الفصل الخامس
تجليات الرب السينائي
عند خروج الإسرائيليين من مصر بقيادة موسى عبر سيناء، تم تكريس هارون وأبنائه ونسله
كهنة للإله «يهوه»، وهارون وموسى هما أبناء السبط لاوي بن يعقوب؛ لذلك أصبح الكهنة
جميعًا فيما بعد من اللاويين نسل هارون، أو الليفيين. وهنا يحيطنا «زينون كاسيدوفسكي»
علمًا، يوضح لنا احتمال أن يكون اللاويون كهنة مديانيين من منطقة قادش سيناء، ونظنهم
من
جانبنا مصريين من سكان براري الدلتا الشرقية وحدود سيناء الغربية، أو هم نصف مصريين نصف
ساميين.
ولما كنا نعلم من قصة التوراة أن موسى قد عاد إلى مصر من بلاد مديان بالعصا الحية،
وأنه قد صاهر كاهن مديان بسيناء (رعوئيل/يثرون)، فإنه يمكن فهم «كاسيدوفسكي»؛ إذ يقول:
«يرى بعض العلماء أن اللاويين لم يكونوا قبيلة من قبائل إسرائيل، بل هم فئة الكهنة في
قادش، حيث أكدت الكتابات العربية التي اكتُشفت في منطقة العول، التي تقع إلى الشرق من
المنطقة التي كانت تسمى أرض مديان، أن كاهنات الإله «وُد» كُنَّ يحملن لقب «لو»، بينما
حمل كهنته لقب لوي. ويزعم هؤلاء أن اللاوي اشتق منه. وثمة وجهة نظر أخرى في هذه
المسألة، تفترض أن لقب لاوي قريب من الكلمة اليهودية القديمة «لوي»، التي تعني أفعى.
ولن ننسى هنا أن المقطع لوي هو جزء من الكلمة، التي تشكل لقب الوحش الأسطوري لوياثان.»
١
ولوياثان وحشٌ أسطوري في هيئة حية ضخمة هائلة، ظهر من قبل بذات الاسم كأفعوان (من
أفعى) زاحف، متعدد الرءوس في الأساطير الأوغاريتية، باعتباره كائنًا مفزعًا شريرًا
يقتله الإله الأعظم. وقد سُمي هذا الوحش في الأساطير المصرية «أبو فيس». ذات الاسم الذي
لقبوا به ثلاثة من ملوك الهكسوس الستة، (وقد قال الكتاب المقدس بدوره: إن الإله يهوه،
تغلَّب على الحية المتحوية لوياثان وقتلها) وفي مصر حتى الآن تقديس لشيخ يعده العامة
من
أولياء الله الصالحين أخضع الثعابين لمشيئته، وله أتباع يقومون حتى اليوم باستخراج
الثعابين من المنازل نظير أجر، ويدَّعون بدورهم الولاية المقدسة، وكان ذلك الولي هو
المعروف باسم الشيخ الرفاعي، وأتباعه الرفاعية أو الرفاعيون، وهو ما يستدعي على الفور
الرفائي والرفائيين العمالقة. وللرفاعي بحي مصر القديمة مسجد هائل فخيم قائم حتى
اليوم.
ونتابع «كاسيدوفسكي» وهو يقول: «زد على ذلك أن أسماء اللاويين غالبًا ما كانت تحمل
في
أصولها معنى أفعى، ومن هنا يستنتج أصحاب هذه الفرضية أن اللاويين كانوا يعبدون الأفعى
في مصر، ولم يشاءوا ترك عبادتهم تلك، كما بينت الاكتشافات الأثرية أن عبادة الأفعى،
استمرت قائمة في فلسطين عدة قرون أخرى. ومن هنا يغدو مفهومًا لماذا أقام موسى الأفعى
النحاسية وسط المعسكر. ولم ينجُ من اتهام أتباع يهوه له، من أنه لطخ نقاء اليهودية
بسماحِه بإقامة عبادة إله الأفعى.»
٢
وكاسيدوفسكي يشير هنا إلى النص التوراتي: «فصنع موسى حيةً من نحاسٍ ووضعها على
الراية» (عدد، ٢١: ٩)، وما حدث بعد ذلك إبان حكم الملك اليهوذي الورع «حزقيا بن أحاز»،
الذي قرر مع التطور الكبير الذي لحق الديانة اليهودية مع مرور الزمن، استبعاد كل
العبادات والتجليات الإلهية؛ للإبقاء على وحدانية يهوه. وجاء بشأن ذلك نص بالكتاب
المقدس يقول: إن الملك حزقيا «عمل المستقيم في عيني الرب، هو أزال المرتفعات وكسر
التماثيل وقطع السواري، وسحق حية النحاس التي عملها موسى؛ لأن بني إسرائيل كانوا إلى
تلك الأيام يوقدون لها، ودعوها نحشتان» (ملوك ثاني، ١٨: ٣،
٤)، ونحشتان مقلوب حنش والحنش هو الثعبان.
والمعلوم أن الإله «ود» كان إلهًا عربيًّا عريقًا، وأنه عُبد في بلاد آدوم على تتالي
السيادات عليها، كما عُبد في بلاد الحجر والمحيط الشمالي للجزيرة جميعًا، وفي بلاد
الحجاز بعد ذلك. وجاء ذكره في القرآن الكريم كمعبودٍ جاهلي، وظل «ود» ربًّا جليل القدر
حتى ظهور دين الإسلام، الذي صفَّى الآلهة جميعًا عدا رب الإسلام «الله»، إلا أن الله
حاز لنفسه أسماء الآلهة السابقة في العربية، فهو الله من إيل، وهو القدوس من الإله
اليمني عستر الملقب «قدست»، وهو الرحمن من «رحمنن» اليمني وهو الرحيم من «ﻫ-رحيم» عند
عرب الشمال، وهو الودود من «ود» … إلخ.
ولو أضفنا لازمة التعريف الشمالية «الهاء في أول الكلمة» إلى ود، لصارت «هود» اسم
النبي الذي أرسله الله إلى عادٍ في القص العربي الجاهلي وفي القص الإسلامي، كما يفصح
اسم هود عن العلاقات الخفية بين الإسرائيليين وبقية الأخلامو ومعهم العرب، فهو «يهود»،
كما يشير الاسم هود إلى أصل كلمة «يهوذا».
وبالإمكان هنا أن نسوق تخريجًا يعتمد على لغة قبائل الأحلاف؛ فأداة التعريف اليمنية
كانت «ن» تلحق بآخر الكلمة، بينما كانت «ﻫ» أداة التعريف الشمالية تسبق المراد تعريفه،
فاسم الرحمن وهو إله يمني كان يُكتب باليمنية «رحمنن»، وتكتبه العرب الشمالية «ﻫ رحيم»
عند الأنباط، والأمر ذاته حدث مع الإله «ود» وحرف «د» في «ود» مدغم من حرفين بالتشديد،
فهو بالأصل «ودد» الذي هو «أدد» و«حدد» أو البعل حداد. وتعريف «ود» شماليًّا يجعل
الكلمة «هود» أو «يهود». أما تعريفه جنوبيًّا فيجعله «ودن» الذي هو آدون لقب البعل
بمعنى السيد.
وهنا ينبه «كاسيدوفسكي» إلى مسألة بقاء الإسرائيليين في مصر زمنًا كان كفيلًا بتشربهم
ثقافة المصريين ومقدساتهم، حيث يقول: «أخذوا يتمثلون الثقافة المصرية رويدًا رويدًا.
بل
وتشير معطيات موثوقة أنهم اعترفوا بعبادة آلهة المصريين ومارسوها، فقد قال يشوع بن نون
مؤنبًا الإسرائيليين: انزعوا الآلهة التي عبدها آباؤكم في عبر النهر وفي مصر (يشوع ٢٤:
١٤).
