الفصل السادس
لغز البلست
فجأة يظهر في فلسطين، وعلى ساحل المتوسط تحديدًا، جنس غريب جديد على المنطقة، أطلقت
عليه النصوص المصرية اسم «البلست»، وهو الجنس الذي عُرف باسم «شعوب البحر». وبشأن هؤلاء
يقول لنا المدون التاريخي: إنه «في سنة حكم رمسيس الثالث، سنة ١١٩١ق.م. تقدم الملك لصد
هجمات شعوب البحر على مصر، فقد أخبرنا أن هذه الشعوب، بعد أن قهروا الحيثيين وكركميش
وقود وألاشيا وكلكيليا وأرزاوا، دخلوا سوريا مع نسائهم وأطفالهم بجموعٍ غفيرة، شبهت
كثرتها بالجراد، راكبين على عجلاتهم التي تجرها الأبقار. وقد حشدت قواتها في بلاد عمورو
«سورية»، وشكلت حلفًا من شعوبها المختلفة مثل البلست والتكر، والاثنان يضعان على
قبعاتهم الريش، ويستعملون الدروع المدورة، والشاكروشا والدانونا والواشاشا، وقد قدموا
من البر والبحر … وقد حدثت معركة قرب أحد فروع النيل، ويظهر أن شعوب البحر لم تكن تتوقع
مثل هذه القوة المصرية المدافعة، فدمرت سفن المهاجمين، وغرقت بما تحمل من رجالٍ وأموال،
في وقتٍ أمطرت به سفن شعوب البحر من الشاطئ المصري، بوابلٍ من سهام الجيش المصري الواقف
على طول الشاطئ ومعهم الملك.»
١
وقد سجل «رمسيس الثالث» لنا تلك المعركة الكبرى فنسمعه يقول:
شكلت البلاد الأجنبية مؤامرة في جزائرهم، وتفرقت البلاد وذعرت مرة واحدة من
جراء هجومهم، ولم تستطع أية قوة أن تقف في وجوههم أو تقاومهم،
ولقد بدءُوا بخاتي (تركيا أو الأناضول
[المؤلف]) وقود وكركميش (جنوبي الأناضول [المؤلف])، وأرزاوا وألاشيا (قبرص)،
وأقاموا معسكرًا في عمورو، وعزلوا أهلها وأرضها، وكأنما لم يكونوا، وجاءوا
واللهب مُعَد لهم متجهين إلى مصر. وكان حلفهم مكونًا من البلشت والزكارة
والشكلش والدانو والوشش، ووضعوا أيديهم على الأراضي إلى مدار الأرض جميعًا،
وقلوبهم مطمئنة واثقة قائلين: لقد نجحت خطتنا، ولكن قلب هذا الإله (المصري
[المؤلف]) سيد الآلهة، كان مستعدًّا لاصطيادهم كالطيور. لقد دعمت حدودي عند
زاهي (سوريا)، وجهزت أمامهم الأمراء المحليين وقواد الحاميات والماريانو، وأمرت
بأن تعد فوهات النهر كحائط، والقوارب، وجهزتها جميعًا وزودتها من قبل ومن بعد،
بشجعان المحاربين الذين يحملون أسلحتهم، وبالمشاة من خيرة رجال مصر، حتى أصبحوا
كالأسود تزأر فوق الجبال، … وجهزت العربات بالمحاربين الأكفاء، وكل الضباط
الممتازين، وكانت خيولها تنبض كل أعضائها، معدة لسحق البلاد الأجنبية تحت
حوافرها. أما بالنسبة لأولئك الذين وصلوا إلى حدودي، فإن بذرتهم لم تكن فيهم،
وقلوبهم وأرواحهم قُضي عليها إلى الأبد، أولئك الذين تقدموا من ناحية البحر.
كان اللهب أمامهم عند فوهة النهر، وكان سياج من الحراب يحيط بهم.
٢
لكن بعض الباحثين يميل إلى الأخذ بمذهبٍ آخر، ويقول بموجة أبكر قليلًا من البلست،
هاجمت مصر زمن الملك مرنبتاح، وأن ما قاله مرنبتاح عن صد هجوم التحنو الليبيين، كان
صدًّا لهجومٍ ليبي بلستي مشترك، ويلخص تلك الرؤية تأريخًا يقول: إنه «في أواخر القرن
الثالث عشر ق.م. تحرك طوفان بشري كبير من جزائر البحر الإيجي، وأخذ يهاجم مصر بعنفٍ على
نية احتلالها، لكن مرنبتاح تصدى لهذه الهجمة، وردها عن حدود مصر. ولكن طوفانًا أكبر
وأزخم، سرعان ما راح يتفجر من جديد في أوائل القرن الثاني عشر، يوم انقضَّت شعوب البحر
على الأناضول، ودمرت العاصمة الحيثية خاتوشاش/حاتوسا إلى الأبد، ثم تابعت هذه الشعوب
زحفها متجهة صوب الجنوب، لتدمر كركميش (جرابلس
الحالية إلى الشمال من حلب [المؤلف])، وأوغاريت (رأس شمرا قرب اللاذقية [المؤلف])
وأرواد، لتصل أخيرًا إلى الحدود المصرية، بعدما هيمنت على الساحل الفلسطيني. والأخطر
من
ذلك، أن هذا الهجوم على مصر من جهتها الشرقية، قد صاحبه هجومٌ آخر من جهة البحر، وهجوم
ثالث من جهة ليبيا، ولكن رمسيس الثالث آخر محارب عظيم في مصر الفرعونية، قد راح يتصدى
لهذا الهجوم الثلاثي، ليدحره في معركتين، إحداهما بحرية، وأخراها برية، وذلك زهاء عام
١١٨٠ق.م. أو بعد ذلك بقليل، وسمح الفرعون المنتصر لبعض هذه الشعوب المهزومة بالاستيطان
على ساحل فلسطين، ربما تكون درعًا لمصر يقيها من أي هجوم جديد، فاستقر شعب البلست الذي
جاء من جزيرة كريت بين يافا وغزة، كما استقر شعب بحري آخر يسمى التكر إلى الجنوب من جبل
الكرمل، وهو الجبل الذي صار فاصلة، تحجز بين الفينيقيين والقادمين الجدد؛ ولهذا ما عاد
الساحل الفلسطيني إلى الجنوب من الكرمل يدخل في فينيقيا بعد ذلك التاريخ، وصار اسمه
فلستيًّا، نسبة إلى البلست، ثم انتشر هذا الاسم وشمل القطر كله، وحل البلست في خمس مدن
كنعانية هي: غزة وعسقلان وعقرون وأشدود وجت، ونظم البلست مدنهم الجديدة على هيئة ممالك
مستقلة في إدارتها وحكومتها، إلا أن هذا الاتحاد، ربما كان مركزه في مدينة أشدود.»
