الفصل التاسع
قاطعو الرقاب
معلومٌ أن اصطلاح «سامي» أو «ساميين»، تسمية قد وضعها على أساسٍ توراتي «شلتوتزر»
سنة
١٧٨١م، وانتشرت من بعده بعد أن قسم أجناس البشر حسب التوراة إلى: ساميين وحاميين
ويافثيين؛ نسبةً إلى أبناء نوح: سام وحام ويافث. وأصحاب هذا التقسيم يذهبون إلى أن سام
قد أنجب العبريين والعرب، الذين يسكنون بوادي الجزيرة والشام وسيناء، وأن حامًا قد أنجب
المصريين والزنج الكوشيين الساكنين أفريقيا. وللعجب تمت إضافة الكنعانيين الشاميين، إلى
بني حام في شجرة الأنساب التوراتية، رغم أنهم ليسوا أفارقة بل من سكان فلسطين الآسيوية،
لكن يبدو أن التوراة كانت تدون ذلك بما لديها من ذكريات، زمن كانت فيه بلاد كنعان تتبع
مصر سياسيًّا، فاحتسبت الكنعانيين مصريين. هذا بينما أنجب يافث الهندوآريين وضمنهم
الترك والصقالبة واليونان وأوروبا. وقد عُني علماء الساميات باصطلاح اللغة السامية،
مجموعة لغات شقيقة هي: العبرية والفينيقية والآرامية والبابلية والآشورية، والعربية
والحبشية الجعزية والأمهرية.
وقد سبق وعرضنا للفريق الذي يعيد أصول الساميين إلى جزيرة العرب، عندما كانت جنات
وارفة تزخر بالأنهار. وعلمنا أن مشكلة هذه النظرية التي تجعلها مستعصية القبول، هو أنها
تعود بنا إلى أحداثٍ وقعت إبان نهاية العصر الجليدي الأخير، لتفسر لنا بها حضارات في
أطراف شبه الجزيرة الشمالية في الألف الثالث والثاني قبل الميلاد.
بينما علمنا أن هناك فريقًا آخر يذهب إلى الاتجاه المعاكس تمامًا، فيأتي بالساميين
مع
الهندوآريين من بلاد أرمينيا القديمة، دون تبريرٍ واضح للخلاف اللغوي والجنسي، لشعبين
ينطلقان من مكانٍ واحد في اتجاه هجرة واحد، ليستقروا في مكانٍ واحد، ويستمد هذا الرأي
رؤيته من سفر التكوين التوراتي، الذي ينسب الشعوب السامية إلى أرفكشاد Arpachsad، أو أربكسد بن سام بن نوح (تكوين، ١٠: ٢٢–٢٤
و١١: ١٢).
حيث لُوحظ أن هذا الاسم هو بالضبط الاسم التاريخي لمنطقة «أرابكست»، أو آرابا – خيتيس
Arrapa Chitis التي تسمى الآن «البك»،
١ ولعله من الواضح أن الكلمة هي أيضًا عرابة خيتيس، ولو أخذنا بهذا الشكل
اكتسب الاسم معنى واضحًا، هو العرب الحيثية أو الكاسية أو العرب الكاسيين أو القيسيين،
ويكون هؤلاء حسب نظريتنا، هم من منحوا وادي
Arrapa عند
العقبة اسمه عندما جاءوه مهاجرين. والتوراة تشرح لنا أن هناك قومًا قد تعرضوا لكارثةٍ
طبيعية، مرموزًا لها بأسطورة «طوفان نوح»، اضطروا معها إلى الهجرة على فلكٍ أسطوري من
مكانٍ ما في الشرق، معبرةً بذلك الترميز عن وطنٍ أول بعيد، هو برأينا براري أواسط آسيا
شمالي الهند، ثم تقول الأسطورة ترميزًا للهجرة الأولى: إن السفينة ألقت مراسيها عند
المحطة الأولى لأولئك المهاجرين على جبال أرارات، الموجودة الآن بذات الاسم قرب بحيرة
فان، في بلاد أرمينا إلى الشمال من العراق في محيط بحر قزوين، ومن هناك انطلقت أجيال
جديدة من البشرية، تفرقت أجناسًا في أنحاء العالم الشرق أوسطي المعروف آنذاك، والتوراة
تؤكد:
واستقر الفلك في الشهر السابع في اليوم
السابع عشر من الشهر على جبال أراراط.
