حل لغز الخابيرو
حول زمن خروج الإسرائيليين من مصر، سِيقت عدة نظريات وفروض، كان أولها تلك النظرية العتيقة، وتعد أول النظريات التي وُضعت بهذا الشأن، وهي نظرية المؤرخ اليهودي يوسفيوس، والتي اعتمد فيها على تاريخ مانيتون المصري ٢٨٢ق.م. وقد زعم يوسفيوس في نظريته أن بني إسرائيل كانوا هم حكام مصر باسم الهكسوس، إلا أن هذه النظرية لم تعُد تلقى اليوم قبولًا عند علماء التاريخ أو عند علماء نقد التوراة، حيث تواترت حديثًا نظريات علمية جديدة، بدأت بالظهور تباعًا، بعد فك رموز الهيروغليفية المصرية، وما تبِعها من كشوفٍ أركيولوجية متتابعة. ووُضعت فروض تزمن هذا الخروج في مساحةٍ تقع ما بين ثلاثة قرون أو أقل، تقع ما بين زمن الفرعونة حتشبسوت ١٤٩٠–١٤٦٠ق.م. وزمن الفرعون مرنبتاح حوالي ١٢٢٤–١٢١٤ق.م. لكن ليس قبل ولا بعد، إنما تدور جميعًا بين فراعين حكموا بين هذين المدتين ١٤٩٠–١٢١٤ق.م.
وقد ذهبت مدرسة جارستانج إلى القول بأن الخروج قد حدث زمن الفرعونة حتشبسوت، وذهب آخرون إلى تزمينه بزمن الفرعون الفاتح تحتمس الثالث ١٤٩٠–١٤٣٦ق.م. بينما أرجأه آخرون إلى زمن الفرعون مرنبتاح ١٢٢٤–١٢١٤ق.م. ويعد هذا الرأي الأخير هو الرأي السائد والمستقر الآن، ويستمد قوته من اعتماده على وثيقةٍ أركيولوجية واضحة، تتمثل في لوح مرنبتاح الذي ذكر اسم إسرائيل لأول مرة ولآخر مرة، فيما اكتُشف من آثارٍ مصرية حتى الآن. ويقول فيه الفرعون إنه قد أباد إسرائيل ولم يبقَ لهذا بذر أي نسل أو أثر. ولأن فترة حكم هذا الفرعون لم تتجاوز عشر سنوات، تسمح بكل الأحداث التي رواها سفر الخروج بالتوراة، فقد افترض أصحاب تلك النظرية أن الأحداث الكبرى المروية بالتوراة، وما رافقها من اضطهاد الإسرائيليين في مدينتين باسم «رعمسيس» و«فيثوم»، إنما تعود إلى زمن أبيه رمسيس الثاني ١٢٩٠–١٢٢٤ق.م. بحيث يصبح رمسيس الثاني فرعون الاضطهاد، وصاحب مدينة الاضطهاد التي حملت اسمه. أما الخروج فيكون قد حدث زمن ولده مرنبتاح صاحب لوح إسرائيل المشهور.
وكان علم التاريخ قد استقر على أن العبرانيين قد سجلوا اسمهم في التاريخ ووثائقه، بعد أن ورد اسمهم في التاريخ ووثائقه بصيغٍ مختلفة، للدلالة على أناسٍ بعينهم في كل مدونات منطقة المتوسط الشرقي، على اختلاف التنغيم ما بين: عابيرو، خابيرو، خابيري، حابيري، حبراي، هبر، عفر، عفرم، حبري، خبري. لكن تزمين الخروج بزمن مرنبتاح كان يعني لهؤلاء المؤرخين خسارة كبرى، اضطروا معها للتنازل عن كون تلك الأسماء المتعددة تشير إلى عبريي التوراة الإسرائيليين؛ لأن تاريخ تدوين هذه الأسماء للعابيرو لن يلتقي زمنيًّا مع زمن مرنبتاح والذين خرجوا من مصر. ولمعرفة السبب وراء ذلك نحن بحاجةٍ إلى بعض التفصيل.
كان أول ظهور للصفة «عبري»، عندما استخدمها سفر التكوين بالكتاب المقدس لوصف البطرك إبراهيم. ثم وردت كلمة «عبرانيون» لوصف الإسرائيليين الذين كانوا يعيشون بمصر، ثم وصفوا بذات الصفة بعد خروجهم من مصر ودخولهم فلسطين. إلا أن الملاحظ أن تلك الصفة كانت تستخدم عند ورودها لتمييزهم جنسيًّا عن أصحاب الأرض وأهلها، وهو ما حدث في قصة يوسف عند نزوله مصر لتمييز الإسرائيليين عن المصريين، وكذلك تكرار ذات الأمر في قصة موسى بمصر، ثم في قصة أول ملك إسرائيلي (شاول) لتمييز الإسرائيليين عن سكان فلسطين. ثم اختفت صفة عبري مدة طويلة، لتظهر بعد ذلك في سفر صموئيل أول وفي سفر يونان.
وللمزيد بشأن الخابيرو والساجاز نقرأ: «تفيد العديد من النقوش القديمة المؤرخة، ابتداء من الألف الثاني قبل الميلاد، بوجود مجموعات من اللصوص وقطاع الطرق والمرتزقة في المشرق العربي، كانت تعيش على هامش المجتمع، وقد عرفت هذه المجتمعات في النقوش السومرية، العائدة للفترة الواقعة بين الأعوام ٢٠٥٠–١٩٣٠ و٩٣٠–١٦٩٧ق.م. باسم «س ء ج ء ز» ومن أهل الاختصاص من يرى أن الاسم السومري «س ء. ج ء ز»، مشتق من المفردة الأكادية «شجج ء شو» بمعنى شجه/تلة، كما قرئ الاسم أحيانًا «خبب ء تو» بمعنى لصوص وبدو رحل. وبمقارنة قوائم الآلهة الحثية وقائمة الضرائب الأوغاريتية اقتنع أهل الاختصاص، بأن المجموعات التي عرفت بالاسم السومري «س ء. ج ء ز» هي نفسها المشار إليها بالاسم الأكادي خفيرو «خء. في. رو» و«خء. ءب. بي ري» وهناك اتجاه يرى أن الاسم خبيرو مشتق من المفردة خبر، بمعنى يربط أو يوصل، أو من المفردة «عبر» بما يعني أن المقصود «حبريم» أي المتحالفون، أو «خبريم» بمعنى البدو المتنقلين، ويرى اتجاهٌ آخر أن المعنى الصحيح للاسم عفر هو «مغبرين»، وانطلاقًا من حقيقة أن البدو أي العرب في حالة ترحل مستمرة، فقد أوَّلَ ممثلو هذا الاتجاه المعنى ليشير إلى بدوٍ رحل. ومن الجدير بالذكر أنه تمت قراءة الاسم بصيغته الأخيرة في نصوص مملكة ماري العائدة للنصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد، والتي فُهم منها أن المقصود بذلك مرتزقة أو عصابات تعيش من نهب المدن. ويعود الخفيرو للظهور من جديد في نصوصٍ عديدة تعود إلى مملكة الألاخ، حيث يسجل النص المؤرخ في القرن الثامن عشر قبل الميلاد، توقيعهم لاتفاقية سلام مع حكام تلك المملكة، بما يظهر أنهم شكلوا حينئذٍ قوة عسكرية هامة ومستقلة. كما يعود الخفيرو للظهور من جديد في نصوص هذه المملكة ذاتها، والعائدة للقرن الخامس عشر قبل الميلاد. وهذه المرة يظهرون كقوةٍ عسكرية متمركزة في المدن، حيث عرف أن بعضًا منهم كان ينتمي إلى طبقة الكهنة، ويتم مدحهم في نصٍّ ثالث لاستضافتهم الملك المعزول إدرمي.