٣
وهكذا ظهر الفلسطينيون ١١٨٠ق.م. على مسرح تاريخ المنطقة، وهكذا استقروا في أرض كنعان،
ليمنحوها اسمها حتى اليوم. ومن جانبه فقد أشار الكتاب المقدس طوال الوقت، إلى
الفلسطينيين الذين يسكنون الساحل، وكانوا عقبة كأداء إزاء الاستيطان الإسرائيلي
لفلسطين، وظلوا دومًا أعداءً مصيريين للجنس الإسرائيلي، ومنافسًا قويًّا كثيرًا ما ألحق
الهزائم بالجيوش الإسرائيلية. وموسوعة تاريخ العالم تفيدنا بأن «لفظ فلسطين مشتق من اسم
البلست، الفلستين، وكان هيرودوت أول من استعمله، أما الاسم العبري للأرض الواقعة غربي
الأردن فهو كنعان.»
وقد اختلف المؤرخون حول موطن البلست الأصلي، فذهب بعضهم إلى أنهم قدموا من جنوب شرقي
الأناضول، بينما اقترح آخرون مثل هول وبرن أنهم جاءوا من جنوبي آسيا الصغرى، وذهب فريقٌ
ثالث إلى افتراض أصول إليرية للبلست، لكن الإجماع كان حول جنسهم الهندوأوروبي،
٤ وأنهم كانوا يختلفون كلية عن سكان المنطقة القدامى فيها، حيث كانت التوراة
تشير إليهم بأنهم الغلف أي غير المختونين، وكانت معظم شعوب المنطقة في ذلك الوقت، قد
أخذت عن مصر عادة الختان (سفر القضاة، ١٤: ٣ و١٥: ١٨؛
وسفر صموئيل الأول، ١٤: ٦ و١٧: ٢٦، ٣٦ و٣١: ٤؛ وسفر صموئيل الثاني، ١: ٢٠؛ وسفر أخبار
الأيام الأول، ١٠: ٤)، وأن إلههم القومي كان «داجون» من «دجن أي الحنطة»، وكان أيضًا
إلهًا للسمك، وكان له مقام في غزة وأشدود، حسبما ورد في سفر القضاة (١٦: ٢١–٢٣)، وفي
سفر صموئيل الأول (٥: ١، ٢). أما الأهم فهو أن البلست كانوا يستخدمون الأسلحة الحديدية
على نحوٍ شديد الوفرة، بينما كان السائد في الشرق آنذاك استعمال الأسلحة البرونزية، ثم
الحديدية لكونها نوعًا نادرًا من السلاح، ووصلت وفرة الحديد لديهم، إلى حد أنهم صنعوا
منه عجلاتهم الحربية، التي كان يجرها البقر وليس الخيل، مما كان له أثرٌ كبير في
انتصاراتهم، وفضلًا عن ذلك كانوا بحَّارة ممتازين وقراصنة موهوبين.
٥
ولمزيدٍ من تحصيل مادة تفيد بشأن
البلست/الفلسطينيين، نستمع إلى «زينون كاسيدوفسكي» يسجل شارحًا: «في الألف الثاني قبل
الميلاد، عاش في قبرص شعب أسس حضارة متأنقة رفيعة المستوى، وأنشأ دولة تجارية جبارة في
حوض بحر إيجة. وفي الحقبة نفسها استوطنت بيلوبونيز قبائل لا نعرف منشأتها ولغتها، ولكن
الآخيين المدججين بالدروع البرونزية قهروها وأخضوعها لهم، وأقام الآخيون قلاعًا حجرية
في ميكيني وتيرينف وغيرها من بقاع بيلوبونيز. ويخبرنا المؤرخ الإغريقي فوكيديد أن
الآخيين مارسوا أعمال القرصنة، وبنوا أسطولًا جبارًا غدَا منافسًا خطرًا لكريت. وابتداء
من القرن الخامس عشر قبل الميلاد، أخذ الآخيون بزعامة الأتريديين الذين ينتسب إليهم
أجاممنون، يزيحون الكريتيين من ممتلكاتهم الاستعمارية في بحر إيجة وسواحل آسيا الصغرى،
وفي عام ١٤٠٠ق.م. احتلوا كريت نفسها، وقضوا على حضارتها المينوية الراقية (سميت
بالمينوية نسبة إلى الملك الآسطوري مينوس [المؤلف])، وفي عام ١١٨٠ قبل الميلاد حولوا
طروادة إلى كومةٍ من الأنقاض، بعد حصارٍ دام عشر سنوات. غير أنهم لم يستمتعوا طويلًا
بثمار انتصاراتهم؛ فقد اندفعت من أعماق أوروبا قبائل بربرية أخرى هي قبائل الداريين،
وأخضعت بيلوبونيز وكريت وجزر إيجة وسواحل آسيا الصغرى. وتحت ضغط تلك القبائل، حدثت في
رحاب بحر إيجة واحدة من تلك الثورات الإثنية، التي أيقظت الهجرات البشرية العظمى، فقد
أرغم سكان البلقان وإيليريا وجزر بحر إيجة، الذين طردوا من أرضهم، أن يندفعوا أمواجًا
متتابعة باتجاه الجنوب، بحثًا عن أرضٍ يستوطنونها، فعبروا الأناضول وآسيا الصغرى وسوريا
وكنعان، وصولًا إلى دلتا النيل، حيث هزمهم الفرعون مرنبتاح شر هزيمة، وأرغمهم على
التراجع. ولكن أخطر الهجمات التي شنتها الشعوب الإغريقية على مصر، وقعت عام ١١٩١ق.م.