٣
ويستمر «كاسيدوفسكي» شارحًا: «يظهر التأثير المصري بكل وضوحٍ في وصف التوراة للثياب
التي يريتديها الكاهن أثناء تأديته لفروض العبادة؛ فهي عبارة عن نسخة طبق الأصل تقريبًا
عن الثياب التي كان يرتديها كهنة هليوبوليس (أون/عين شمس شمال شرق القاهرة الحالية،
وعاصمة الدولة الفرعونية القديمة [المؤلف]). ولم يكن ثمة فارق بين كهنة الإسرائيليين
وكهنة المصريين، سوى أن هؤلاء الآخرين كانوا حليقي الرءوس والوجه. بينما أطلق الأولون
شعر رأسهم ولحاهم. لقد اقتبس موسى عن المصريين أيضًا تابوت العهد والأسفاط (الكروبيم
بالتوراة [المؤلف])، التي كانت تظل بأجنحتها شكلين لروحين حاميتين. إن الكروبيينِ
اللذين زينا التابوت هما من منشأٍ مصري أيضًا. ولقد اقتبست القبائل البدوية عن
الإسرائيليين تابوت العهد، وحرم المعبد يحمل خيمةً مقدسة صغيرة، وما زالت آثار هذا
التقليد المصري القديم قائمة حتى اليوم عند قبيلة الروالة، التي تنتقل في الصحراء
السورية، حاملة على أحد الجمال سفطًا خاصًّا، يُسمى المركب أو تابوت إسماعيل، الذي يعد
ما يشبه الذخر المقدس للقبيلة.»
٤
ومثل بقية الشعوب القديمة قدس الإسرائيليون العجل/الثور؛ لما له من قوةٍ وفحولة جنسية
خصيبة. ومعلوم أن قدسية الثور كانت شاملة ومنتشرة بين جميع الشعوب القديمة، حتى صنع
الملوك تيجانهم تعلوها القرون، وهو ما لحق بيعقوب إسرائيل نفسه، حيث يحيطنا شيفمان
علمًا أن هناك صيغتين وردتا في التوراة عن يعقوب (في
سفر التكوين: ٤٩؛ وفي المزمور: ١٣٢)، تمت ترجمتها إلى عزيز إسرائيل وعزيز يعقوب، بينما
هما في الأصل العبري المازوري ثور إسرائيل وثور يعقوب.
٥
بل إن هناك نصًّا صريحًا واضحًا يشير إلى اعتقاد إسرائيل (المملكة الشمالية) منذ فجر
انقسام مملكة سليمان، إلى يهوذا في الجنوب وإسرائيل في الشمال، أن يهوه بالفعل هو الذي
أخرجهم من مصر، لكنه ليس سوى الثور نفسه؛ فقد أمر الملك يربعام مؤسس إسرائيل الشمالية
بعمل عجلين من ذهب «… وعمل عجلي الذهب، وقال لهم هوذا آلهتك يا إسرائيل الذين أصعدوك
من
أرض مصر. ووضع واحدًا في بيت إيل، وجعل الآخر في دان» (ملوك أول، ١٢: ٢٨-٢٩).
وعندما أخذت الديانة الإسرائيلية خطها التطوري
اللاحق للتفرد بيهوه وحده، نسمع نبيًّا من مملكة يهوذا، اسمه هوشع يصب نقمته على أشقائه
في مملكة إسرائيل وعاصمتها السامرة، وعلى سبط إفرايم الابن الثاني ليوسف؛ وذلك بسبب
عبادتهم عجول أون. وعجول أون هي عجول عين شمس المصرية، وعجل عين شمس المعروف كان
المعروف باسم العجل أبيس.كذلك نعى هوشع على إسرائيل عبادتها لشوامخ أون، والشوامخ هي
المسلات التي تطلق عليها التوراة اسمًا آخر على التبادل هو السواري (هوشع، ١٠: ٥، ٨)
جمع سارية.
وفي قصة لقاء موسى بربه ليأتي بألواح الشريعة إبان رحلة الخروج، يحيطنا «كاسيدوفسكي»
علمًا أن النص التوراتي القائل، أن موسى غطى وجهه بقطعة قماش؛ لأن وجهه كان يلمع أو يشع
من لقاء الله، كان في أصله المازوري أن موسى بعد لقاء الرب ظهر له فوق رأسه قرنان.
٦
وإعمالًا للنص الأصلي صور الفنان مايكل أنجلو، تمثال موسى بقرنين. ولا بأس هنا أن
نجمع اللمعان المضيء مع القرنين، إذا تذكرنا أن الفرعونة حتشبسوت قد استوردت من بلاد
بونت مادة دهنت بها جسدها، فأضاءت أمام شعبها، وهي ذات البلاد التي جرت فيها أحداث
الخروج بمديان وآدوم سيناء. ويؤكد لنا «كاسيدوفسكي» أن الكهنة المصريين كانوا يغطون
وجوههم أثناء إقامة الاحتفالات الدينية والمراسم؛ لأنها كانت تضيء «أما القرون فهي راسب
من رواسب عبادة الثور المصري أبيس. وهذا ما تدل عليه حادثة العجل الذهبي، فبقيت القرون
رمزًا للقداسة.»
٧
كذلك ظل البعل وهو ثور بدوره، هو جدي «تيسا» إلهًا جليل الشأن لدى شعوب شرقي المتوسط
وضمنها بنو إسرائيل. ويمكنك أن تجد بالكتاب المقدس شهادات واضحة بذلك، من أمثلتها
عبادتهم عجل بعل فغور (تثنية، ٣٢: ١٧-١٦؛ وعدد، ٢٥: ١–٣)، وعبادتهم البعل وعشتروت
(قضاة، ٢: ١٣)، وعبادتهم البعليم جمع بعل (قضاة، ٣: ٥–٨)، كما مارسوا طقس الجنس الجماعي
وراء بعل بريث (قضاة، ٨: ٣٣؛ ١٠: ٦)، ومارسوا هذا الزنا المقدس في باب خيمة الاجتماع
(صموئيل أول، ٢: ٢٢)، كذلك ذكر هذا المقدس أن سليمان سجد لكل آلهة المنطقة (ملوك أول،
١١: ١–٨)، كما عبدوا عددًا من العجول الذهبية، وقاموا بالجنس الجماعي على المرتفعات،
وقدموا الأطفال أضاحي للآلهة (ملوك أول، ١٣: ٢؛ ١٤: ٢٣؛ ١٦: ٣١–٣٣؛ وملوك ثاني، ١٦: ٣،
٤؛ ٢١: ٢، ٦؛ وأخبار أيام ثاني، ٢١: ١١، ٣٣؛ وملوك ثاني، ٢٣: ١١؛ وأخبار أيام ثاني، ٣٤:
٢–٥)، كذلك سجدوا لبعل مولك عند توفه (ملوك ثاني، ٢٣: ١٠)، أما مركب الشمس المصرية التي
كان يُعتقد أن رع يركبها في رحلته السماوية، فقد كانت محل عبادة دائمة في المملكتين
معًا إسرائيل ويهوذا، حتى وصل الأمر بالنبي إرميا، وهو يرهص بتوحيد يهوه، إلى التنديد
بشعبه صارخًا فيه: «بعدد مدنك صارت آلهتك يا إسرائيل» (إرميا: ١١–١٣).