(تكوين، ٨: ٤)
وهنا يلفت «جودي» نظرنا إلى أن الساميين، ليس لديهم اسم مشترك للجبل، لكن لديهم اسم
مشترك للنهر، ويستنتج من ذلك أنهم كانوا في الأصل أهل زرع، يعيشون معًا قرب الأنهار في
مناطق ليست جبلية أو صحراوية،
٢ وهو يريد بذلك تأكيد الأصل التوراتي الأراراتي الأرميني للساميين، كما هو
في الوقت ذاته أصل الهندوآريين.
لكن الدكتور لويس عوض من جهته، لا يعير اهتمامًا لحديث جويدي، عن الأصول الزراعية
للساميين القادمين من أرمينيا. ولأن الساميين عمومًا كانوا من البدو الرعاة، فقد قام
يوجز أبحاثًا كثيرة لذوي التخصص، تدعم ذلك الرأي فيقول: «ظلت القوقاز وميديا (شمالي
إيران [المؤلف])، وعامة منطقة بحر قزوين، حتى العصور التاريخية الحديثة نسبيًّا
١٠٠٠–٥٠٠ق.م. مجتمعات رعاة في المقام الأول، رغم معرفتها بالزراعة ورغم الاستقرار
الزراعي في أحواض أنهار الهند، كما نستخلص في كتب إيران المقدسة، ولا سيما الأفستا
Aveasta والجاثا والأوبانيشاد
upanishads، حيث نشم رائحة أبقار الرعي وجيادها وأعشابها الغالبة في
كل سفر من أسفارها.»
٣
ولأننا نعتقد — كما وضح — بهجرةٍ قادمة من أرمينيا، هي الهجرة الآرامية، لكنا نراها
محض هندوآرية؛ ولأننا نراها هجرة لقومٍ من البدو وليسوا زراعيين، فقد ذهبنا نبحث عن
تفسيرٍ لقوم رعاة رُحَّل، عاشوا في مناطق زراعية خصبة، فعثرنا عند المؤرخين الكلاسيك
على ذات المشكلة تواجههم وتؤرقهم، فقد لفتت نظرهم ظاهرة شعوب مرتحلة، تسلك مسلك النظام
البدوي الرعوي، رغم معيشتها حول أنهار ومناطق خصيبة، فساقوا لتفسير ذلك ألوانًا طريفة
من الافتراضات، مثلما جاء عند «يفستافي» محدثًا عن قبائل تعيش في مناطق الأنهار حول بحر
قزوين، تحمل اسم سكيث أو سكاث أو سكيذ، فالاسم غير منضبط على لفظٍ ونطقٍ واحد صارم في
الكتابات القديمة، لكنه يدور حول ذات التنغيم، فيقول «يفستافي»:
يُروى أن سكيث كانوا في السابق يأكلون الخبز، ويزرعون الأرض ويعيشون في
المنازل ويملكون المدن، إلا أنهم بعد الهزيمة التي ألحقها بهم الفراكيون، بدلوا
نمط حياتهم، وأقسموا قسمًا لا رجعة فيه، ألا يقوموا أبدًا ببناء المنازل، ولا
بزراعة الأرض ولا تشييد المدن، ولا امتلاك الأشياء الثمينة. إنما جعلوا من
عرباتهم مأوًى لهم، ومن الحيوانات طعامًا لهم ومن اللبن مشربًا لهم، وألا
يمتلكوا من القطيع سوى ذلك القدر، الذي يسمح لهم باصطحابه من بلد إلى آخر، منذ
ذلك الحين تحولوا من مزارعين إلى رُحَّل.