حيث اندفعت على امتداد الساحل السوري الكنعاني، قطعان من المحاربين مع عائلاتهم
وأرزاقهم، ترافقهم في البحر كثرة من السفن الشراعية، فقضوا على الإمبراطورية الحثية إلى
الأبد، وجعلوا من عاصمتها خاتوشاش، الواقعة على نهر هاليس كومة من الرماد والخراب، ثم
اندفعوا إلى كيليلكيا، فنهبوها مع قطعان الخيل الأصيلة، التي اشتهرت بها على امتداد
القرون، أما المدن الفينيقية جبيل وصيدا وصور، فقد استسلمت لهم، وتفادت بذلك الخراب
والدمار، وعبر المستعمرون أرض كنعان، واجتاحوا شمال مصر ونهبوه، فحشد رمسيس الثالث
قُواه كلها لصد تلك الهجمة، واستطاع أن يسحق المعتدين في البر والبحر، وهكذا صدت أخطر
هجمة استعمارية، تعرضت لها مصر خلال تاريخها الطويل كله. ولم يبقَ لدى رمسيس الثالث ما
يكفي من قوةٍ لطرد الخصم من كنعان وسوريا، فاستوطن البلست الناجون من سيوف المصريين،
الساحل الجنوبي من أرض كنعان. ونعلم من الكتابة التي وجدت على جدران المعابد، أن
المصريين قد أطلقوا على أولئك المستعمرين اسم شعوب البحر، وتشغل مكانة خاصة بينها موجات
قبائل دونوي وآخاي. ومن المرجح أن يكون الدانيون والآخيون، الذين نعرفهم في التاريخ
الإغريقي القديم، يختفون خلف هذين الاسمين. وبالرغم من توفر هذه المعطيات كلها، فلم
يتفق العلماء حتى الآن على تحديد الهوية الإثنية لتلك القبائل. لقد شكل الفلسطينيون
جماعة إثنية خاصة بين شعوب البحر. وإذا صدقنا التوراة فإن جزيرة كريت، تكون هي الوطن
الأصلي للفلسطينيين؛ إذ ينتسب الفلسطينيون حسب التوراة، إلى القبائل الآخية التي أخضعت
كريت، ثم جاء الآريون وطردوهم من الجزيرة، وكانت بعض الأسماء الفلسطينية ذات منشأ
إيليري، وكانت توجد في إيليريا مدينة تدعى فيليستي، وبما أن هجرة الشعوب الدارية بدأت
من هناك بالذات، فلا يستبعد أن يكون الفلسطينيون قد سكنوا إيليريا قبل الإغريق، ثم
طردتهم من هناك موجةٌ ما من موجات المستعمرين، واكتشفت بين أنقاض أوغاريت مدافن ذات
طابع إيجي وقبرصي وميكيني. كذلك الفخاريات التي التي وجدت بين أنقاض المدن الفلسطينية
الخمس في أرض كنعان، غلَب عليها الطابع الميكيني.»
٦
هذا ما قاله لنا علم التاريخ. لقد جاء البلست إلى المنطقة في هجومٍ كاسح على دفعتين:
الأولى زمن الفرعون مرنبتاح ١٢٢٤–١٢١٤ق.م. لكن الهجمة انكسرت على أسنة رماح الجيش
المصري، ثم تلتها موجة أخرى زمن الفرعون رمسيس الثالث ١١٨٢–١١٥١ق.م. الذي صد العدوان،
لكن قواه أُنهكت؛ مما جعله يسمح لهم باحتلال الساحل الكنعاني.
والقول طوال الوقت بأن مصر هي التي سمحت للفلسطينيين، باحتلال الفلسطينيين للساحل
الكنعاني؛ سواء لأن قوة مصر كانت قد أنهكت عن المتابعة والاستمرار لطردهم كلية، أو لأن
المصريين تركوهم هناك كحراس حدود، بعد أن هزموهم وأخضعوهم لتبعية مصر، وسمحوا لهم
باستيطان ساحل فلسطين، حتى ذابوا بعد ذلك في أجناسٍ وحضارة المنطقة نهائيًّا،
٧ هو محاولة لتفسير ظهور الفلسطينيين على الساحل الفلسطيني، رغم أن فلسطين
كانت تابعة للإمبراطورية المصرية حينذاك.
حتى الآن لا تبدو هناك أية إشكالية أو ألغاز، لكن اللغز يبدأ عندما ننتقل من قراءة
التاريخ كعلمٍ، إلى قراءة التوراة كتاريخ، ففي زمن الخروج الإسرائيلي من مصر باتجاه
فلسطين، تحت قيادة النبي موسى، نجد الكتاب المقدس يشرح موقف سكان فلسطين، من ذلك الهجوم
الإسرائيلي القادم من مصر، فيقول:
يسمع الشعوب فيرتعدون، تأخذ الرعدة سكان فلسطين، حينئذٍ يندهش أمراء آدوم،
أقوياء موآب تأخذهم الرجفة، يذوب جميع سكان كنعان.