أما النصوص العائدة للقرن الخامس عشر قبل الميلاد، التي عُثر عليها في مدينة نوزي الواقعة في القطر العراقي، فتظهر أن الخفيرو وضعوا أنفسهم كأشخاصٍ أو مجموعات بتصرف الدولة كمرتزقة وخدم، بينما تُثبت وثائق أخرى أنهم كانوا رقيقًا وُظفوا في الخدمة المنزلية (نتذكر هنا ما حدث ليوسف وعمله الأول كخادم منزل في بيت رئيس الجند المصري فوطيفار [المؤلف]).
وتعود هذه المجموعات للظهور من جديدٍ في رسائل تل العمارنة، العائدة للنصف الأول من القرن الرابع عشر ق.م. بصيغة «سء. ج ء ز».
ويرى أهل الاختصاص أن تلك الوثائق تظهر تشكيلهم من أمراء وسكان مدن، أي إنهم أصبحوا من أهل الحواضر. وكما تبين تلك الرسائل أن تلك المجموعات، والتي رأى فيها أهل الاختصاص نفس خفيرو النصوص الأكادية، أنهم لم يكونوا متمردين فحسب، وإنما وُظفوا أيضًا كمحاربين مرتزقة، مما جعل كاتبي الرسائل ينعتونهم بصفة: كلب، وكلاب ضالة. أما النقوش الحيثية فتشير إلى «س ء. ج ء ز»، كمجموعةٍ طبقية صُنفت ما بين النبلاء والعامة.
ماكلستر بذلك مثل آخرين يصر على أن العبرانيين بالكتاب المقدس، هم ذات الخبيرو بنصوص أركيولوجيا المنطقة.
لكنه سيواجه بذلك مشكلة.
فإذا كان العبرانيون هم الخابيرو، فكيف كانوا يهاجمون أملاك مصر في فلسطين زمن العمارنة (آمنحتب الثالث ١٤٠٥–١٣٦٧ق.م.، وولده إخناتون ١٣٦٧–١٣٥٠ق.م.)، كما ثبت من رسائل الاستغاثة المرسلة من حكام فلسطين إلى ملوك العمارنة؟ وهو وقت يفترض أنهم كانوا ما زالوا يقيمون فيه بمصر، حسب تزمين الخروج بزمن مرنبتاح؟! ولم يكونوا قد خرجوا من مصر بعدُ إلى فلسطين، حيث إن زمن مرنبتاح يقع بعد ذلك التاريخ بما يزيد عن قرنين.
هنا لا يفارق ماكلستر ما استقرَّ عليه ضميره العلمي، وقرر أن الخطأ بذلك لن يكون في علم التاريخ ووثائقه، وما وصل إليه العلماء بتحديد زمن مرنبتاح لحدث الخروج، إنما علينا بالبحث عن الخطأ في القصة التوراتية ذاتها وتزميناتها وربما تسمياتها، وما روته من أحداث حول الخروج.
لكن ما فات ماكلستر أن هؤلاء المؤرخين أنفسهم، الذين اعتمدوا على وثيقة لوح مرنبتاح، لتزمين الخروج إبَّان حكمه على مصر، قد بنوا حكمهم هذا على عنصرٍ توراتي إلى جوار العنصر الأركيولوجي، بحيث تطابق تزمين التوراة للخروج مع تزمين علماء الآثار والباحثين، وتمت وفق ذلك حسابات تستند إلى التوراة كالآتي:
تقول التوراة: «وأما إقامة بني إسرائيل التي أقاموها في مصر؛ فكانت أربعمائة وثلاثين سنة»، وذلك منذ دخول يعقوب وأبنائه الأسباط مصر، حتى خروج موسى وأتباعه من مدينة رعمسيس. يضاف إليها التواريخ التي وردت في سفر التكوين، بخصوص يوسف تحديدًا بعد أن دخل مصر حيث قضى في السجن عامين، وانقضت سبع سنوات من الخير، وسنتان من سنين القحط قبل وصول يعقوب وأولاده إلى السبط يوسف في مصر. وبذلك تكون المدة من دخول يوسف السجن إلى خروج موسى ٤٤١ سنة. فإذا أضفنا ٤٤١ سنة إلى أوائل حكم مرنبتاح، فسيؤدي بنا ذلك إلى زمن دخول الهكسوس مصر، أو بعد غزو الهكسوس بحوالي ١٥ سنة. وإذا طرحنا ٤٤١ عامًا من زمن دخول الهكسوس مصر، فسيفضي بنا ذلك إلى زمن مرنبتاح، وهكذا تمت مطابقة تزمينات التوراة مع تزمينات التاريخ، لكن ظلت المشكلة قائمة: كيف كان العبريون يقومون بغزو فلسطين زمن آمنحتب الثالث والرابع، بينما لم يكونوا قد غادروا مصر فعلًا زمن مرنبتاح، الذي يقع تاريخيًّا بعد غزوهم فلسطين بحوالي قرنين من الزمان؟
على أية حال علينا الآن أن نتابع ما وصلنا من علم التاريخ، بشأن الخابيرو حتى نكون على بينةٍ واضحة، أو نجد ما يفصح عن حل ذلك اللغز المحير.
وهكذا، وبكل بساطة تم حل مشكلة العابيرو، وإذا كان وجودهم على حدود فلسطين زمن آمنحتب الثالث وولده إخناتون سيسبب أرقًا ومشكلة، في حال احتسابهم هم ذات الإسرائيليين الذين خرجوا من مصر، فليكن الحل: إن هؤلاء ليسوا هم أولئك؟ وأن المسألة مجرد تشابه أسماء؟! فإن سألنا: من هم إذن الخابيرو تحديدًا إذا لم يكونوا هم العبريين أو الإسرائيليين؟ فإن الإجابة السهلة: هم مجرد شوارد قبائل وشذاذ آفاق، وعصابات لا تنتسب لعنصرٍ بشري معروف. ويصبح الأمر كما لو أن عبريي التوراة شعب ذو عنصر بشري معروف، أما الخابيرو فليسوا كذلك، وإنهم ليسوا عبريي التوراة؟!
لكن ذلك الأمر فيه نظر؛ لأنه إذا كان الكتاب المقدس، قد أوعز بأن الإسرائيليين نسل عبراني وكلاهما واحد، فإنه في مواضع أخرى يهمس بنتيجةٍ مخالفة تمامًا لمن ينقب فيه، وهي أن العبريين ضموا مجموعة قبائل وشعوب متنافرة كانت تنتقل في بداوتها شرقي المتوسط، ومن ثم نراهم من جانبنا عنصرًا من عناصر الحلف الهكسوسي القديم، بينما الكتاب المقدس من جانبه تحول بفكرة الحلف إلى بديلٍ قرابي، فوضع سلسلة نسب تجمع مجاميع بشرية متنافرة في جماعةٍ واحدة وجنس مميز، كما لو كان شعبًا واحدًا من الأزل.
وعن مواجهة آمنحتب الثاني للشاسو والحوريين والخابيرو السالفة الإشارة إليها، نسمع لباحثٍ يقول:
«وعند وفاة تحتمس الثالث ورثه ابنه آمنحوتب الثاني المشهور بقوته الجسمية الخارقة، وخلال حكمه ١٤٣٦–١٤١٣ق.م. قام بحملتين على بلاد الشام، شن الأولى منهما على أواسط سورية الحالية، حيث دمر وقتل وأسر. وإثر عودته لمصر أخذ بعض أمراء فلسطين، يدربون بعض الكنعانيين الشاسو والعابيرو، ويستعدون للثورة على الفرعون، بعدما تحالفوا مع الحوريين المنتشرين حول نهر الخابور (لاحظ أن الباحث هنا كبقية المؤرخين، يذهب بموضع الحوريين إلى «ميتاني» المزعومة بين الفرات والخابور شمالًا [المؤلف])، فعاد آمنحتب الثاني إلى الشام ووصل إلى بحيرة طبرية، واستولى على مجموعةٍ من المدن الفلسطينية.»