حتى إن يهوه نفسه الذي اكتشفه موسى في أيكة مديان المضيئة لم يكن إلهًا واحدًا، بل
مدمجًا لعددٍ من الآلهة، حيث يقول لنا «كمال الصليبي»: «هناك ثلاثة مقاطع مختلفة في
التوراة، تذكر اسم موسى مع تعريف لشخصه بأنه: ء يش ﻫ – ء لهيم، وفي الترجمة العربية
وسائر الترجمات: رجل الله (المزمور، ٩٠: ١؛ وعزرا، ٣: ٢؛ وأخبار أيام أول، ٢٣: ١٤)، ولو
كانت العبارة بالعبرية هنا: ء يش لهيم، لصحت ترجمتها على أنها تعني رجل الله؛ لأن اسم
الله بالعبرية هو: ء لهيم. ويُلفظ: إلوهيم. لكن العبارة العبرية هي في الواقع ﻫ ء لهيم
بالتعريف، وليس: ء لهيم بدون تعريف، وﻫ ء لهيم بالعبرية ليست هي اسم الله، بل لفظة
عادية تعني الآلهة، جمع إله أي آلهة مع سابقة التعريف.
٨
ولعل أهم تجليات الإله يهوه وأبرزها إضافة إلى الثعبان، هو التجلي الناري، وقد سبق
وألمحنا إلى خنفساء المانجروف، كظاهرة يمكنها تفسير مشهد عليقة تلتهب ولا تحترق.
والطريف أنه يمكنك أن تجد في سيناء أكثر من ظاهرة للنباتات الضوئية. وقد حاول بعض
الباحثين تفسير مشهد عليقة تلتهب ولا تحترق، بالظاهرة المعروفة بهالات القديسين، «وهي
هالات ضوئية تُرى محيطة برءوس القديسين في المصورات القديمة، وتطابق ما يُشاع بين
البسطاء عن أنوارٍ تشع من وجوه الأنبياء والأولياء ذوي الكرامات، وهي الظاهرة التي
فسرها علم الفيزياء بعد اكتشافه للكهرباء الجوية،
التي تأخذ أحيانًا شكل كهرباء إستاتيكية مستقرة، وعادة ما تظهر فوق قمم الجبال والمناطق
الخلوية الرطبة، وهي الأماكن التي اعتاد الزهاد والنساك ارتيادها للتعبد والاختلاء،
كذلك الأفاقون والهاربون من العدالة، وهم أيضًا ممن لوحظت معهم تلك الظاهرة، وكانت
رؤيتها كفيلة بإبهار العامة.»
٩
ومن جانبنا لا نجد ذلك معبرًا بوضوحٍ عن ظاهرة العليقة الموسوية، فنحن نظن موسى
التوراتي قد رأى بالفعل لهبًا بشكلٍ من الأشكال، أو ضوءًا نباتيًّا، وليس شرطًا أخذ
الأسطورة بحرفيتها أو بتفاصيلها الدقيقة، على محمل الجد الصارم، حيث حاول الباحثون
العثور على تفسيرٍ للظاهرة في سيناء نفسها، فوجدوا هناك نباتًا لم يزل يسمى عليقة موسى
من قبل سكان المنطقة الحاليين. واكتشف أن لهذا النبات خصائص فريدة، فهو يرسل خيوطًا من
الزيت في الأثير، تتوهج بسهولة تحت أشعة الشمس، وحملوا معهم إلى بولونيا نموذجًا منه،
وزرعوه في محمية «سكوروتيت». وفي عام ١٩٦٠م خرجت الصحف بنبأ مثير يقول: إن عليقة موسى
المحاطة بالرعاية في المحمية، قد اشتعلت بنارٍ ذات لون أحمر، وكان اليوم حارًّا وقائظًا.
١٠ ومن ثم تم الربط بين اشتداد الحرارة والرطوبة معًا، وهو ما يحدث في أيامٍ
محددة في ذلك الجنوب السينائي، وبين توهج ذلك النبات بالضوء، لكن أحدًا في بولونيا لم
يزعم أنه رأى يهوه، أو سمعه يتكلم من خلال النبتة المتوهجة!
وظاهرة رابعة في سيناء أيضًا، يمكنها بدورها تفسير مشهد عليقة نارية لا تحترق،
صادفتنا إبان مشاهدتنا للتلفاز المصري، على قناته الأولى في برنامج عالم الحيوان، وكانت
تفسيرًا سهلًا وبسيطًا، حيث كان يعرض البرنامج الذي أعده سعيد محمود وعلق عليه، وأذيع
خلال شهر يناير ١٩٩٣م، ألوانًا من الأشجار والنباتات الفطرية، التي تتعايش معها بكتريا
تؤدي بالتفاعل الكيميائي، إلى صدور شحناتٍ ضوئية منتظمة نابضة تصدر عن النبات. وقدم
البرنامج ألوانًا من تلك النباتات في البحر الأحمر وفي شبه جزيرة سيناء. وبالطبع لم يكن
البرنامج يتحدث عن عليقة موسى، لكنه كان يتحدث عن
الشوكيات، وفطر المشروم السينائي الذي يضيء بالخلايا البكتيرية، كما قدم أيضًا عددًا
من
تلك الظاهرات تحدث في نباتاتٍ مائية في عمق البحر الأحمر وخليج السويس والعقبة، أما
الحالات التي عرضها البرنامج فكانت مدهشة حقًّا، حيث كان النبات يبدو بالفعل متوهجًا
تمامًا كما لو كان يشتعل بالنار، ولو لم تمسسه نار.
ومن ثم فلدينا في شبه الجزيرة السيناوي، أكثر من ظاهرة يمكنها تفسير ما شاهده موسى،
في تلك الصحراء الحافلة بالعجائب، فلو كانت الرؤية بالنهار يمكن أن تفسرها العليقة
الزيتية، وإن كانت ليلًا يمكن أن تفسرها خنافس المانجروف أو المشروم المضيء.
ونبات المشروم تحديدًا يمكنه أن يستدعي معانيَ كثيرة، فالإله يهوه يبدو في أحد
تجلياته كقضيبٍ ذكري، ولا ننسى أن القضيب مصدر الخصب وعلامة القوة، فالبطاركة الأوائل
كان يمسك أحدهم بالقضيب، ويقسم به في مواضع متعددة بالتوراة، ومثالًا لذلك «وقال
إبراهيم لعبده كبير بيته المستولي على ما كان له: ضع يدك تحت فخذي، فأستحلفك بالرب إله
السماء وإله الأرض، أن لا تأخذ زوجة لابني من بنات الكنعانيين» (تكوين، ٢٤: ٢-٣).
ويتكرر القسم بالقضيب في عدة مواضع أخرى، منها على سبيل المثال ما جاء في طلب يعقوب
لولده يوسف إبان وجودهم في مصر، ألا يدفنه في بلاد مصر، بل يذهب بجثمانه إلى أرض كنعان
ليدفنه هناك، وهو الطلب الذي لم يطمئن إلى تنفيذه وتهدأ نفسه، إلا بعد أيمانٍ مغلظة من
يوسف في عبارة التوراة على لسان يعقوب: «ضع يدك تحت فخذي، واصنع معي معروفًا معي
وأمانة، لا تدفني في مصر» (تكوين، ٤٧: ٢٩).
ولا ننسى مسألة ختان القضيب كشرعةٍ إسرائيلية، وفريضة إجبارية محتومة على كل يهودي،
ورغم علمنا من قوانين الفراعين وما تركوه من رسومٍ لإجراء عملية الختان بسكاكين الصوان،
تؤكد أنهم اعتبروا الختان ميزة خاصة تعاليًا على بقية الشعوب، فإن الإسرائيليين أخذوا
بهذه الشرعة المصرية، بل واحتسبوها علامة العهد بين الرب وبينهم، الرب يعطيهم فلسطين،
وهم يعطونه غلفات قضبانهم بالاختتان. وكلما نظر الرجل إلى قضيبه بعد قص غرلته عنه،
يتذكر عهده وميثاقه مع الرب:
وقال الله لإبراهيم: وأما أنت فتحفظ عهدي أنت ونسلك من بعدك في أجيالهم. هذا
هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم، وبين نسلك من بعدك، يختتن منكم كل ذكر
فتختتنون في لحم غرلتكم، فيكون علامة عهد بيني وبينكم. فيكون عهدي في لحمكم
عهدًا أبديًّا.