(خروج، ١٥: ١٤، ١٥)
وهكذا نجد أرض كنعان قد حملت اسم «فلسطين»، زمن الخروج من مصر، مما يعني أن
الفلسطينيين كانوا قد استقروا هناك قبل الخروج بزمنٍ يسمح بتعميم اسمهم على أرض كنعان،
وهو المتكرر الذي نقرؤه في سفر يشوع مشيرًا إلى المدن الفلسطينية الخمس على ساحل كنعان،
حيث يقول:
من الشيحور الذي هو أمام مصر إلى تخم عقرون شمالًا تحسب للكنعانيين أقطاب
الفلسطينيين الخمسة: الغزى والأشدودي والأشكلوني والحتي والعقروني.
(يشوع، ١٣: ٣)
وعندما استقر الإسرائيليون في أرض كنعان، ولم يتمكنوا أبدًا من القضاء على
الفلسطينيين، بل عاشوا إلى جوارهم وظلوا طوال الوقت في حروبٍ معهم، وهو ما اعتبره
الكتاب المقدس امتحانًا من الرب لشعبه حيث يقول:
فهؤلاء هم الأمم التي تركهم الرب ليمتحن بهم إسرائيل، أقطاب الفلسطينيين
الخمسة، وجميع الكنعانيين والصيدونيين والحويين.
(قضاة، ٣: ١–٣)
وعن أصل هؤلاء الفلسطينيين يشير الكتاب المقدس إلى جزيرة كريت، باعتبارها موطنًا
أصيلًا هاجروا منه إلى الساحل الكنعاني. وقد أطلقت التوراة على جزيرة كريت اسم كفتور
على التبادل مع اسم كريت، وهو ما نجده في متفرقات الأسفار في نماذج منها:
الرب يهلك الفلسطينيين بقية جزيرة كفتور.
(إرميا، ٤٧: ٤)
ألستم لي كبني الكوشيين يا بني إسرائيل؟ يقول الرب، ألم أصعد إسرائيل من أرض
مصر، والفلسطينيين من كفتور والآراميين من قير؟ (ربما كانت قير هي قيرقيزيا
الآن [المؤلف]).
(عاموس، ٩: ٧)
أما كيف سكن الفلسطينيون في فلسطين؛ فهو ما يوضحه نص التوراة:
والعويون الساكنون في القرى إلى غزة، أبادهم الكفتوريون الذين خرجوا من كفتور
وسكنوا مكانهم.
(تثنية، ٢: ٢٣)
ثم نفهم أن «كفتور» هي «كريت» من شراذم نصوص أخرى مبعثرة، نجمعها لنسمعها توضح:
هكذا قال السيد الرب: ها أنا ذا أمد يدي على الفلسطينيين، وأستأصل الكريتيين،
وأهلك بقية ساحل البحر.
(حزقيال، ٢٥: ١٦)
ويل لسكان ساحل البحر أمة الكريتيين، كلمة الرب عليكم يا كنعان أرض
الفلسطينيين، إني أخربك بلا ساكن ويكون ساحل البحر مرعًى بآبارٍ للرعاة، وحظائر
للغنم، ويكون الساحل لبقية بيت يهوذا.
(صفنيا، ٢: ٥، ٦، ٧)
وفي حديثٍ لغلام مصري — تابع لرجل عماليقي — مع داود يحدثه عن غزوة عماليقية على
جنوب
فلسطين، يقول:
فإننا قد غزونا على جنوبي الكريتيين وعلى ما ليهوذا.
(صموئيل أول، ٣٠: ١٤)
ومن الجدير بالذكر أن السجلات المصرية قد سجلت مجيء «رؤساء بلاد الكفيتو
Keftiu وجزر البحر» ليقدموا لرمسيس الثالث الخضوع.
٨
والآن تبدأ المشكلة بالظهور، وهي المشكلة التي تجعلك تقف مشدوهًا، من مدى تساهل أهل
التاريخ، في حل الإشكاليات الكبرى أحيانًا، وإغماض العين عنها أحيانًا أخرى، حتى تظهر
حفائر جديدة تحسم الأمر. ووجه الإشكال هنا هو أن خروج الإسرائيليين من مصر، يحتمل أن
يكون قد حدث في أي زمنٍ خلال الأسرة الثامنة عشرة التي تبدأ بأحمس ١٥٧٥–١٥٥٠ق.م. بطل
التحرير، لكنها لا يمكن بأي حالٍ أن تكون بعد زمن مرنبتاح ١٢٢٤–١٢١٤ق.م. لحساباتٍ دقيقة
قدمنا بعضها، وسيأتي بعضها الآخر في مكانه من هذا البحث. وهذا يعني أننا حتى لو أخذنا
بآخر التوقعات الافتراضية وأكثرها تأخرًا في الزمن، لخروج الإسرائيليين من مصر أي زمن
الفرعون مرنبتاح. فإن معنى ذلك أنهم قد خرجوا، بينما الفلسطينيون لم يستقروا بعد في
فلسطين، حيث إن هذا الاستقرار لم يحدث حسب قرار المؤرخين قبل زمن رمسيس الثالث
١١٨٢–١١٥١ق.م. الذي يأتي بعد زمن مرنبتاح بحوالي ثلاثين عامًا، ولو افترضنا أن
الفلسطينيين قد استقروا هناك زمن مرنبتاح، فإن هذا الاستقرار ما كان يسمح لهم بكل تلك
القوة خلال ثلاثين عامًا، وما كان ممكنًا أن يمنح كنعان جميعًا اسم فلسطين، ناهيك عن
كون استقرارهم في فلسطين زمن مرنبتاح، يعني صلحًا قد حدث بين مصر وبينهم، أقطعتهم مصر
بموجبه الساحل الفلسطيني، وهو الأمر الذي سيتضارب مع الهجوم البلستي الكبير على مصر،
والذي حدث بعد ذلك زمن الفرعون رمسيس الثالث قادمًا من البحر الإيجي.