ثم يتابع «وتراخت قبضة المصريين على الشام، إبان انشغال إخناتون بثورته على الوثنية والشرك، فأخذ الحيثيون من عاصمتهم خاتوشا الواقعة في الأناضول إلى الشرق من نهر الهاليس، يحرضون عبدي شراتا، وهو ملك أموري «ميتاني» من الطرف الشمالي لسورية (نكرر هنا نفس الملاحظة السابقة [المؤلف]) على الثورة ضد النفوذ المصري الآخذ بالتراخي في بلاد الشام. وأخذ عبدي شراتا هذا يزحف ويحاصر المدن في حوض نهر العاصي وسواحل سوريا، ولا سيما حماة وأرواد. وبالمقابل تشكل في بلاد الشام حلفٌ موالٍ للفرعون، بزعامة رب عدي ملك جبيل. ويتألف من بيروت وصيدا وصور وعكا فضلًا عن جبيل … وحين شاخ عبدي شراتا أو مات، ورثه ابنة عزيرو الشاب الداهية الطموح. زحف عزيرو جنوبًا بعدما تحالف مع الحيثيين، وكذلك مع قبائل الخابيرو أو العابيرو، التي تحترف القتال كمرتزقة؛ إذ هي تحارب لكل من يدفع لها، فوصل إلى جبيل التي آثر ملكها رب عدي الموالي لمصر، أن يموت على أن يخون سيدة الفرعون.»
وهنا علينا أن نلاحظ النغمة التي استقرت لحل مشكلة الخابيرو، فأصبحوا في كتابات الباحثين مجرد مرتزقة يعملون لمن يدفع.
وهكذا نجد الخابيرو قد دخلوا فلسطين بالفعل، لكن المحبط في محاولة الفهم أن نجدهم ما زالوا بمصر زمن رمسيس الثاني ١٢٩٠–١٢٢٤ق.م. فهناك رسالة من الكاتب «كويسر»، موجهة إلى الموظف «بكنبتاح» تحمل أمرًا يقول:
- أولًا: الظهور الفصيح للخابيرو في نصوص المنطقة، كان في رسائل تل العمارنة
القادمة من فلسطين، تستنجد بالملك آمنحتب الثالث وبولده آمنحتب
الرابع/إخناتون. وتطلب قوات مصرية لصد هجوم الخابيرو على الممالك
الفلسطينية التابعة للإمبراطورية المصرية حينذاك. فإذا كان الخابيرو هم
العبريين الإسرائيليين؛ فإن ذلك — كما أسلفنا — سيُحدث مفارقةً لا
تلتئم مع أهم نظريات الخروج، وهي النظرية السائدة التي تقول بخروجهم
زمن مرنبتاح؛ لأن ذلك يعني أن العبريين — إذا كانوا هم الخابيرو — قد
خرجوا من مصر قبل زمن آمنحتب الثالث بحوالي أربعين سنة أو يزيد قليلًا.
وهي المدة التي حددها المقدس التوراتي لبقاء الإسرائيليين في سيناء،
بعد خروجهم من مصر وقبل غزوهم فلسطين، والمعنى هو: كيف نفسر وجودهم زمن
آمنحتب الثالث أو الرابع في تشكيلٍ هجومي على فلسطين قبل خروجهم زمن
مرنبتاح بحوالي ١٧٠ عامًا أو يزيد؟
ولو اعتمدنا النظرية التي تقول بخروجهم زمن حتشبسوت، فسنجد أيضًا خطأً صارخًا؛ لأن معنى ذلك أن يستغرق العبريون ما يزيد على ١٢٠ سنة من خروجهم من مصر، وحتى نجدهم يهاجمون مدن فلسطين زمن آمنحتب الثالث. وهو زمنٌ طويل جدًّا للسفر بين مصر وإسرائيل، بينما كان تحديد التوراة لذلك الزمن بأربعين عامًا في التيه، يعد زمنًا طويلًا جدًّا في نظر الباحثين، حتى رفضه بعضهم تمامًا، واعتبروه تلوينًا أسطوريًّا.
- ثانيًا: حسب قصة التوراة أن موسى قد مات على أبواب فلسطين في جبل نبو شرقي
الأردن، وقام تلميذه يشوع بن نون بقيادة جحافل الغزاة، وعبر الأردن من
الشرق إلى الغرب، وقام بتدميرٍ شامل لمدينة أريحا حتى سواها بالأرض،
وتركها كومًا خرابًا. وبالفعل أثبتت حفائر الأركيولوجية كاثلين كانيون،
التي قامت بدراسة طبقات الأرض تحت أريحا، أن أريحا قد تم تدميرها
مرتين: المرة الأولى عند طرد الهكسوس من مصر، على يد الفراعنة،
باعتبارها كانت أحد مراكز الهكسوس الحصينة. أما المرة الثانية فالمفترض
أن الدمار قد حدث فيها بفعل يشوع ورجاله الخارجين من مصر؛ فإن البحث
الدقيق أثبت أنه قد حدث قبل زمن مربنتاح بحوالي قرن ونصف القرن من
الزمان أو يزيد.٢٦ وهو ما يضيف مزيدًا من الإلغاز والغموض، على قصة الخروج
الإسرائيلي من مصر وعلى لغز الخابيرو. فإذا كان الخروج قد حدث زمن
مرنبتاح، فلا بد أن يكون دمار أريحا قد حدث بعد زمنه بحوالي أربعين
عامًا هي زمن التيه، لكن ما أكده البحث الأركيولوجي أن ذلك الدمار قد
حدث قبل زمن مرنبتاح بأكثر من قرنٍ ونصف، وهو ما يعيدنا مرةً أخرى إلى
زمن الخابيرو، الذين كانوا يهاجمون فلسطين زمن آمنحتب الثالث وولده
إخناتون، وهو ما عبر عنه كاسيدوفسكي بإيجازٍ بليغ يقول:
إذا كانت القبائل اليهودية القديمة العبرية هي المقصودة بالخابيرو؛ فإن رسائل العمارنة تعطينا برهانًا على أنها دخلت أرض كنعان، قبل وصول الإسرائيليين إليها من مصر بحوالي قرن ونصف القرن.٢٧
وهنا بدأت محاولات التوفيق، أو على الأصح التلفيق.
والآن وبعد العمر الذي قضيناه وراء محاولات حل ألغاز التاريخ، هل بالإمكان العثور على حل لا يجيز لباحثٍ آخر أن يصفه بأنه تلفيقي؟ للوصول إلى الحل المرتجى علينا أولًا أن نقف مع إشاراتٍ ضرورية تمهيدية.
لا يفوت لبيب ذكر ملك باسم إبرام، يعقد اتفاقًا مع الخابيرو؛ ليكونوا جنودًا في جيشه. وكما ألمحنا هو اسم إبراهيم بالتوراة، وإن كنا لا نعني أنهما نفس الشخص، إنما أقصى ما نقصده أن الاسم إبرام التوراتي كان منتشرًا بين الخابيرو، مما يدعم فكرة أنهم كانوا هم ذات العبريين الذين ينتمي إليهم البطرك التوراتي إبرام/إبراهيم. ومن الصعب تصور أن شعبين يحمل كل منهما نفس الاسم، ودخل كل منهما مصر، وخرج كل منهما من مصر، وأن كليهما كان يهاجم فلسطين، دون أن نشك شكًّا قويًّا في القول، أنهما كانا شعبين منفصلين!
ثم نلحظ بشدةٍ أن الحلف الذي ذكرته رسائل تل العمارنة، بين الخابيرو والسوتي وأنها وصفتهم بالعصابات الآرامية، ونتذكر أن السوتي تعني الستيين نسبة إلى ست، وهو ما يدعم ما قلناه حتى الآن، ويضع العبريين في مكانهم الجغرافي الذي حددناه، ومكانهم الزماني الذي نوشك الآن على تحديده.