(تكوين، ١٧: ٩، ١٣، ١١، ١٠)
ولا يفوت لبيب هيئة المشروم، فهو يتخذ شكل قضيب نموذجي الاختتان، وبهذا الخصوص يعرب
شفيق مقار عن رأيه في ديانة يهوه فيقول: «هي نابعة من دياناتٍ صحراوية من ديانات الخصب،
انصبت على تقديس نوع من الفطر واسمه العلمي هو «أمانيتا موسكاريا»، كان أتباع تلك
الديانة يرون فيه تجسيدًا لإلههم القومي، وهو إلهٌ قضيبي. ويؤمنون بأن تعاطيه يمكنهم
من
الاتصال اتصالًا مباشرًا بمعبودهم، ويتيح لهم مشاركته أسراره السماوية. والمعروف أن
لذلك الفطر تاجًا يشبه قمة القضيب في حالة انتصابه، ويحتوي على عقار يسبب الهلوسة لمن
يتعاطاه، ويشيع في كيانه بلهنية وشعورًا بالحيوية والجزل، يصحبه اندفاع لطاقةٍ جسدية
عارمة، ويعقبه فترات من الانحطاط الجسدي الحاد. ونفهم الأهمية القصوى التي علقها هذا
المعبود القضيبي، حسبما يرويه الكهنة من مبدأ الأمر على مسألة الختان؛ فالختان هو الذي
يجعل القضيب، عندما ينتصب مماثلًا لنبات الفطر المقدس، الذي رأى عبدة ذلك الإله أن
معبودهم يتجسد فيه.»
١١
ومن الطريف أن اسم القضيب الذكري في العامية المصرية حتى اليوم هو «الحمامة»، وسر
الطرافة أنه قد تم العثور في أورغايت، على قطعةٍ فنية نحاسية تعود إلى حوالي سنة
١٦٠ق.م. تحمل اسم رب التوراة
IA-HU، وبتدقيق النظر
ستكتشف أن الاسم مركب من مقطعين «
IA أي رفيع أو سامي
الشأن» و«
HU أي الحمامة»،
١٢ فهو رب الحمامة أو رب القضيب.
ويعلق علي الشوك على تلك القطعة النحاسية بقوله عن إياهو: «وكان يُدعى يومئذٍ إيلات
إياهو … وكان إله الحدادة عند القينيين! ويظن أنه كان عشيق بعلت (أي البعلة [المؤلف]).
واسم إياهو يرجع إلى حِقَبٍ أبعد بكثير، فهو قد ظهر في مصر في عهد الأسرة السادسة، أي
في النصف الثاني من الألف الثالث ق.م. لقبًا للإله سيت Set أو سوتخ Sutech، وكان إله
الرعاة. وقد ظهر في سفر التكوين باسم شيث بن نوح.»
والأفعى المقدسة رمز يهوه «الأفعوان»، تتخذ في الأساطير اليونانية، صورة حمامة تلقح
الكون فيلد الحياة. ويضع علي الشوك تخريجًا للأصل الاشتقاقي لكلمة حمامة، يقول إنه غير
متأكد من صحته، رغم أنه شديد الصحة، فهو عنده من مادة حم أي صار أسود؛ لأن حم في
المصرية القديمة = أسود، أفلا يحيل كل هذا إلى القينيين في مديان الحدادين وربهم حداد،
الحاميين، الكوشيين، الزنوج.
والأفعوان هو باليونانية Ophis ومنها أبوفيس كذلك هو
Ophion، وله اسمٌ آخر في ذات اللغة هو بيثون
Python، وفي اللغة الحورية الأوغاريتية اسمه ب ث ن
أي الحية. وبقلب الباء فاء تصبح فتن، والفتن بالعبرية تعني حية. وبثن بالعربية هو
الناعم الطري؛ لذلك نجد الاسم «بثينة» أي الناعمة. لكن يبدو أن تلك النعومة، اشتقت من
ملمس البيثون الحية الناعمة، لكنها الشريرة القاتلة؛ لذلك جاءت كلمة فتن في العربية
وفاتن، لتدل على شديد الجمال الفاتن الأخاذ، لكنه الشرير القاتل، ومنها الفتنة التي هي
أشد من القتل.
ومن بيثون يأتينا اسم PAN/بان رب الرعاة أو رب الماعز
عند الإغريق، فقد كانت هذه صورته المفضلة (التيس)، وكان في الوقت ذاته هو رب القضيب ورب
الجماع، ثم المقابل لكلمة «بان» في العربية، هي كلمة فن/بن، والفن في العربية هو عملية
إخصاب الحمار لأنثاه، ويقال: فن الحمار بأتنه أي نكحها؛ لذلك يسمى الفنان.
وقد لاحظ جون الليجرو أن اسم البعل نفسه مأخوذ من اسم سومري هو
BA-AL وهو ما يعني المثقب أو القضيب، واختلاط الباء
بالفاء يؤدي بكلمة «بال» السومرية إلى فالوس Phallus
اللاتينية، وهي اسم القضيب الذكري في حالة الانتصاب، ولنلحظ أيضًا أن الشق الأول من
الكلمة BA هو في العربية القدرة الجنسية المسماة «باه»،
وكان المصري القديم يتصور القضيب وهو مخرج روح الرجل، وكانت الروح في المصرية القديمة
تحمل اسم اﻟ «با». وكانت ترسم وهي تخرج من القضيب في شكل الحمامة، والحمامة هي اسم
القضيب المتداول في مصر حتى الآن، لم تزل ذكريات القضيب المضيء (فطر أو عيش الغراب
السينائي)، تتمثل في المصابيح الزيتية القروية باسم الفانوس/الفالوس.
وفي أساطير الشعوب القديمة جميعًا تمثلت الروح في الريح، الرياح؛ ربما لأن التنفس
(النفس) أي الريح هو الذي يمد الكائنات بالحياة. وفي الكتاب المقدس: «بنسمة الله يبيدون
وبريح أنفه يفنون» (أيوب، ٩: ٤). ويتواتر ذكر عبارة «روح
الرب» (ملوك أول، ١٢: ١٨). أو كما في «بريح أنفك
تراكمت المياه» (خروج)، وتشترك مع الريح والروح كلمة الرائحة، التي عادةً ما تعبر عن
الرائحة العطرية، وتشترك معها في الدلالة لفظ شذًى، التي أحالت لدينا من قبل إلى «شرى»
أو ذوي الشرى، الذي ارتبط بالخصب بدوره، فولد تحت نخلة في بلاد آدوم في أسطورته.
والنخلة باليونانية هي Phoenix فويينكس، وهو ذات الاسم
الذي كان يُطلق على العنقاء الطائر المسافر من بلاد العرب إلى مصر، وإلى العناقين
العمالقة، الذين سنجد بينهم — بعد فصول — قاطعي الأعناق أو الرقاب أو قاطعي الرءوس، أو
الخناقين. والمبهر أن الكلمة فوينكس تعني أيضًا في اليونانية «الخناق أو قاطع الرقبة»!
وهنا الحالة الثالثة التي نطلب من القارئ تذكرها؛ لأن لها دورًا آتيًا في حل كثيرٍ من
الألغاز في بحثنا هذا.