أما ما يحسم الأمر، فهو أنه زمن البطرك إبراهيم نفسه، حوالي ١٧٠٠ق.م. قبل الخروج
بخمسة قرون كاملة — بحسابات التوراة العبرية — نجد الكتاب المقدس يحدثنا عن وجودٍ
فلسطيني في المنطقة الكنعانية الساحلية، وهو ما يُستفاد من رواية ذلك المقدس عن زيارة
قام بها البطرك إبراهيم وزوجته سارة إلى مصر، وأنه عند خروجه منها عرج على مملكةٍ باسم
جرار، لينزل ضيفًا على ملكها، وهو ما يأتي به النص، يقول:
وانتقل إبراهيم من هناك إلى أرض الجنوب (النقب [المؤلف])، وسكن بين قادش وشور
وتغرب في جرار، وقال إبراهيم عن سارة امرأته: هي أختي، فأرسل أبيمالك ملك جرار
وأخذ سارة.
(تكوين، ٢٠: ١-٢)
وقد ظل ذلك الملك «أبيمالك» ملكًا أيام إسحاق بن إبراهيم، حيث حدثت مجاعة فذهب إسحاق،
لينزل ضيفًا على أبيمالك ملك جرار، في قصةٍ توراتية تقول لنا إن أبيمالك هذا كان ملكًا
على فلسطين.
وكان في الأرض جوع، غير الجوع الأول، الذي كان أيام إبراهيم، فذهب إسحاق إلى
أبيمالك ملك الفلسطينين إلى جرار. فأقام إسحاق في جرار، وزرع إسحاق في تلك
الأرض، فأصاب في تلك السنة مائة ضعف، وباركه الرب فتعاظم الرجل، وكان يتزايد في
التعاظم حتى صار عظيمًا جدًّا، فكان له مواشٍ من الغنم ومواشٍ من البقر وعبيد
كثيرون، فحسده الفلسطينيون.
(تكوين، ٢٦: ١٤، ١٣، ١٢، ٦، ١)
وهو الأمر الذي يعني أن الفلسطينيين، كانوا موجودين بالمنطقة زمن إبراهيم، ولكنهم
لم
يكونوا عنصرًا واضح القوة، كبقية العناصر التي غلب عليها زمن إبراهيم، كالعنصر الحيثي
سيد الأرض ومالكها، حيث رأينا كيف سجد البطرك إبراهيم للحيثيين ليشتري منهم قبرًا
لسارة. كما لا نجد إشارات لممالك الفلسطينيين الخمسة إلا زمن الخروج، وهو ما يعني
وجودًا ابتدائيًّا للفلسطينيين، ممثلًا في مدينة مملكة واحدة على الأقل، باسم مملكة
جرار زمن إبراهيم. ولم تكن الممالك الفلسطينية الخمس قد ظهرت على ساحل فلسطين بعد فيما
يبدو.
وفي بحثٍ سابق أدرجناه بكتابنا «رب الزمان»، حاولنا حل المشكلة بالاستناد إلى ما
جاء
من ذكرٍ للبلست، في مدونات رسائل تل العمارنة،
٩ والتي استند إليها آخرون للقول بفرضٍ غير مؤيد، أن أولى هجمات البلست، قد
حدثت زمن الملك آمنحتب الثالث ١٣٧٩–١٣٦٠ق.م. التي كانت توجه إليه وإلى ولده إخناتون تلك
الرسائل.
١٠ وقد قلت في حينها باحتمال استقرار البلست في فلسطين زمن آمنحتب الثالث،
استنادًا إلى ما ورد عنهم في سجلات تل العمارنة، في محاولة لتفسير وجودهم هناك قبل
الزمن التاريخي المفترض، لهجوم شعب الجزر الإيجية
على المنطقة، والذي تأتي أجلى صوره وأوضحها زمن رمسيس الثالث. لكنا بتنا الآن مقتنعين
برأيٍ آخر، يمكنه أن يحل المشكلة حلًّا نموذجيًّا، ويعطينا التوقيت الصحيح لزمن ظهور
الفلسطينيين على الساحل الفلسطيني، زمن البطرك إبراهيم في مملكة جرار، وربما قبله بزمن،
وهو المقبول كما سنرى الآن. ثم تكاثفهم بعد ذلك في ممالك خمسة على ساحل المتوسط الشرقي،
زمن الخروج من مصر بعد إبراهيم بحوالي أربعة قرون أو خمسة، حسب حسابات التوراة
العبرية/المازورية، التي قالت إن الإسرائيليين قد عاشوا في مصر ٤٣٠ سنة، إضافة إلى عمر
إسحاق ثم عمر إبراهيم.