وقد علمنا منذ هنيهاتٍ أن ملوك «ميتاني» بأعالي الرافدين، حسبما يذهب المؤرخون الذين تحالفوا مع الخابيرو، كان بينهم الملك عبدي شراتا أو «عبد الشرى»، بينما سبق وتأكد لنا أن الشرى هو رب الشراه أو السراه/عسير ببلاد آدوم، مما يعني وجوب قراءة تلك النصوص منسوبة إلى جغرافية آدوم، وليس إلى جغرافية الرافدين الأعلى. وتقول تلك النصوص إنهم أخذوا بالتوسع على حساب الإمبراطورية المصرية في فلسطين والشام. وهنا علينا أن نتذكر أن موسى عندما خرج من مصر مع أتباعه، لم يتخذ طريق حورس الحربي السريع على ساحل المتوسط نحو فلسطين، إنما انحدر جنوبًا في رحلةٍ شاقة طويلة ليس لها مبرر سوى نظريتنا، حيث يمكنه ذلك الطريق من اللحوق بحلفائه في بلاد مديان، أنسبائه وأهل زوجته صفورة.
والحصافة تجعلنا نقف مع إشارة آمنحتب الثاني إلى مهاجمة أعداء مصر الذين حدد أسماءهم: شاسو، حوريين، عبيرو، نتذكر أن خروج الهكسوس من مصر إلى مواقعهم القديمة حول آدوم، حدث بعد تفكك حلف الهكسوس على يد أبطال التحرير المصريين، لكن ليتجدد هذا الحلف جزئيًّا مرةً أخرى لمهاجمة البلاد الفلسطينية، عبر تحالفٍ جديد للقبائل وصل إلى تحالف عزيرو المدياني مع الحيثيين في أقصى الشمال. أما اسم عزيرو نفسه؛ فليس اسمًا حوريًّا هندوآريًّا يمكن إرجاعه إلى المملكة الميتانية الآرية المزعومة شمالي الرافدين، بقدر ما هو اسم سامي قح يليق بمديان، وتليق به آدوم، والعربان به أليق.
واضح إذن أننا مع الرأي القديم الذي عفا عليه الزمن وأهمله الباحثون تمامًا، نحن مع كون العبريين التوراتيين هم ذات عين الخابيرو والتاريخيين، وأنه كان اسمًا عامًّا على البدو الرعاة المتنقلين قطاع الطرق المرتزقة النهابين. لكن ذلك يعني ضمن ما سيعني أن الخابيرو لم يخرجوا أبدًا زمن الفرعون مرنبتاح، بل خرجوا قبل زمن العمارنة؛ لأنهم في زمن العمارنة قد وصلوا بالفعل إلى مهاجمة فلسطين. وبدأت رسائل الاستغاثة تتواتر من حكام فلسطين إلى العمارنة، وهو ما يعني أنهم قد خرجوا قبل زمن العمارنة بزمان. أما الأكثر إدهاشًا لنا قبل القارئ، هو توصلنا إلى أن الخابيرو التاريخيين الذين هم عبريو التوراة، ليسوا إطلاقًا بني إسرائيل على التدقيق، إنما كان بنو إسرائيل بطنًا حليفًا ضمن الأخلامو لا أكثر، وهو ما سنحاول إقامة الدليل عليه الآن.
وفي السنة الخامسة للملك رحبعام، صعد شيشق ملك مصر إلى أورشليم، وأخذ خزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك، وأخذ كل شيء وجميع أتراس الذهب التي عملها سليمان.
وهذا الحدث الذي حكته لنا التوراة قد تأكد، بما جاء في حوليات الفرعون شيشنق، التي سجلت له جدولًا بالمدن التي انتصر عليها في بر الشام وإسرائيل. ولما كان الكتاب المقدس يؤكد أن الإسرائيليين، قد قضوا ما بين زمن خروجهم من مصر إلى آخر زمن بناء الهيكل زمن سليمان، حوالي ما ينوف على أربعة قرون، تحت حكم القضاة القبلي قبل قيام مملكة إسرائيل الموحدة، التي حكم عليها شاول ليتبعه داود ثم ولده سليمان.
وكان في سنة الأربعمائة والثمانين لخروج بني إسرائيل من أرض مصر، في السنة الرابعة لملك سليمان على إسرائيل في شهر زيو وهو الشهر الثاني، أنه بنى البيت للرب.
وفق هذه الحسابات — ومع بعض التجاوزات — يجب أن تقع افتراضات الخروج، في الفترة الزمنية الواقعة بين تحتمس الثالث ١٥٠١–١٤٤٧ق.م. مرورًا بمشاهير الأسرة الثامنة عشرة: آمنحتب الثالث ١٤٠٥–١٣٦٧ق.م. وولده إخناتون ١٣٦٧–١٣٥٠ق.م. وربما حتى زمن رمسيس الثاني ١٢٩٢–١٢٢٥ق.م. وولده مرنبتاح ١٢٢٥–١٢١٥ق.م.
ولما كان الكتاب المقدس قد حدد مدة بقاء الإسرائيليين في مصر بزمن يصل إلى ٤٣٠ عامًا، فيجب أن يكون زمن الدخول إلى مصر قد حدث قبل الخروج ﺑ ٤٣٠ عامًا، مما يعني أنه لو تحدد لخروجهم زمن أيام حكم أي فرعون من الأسرة الثامنة عشرة، فيجب علينا للعثور على زمن الدخول، أن نتعمق في التاريخ قبلها بما يزيد على أربعة قرونٍ كاملة.
إلا أن وجه الإشكال الحقيقي في كل هذا، أن تزمينات التوراة نفسها يشوبها شكٌّ كبير، سواء في تقدير الزمن ما بين الخروج وحتى قيام الدولة السليمانية وهو ٤٨٠ سنة، أو زمن البقاء في مصر وهو ٤٣٠ سنة. أما مأساة أي باحث هنا فإن كليهما ضرورة أساسية لتحديد زمن الدخول والخروج، وليس لدينا أية مصادر أخرى بديلة غير التوراة بهذا الشأن.
اعلم يقينًا أن نسلك سيكون غريبًا في أرضٍ ليست لهم، ويستعبدون لهم فيذلونهم أربعمائة سنة.
والتعبير في النسخة العبرية «ودور ربيعى يشبوا هنا»، يعني أنهم في الجيل الرابع يرجعون إلى هنا، وهو ما يطابقه قول آخر بالتوراة، وهو أن بني إسرائيل عندما دخلوا مصر تناسلوا هناك لأربعة أجيال فقط، ثم خرجوا من مصر، فهي ترصد سلالة النبي موسى لتعيده إلى جده السبط لاوي شقيق السبط يوسف؛ إذ أنجب لاوي قهات، وأنجب قهات عمران، وأنجب عمران موسى، وموسى خرج بالإسرائيليين من مصر (؟!)، ويبدو أن حسبة سنوات بقائهم بمصر، قد تمت وفق قائمة أعمار هؤلاء الأشخاص الواردة بالتوراة، حيث قالت إن لاوي عاش ١٣٧ سنة، وقهات ١٣٣ سنة، وعمران/عمرام/عمران عاش ١٣٧ سنة (خروج، ٦: ١٦–٢٠)، وموسى عاش ١٢٠ سنة، فيكون المجموع ٥٢٧ سنة. وبخصم المدة التي قضاها لاوي في فلسطين قبل نزوله مصر على أخيه يوسف وهي ٥٧ سنة، ثم إضافة المدة التي عاشها موسى بعد الخروج وهي أربعون سنة؛ إذ خرج وعمره ثمانون سنة (خروج، ٧: ٧)، يصبح المجموع ٩٧ سنة، تطرح من ٥٢٧ سنة، فتكون النتيجة ٤٣٠ سنة، وهو الزمن الذي حددته التوراة المازونية لوجود الإسرائيليين بمصر.
فارتحل بنو إسرائيل من رعمسيس إلى سكوت نحو ستمائة ألف ماشٍ من الرجال عدا الأولاد.