وكان القدماء يتصورون الريح الإعصاري، في هيئة عمود ثعباني كبير عظيم متلوٍ يلتهم
كل
شيء، وهي صورة الإعصار. ومن هنا جاء اسم الأفعى الأفعوانية، التي أصبحت في اليونانية
أوفيس/أوفيون، لكنهم يطلقون عليها أيضًا الاسم بيثون. ومن الكلمات «بثن» و«فتن» يأتينا
اسم «بان» رب الماعز اليوناني. وفي الأساطير اليونانية نجد مملكة الرياح تتكون من أربعة
آلهة بعدد الجهات الأصلية، وأمهم جميعًا هي البقرة «يهو» أو «أيوس»، وكذلك فإن انفجارات
البركان المتتالية مع كل دمدمة تعطي بغبارها السحابي الهائل شكل الانفجار النووي، تعطي
بالضبط مشهد المشروم، مشهد القضيب لكنه العظيم المهول، الذي يقذف بمواد الخصب، لكن
بقدرةٍ ربانية تزلزل الجبال وتنشف المياه وتشق الأرض. واللافا البركانية بالملاحظة
المستمرة، أعطت إنسان العصور الخوالي فرصةَ اكتشاف أنها سر خصب الأرض.
وعليه نقف الآن مليًّا مع مشهدية كبرى نارية قضيبية بركانية لرب التوراة «يهوه»،
وهو
يتجلى تجليًا لا يمكن بحالٍ إلا احتسابه بركانًا كامل المواصفات.
-
وكان الرب يسير أمامهم نهارًا في عمود سحاب، ليهديهم في الطريق، وليلًا
في عمود نار ليضيء، لكي يمشوا نهارًا وليلًا (خروج، ١٣: ٢١).
-
سحابة الرب كانت على المسكن نهارًا، وكانت فيها نار ليلًا، أمام عيون كل
بيت إسرائيل (خروج، ٤٠: ٤٨).
-
وحدث في اليوم الثالث لما كان الصباح، أنه صارت رعود وبروق وسحاب ثقيل
على الجبل، وصوت بوق شديد جدًّا، فارتعد كل الشعب الذي في المحلة، وأخرج
موسى الشعب لملاقاة الله، فوقفوا في أسفل الجبل، وكان جبل سيناء كله يدخن،
من أجل أن الرب قد نزل عليه بالنار، وصعد دخانه كدخان الأتون وارتجف كل
الجبل جدًّا. ونزل الرب على جبل سيناء، إلى رأس الجبل (خروج، ١٩: ١٦، ١٧،
١٨، ٢٠).
-
وكان الشعب كأنهم يشتكون شرًّا في أذني الرب، وسمع الرب فحمي غضبه،
فاشتعلت فيهم نار الرب وأحرقت طرف المحلة، فصرخ الشعب إلى موسى، فصلى إلى
الرب، فخمدت النار، فدُعي اسم ذلك الموضع تبعيرة؛ لأن نار الرب اشتعلت فيهم
(عدد، ١١: ١–٣).
-
عندما تمرد قورح — قارون إسلاميًّا — على موسى: «انشقت الأرض التي تحتهم،
وفَتحت الأرض فاها، وابتلعتهم وبيوتهم، وكل ما كان لقورح من كل أموال،
فنزلوا هم وكل ما كان لهم من أحياء إلى الهاوية، وانطبقت عليهم الأرض،
فبادوا من بين الجماعة، وكل إسرائيل الذين حولهم هربوا من صوتهم؛ لأنهم
قالوا: لعل الأرض تبتلعنا، وخرجت نار من عند الرب، وأكلت المائتين وخمسين
رجلًا، الذين قربوا البخور (عدد، ١٦: ٣١–٣٥).
-
فتقدمتم ووقفتم في أسفل الجبل، والجبل يضطرم بالنار إلى كبد السماء،
بظلامٍ وسحاب وضباب (تثنية، ٤: ١١).
-
الرب إلهك هو نار آكلة، إله غيور (تثنية، ٤: ٢٤).
-
إنك قد أُريت لتعلم أن الرب هو الإله، ليس آخر سواه، من السماء أسمعك
صوته لينذرك، وعلى الأرض أراك ناره العظيمة، وسمعت كلامه من وسط النار
(تثنية، ٤: ٣٥، ٣٦).
-
هذه الكلمات كلم بها الرب كل جماعتكم في الجبل من وسط النار والسحاب
والضباب وصوت عظيم. فلما سمعتم الصوت من وسط الظلام، والجبل يشتعل بالنار
قلتم: هو ذا الرب إلهنا قد أرانا مجده وعظمته، وسمعنا صوته من وسط النار،
هذا اليوم قد رأينا أن الله يكلم الإنسان ويحيا، أما الآن فلماذا نموت؟ لأن
هذه النار العظيمة تأكلنا (تثنية، ٥: ٢٢، ٢٤، ٢٥).
-
فاعلم اليوم أن الرب إلهك، هو العابر أمامك، نار آكلة (تثنية، ٩:
٣).
-
وكان منظر مجد الرب، كنارٍ آكلة على رأس الجبل، أمام عيون بني إسرائيل
(خروج، ٢٤: ١٧).
-
فانصرفت ونزلت من الجبل، والجبل يشتعل بالنار (تثنية، ٩: ١٥).
-
اعبدوا الرب بخوف واهتفوا برعده (مزمور، ٢: ١١).
-
يمطر على الأشرار فخاخًا نارًا وكبريتًا وريح السموم (مزمور، ١١:
٦).
-
فارتجت الأرض وارتعشت أسس الجبال، ارتعدت وارتجت لأنه غضب، صعد دخان من
أنفه ونار من فمه، أكلت جمرًا، اشتعلت منه. عبرت سحبه برد وجمر نار، أرعد
الرب من السماوات، والعلي أعطى صوته بردًا وجمر نار (مزمور، ١٨: ١٣، ١٢، ٧،
٨).
-
صوت الرب يقدح لهب نار، صوت الرب يزلزل البرية، يزلزل الرب برية قادش
(مزمور، ٢٩: ٧، ٨).
-
نارًا قدامه تأكل، وحوله عاصف جدًّا (مزمور، ٥٠: ٣).
-
السحاب والضباب حوله، العدل والحق قاعدة كرسيه، قدامه تذهب نار وتحرق
أعداءه، حوله أضاءت بروقه المسكونة، رأت الأرض وارتعدت (مزمور، ٩٧:
٢–٤).
-
الصانع ملائكته رياحًا، وخدامه نارًا ملتهبة (مزمور، ١٠٤: ٤).
-
بسط سحابًا سجفًا، ونارًا لتضيء الليل (مزمور، ١٠٥: ٣٩).
-
يا رب طأطئ سماواتك وانزل المس الجبال فتدخن، أبرق بروقًا وبددهم، أرسل
سهامك وأزعجهم (مزمور، ١٤٤: ٥، ٦).
-
من حضرتك تتزلزل الجبال، كما تشعل النار الهشيم، وتجعل النار المياه
تغلي، لتعرف أعداءك باسمك، لترتعد الأمم من حضرتك (إشعيا، ٦٤: ١،
٢).
-
على جبل الله المقدس كنت، بين حجارة النار تمشيت (حزقيال، ٢٨:
١٤).
-
غيظه ينسكب كالنار، والصخور تنهدم منه (ناحوم ١: ٦).
والآن، هل من الممكن أن يُفهم من تلك النصوص شيء، سوى أنها تصوير بليغ لبركانٍ حقيقي؟
إن البركان هو الظاهرة الوحيدة التي إذا طالعناها من بعد، أخذت شكل عمود النار ليلًا،
وشكل عمود السحاب نهارًا عندما تظهر الشمس، وتطغى بضوئها على ضوء النار المتلظية داخله.