٤
ولكن مع متابعة البحث يمكننا العثور على تفسيرٍ علمي لهذا الأمر، ويتحدث عن تحول شعوب
زراعية إلى بدوية مرتحلة، في أكثر من منطقة بالعالم القديم، خلال العصر البرونزي القديم
الرابع، ثم بعد ذلك خلال العصر البرونزي الوسيط الأول، ويشرح ذلك «توماس طومسون» بقوله:
«حوالي ٢٤٠٠–٢٣٥٠ق.م. انتهت فجأة المرحلة القليلة الأمطار، التي سادت العصر النحاسي
البرونزي القديم، وتلتها فترة جفاف ارتفعت فيها درجات الحرارة تدريجيًّا، ودامت حتى
١٩٥٠ق.م. تقريبًا، فقصرت فصول الشتاء وطالت فصول الصيف الحارة، وانخفض منسوب المياه،
وقلَّت الأمطار، وفي مصر أدت عدم كفاية فيضانات النيل إلى انهيارٍ زراعي بحجم كارثي،
وهُجرت مواقع عديدة في العصر البرونزي القديم، مع وجود مؤشرات إلى عدم القدرة على زراعة
الأشجار المثمرة، والتركيز على زراعة الحبوب والرعي.» ولأن طومسون ركز حديثه على منطقة
شرقي المتوسط، فنحن نتخذها نموذجًا ومقياسًا، لما حدث في براري آسيا ثم محيط قزوين، فهو
يقول: «على أطراف المناطق الزراعية، وخاصة في منطقة السهوب السورية، ظهر تزايد في الرعي
مع زراعة بعض الحبوب. وتشير وثائق مسمارية عديدة من وادي الرافدين، إلى تحولٍ تدريجي
في
هذه المنطقة. ويبدو أن أطراف المناطق الزراعية في المرتفعات لا سيما في يهوذا، قد تخلت
عن الزراعة المستقرة/كما يبدو أن مثل ذلك قد حصل أيضًا، على طول الساحل الجنوبي
للمتوسط، وفي بئر سبع وحوض عراد. وتحولت معظم منحدرات النقب الأوسط/خلال العصر البرونزي
القديم الرابع والبرونزي الوسيط الأول، إلى الرعي الموسمي مع بعض الزراعة المستقرة، مما
يشير إلى انهيارٍ جزئي كبير، أرغم المستوطنين على هجر المنحدرات، والتركيز على زراعة
الحبوب والرعي.»
ثم يشرح «طومسون» فترات الانتقال بين العصور في تقسيمها إلى ثلاث فتراتٍ، هي كالتالي:
«(١) الفترة الواقعة بين العصر الحجري الحديث والغزوني أو النحاسي المتأخر
٥٠٠٠–٣٥٠٠ق.م. (٢) فترة العصر البرونزي القديم الرابع والبرونزي الوسيط الأول، من نهاية
البرونزي القديم إلى بداية العصر البرونزي الوسيط حوالي ٢٤٠٠–١٩٥٠ق.م. (٣) الانتقال من
العصر البرونزي الأخير الثاني، إلى العصر الحديدي في القرن الثالث عشر إلى القرن العاشر.»
٥
وهكذا تفسر لنا هذه القراءة كيف تحولت مناطق كثيرة من المعمور على خطوط المدارين،
مما
دعى إلى مجيء بَدْو رعاة من مناطق خصيبة، والذين زعمناهم آراميين هندوآريين، وهم لا شك
فصيلٌ من تلك القبائل المتبدية الهائلة، المعروفة باسم سكيث أو سكاث، ناهيك عن كون
تزايد الرعي المفاجئ في محيط بادية الشام وفلسطين، يدعم قولنا في زيادة عدد الرعاة في
المنطقة بمجيء المهاجرين والرعاة إليها.
ويعلن لويس عوض إيمانه بنظرية الكتاب المقدس، التي تأتي بالساميين مع الهندوآريين
اليافتيين من محيط قزوين في قوله: «والمخزن البشري العظيم الذي خرج منه عديد من أقوام
منطقة الشرق الأوسط القديم، منذ الألف الثالث ق.م. كان المنطقة المحيطة ببحر قزوين من
ميديا عبر جبال القوقاز حتى البحر الأسود. وقد دلت الأبحاث التاريخية والأثرية على أن
حضارة سومر
Sumer في جنوب العراق — وهي أقدم حضارة
معروفة في بلاد الرافدين — وأن اللغة السومرية هي لغة ميدية سيكيذية
Medo-Scythis، وهذا يشير إلى موجاتٍ بشرية خرجت في أوائل الألف
الثالث ق.م. من مراعي ميديا
Medea في شمال إيران
المتاخم لبحر قزوين، ومن مراعي سيكيذيا
Scythia في
القوقاز، ومن مراعي سيميريا
Cimmeria حول البحر
الأسود. واستقرت هذه الموجات في بلاد ما بين النهرين، وأعطتها لغتها الهندوأوروبية،
وربما أعطتها اسم سومر من اسم سيمريا. وعند كونتو
Conteneau أن النموذج البشري السومي، كان سائدًا أيضًا بين البروتوحيثيين
Proto-Hittites في آسيا الصغرى (يفترض العلماء
أن عنصر البروثوحيثيين قد سبق الحيثيين في الأناضول [المؤلف])، والحوريين
Hurrians في شمال آشور وغربها، وبين عامة السكان من
القوقاز حتى عيلام
Elam شرقي الخليج الفارسي. وهو
يصنفهم أنثروبولوجيًّا بأنهم لا هندوأوروبيون ولا ساميون، وإنما من النموذج الأرمنويد
Armenoid»،
٦ أي النموذج الشبيه بالأرمني.» وهو النموذج الذي قررنا نحن من جهتنا أنه
الآرامي الأرميني.
