المصريين.
أما أن يلبس تاج الوجه القبلي على أحد وجهي الصلاية، ويلبس تاج القطرين على الوجه
الآخر، هو المؤدي لتفسير اللوحة بتخليد توحيد القطرين المصريين، فإنه ليس كافيًا وليس
بقدر الشواهد التي سقناها، فليس في مصر بدو يضربهم الفرعون، وربة الصلاية هي حتحور
السيناوية، ناهيك عن كون لبس الفرعون تاج الوجه القبلي، تأكيدًا على قدسية وأهمية الوجه
القبلي مقر الفراعين، وتأكيد اعتزاز الفرعون بهذا التاج، والوجه القبلي هو الوجه الذي
تمكن من ضم الوجه الآخر (البحري)، فكان لبس الفرعون تاج الجنوب هو تأكيدًا لسيادة هذا
الجنوب، ولبسه تاج القطرين على الوجه الآخر، يعني
تأكيد السيادة عليهما معًا، ولا يحمل النقش عدا ذلك أي دلالات يمكن الذهاب بها، إلى
فكرة أن الصلاية هي تخليد توحيد القطرين.
ونتذكر الآن أن كثيرًا من المؤرخين ذهب لأسبابٍ وجيهة، أن الملكة المصرية «تي» أم
الفرعون إخناتون، كانت من بلاد ميتاني التي يفترض أنها كانت تقع في أعالي الرافدين،
والتي افترضناها مديان في سيناء ووادي عربة ومحيط خليج العقبة جميعًا، ولو تطلعنا إلى
إخناتون سنجده شخصًا عملاقًا، يحمل رأسًا غريبًا، فهو رأس مستطيل وكبير، وهو ما أورثه
أيضًا لبناته في النقوش التي تركتها فنون العمارنة، وهو الشأن الذي ستطول بنا متعته
الكشفية في الجزء الأخير من هذا العمل.
(انظر الشكل رقم «١٣٢، ١٣٣».)