أما لو أخذنا بحسابات التوراة السبعونية، التي قالت إن بني إسرائيل عاشوا في مصر ٢٢٥
سنة فقط، وليس ٤٣٠ سنة كما قالت التوراة المازورية، ثم إضافة عمر إبراهيم وولده إسحاق،
يكون الفارق بين زمن إبراهيم وزمن الخروج حوالي ٣٠٠ سنة، بفرض أن الخروج قد حدث في أحدث
التوقعات، زمن الفرعون مرنبتاح ١٢٢٤–١٢١٤ق.م. وعليه فسيكون الفلسطينيون قد حلوا على
الساحل الفلسطيني، قبل زمن مرنبتاح بحوالي ٣٠٠ سنة، أي حوالي سنة ١٥٢٤ قبل الميلاد. وهي
ضمن السنوات الأخيرة في حكم الهكسوس لمصر قبل طردهم منها، والذي بدأ في أوسع الترجيحات
عام ١٧٨٨ق.م. واستمر حتى ١٥٧٥ق.م. وإذا كان زمن إبراهيم قد عاصر مدينة مملكة فلسطينية
لها ملك، ومؤسسة حاكمة بالمنطقة اسمها جرار، فإن هذا يعني وجوب الرجوع بموعد وصول
الفلسطينيين، قبل عام ١٥٥٠ق.م. بعدة سنوات، تسمح بقيام هؤلاء الجدد بتأسيس نظامٍ سياسي،
ولتكن تلك المدة افتراضًا قرنًا آخر من الزمان. وبذلك يجب أن يكون الفلسطينيون قد
تواجدوا في فلسطين حوالي عام ١٦٥٠ق.م. إبان حكم الهكسوس لمصر وللمنطقة جميعًا، بل إبان
أوج قوة إمبراطورية الهكسوس، فكيف حدث ذلك؟ وكيف أمكن للفلسطينيين القيام بهذا الغزو
الاستيطاني لفلسطين، إبان وقوع فلسطين بل وجزر المتوسط التي جاءوا منها، تحت حماية دولة
الهكسوس الإمبراطورية الكبرى؟
هنا نتذكر عادة حكام دول المنطقة القديمة، عندما كانت تتوسع فتحتل بلاد شعوب أخرى،
كان المصريون يأتون من البلاد المفتوحة بنخبة أهلها إلى مصر، ويُربَّى أمراؤها في مصر
على طاعة الفرعون وعلى الثقافة المصرية، وهو ذات ما كان يفعله الآشوريون، وأشهره ما
فعلوه مع مملكة إسرائيل الشمالية، عندما نقلوا عشرة أسباط إلى
بلاد آشور. وهو ما فعله البابليون مع مملكة يهوذا،
وهو ما ظل فعلًا حتى زمن صدام حسين بالعراق، الذي نقل إثنيات بكاملها من مواضع إلى
أخرى، وهو بالضبط ما نراه قد فعلته إمبراطورية الهكسوس، التي زادت على ذلك بنقلها
شعوبًا بكاملها، من مواطنها إلى أوطانٍ أخرى. فنقلت سكان الجزر الإيجية المتوسطية إلى
ساحل فلسطين. لكن هذا النقل عادةً ما يكون لأهدافٍ ومصالح، فينقل الشباب ليعملوا في
جيوش المحتل ويصبحوا من عناصره. والصناع المتميزون وبخاصة الحدادين مصانع ذلك الزمان
الحربية؛ ولذلك نفهم سر الظهور الفلسطيني القوي على الساحل، فقد ظهروا فجأة أقوياء،
ومسلحين تسليحًا حديديًّا متميزًا. وهذا النقل بالضبط ما كان يفعله أباطرة مثل تحتمس
الثالث، ونبوخذ نصر الكلداني وآشور ناصر بال الآشوري، وغيرهم من الأمثلة — في التاريخ
—
كثير.
وبالإضافة لنماذج حوادث التهجير الإجباري للشعوب، التي وردت بالكتاب المقدس، فإن
نصوص
التاريخ الأركيولوجية تؤكد هذا المعنى، فمثلًا يقول سرجون الثاني الآشوري في نصوصه،
التي دونها تسجيلًا لحدث فتحه السامرة، عاصمة المملكة اليهودية الشمالية إسرائيل عام
٧٢١ق.م.:
لقد حاصرت السامرة وفتحتها وجلوت ٢٧٢٩٠ من سكانها، وجهزت من بينهم فصيلة
بخمسين عربة ضممتها إلى فيلقي الملكي. أما المدينة فقد أعدت بناءها بأفضل مما
كانت، وأسكنت فيها شعوبًا من المناطق الأخرى التي قهرتها، ثم أقمت عليهم ضابطًا
من لدني حاكمًا عليهم، وفرضت عليه جزية الآشوريين.
١١
وهو الأمر الذي طابقه الكتاب المقدس إذ يقول:
في السنة التاسعة لهوشع أخذ ملك آشور السامرة، وسبى إسرائيل إلى آشور،
وأسكنهم في خليج وخابور نهر جوزان وفي مدن مادي.
(ملوك ثاني، ١٧: ٦)
ويستمر المقدس التوراتي شارحًا:
وأتى ملك آشور بقومٍ من مدن بابل وكوت وعوا وحماة وسفراويم، وأسكنهم في مدن
السامرة عوضًا عن بني إسرائيل، فامتلكوا السامرة وسكنوا في مدنها.
(ملوك ثاني، ١٧: ٢٤)
ويعقب «فراس السواح» بالقول: «ولم تطبق سياسة التهجير هذه على أهل السامرة فحسب،
بل
شملت شعوبًا عديدة منها شعب مملكة حماة ومملكة قرقميش.»
١٢ وهو ما يؤكده نص ذات الملك وهو يقول: «أما أهل المدينة ممن ثاروا معه، فقد
سُقتهم أسرى إلى آشور … ثم أحللت في كركميش سكانًا من آشور.»