هو الظاهرة الوحيدة التي يصاحبها أصوات القصف كالرعد والبرق، مع السحاب الثقيل المصحوب
بالأدخنة الصاعدة كالأتون. وهو الظاهرة الوحيدة التي تؤدي لارتجاف محيطها، وهو الظاهرة
الوحيدة التي يمكن رؤيتها عن بعدٍ بأمانٍ تام، لكنها تصبح خطرًا محققًا، إن زحفت
مصهوراتها إلى أماكن السكنى، كما حدث في إحراقها طرف محلة الإسرائيليين بسيناء. وهو
الظاهرة التي تصاحبها الزلازل ورجف الأرض، وانشقاقها
وابتلاعها لما فوقها، كما حدث مع «قورح/قارون إسلاميًّا» وجماعته. وهو الظاهرة التي
تظهر نيرانها في رءوس الجبال وقممها، وهو الظاهرة التي تصحبها رياح كبريتية سامة (رياح
السموم)، مع تفاعلاتٍ غازية في شكل أبخرةٍ قاتلة. وهو الظاهرة الوحيدة التي بإمكانها
إن
صبت في البحر أو النهر أن تجعله يغلي ويفور ويتبخر. إنه الوصف الدقيق تمامًا لإلهٍ
ناري، إنه الوصف الأكثر دقة لبركانٍ في حالة توتر في شبه جزيرة سيناء. لكن المحبط
تمامًا هو تأكيدات الباحثين الجيولوجيين، أن سيناء لم تكن يومًا (في العصور التاريخية)
مسرحًا لأي ظواهر بركانية من أي نوع. وكان ذلك التأكيد مدعاة لارتباكٍ طويل، عانيناه
أثناء مشاق هذا العمل، أدى — مع القناعة بوجود ظاهرةٍ بركانية — إلى افتراضاتٍ بعيدة؛
للبحث عن مواضع بركانية محتملة، كانت كل مرة تتضارب مع ما جمعناه من مادةٍ علمية. وهذه
المادة جميعًا لا بد أن تؤدي بالخارجين إلى جبل كاثرين في جنوب المثلث السينائي، وكانت
النتيجة مزيدًا من جهدٍ ضائع، ووقت ثمين ذهب هباءً مع كل فرضٍ، يسقط مع الاختبار قياسًا
على المادة العلمية المجموعة. وعشنا متاهةً كبرى كنا نخرج منها كل مرة صفر
اليدين.
ولم يعد أمامنا بإزاء كل المعطيات، سوى الإصرار على أن جبلي موسى وكاثرين كانا
بركانيين فعلًا، ومن ثم كانت رحلتنا القاسية في ظروفٍ أقسى، مع ظروفٍ صحية أشد قسوة،
إلى المكان، لكنها كانت كافية للقناعة أن الجبلين، كانا إضافة لجبل الطور غربًا، جبالًا
بركانية بالفعل، حيث كانت نتوءات الخفاف البركاني، تتناثر بطول المنطقة وعرضها، ولكن
بكمياتٍ صغيرة متباعدة؛ لأن قولنا هنا لن يكون كافيًا للفصل في الأمر، فقد عدنا ندقق
النظر في جغرافية «جمال حمدان»، لنجده يدعمنا ببساطة الصدق العلمي، الذي لا يحتاج معه
جدلًا، فيصف كتلة جبل الطور بأنها «كتلة نارية»، وإن غلب عليها الجرانيت، لكن ما
يجاورها من مجموعة جبال كاثرين وموسى وأم شومر والثبت، وأبو مسعود وسربال ومدسوس، التي
تنتشر كغابةٍ صنبورية من الأقماع المخروطية، تنتشر بها جميعًا الطفوح البركانية الواضحة
في كل مكان.» ثم يقول بإصرار: «إن هذه المنطقة تحديدًا قد تعرضت لاضطراباتٍ تكتونية
عنيفة مزقتها تمزيقًا وملأتها بالانكسارات التي لا حصر لها.»
١٣
أما «شطا» فقد لاحظ من جانبه، أن مجموعة «من الحمامات وتشمل صخور الحمامات هي عبارة
عن رواسب قديمة وصخور بركانية.»
١٤ وقام «عمار» يؤيده مؤكدًا أن «النصف الجنوبي من سيناء، هو منطقة جبالٍ
نارية مرتفعة، تقطعها الوديان العميقة. لكن هذه الكتلة النارية، لا تصل إلى ساحل خليجي
السويس والعقبة.»
١٥
ومن ثم لا يبقى سوى القول: إن إعلان السيدين كوتل وروزيير علماء الحملة الفرنسية:
إن
سيناء لم تعرف البراكين، والذي سلم به الباحثون وأكدوه من بعدهم دون تدقيق، وكان وراء
نفي فكرة البركان السينائي واحتساب المنطقة بالكامل صخورًا جرانيتية، إما ناتج خدعة
الانتشار الجرانيتي، دون ملاحظة دقيقة لذلك الطفح المتناثر، وإما أن الرجلين قد قاما
بخدعةٍ غير لائقة تمامًا، دحضًا لفكرة أن يكون إله التوراة مجرد بركان، تعصبًا لفكرةٍ
دينية حمقاء. وهناك عدة أسباب محتملة لاختفاء كثير من الطفوح البركانية، فيحتمل أن تكون
الرمال قد أهالت عليها بمرور السنين تلولًا عظيمة من الكثبان، خاصة على الطفوح الكبرى.
ولم يبقَ سوى الخفاف المتناثر هنا وهناك. ثم هناك هواية دينية معهودة في جميع الأحجار
المقدسة للتبرك بها، كذلك استخدمت تلك الطفوح المقلوعة في مراكب الصيادين، فقد لاحظ دي
بوا إيميه العالم المرافق للحملة الفرنسية، أن تلك المراكب جميعًا تعلق في مقدمة
السفينة كتلًا من الخفاف البركاني لحفظ التوازن، وهي سفن خليج السويس وبالتحديد ميناء
الطور. أما أسمنت العالم القديم؛ فكان يتأتى بقلع الخفاف البركاني، وطحنه بمسحوق الحجر
الجيري، فيتحول هذا المزيد عند ابتلاله بالماء إلى أسمنت حقيقي، وعن البناء بهذا
الأسمنت حدثنا محمد العزب موسى يقول: «عندما يمتزج الخفاف البركاني بالحجر الجيري، ينتج
نوعًا من الأسمنت القوي، وهذا ما حدث في ثيرا، وبالتحديد في جزيرة ثيراسيا التي أخذت
منها في ستينيات القرن الماضي كميات ضحمة من الأسمنت لبناء قناة السويس ومدينة بورسعيد.»
١٦ وما أكثر البناء في مصر القديمة! زد على ذلك استخدامه في ردم سواحل خليج
السويس المستمر لحمايتها، أدى هذا كله لا شك إلى تعرية الطبقة الجرانيتية من غطائها
(الخفاف الناري) في مواضع كثيرة، لكنه ترك لنا بعضها يتناثر هناك، ليشهد أن رب التوراة
النار الآكلة كان هناك، وأنه كان بركانًا. ومن الطرافة ألا ننسى حجر الخفاف الذي كان
يملأ كل بيت في مصر؛ لتنعيم كعوب نساء مصر القديمة، تلك العادة التي استمرت ألوف السنين
وحتى اليوم، وكانت سيناء موردة هذه الأداة التجميلية للوطن الأم.