وإذا أضفنا إلى ذلك الرقم الهائل عدد الأولاد والنساء بافتراض امرأة وطفلين لكل رجل، فسيصل الرقم إلى المليونين والنصف مليون مع التحفظ والتواضع في حساب عدد أفراد الأسر الخارجة من مصر، وهو رقم خيالي إلى حدٍّ بعيد، وربما لا يتطابق إلا مع فكرة يوسفيوس أنهم كانوا ذات عين الهكسوس، تلك الفكرة التي استبعدها علم التاريخ الحديث تمامًا.
- أولًا: يصعب كما قلنا آنفًا تصور فرعون مصري يُهدي راعيًا بدويًّا مثل إبراهيم جارية مصرية، وانتهينا إلى أن إبراهيم قد دخل مصر ضيفًا على أحلافه أو ذوي قرابته، خاصة أنه بعدما خرج من مصر نزل في طريقه إلى فلسطين ضيفًا على المملكة الفلسطينية جرار. وقد علمنا أن هذا التواجد الفلسطيني المبكر قد حدث بفعل تهجير إمبراطورية الهكسوس للشعوب التي كانت تخضع لها، ومن هنا نرجح أن يكون إبراهيم قد دخل مصر زمن حكم الهكسوس. وبحسابات الأجيال بينه وبين يوسف عبر إسحاق ثم يعقوب، يمكن ترجيح أن يكون إبراهيم قد دخل مصر زائرًا زمن ملك الهكسوس بنون، المعروف باسم سكا أو إسحاق أو الضحاك كما استنتجنا، أو ربما زمن الملك التالي له مباشرة «أبوفيس الأول/أبخنان/أبو الغنم» في أبعد تقدير.
- ثانيًا: أن يوسف عندما دخل مصر كان سلاح العجلات التي تجرها الخيل معروفًا
هناك، أو على الأقل في القصر الحاكم ومحيطه. ونحن نعلم الآن يقينًا أن
ذلك السلاح والخيل نفسها، لم تعرفهما مصر إلا مع مجيء الهكسوس إليها،
مما يعني أن يوسف قد دخل مصر زمن الهكسوس، أو بعد زمنهم حيث تكاثرت
العجلات والخيل في مصر زمن الدولة الحديثة الفرعونية. وفي التوراة نصوص
كثيرة تؤكد وجود العجلات في مصر زمن يوسف منها مثلًا:
فقال فرعون ليوسف: خذوا لكم من أرض مصر عجلات لأولادكم ونسائكم واحملوا أباكم وتعالوا، ولا تحزن عيونكم على أثاثكم؛ لأن خيرات جميع أرض مصر لكم. ففعل بنو إسرائيل هكذا، وأعطاهم يوسف عجلات بحسب أمر فرعون. فصعدوا من مصر وجاءوا إلى أرض كنعان إلى يعقوب أبيهم، وأبصر العجلات التي أرسلها يوسف لتحمله.
(تكوين، ٤٥: ١٧، ١٩، ٢١، ٢٥، ٢٧) - ثالثًا: أن يوسف تم تعيينه على خزانة المصريين بأمر فرعون الحاكم، وأنه قام إبان سنوات القحط بشراء الأراضي المصرية من أهلها لصالح الفرعون، كذلك شراء حيوانات المنزل والحقل، كذلك اشترى يوسف المصريين أنفسهم ليحولهم إلى عبيدٍ للفرعون، مما يعني نظامًا جديدًا تمامًا مخالفًا للنظام السابق، وظل معمولًا بهذا النظام الجديد فترة طويلة بعد طرد الهكسوس من مصر حتى تم الغاؤه، ونسب اليونان هذا الإلغاء إلى الفرعون المعروف عند اليونان باسم سيزوستريس، وأعاد توزيع الأراضي على الفلاحين، أي إن الحدث جميعه يجب أن يقع إبان زمن حكم الهكسوس لمصر أو بعده.
- رابعًا: أن يوسف عندما استدعى أباه وإخوته وبقية أهل بيته إلى مصر، أخذ عربته الحربية وأسرع لاستقبالهم على الحدود، وأن ذلك السفر من مقر إقامة يوسف بالقصر الحاكم إلى الحدود المصرية مع سيناء، قد استغرق يومًا واحدًا. وهو الأمر الذي يحدد لنا موقع العاصمة المصرية آنذاك؛ إذ لا بد أن تقع في تلك الحال على الأطراف الشرقية للدلتا في محيط محافظة الشرقية الحالية، في نقطةٍ ما قرب مدينة الزقازيق؛ لأننا نعلم أن عاصمة مصر زمن الدولة القديمة كانت منف، ثم انتقلت جنوبًا إلى طيبة/الأقصر/واست/زمن الدولة الوسطى، في أقصى جنوب مصر. ولم تتحول العاصمة إلى الشمال إلا مع غزو الهكسوس الذين سكنوا مدينة حواريس، على الحدود الشرقية للدلتا المصرية، حتى يمكنهم إحكام الاتصال مع بقية الإمبراطورية بالتواجد قرب خطوط المواصلات الدولية. وقد انتقلت العاصمة فور طرد الهكسوس، لتعود إلى طيبة «الأقصر» مرةً أخرى، ولم تقم مدن كبرى في الشمال بعد ذلك إلا ابتداء من زمن الرعامسة، وكانت المدينة التي أنشئُوها باسم رعمسيس قد بُنيت على تلول أطلال مدينة حواريس الهكسوسية، فقط كمقرٍّ صيفي لملوك الأسرة التاسعة عشر وليس كعاصمة. ولما كان من المستحيل زمنيًّا دخول يوسف وأهله زمن الرعامسة، فلا بد في هذه الحال أن يكون قد دخل مصر زمن الهكسوس؛ لأنه الزمن الوحيد الذي يُتيح وجود القصر الحاكم على مسافة يوم من الحدود السينائية، وفي زمن كانت مصر قد عرفت فيه العجلات التي تجرها الخيول.
- خامسًا: في الذكريات العربية القديمة التي أورد القرآن طرفًا منها، نجد
الآيات تتحدث دومًا عن ملك مصر باسم الفرعون، إلا زمن يوسف وحده فقط.
فهي تتحدث عن حاكم مصر بلفظ الملك، وتختفي تمامًا كلمة فرعون في قصة
يوسف القرآنية، وتظهر إلى جوار شخصية الملك شخصية أخرى باسم العزيز،
وهي تسمية سامية كما هو واضح، وأنه هو الذي اشترى يوسف. مما يشير إلى
أن رئيس الشرطة (العزيز) كان ساميًّا وليس مصريًّا، رغم أن التوراة
تذكره باسمٍ مصري واضح هو «فوطي فارع»، وربما تسمى رئيس الشرطة
الهكسوسي باسم مصري على عادة سادته الهكسوس، حيث حمل حكام الهكسوس
ألقابًا ملكية مصرية. إلا أن اللافت للنظر هنا تطابق اسم «عزيز» مع اسم
حاكم الهكسوس الأخير «أسيس»، مما يشير إلى بعض الخلط، وأن الأصل الصحيح
ربما كان يشير في الصيغة السامية للملك نفسه باسم العزيز. وهو ما يتفق
إلى حد التكامل مع رواية الكتاب المقدس، حيث نفهم من تلك القصة أن هناك
تغيرًا هائلًا قد حدث في الهيئة المصرية الحاكمة آخر أيام يوسف، وأن
هذا التغيير جاء بحكومةٍ لا تعرف يوسف ولا أهله، كما نفهم أن يوسف
وأهله قد تحولوا، من سادةٍ مترفين ورؤساء مقربين من القصر الحاكم، إلى
أسرى وعبيد، كما في النص:
ثم قام ملكٌ جديد على مصر لم يكن يعرف يوسف، فقال لشعبه هوذا بنو إسرائيل شعب أكثر وأعظم منا، هلم نحتال لهم لئلا ينموا، فيكون إذا حدثت حرب، أنهم ينضمون إلى أعدائنا ويحاربوننا ويصعدون من الأرض، فجعلوا عليهم رؤساء تسخير؛ لكي يذلوهم بأثقالهم، فبنوا لفرعون مدينتي مخازن فيثوم ورعمسيس.