١٣
وهكذا فيما نعتقد وبنفس الأسلوب كان انتقال البلست من كفتور إلى كنعان، وهو الأمر
الذي ما كان ممكنًا تفسيره تفسيرًا مقنعًا قبل بحثنا هذا عن إمبراطورية الهكسوس الكبرى،
وسيتبع ذلك باليقين عدة نتائج ترتبط بالأحداث ارتباطًا مزيجًا؛ لأن معنى ذلك أن إبراهيم
قد زار مصر زمن الحكم الهكسوسي؛ لأنه خرج من مصر إلى وجود فلسطيني في مملكة جرار، وكان
تواجد الفلسطينيين في جرار ملازمًا لوجود الهكسوس في مصر، وسيكون يوسف وأسرة يعقوب
جميعًا قد دخلت مصر زمن الهكسوس، وهو ما يفسر لنا كيف أمكن لراعٍ بدوي مثل إبراهيم، أن
يحصل على جاريةٍ مصرية (هاجر)، بينما المصريون يرون البدوي رجسًا ونجسًا يجب اجتنابه.
وهو ما أكدته التوراة ذاتها، عندما حكت عن الوليمة التي أقامها يوسف، وهو وزير لخزانة
فرعون لإخوته، عندما التقاهم بعد بعادٍ طويل، فتقول:
وقال قدموا طعامًا، فقدموا له وحده، ولهم وحدهم وللمصريين الآكلين عنده
وحدهم؛ لأن المصريين لا يقدرون أن يأكلوا طعامًا مع العبرانيين؛ لأنه رجس عند
المصريين.
(تكوين، ٤٣: ٣١، ٣٢)
وعندما عرض يوسف إخوته على الفرعون، منحهم مكانًا يسكنون فيه، بعيدًا عن مساكن
المصريين، أو بنص التوراة:
لكي تسكنوا في أرض جاسان؛ لأن كل راعي غنم رجسٌ للمصريين.
(تكوين، ٤٦: ٣٤)
والعجيب أيضًا أن يطلب يوسف من أشقائه، وهو يقدمهم إلى الفرعون أن يقروا بصفاتهم
كرعاة، ويعلنوها:
ثم قال يوسف لإخوته ولبيت أبيه: أصعد وأخبر الفرعون، وأقول له إخوتي وبيت أبي
الذين في أرض كنعان جاءوا إليَّ. والرجال رعاة غنم، فإنهم كانوا أهل مواشٍ وقد
جاءوا بغنمهم وبقرهم وكل ما لهم، فيكون إذا دعاكم فرعون وقال ما صناعتكم؟ أن
تقولوا: عبيدك أهل مواشٍ.
(تكوين، ٤٦: ٣١–٣٤)
ويعقب الباحث مظفر نادوثي على إصرار يوسف، على إعلان بدوية ورعوية أهله للفرعون،
مع
علمه بكراهية المصريين الشديدة للبدو والرعاة، يحمل دلالة علاقة ما بين ملوك مصر في ذلك
العهد وبين العبرانيين.
١٤
وتتناقض قصة حصول إبراهيم على جاريةٍ مصرية، مع أمثلة واضحة للقانون المصري بهذا
الشأن، ومنها تلك الحادثة الطريفة، التي يرويها لنا كل من سيل وشتيندورف، وهما يقرران:
كانت العلاقات بين مصر والدولتين الكبيرتين، في دجلة والفرات وآشور وبابل،
قائمة على أسسٍ متشابهة، كما يبدو ذلك من سلسلةٍ أخرى من الألواح المسمارية،
التي عُثر عليها في العمارنة. وكان تبادل الرسائل نشيطًا بصفةٍ خاصة مع ملكي
بابل كادشمان إنليل وبورنا بورياش (لاحظ أفريقية في تلك الأسماء [المؤلف]).
ولكن الرسائل التي في حوزتنا من هذين الحاكمين، مصاغة بلهجةٍ أكثر قوة وإحساسًا
بالذات من تلك الصادرة من بلاط ميتاني. وتدل على أن ملوك هذه الإمبراطورية
العظيمة القوية، كانوا يعتبرون أنفسهم أكفاء على الأقل للفرعون. فمثلًا لم يجرؤ
أحد حكام ميتاني أن يطلب يد أميرة مصرية، وكان الأمر على عكس ذلك مع البابليين.
فعندما طلب آمنحتب الثالث ابنة كاد شمان إنليل ليضمها إلى حريمه، أُعطيت له
بدون تردد، ولكنه في نفس الوقت وُوجِه بطلبٍ مقابل بأن يرسل أميرة مصرية إلى
بابل، وقد رُفض هذا الاقتراح غير المعقول باعتباره منافيًا لكل التقاليد. ولكن
كادشمان إنليل رد على أخيه ردًّا منطقيًّا متماسكًا في خطابٍ آخر: إنك يا أخي
كتبت لي بأنك لن تسمح لابنتك بالزواج مني قائلًا: إنه لم يحدث أن أعطيت ابنة
ملك مصري لأحدٍ من قبل! دعني أسألك لماذا؟ إنك أنت الملك ومشيئتك نافذة، فإذا
كنت راغبًا في إرسالها، فمن ذا الذي يعترض؟ ثم يمضي بسذاجةٍ قائلًا: إنه سوف
يقتنع بأية امرأة جميلة أخرى؛ إذ يمكنه أن يدعي أنها ابنة الملك، ولن يجرؤ أحد
على تكذيبه، لكن إذا كنت من حيث المبدأ، ترفض أن ترسل لي أحدًا على الإطلاق،
فأنت لا تأخذ الأخوة والصداقة بعين الاعتبار.
١٥
وحتى إبان سقوط القوى المصرية وانحطاطها، ظل المصري يحافظ على هذا التقليد المقدس،
فيخبرنا هيرودوت أنه عندما ألح الملك الفارسي قمبيز ملك العالم آنذاك، في طلب الزواج
من
ابنة الفرعون، زمن تدهور مصر الحضاري والسياسي والعسكري، اختار الفرعون لملك العالم
فتاة من خادمات البلاط، وأرسلها لقمبيز على أنها ابنته، وعندما اكتشف قمبيز ذلك اتخذها
ذريعة لغزو مصر.