ومع هذا كله تظل جيولوجيا سيناء تحمل شكًّا كبيرًا في وجود أية براكين نشطة زمن
الخروج، وأن الإشارات البركانية، بها سواء ما لاحظته بنفسي، أو ما ورد عند جمال حمدان،
تعود إلى أزمنةٍ جيولوجية بعيدة. هنا يبقى بيدنا اقتراح آخر، وهو أن يكون الإله
البركاني كان في البلاد الآدومية شرقي العقبة، وأن موسى التوراتي قد التقاه هناك، وتربى
هناك حيث ثقافة عبادة البراكين، وعاد بها وعلم بها أتباعه، حتى وصلت كاتب التوراة، الذي
كانت تعز عليه سيناء حيث جبل الشريعة، وحيث أكثر الجبال رهبةً وجلالًا في جبل كاترين
وجبل موسى. فاختار سيناء ليضع فيها ربه البركاني، واستبعد آدوم لأنها كانت ملكًا لآدوم
عيسو، حسب الأسطورة التوراتية ولنسله، وأن التوراة أو ربها قد أعطى بلاد آدوم لنسل
عيسو، كما أعطى الإسرائيليين ما بين الفرات والنهر الكبير نهر مصر بسيناء، وهي من
الحالات النادرة التي يمنح فيها رب التوراة في تلك العهود، أرضًا يعتبرها أرضه لغير بني
إسرائيل، مما يشير إلى توحدٍ ألوهي واضح، خاصةً أن هذه العطية للآدوميين أخذت شكلًا
مقدسًا. انظر رب موسى عند هروبهم من مصر إلى فلسطين، ينصحهم بألَّا يعتبروا أرض آدوم
ضمن الأراضي الممنوحة للإسرائيليين، ويقول لموسى «أوصِ الشعب قائلًا: أنتم الآن مارون
بتخم إخوتكم بني عيسو الساكنين في سعير، فيخافون منكم فاحترزوا جدًّا، ولا تهجموا عليهم
لأني لا أعطيكم أرضهم ولا وطأة قدم؛ لأني لعيسو قد أعطيت جبل سعير ميراثًا» (تثنية، ٢:
٤، ٥).
١٧
والآن لا شك أننا ما زلنا نذكر «سيت»، وأنه كان رب «سترويت» سيناء، وأن «سيت» الذي
هو
«تيفون» في الأساطير اليونانية، يعيش تحت بركانٍ عظيم، وأن انفجارات البركان ليست شيئًا
سوى دمدماتٍ «سيت/تيفون» ونفثات غضبه الملتهب، وقد حاول مؤلفو التوراة الإيعاز طوال
الوقت، بأن «يهوه» رب موسى كان إلهًا خاصًّا جدًّا، لم يظهر لأحدٍ قبل موسى، ولم يكن
إلهًا لشعبٍ من الشعوب سوى القبيلة الإسرائيلية. لكن الواضح حتى الآن أنه لم يكن سوى
«سيت/تيفون/بعل/هفا» رب سيناء المصرية، وإله صحارى مصر القديمة، رب الشرور والأوبئة،
وهو ما تصف به التوراة ربها «قدامه ذهب الوباء، وعند رجليه خرجت الحمى (حبقوق، ٣:
٥).»
وقد سبق وافترضنا أن هذا البركان القضيبي، كان تجسيدًا لرب الأرض المصري الذكر «جب»،
الذي كان يقذف بمخصباته إلى السماء الأنثى، ويجب أن ننطق «جب» بتعطيش الجيم، وفي هذه
الحالة يكون الإله المصري القديم الذكر، قد ترك اسمه في التسمية الشعبية للعضو الذكري
«زب»، فاللسان العربي جميعه على اختلاف لهجاته يطلق على القضيب لفظ «أير»، والمصري هو
الوحيد الذي يسميه «زِب – بكسر الزاي» و«زِبر – بكسر الزاي».
وعلى تنغيم اسم الكائن «يهوه» جاءت أسماؤه في المقدسة التوراتية، فهو مرة «يهوه» ومرة
«إهيه» ومرة «ياه»؛ فموسى يسأل رب العليقة: «فإذا قالوا لي: ما اسمه؟ فماذا أقول لهم؟
فقال الله لموسى إهيه الذي إهيه، وقال: هكذا تقول لبني إسرائيل: إهيه أرسلني إليكم،
وقال الله لموسى: هكذا تقول لبني إسرائيل: يهوه إله آباكم، إله إبراهيم وإله إسحاق وإله
يعقوب، أرسلني إليكم، هذا اسمي إلى الأبد (خروج، ٣: ١٣–١٥).»
لكن يبدو أن الكاتب التوراتي، كان يعلم يقينًا أن يهوه هذا ربٌّ جديد، يدخل أفق
العبادة الإسرائيلية؛ لذلك سجل «ثم كلم الله موسى، وقال له: أنا الرب، وأنا ظهرت
لإبراهيم وإسحاق ويعقوب، بأني الإله القادر على كل شيء، وأما باسمي يهوه فلم أعرف
عندهم» (خروج، ٦: ٢، ٣). ثم يأتي إشعيا، فيعطينا التنغيم الثالث في قوله: «هو ذا الله
خلاصي، فأطمئن ولا أرتعب؛ لأن ياه يهوه قوتي وترنيمتي، وقد صار لي خلاصًا» (إشعيا، ١٢:
٢). وهو ما رددته المزامير قائلة: «غنوا لله رنموا لاسمه، أعدوا طريقًا للراكب في
القفار باسمه ياه واهتفوا أمامه» (مزامير، ٤٨: ٤).
وفي المقدس التوراتي إشارات واضحة إلى أن هذا الإله كان إله «دوشريت» الاسم المصري
للصحارى والجبال، ومقلوبها «شترويت/سيناء»، فهو رب القفار، «وأما عبيد ملك أرام فقالوا
له: إن آلهتهم (يقصد آلهة إسرائيل [المؤلف]) آلهة جبال؛ لذلك قووا علينا، ولكن إذا
حاربنا في السهل، فإننا نقوى عليهم» (ملوك أول، ٢٠: ٢٣).
وبالنسبة للترجمة العربية: «الإله القادر على كل شيء»، فإنها في الأصل العبري «إيل
شداي» و«إيل» كما علِمْنا: الله. أما شداي فترجمت بمعنى الشدة أو القوة، وترجمناها نحن
في كتابنا قصة الخلق بالشذى، أي الريح والهواء، وهو ما يلتقي مع صفات الرب السيناوي
الريح والعاصفة، ثم نتذكر هنا أن أول الحكام الهكسوس، الذي لا شك بلغ رتبة التقديس،
لعمله المجيد، كان اسمه شالاتيس (شالات/شالاد). ولما كانت المصرية القديمة لا تعرف حرف
«اللام»، فإن شلات يصبح شت أو شد، الإله الشديد «شدا» أو «شداي»، ويعضد هذا الفهم أن
المؤرخين العرب، أطلقوا على فاتح مصر من العماليق اسم «شداد»، وتعني أيضًا القوي الشديد
«القادر على كل شيء!»
ومن المفيد أن نعلم أن شداد وشالاد اسم الملك الهكسوسي الأول على مصر ترجع إلى أصلٍ
مصري، فيقول إريك هورنونج إن الإله «شد
Shed هو المنقذ
ومساعد البشرية في أوقات الحاجة والشدة، وبصفته إلهًا شابًّا؛ فهو قريب من حور في خصائصه.»
١٨ وربما كان هو ذات الإله «شري» رب سراة سعير.
ويتبع «شلاتيس» في ترتيب الملوك الهكسوس الستة الملك «بنون»، الذي حمل أيضًا لقب سكا/
إسحاق/الضحاك. وفي العربية «سكا» هي حديدة الفدان أي المحراث الحديدي، الذي يشق الأرض
كالعضو الذكري، فتضحك بمواليدها النباتية.