(خروج، ١: ٨–١١)وهو الأمر الذي يشير إلى متغيرٍ عظيم، يفسر الأحداث التي سردتها التوراة وهي تفسره بدورها، حيث يمكن أن نفهم أن الحكام الجدد لم يكونوا من سكان المنطقة الشمالية، التي سكنها الملوك وأتباعهم الإسرائيليون في شرقي الدلتا، بحيث إنه لم يكن بإمكانهم معرفة قيمة يوسف وأهله. بل على العكس تمامًا، كانوا يحملون لهم ضغينة شديدة، إلى حد أنهم كانوا يشكون في ولائهم إلى حد توقع تحالفهم مع أعداء البلاد. كما أن هؤلاء الملوك الجدد كانوا حريصين على عدم ترك هؤلاء الضيوف الثقلاء يغادرون مصر، مما يعني أنهم قد أصبحوا أسرى. وكانت البلاد بحاجةٍ إلى الخدمات الرخيصة لمثل هؤلاء العبيد في بناء مدن جديدة، منها مدينة رعمسيس بالتحديد التي انتهينا إلى أنها في الأصل، كانت مقرًّا للهكسوس باسم حواريس، مما يعني أنه قد تم تدميرها في حرب التحرير، وأصبحت بحاجةٍ للإصلاح والبناء من جديد. إن ما حدث في تلك اللحظة التاريخية التي تسوقها التوراة على عجالة، يشير إلى آخر زمن لآخر ملك هكسوسي، وإلى قيام حرب التحرير وطرد الهكسوس من مصر، وأسر بعضهم ومن لحق بهم للقيام بأعمال البناء الشاقة، وهو الأمر الذي لا شك يقع زمن فرعون التحرير الملك المظفر «أحمس».
- سادسًا: بينما نفهم من القصة التوراتية أن يوسف، قد عاش في القصر الملكي
الواقع بمنطقة باسم جاسان شرقي الدلتا، وأن أهله قد اشتغلوا في مراعي
الملك المصري وضياعه، نجد الأمر يختلف تمامًا زمن الحفيد موسى. وإليك
النصوص التي توضح هذا الأمر، يقول النص حاكيًا لحظة وصول أهل يوسف إلى
مصر:
ثم جاءوا إلى أرض جاسان، فشد يوسف مركبته وصعد لاستقبال إسرائيل أبيه، إلى جاسان. ولما ظهر له وقع على عنقه، وبكى على عنقه زمانًا. ثم قال يوسف لإخوته ولبيت أبيه: أصعد وأخبر فرعون، وأقول له: إخوتي وبيت أبي الذين في أرض كنعان قد جاءوا إليَّ، والرجال رعاة غنم، فإنهم كانوا أهل مواشي، وقد جاءوا بغنمهم وبقرهم وكل ما لهم، فيكون إذا دعاكم فرعون وقال: ما صناعتكم؟ أن تقولوا: عبيدك أهل مواشي منذ صبانا إلى الآن، نحن وآباؤنا جميعًا، لكي تسكنوا في أرض جاسان؛ لأن كل راعي غنم رجس للمصريين. فأتى يوسف وأخبر فرعون وقال: أبي وإخوتي وغنمهم وبقرهم وكل ما لهم، جاءوا من أرض كنعان وهوذا هم في أرض جاسان، وأخذوا من جملة إخوته خمسة وأوقفهم أمام الفرعون، فقال فرعون لإخوته: ما صناعتكم؟ فقالوا لفرعون: عبيدك رعاة غنم وآباؤنا جميعًا، وقالوا لفرعون: جئنا لنتغرب في الأرض، إذ ليس لغنم عبيدك مرعًى؛ لأن الجوع شديد في أرض كنعان، فالآن ليسكن عبيدك في أرض جاسان، فكلم فرعون يوسف قائلًا: أبوك وإخوتك جاءوا إليك، أرض مصر قدامك، في أفضل الأرض أسكن أباك وإخوتك، ليسكنوا في أرض جاسان، وإن علمت أنه يوجد بينهم ذوو قدرة، فاجعلهم رؤساء مواشي على التي لي. فأسكن يوسف أباه وإخوته، وأعطاهم ملكًا في أرض مصر في أفضل الأرض، في أرض رعمسيس كما أمر فرعون.
(تكوين، ٤٦: ٢٨-٢٩، ٣١–٣٤، ٤٧: ١–٦، ١١)
إن كاتب هذا النص، كان يعلم أن مقر القصر الحاكم يقع في أرض جاسان، وأن المدينة الإدارية للحكم هي التي أصبحت تُعرف فيما بعد باسم مدينة «رعمسيس»، أما اللافت للنظر فهو إصرار يوسف على تنبيه أهله أن يخبروا الفرعون أنهم رعاة غنم، والغنم والماعز معًا يطلق عليها «عنز» و«معز». إن هذا الإصرار لا شك يحمل معنًى يجعل أصحاب هذا المعز، محل اطمئنان وثقة الفرعون إن علم به، وأنه إذا علم بذلك فسيسكنهم بقربه وهو ما حدث بالفعل، حيث أقطعهم أرضًا يملكونها في مقاطعة جاسان، بل وجعلهم المسئولين عن رعاية ما يملك هو من «عنز». ثم ما لا يجب أن يفوت العين الفاحصة هنا، أن جاسان هذه كان لا يسكنها مصريون حينذاك، إنما عنصرٌ آخر يكرهه المصريون، عنصرٌ بدوي عنزي؛ فقد أكدوا للفرعون أنهم أهل عنز، «لكي تسكنوا أرض جاسان؛ لأن كل راعي غنم رجس عند المصريين»، وهو ما يشير إلى تباعدٍ واضح في مواضع السكنى بين الرعاة الأنجاس وبين المصريين من أهل البلاد، كما يشير أيضًا إلى أن أرض جاسان جميعًا كانت موئلًا للرعاة، حتى تصلح لسكنى الملك وقومه ويوسف وقومه دون المصريين. لقد كان الملك بدوره من الرعاة. أما المبهر فهو أن تكون جاسان، وهي مسكن البدو المكروهين من المصريين مقرًّا للقصر الحاكم، وأن يصر يوسف على تنبيه أهله البدو إبراز صناعتهم (الرعي)؛ كي يتمكنوا من السكن قرب قصر الفرعون.
وقال «يوسف»: قدموا طعامًا، فقدموا له وحده، ولهم (إخوته) وحدهم، وللمصريين الآكلين عنده وحدهم؛ لأن المصريين لا يقدرون أن يأكلوا طعامًا مع العبرانيين؛ لأنه رجس عند المصريين.
ثم قال الرب لموسى: بكر في الصباح وقف أمام فرعون، إنه يخرج إلى الماء، وقل له هكذا: يقول الرب أطلق شعبي ليعبدوني، فإنه إن كنت لا تطلق شعبي، ها أنا أرسل عليك وعلى عبيدك وعلى شعبك وعلى بيوتك الذبان، فتمتلئ بيوت المصريين ذبانًا، وأيضًا الأرض التي هم عليها، ولكن أميز في ذلك اليوم أرض جاسان حيث شعبي مقيم، حتى لا يكون هناك ذبان، لكي تعلم أني أنا الرب في الأرض، وأجعل فرقًا بين شعبي وشعبك. غدًا تكون هذه الآية، ففعل الرب هكذا، فدخلت ذبان كثيرة إلى بيوت فرعون وبيوت عبيده وفي كل أرض مصر، خربت الأرض من الذبان.