١٦
وفق هذا كله لا يمكن تصور أن فرعونًا مصريًّا، يمنح راعيًا بدويًّا (إبراهيم) جارية
مصرية، وهو أشد عناصر البشر نجاسة في القانون المصري. إن الحل الأوحد هو أن يكون
إبراهيم، قد دخل مصر على ذوي قرابته وحلفه، لقد كان الحاكم على مصر زمن إبراهيم
هكسوسيًّا ولم يكن أبدًا مصريًّا.
والتوراة تقول إن إبراهيم أنجب من هاجر المصرية ولده البكر إسماعيل، ثم إن إسماعيل
نفسه سار على درب أبيه فتزوج مصرية «وأخذت له أمه زوجة من أرض مصر» (تكوين، ٢١:
٢١).
لكن لأن التاريخ مساربه وتواصلاته عبر ذكريات عادة ما تكون غائمة أو منزوية، فإن
الحدث يجد له منفذًا كما عند المؤرخ هروشيوش، الذي قام يردد ذكريات القرون الغوابر،
ويخالف التوراة مخالفة شديدة حسب الفهم السائد، بينما يتفق معها أشد الاتفاق حسب رؤيتنا
لأحداث ذلك الزمان، فهو يقول عن إبراهيم:
ووُلد له إسماعيل من جاريته العملاقة، وتزوج إسماعيل امرأة من العماليق،
فولدت له اثني عشر ولدًا.
١٧
وحيث نعلم أن إسماعيل هو ابن هاجر، فمعنى ذلك أن هاجر لم تكن مصرية إنما «عملاقة»،
وأن زواج البدو العبران من أرض مصر، لم يكن من مصريات، بل من عملاقات هكسوسيات. وهو
الأمر الذي وجد منفذه ليصل إلى مؤرخينا الإخباريين القدامى ليدونوه بدورهم، فيحكي
المسعودي:
تفرق العماليق بعد أن أقحط الشحر واليمن، فتزوج إسماعيل منهم.
١٨
كذلك كان يعلم ذات الخبر راوي السيرة ابن هشام، الذي أكد أن العماليق وليس المصريين،
كانوا أخوال إسماعيل، وذلك في قوله:
إن إسماعيل نبيٌّ مرسل، أرسله الله إلى أخواله من جرهم والعماليق.
١٩
وهو المعنى الذي دونه الثعلبي يقول:
ثم نبَّأ الله إسماعيل، فبعثه إلى العماليق وقبائل اليمن.
٢٠
وهو الخبر الذي يجمع الكثير لتأييدنا؛ فالعماليق في مصر وسيناء، وكان
إسماعيل مبعوثًا إليهم وإلى قبائل اليمن. لقد كانت بذلك قبائل اليمن في ذات الجوار (حيث
مملكة سبأ كما سبق البحث) بسيناء وآدوم وكذلك بمصر ضمن العماليق أو الهكسوس. إن نظريتنا
تلتقي مع أحداث كان يتم التعامل معها، بحسبانها أوهامَ أهل السير والأخبار، بل إنها
تفسر نظريتنا وتضعها في تناغمٍ واضح مع سياقها التاريخي.
وهكذا فإن الهجمة التي حدثت في زمن مرنبتاح، وتلاها هجوم أعظم زمن رمسيس الثالث، لم
تكن هجمة الفلسطينيين من كريت، التي احتلوا بموجبها ساحل فلسطين، إنما مجموعاتٌ خرجت
من
الجزر اليونانية، حملت أسماء شعوب عديدة كالشاكروشا والثكر والدانونا والواشاشا
والبلست، وهم الذين عرفهم التاريخ باسم الشعوب الآخية، وهي الهجمة الكبرى التي أسقطت
الحضارة الحيثية وأزالتها من التاريخ. وكان الخلط يتم دومًا بين حركة الآخيين الكبرى
وبين وجود البلست على الساحل الفلسطيني، بدمج مبتسر ومتكلف لإيجاد تفسير لظهور
الكريتيين البلست على ساحل فلسطين، في زمنٍ كانت فيه مصر قد أصبحت إمبراطورية قوية، لن
تسمح بهذا الاستقرار لمهزومين — كما يقولون — في أراضٍ تابعة لها. بينما التوراة قد
أكدت وجودهم هناك قبل تحديد المؤرخين بثلاثة قرون على الأقل. وكان هذا الاستيطان المبكر
للفلسطينيين أمرًا غامضًا، لم يأتِ بشأنه مدون واضح يحدد موعد بدئه؛ لأنه ببساطة حدث
زمن الهكسوس الذي لم يترك لنا شيئًا مدونًا يعول عليه، وهو الزمن الذي أسدل عليه
المصريون ستارًا من النسيان، فلم يدونوا عنه وقرروا نسيانه ولم يعودوا يذكرونه كأنه لم
يكن.
وفي تلك الأثناء، وفي فترة الظلام الهكسوسي نعتقد وفق ما طرحناه، أنه قد حدث الحدث،
وتم نقل الكريتيين إلى الساحل الفلسطيني ليفاجئونا — عندما يرتفع الستار مرة أخرى،
ويبدأ التدوين بعد طرد الهكسوس من مصر — نفاجأ بوجود الفلسطينيين هناك قبل أي تواجد
للعبريين، أو من ذكرهم التاريخ باسم بني إسرائيل، وهم الشعب الغريب تمامًا عن المنطقة،
جاءها وافدًا مستوطنًا، وهذا أمرٌ آخر يحتاج إلى جهدٍ آخر ومبحث جديد.