ويقول إحسان عباس: إن العلماء يذهبون إلى أن «ذا الشرى لم يكن إلهًا عربيًّا؛ لأن
العرب في الشمال الغربي من الجزيرة، كانت تسيطر عليهم العبادة القمرية، بينما ذو الشرى
إله شمسي.»
١٩ وهو ما يرجح ترجيحنا أنه كان المصري «شد
Shed».
وعلى ذات تنغيم اسم يهوه، جاءنا قبل زمن الخروج في مكتشفات كنعان سنة ١٩٣١م، على
قطعٍ
من بقايا عصر البرونز، تنغيمٌ آخر لإله بالرسم «ياه» و«ياهو»، وفي ألواح أوغاريت كان
كبير الأرباب إيل، يؤكد للجميع «أن اسم ابني ياو».
٢٠
ويؤكد لنا موسكاتي أن الآراميين قد عبدوا «يهوه»، حيث وجد اسمه داخلًا في تركيب أسماء
أعلامٍ آرامية ومواضع آرامية عديدة، مثل «يهورام» ابن الملك «توعي» ملك حماة.
٢١
ويقول «عصام حفني ناصف»: «وكانوا يكتبون اسم يهوه بالأحرف الأربعة ي ﻫ و ﻫ
J. H. V. H، دون أن يدعم بأحرف العلة، أي دون أن يضبط
بعلامات الشكل؛ لخلو اللغة العربية منها إذ ذاك، ومن ثم كان من الممكن أن يقرأ الاسم
يهوه أو ياهو. ثم جعلوا يستخدمون بدلًا من لفظ الجلالة كلمة أدوناي أو أدونا أي ربي.
وركب اليهود آخر الأمر لكلمة يهوه، أحرف العلة التي بكلمة أدون
Edona، فأصبح الاسم يُكتب على وزنها
Je Ho
Vah ويُنطق
Jahweh يهوه.»
٢٢
ويدقق «سهيل ديب» في أمر ذلك الاسم الغريب، فيعود إلى العبرية في التوراة، يقرأ «فقال
الله لموسى: أهْيَهْ آشر أهيه، وقال: هكذا تقول لبني إسرائيل أهيه أرسلني إليكم (خروج،
٣: ١٣). وفي النص العربي الكاثوليكي تترجم: أنا هو الكائن، وقال: كذا قل لبني إسرائيل،
الكائن أرسلني إليكم». ثم تترجم النسخة العربية البروتستانتية: إهيه الذي إهيه،
المعروفة، وفي الترجمة الإنجليزية المعروفة بترجمة الملك جيمس King James Version1611، نجدها I AM THAT
IAM، وهو ما يعني أنا الذي أنا، أنا أرسلني إليكم، فهل كان الرب
يعرفه باسمه أنه أنا أم هو؟ ناهيك عن قوله: أنا الذي تجليت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب،
إلهًا قادرًا على كل شيء، والإله القادر على كل شيء هي بالأصل «إيل شداي»، فماذا كان
يجب أن يقول موسى لشعبه: أهيه أم يهوه أم شداي؟
وفي المزمور ١١٠ من النص الكاثوليكي يبتدي النص هكذا: قال الرب لسيدي: اجلس عن يميني،
ولو رجعنا للنص العبري، سنجد قال يهوه لأدوناي. إذن كان هناك رب باسم يهوه، ورب باسم
أدوناي؛ لذلك لم تبعد الترجمة العربية البروتوستانتية، وهي تترجم النص العبري إلى: «قال
الرب لربي» (مزمور، ١١٠).
وإزاء كل ذلك الرتل من أسماء الإله باسم: إيل، إلى يهوه، إلى إهية، إلى ياه، إلى
أنا،
إلى الكائن، إلى هو، إلى شداي، إلى آدون، يتساءل سهيل ديب سؤالًا هامًّا ومفصليًّا:
«كيف يمكن أن ينسى شعب بكامله اسم ربه؟».
٢٣
ويجيب «كمال الصليبي» عن السؤال قائلًا: «إن الكلمة التي تدل على الإله الواحد في
العبرية هي ءلهيم، التي هي جمع المذكر من ءله أو إله، وهكذا يصح القول إن ما أصبح
معترفًا به من قبل بني إسرائيل بأنه إله، كان في الأصل تجمعًا للآلهة أو آلهة قبلية متعددة.»
٢٤
ولا مراء أن إجابة الصليبي إجابة دقيقة تمامًا؛ إذ كان لا بد من محاولات للتوحيد
الأيديولوجي لآلهة الأخلامو، مع إصرار على تغطية أسماء الآلهة التأسيسية القديمة، ومعها
اختفى اسم عناق البونتي وظهر المهلك، وغام المهلك بدمجه بملاك الرب يهوه، وتلاشى
الثعبان «لو»، لكن ليظهر في التوراة كطرفٍ في صراعٍ مع يهوه، لكن باحتسابه أفعى تنين
عظيم اسمه «لوياثان». واختفت المسلات وراء اسم السواري والشوامخ، وغاب الثور وراء ترجمة
العزيز، واستتر ضحوت الضحاك وراء شخص إسحاق.
أما أدونيس الفينيقي؛ فظل آدون لقبًا للربوبية والسيادة. واختفت الأيكة لتحل محلها
كل
شجرة خضراء:
هل رأيت ما فعلت العاصية إسرائيل؟ انطلقت إلى كل جبلٍ عال، وإلى كل شجرةٍ
خضراء وزنت هناك.
(إرميا، ٣: ٦)
خطية يهوذا، مذابحهم وسواريهم عند أشجار خضر على آكامٍ مرتفعة.
(إرميا، ١٧: ١، ٢)
ونتذكر أن الآراميين تسمية تنسب إلى الإرم والهرم، وهي الأحجار والجبال، وكلمة هرم
تحمل ذات المعنى، فالأهرام هي الأحجار أو الجبال. ومن الطريف الذي يعضد تخريجنا في تصور
الأقدمين للجبل، بحسبانه قضيبًا ذكريًّا عظيمًا، أن المفردة «جبل» التي ترد في الترجمة
العربية للتوراة، هي في الأصل العبري تكتب وتنطق عير، وهي المفردة التي تترجم أيضًا إلى
جبل من الأصل السومري «ء و ر و
ERU وء يرى
ERI» وهو ما يحمل ذات المعنى في المعاجم العربية.
٢٥ ومعلوم أيضًا أن الكلمة «عير» و«إير» هي الاسم الفصيح للقضيب الذكري، ويعود
تصحيح الترجمة هنا إلى الباحث زياد منى، حيث رأى أن كلمة عير تعني جبلًا وليس بلدًا،
وهو ذاته صاحب اجتهاد يقول: «أنا مقتنع بأن بلاد
السراة — الأصح ء ل سر ء ه — هي نفسها ط ء نتر أي بلاد الله الوارد ذكرها في النقوش المصرية.»
٢٦
أي إنه يرى أن بلاد بونت/أرض الإله «ط ء نتر» تقع في جبال السراة، لكنه يذهب إلى
السراة الجنوبية امتداد جبال السراة نحو اليمن، حيث يعتقد مع كمال الصليبي أن هناك كانت
بلاد التوراة، ثم تختل المسألة بين يديه، فيرى أن اسم بونت ربما كان فلت، أي بلاد الموت
أي حضرموت (؟!)،
٢٧ ولكن ما يعنينا هو المادة التي جمعها الرجل في جهدٍ مشكور، لكنه ذهب
بتفسيرها جنوبًا بتأثير نظرية كمال الصليبي.