ثم قال الرب لموسى: مد يدك نحو السماء ليكون برد، في كل أرض مصر، على الناس وعلى البهائم وعلى كل عشب الحقل في أرض مصر، فمد موسى عصاه نحو السماء فأعطى الرب رعودًا وبردًا، وجرت نار على الأرض، وأمطر الرب بردًا على أرض مصر، فكان برد ونار متواصلة في وسط البرد، شيءٌ عظيم جدًّا لم يكن مثله في كل أرض مصر منذ صارت أمه، فضرب البرد في كل أرض مصر، جميع ما في الحقل من الناس والبهائم، وضرب البرد جميع عشب الحقل، وكسر جميع شجر الحقل، إلا أرض جاسان، حيث كان بنو إسرائيل، فلم يكن فيها برد.
ثم قال الرب لموسى: مد يدك نحو السماء ليكون ظلام على أرض مصر، حتى يُلمس الظلام، فمد موسى يده نحو السماء، فكان ظلام دامس في كل أرض مصر ثلاثة أيام، لم يبصر أحد أخاه ولا قام أحد من مكانه ثلاثة أيام، ولكن جميع بني إسرائيل كان لهم نور في مساكنهم.
وهذا بالطبع لا يعني وقوع تلك الضربات التوراتية الإعجازية، وجل ما يعنيه أن الكاتب التوراتي والذاكرة الحافظة، كانت تعلم أن البلاط المصري قد انتقل من رعمسيس جاسان إلى العمق المصري.
وإعمالًا لكل هذا، فإن إشارات التوراة التي تؤكد أن يوسف قد دخل هو وآله إلى مصر، وسكنوا رعمسيس بأرض جاسان إلى جوار قصر الفرعون، فإن ذات الإشارات تؤكد أن هذا الوضع قد تغير آخر أيام يوسف، وما تلاه من سنين حتى زمن موسى، حيث انتقل القصر المالك ليكون وسط المصريين، وبعيدًا عن الإسرائيليين، وتحيق به الضربات التي كان ينزلها رب إسرائيل بالمصريين، بينما لا تصيب إلا الإسرائيليين. مما يعني أن كاتب تلك الأسطورة، كان يعلم أن القصر الملكي حينذاك، قد كان في عمق الأراضي المصرية، بعيدًا عن جاسان التي لم تلحقها تلك الضربات. إن الأمر يشي بكل وضوح أن يوسف وآله قد دخلوا مصر على سادتها آنذاك من الهكسوس، وكان ذلك تحديدًا زمن آخر ملك هكسوسي هو أسيس، وهو ما يلتقي بلقبه القرآني العزيز، الملقب مصريًّا باللقب أبوفيس أي الحية التنين، وكانت عاصمته حواريس عند الشرقية في أرض جاسان أو غسان. وبمجرد أن ينتهي عصر أسيس، حتى يظهر لنا في التوراة ملوك، بل وحكومة بل واتجاه عام جديد تمامًا، يتحول معه يوسف وأهله من أصحاب ضياعٍ ورئاسة مكرمين، إلى عبيدٍ في الأعمال الشاقة مسخرين. وتنتقل العاصمة مع هذا التحول بعيدًا إلى طيبة جنوب مصر مرة أخرى.
لكن يبقى أمر لا يصح المرور عليه هكذا، دون وقفة تحاول فهم تفصيلات ما حدث، وهو قصة السنوات السبع العجاف. ومعلوم يقينًا أن النيل أبدًا لا يسير على الوتيرة، التي صورتها القصة التوراتية، فهو لا يستمر سنواتٍ سبعًا دون فيضان أبدًا، لكننا نعلم يقينًا أن قصة السنوات العجاف، كانت تنتشر في البلاد الفلسطينية والشامية عمومًا، حيث كان بالإمكان حدوث متغيرات مناخية، تؤدي إلى ندرة الأمطار لسنواتٍ متتابعة. أما النيل فلم يحدث أن جاء منخفضًا إلى حد المجاعة، لعددٍ من السنوات المتتالية المحددة بالرقم المقدس عند الساميين «سبعة».
فماذا يعني بالجائحة الشنعاء؟ ليس لدينا أي خبر عنها سوى تلك العبارة، لكن التاريخ المقدس يمكنه أن يفسر لنا تلك الجائحة الشنعاء، التي حدثت في منطقة العامو/الهكسوس. فلا شك أنها كانت تعني ذلك الجفاف الذي سمي «سنوات سبع عجاف». لكن التلميذ وهو يكتب موضوعه الاختباري، كان حريصًا على الحصول على درجاتٍ متميزة؛ لذلك لم تفته بعض دقائق الموقف، فأكد أن تلك الجائحة كانت في بلد العامو «حواريس»، حيث يحكم أبوفيس، بينما لم تنل من المصريين المتحصنين عند طيبة بقيادة سقنن رع شيئًا. فكيف نفسر جفافًا في الشمال وخصبًا رغيدًا في الجنوب؟
أقم سدًّا ضد نصف البلاد، واغمر النصف الثاني بالمياه، بما في ذلك مدينة أتريب.
ثم نجد هيرودوت يحكي لنا عن ذلك الأسلوب في تحويل مجرى نهر النيل، في زمن فرعونٍ آخر لكن لأسبابٍ أخرى، فيقول:
«كامس» هنا يضيء أمامنا تفسيرًا موضوعيًّا تمامًا للسنوات العجاف في الشمال. لقد كان هو نموذج «مينا» في قصة «هيرودوت»، أو أنه كرر ما فعله سلفه العظيم، ليمنع الهكسوس حتى من استخدام السفن النيلية، وأنها لن تتمكن من الوصول من حواريس في شرق الدلتا إلى منف «لن أجعله يمر في ماء مصر حتى منف.» لقد سد الفرعون نيل مصر من الجنوب، وكان منع الماء جائحة شنعاء متعددة الوجوه، فهو إذا كان سيؤدي إلى مجاعةٍ في الشمال، فإنه سيعوق هبوط سفن الهكسوس العسكرية جنوبًا، وكان أحدث استخدام مصري للنيل في العمل العسكري في حملة الملك لويس الصليبية، حيث تمت هزيمتُه وأسْرُه في المنصورة.
وبدراسة «همفرس» أمكن تحديد زمن البركان الذي حدث في جزيرة أثيرا حوالي عام ١٦٢٨ق.م. وامتد أثره سبع سنوات، أي إنه انتهى حوالي عام ١٦٢١ق.م. وبالحسابات ستجد أن تقديرات البروفيسور «همفرس» ستلقي بنا إلى آخر أيام الهكسوس في مصر. وهو ما يعني أن شمال مصر في ذلك الحين (الدلتا)، قد أصابها من ذلك البركان نصيب عظيم، أدى إلى كارثةٍ زراعية كبرى. فإذا كان ما قاله «همفرس» قد حدث بالفعل، فإن «سقنن رع» قد استثمر ذلك استثمارًا عظيمًا بتحويل مجرى النهر، لتصبح الجائحة «شنعاء» بالفعل. أما أن يقوم المصريون جنوبًا بسد مجرى النيل وتحويله، فكان أمرًا لا يمكن إخفاؤه، وقد شعر به الهكسوس، وعرف «أسيس/عزيز» بما يحدث، ذلك الحدث الذي جاء ترميزًا في أسطورة حلم البقرات والسنابل السبع، لقد عرف ما يحدث جنوبًا، وأراد معالجة الأمر بمحاولة تخزين الحبوب للسنوات العجاف المقبلة.
هذا ما كان عن محاولتنا تزمين الدخول الإسرائيلي إلى مصر بزمن الهكسوس، أو بالأحرى زمن آخر ملوك الهكسوس عليها الملك «أسيس» … فماذا عن الخروج؟
لو أخذنا بالتقديرات الحسابية التي قام بها فريق البحث الإنجليزي بقيادة البروفيسور كولن همفرس، والذي انتهى إلى توقيت بداية السنوات العجاف السبع بحوالي عام ١٦٢٨ق.م. مما يعني أن نهايتها كانت حوالي عام ١٦٢١ق.م. وهو زمن قريب جدًّا من بداية حكم أحمس فرعون التحرير، ومؤسس الأسرة الثامنة عشرة والدولة الحديثة دولة الإمبراطورية، حيث حكم حوالي ١٥٨٠ق.م. بفارق أربعين عامًا فقط عن تقديرات هفمرس لسنوات العجف، مما يشير حسب خطتنا إلى أن تلك السنوات كانت آخر سنى الهكسوس بمصر، وربما كانت أربعون عامًا رقمًا كبيرًا بعض الشيء؛ فالحسابات لن تكون بمنتهى الدقة. وربما كان الفارق أقل من ذلك، وهو الزمن الذي استغرقته حرب التحرير. مرة أخرى، لو أخذنا بذلك التقدير ١٦٢١ق.م. لبداية حرب التحرير حسب فروضنا، وأن الأمور استقرت بطرد الهكسوس ونهاية الأسرة السابعة عشرة وبداية حكم الأسرة الثامنة عشرة المستقرة — خلال عشر سنوات مثلًا — أي حوالي عام ١٦١١ق.م. وكفرض تجريبي لمحاولة تزمين خروج بني إسرائيل من مصر، الذين تم أسرهم في مصر بعد طرد الهكسوس، سنقوم بطرح ٤٣٠ سنة، وهو الزمن الذي حددته التوراة المازورية العبرية العربية لبقاء بني إسرائيل بمصر، من ١٦١١ق.م. فتعطينا زمن ١١٨١ق.م. وهو زمن حكم رمسيس الثالث الذي حكم ١١٩٨–١١٦٧ق.م.
وهي كما يرى قارئنا نتيجة خاطئة تمامًا، حيث كان الإسرائيليون حينذاك بفلسطين مستقرين فيها فعلًا، إضافة إلى أنه لن يبقى لقيام مملكة سليمان سوى حوالي مائتي عام فقط، وهو ما يخالف تقرير التوراة حول الزمن الذي انصرم ما بين الخروج وبين بناء سليمان للهيكل، وهو ٤٨٠ سنة كاملة، ولو حسبنا تلك المدة خصمًا من عام ١١٨١ق.م. فسيكون الهيكل قد بُني حوالي عام ٧٠٠ق.م. وهو ما يخالف الزمن المفترض لحكم سليمان مخالفة شديدة، حيث اتفق على أنه كان زمن حكم الفرعون شيشنق الأول الذي حكم ٩٤٥–٩٢٤ق.م.
ولو افترضنا أن هناك خطأً في تزمين التوراة المازورية، وأخذنا بتزمين التوراة السبعونية لمدة بقاء بني إسرائيل بمصر، وهو ٢١٥ عامًا، وأعدنا الحسابات مرةً أخرى بطرح ٢١٥ عامًا من ١٦١١ق.م. فسيعطينا عام ١٣٩٦ق.م. وهو زمن حكم الفرعون آمنحتب الثالث الذي حكم ١٤٠٥–١٣٦٧ق.م.
ونتذكر الآن ما سجله يوسفيوس نقلًا عن العبقري المصري «مانيتو»، الذي حدد لنا زمن الخروج أيام فرعون باسم آمنوفيس/آمنحتب، دون أن يحدد لنا أي آمنحتب، خاصةً أننا نعلم أن ابن آمنحتب الثالث المعروف باسم إخناتون، كان يحمل اسم آمنحتب الرابع، وتتطابق معه إلى حدٍّ مدهش صفات فرعون الخروج أمنوفيس، آمنحتب التي دونها لنا «يوسفيوس» نقلًا عن «مانيتو»؛ فهو رجل لا يحب الحرب ويعتبرها عملًا ضد الآلهة. وكانت تلك بالضبط جزءًا أساسيًّا في العقيدة الآتونية الجديدة التي جاء بها «إخناتون»، وقد رفض الاستجابة لرسائل الاستغاثة، التي تأتيه من ولاته في أملاك مصر بآسيا، إعمالًا لذلك المبدأ، حتى أضاع الإمبراطورية التي بناها أجداده. وإذا وضح الآن ميلنا إلى تزمين المؤرخ المصري الفذ «مانيتو» لخروج الإسرائيليين من مصر، فسوف تواجهنا هنا عدة عقبات، لعل أهمها تزمين التوراة المازورية للبقاء في مصر بمدةٍ زمنية، هي الضعف بالضبط للمدة التي رصدتها السبعونية، حيث قالت: إن البقاء بمصر استمر ٤٣٠ عامًا، بينما أكدت السبعونية من جانبها أن هذا البقاء لم يزِدْ عن ٢١٥ عامًا، ومن ثم يحق للقارئ هنا أن يذهب بظنونه فينا مذهبًا بعيدًا يسلبنا العلمية، وهو يرانا ننتقي رأيًا ونستبعد آخر دون إبداء أسباب واضحة لذلك، لكن الطريف في أمرنا هنا أننا إطلاقًا لن نستبعد رأيًا، بل سنأخذ بكلا التزمينين المازوري والسبعوني رغم تضاربهما، حيث هذا التضارب فيما كشفنا، كان تسجيلًا حقيقيًّا لواقعٍ قد حدث فعلًا.
لقد كان الزمن الذي ساقته التوراة المازورية مثار انتقادات كثيرة من جانب، ومحاولات تلفيق توفيقية من جانبٍ آخر، حيث لا يمكن تصور أن يستغرق أربعة أجيال من الإسرائيليين في مصر هذا الزمن الطويل، ناهيك عن أن كل منهم يكون قد أنجب ولده في اليوم الأخير من حياته، الطويلة جدًّا؛ قياسًا على الأعمار المفترضة لبني الإنسان. ثم إننا لو أخذنا بهذا التزمين جدلًا مع غض النظر عن عدد الأجيال، وافترضنا أن زمن الخروج كان آخر أيام حكم إخناتون/آمنحتب الرابع في تل العمارنة، أو بعد سقوطه بحوالي عشر سنوات ١٣٤٠ق.م. ثم أضفنا ٤٣٠ عامًا، وهو تزمين التوراة المازورية لبقاء الإسرائيليين بمصر؛ فسيكون زمن الدخول هو عام ١٧٧٠ق.م. لكن المفاجأة هنا في كون هذا التاريخ كان تاريخ دخول جافل الهكسوس إلى بلاد مصر القديمة واحتلالها، بالتحديد والتدقيق المبين دون فارق أو خطأ ولو بنسبةٍ واحدة، فموسوعة تاريخ العالم (ج١، ص٤٨) تبدأ تاريخ احتلال الهكسوس لمصر ١٧٨٨–١٥٥٠ق.م. وتطلق عليه عصر الاغتصاب.
هنا بالضبط ما نقصده. لقد جمعت التوراة المازورية زمن بقاء الهكسوس بمصر، وهو بهذه الحسابات ٢١٥ سنة، مضافًا إليه استمرار القبائل الإسرائيلية بمصر، الذين لحقوا بهم آخر أيام حكمهم ٢١٥ عامًا أخرى؛ ليكون مجموع السنوات ٤٣٠ عامًا. أما التوراة السبعونية، فقد استبعدت سني بقاء الهكسوس بمصر ٢١٥ سنة، وسجلت فقط زمن بقاء بني إسرائيل هناك ٢١٥ سنة، لكن يبقى التساؤل: لماذا دونت المازورية وسجلت مدة بقاء الهكسوس بمصر، مضافة إلى سني الإسرائيليين فيها؟ هل كان الكاتب على رأي يوسفيوس يرى أن الإسرائيليين هم ذات الهكسوس، أم أن هناك أسبابًا أخرى خفية تحتاج جهدًا آخر للكشف عنها؟
هذا ما سنحاول الإجابة عليه الآن.