وهكذا يشرح لنا «لويس عوض» أن أقوام مراعي مناطق ميديا شمالي إيران وسكيذيا في
القوقاز، قد هبطوا منطقتنا في هجراتٍ متتابعة، كان أولها هجرة السومريين الذين أسسوا
الحضارة السومرية الهندوآرية في الرافدين القديم، قبل ظهور الساميين الذين تسللوا هناك
وامتلكوا البلاد، وأسسوا الدولة الأكادية الواضحة السامية. وإن بين أعضاء هذه الهجرة
المبكرة كان سكان الأناضول القبل حيثيين. وقد احتسب العلماء هؤلاء البروتوحيثيين كانوا
سكان الأناضول بذات الاسم، لكن من حضارةٍ سابقة على الحيثيين في فرضيةٍ غير ذات معنًى،
بعد أن ثبت لنا الآن أن الحيثيين كانوا فصيلًا من الإسكيثيين كذلك البروتوحيثيين كذلك
الحوريين، الذين رأيناهم ينحدرون جنوبًا ليسكنوا وادي عربة في آدوم الحورية وفي محيطها
ببوادي الشام وسيناء.
ويتابع «لويس عوض» شروحاته قائلًا: «من الثابت أن القبائل الآسية/الآسيانتك
Asianiques المنحدرة إلى الهلال الخصيب من القوقاز،
وما حول بحر قزوين والبحر الأسود، ومن منطقة الأناضول ومن هضبة إيران، أيًّا كان منبعها
وأيًّا كان تكوينها الأنثروبولوجي، كانت تتكلم لغة ميدية سكيذية، وهي إحدى فروع
المجموعة الهندوأوروبية، وربما تكون موجات منها قد نزلت في شبه الجزيرة، كما نزلت موجات
منها في الهلال الخصيب. وفي هذه الحالة ليس هناك ما يمنع أن تكون الشعوب الملقبة
بالسامية سواء في الهلال الخصيب أو في شبه الجزيرة، هي في حقيقتها موجات متعاقبة من
عصورٍ متعاقبة، ومن مواقع متباينة من هذه المجموعة الآسية.»
٧
ثم يلقي «عوض» بالأهم فيقول: «فبنو إسرائيل إذن منذ خروجهم من مهد إبراهيم في العراق
نحو ١٨٠٠ق.م. حتى عودتهم من مصر إلى فلسطين، ينتمون لغويًّا وسلاليًّا إلى مجموعة
الأقوام القوقازية، التي أخذت تتدفق على منطقة الشرق القديم منذ بداية الألف الثالث
ق.م. على أقل تقدير، وعرفت بدايتها التاريخية بحضارة سومر.»
٨
وهنا نعود إلى كتابنا «النبي إبراهيم والتاريخ المجهول»، نقتطع منه فقرات شديدة
التواصل مع ما يقول عوض هنا؛ حيث كنا نبحث عن مدينة «أور الكلدانيين»، التي أشارت إليها
التوراة كموطنٍ أول للقبيلة الإبراهيمية، التي هاجرت من هناك إلى حاران في داخل الحدود
التركية الحالية، لتعود هابطةً لتستقر في أرض كنعان/فلسطين، أو كما تقول التوراة: إن
إبرام/إبراهيم كان ابن تارح بن ناحور بن سروج بن رعو بن فالج بن شالح بن أرفكشاد بن سام
بن نوح، وأن هجرة هذه القبيلة حدثت كالتالي:
وأخذ تارح إبرام ابنه، ولوطًا بن هاران ابن ابنه، وساراي كنته امرأة إبرام
ابنه، فخرجوا جميعًا من أور الكلدانيين ليذهبوا إلى أرض كنعان، فأتوا إلى حاران
وأقاموا هناك، ومات تارح في حاران.
(تكوين، ١١: ٣٢، ٣١)
وعلى الشاطئ الغربي للفرات في أقصى جنوب الوادي عند رأس الخليج العربي، تم الكشف عن
مدينة باسم «أور»، لكن علم التاريخ لا يخصصها بأنها «أور الكلدانيين» الذين حكموا
العراق ما بين ٦٢٥ و٥٣٨ق.م. فقط؛ لأن «أور» كانت مدينة شديدة العراقة قبل زمن
الكلدانيين بأزمنةٍ طويلة؛ ولأنها كانت حاضرة ذات شأن، أسسها السومريون الهندو آريون،
وكانت موجودة في موضعها هذا تتقلب عليها الدول منذ منتصف الألف الرابع قبل
الميلاد.
وإذا كانت الهجرة من «أور» التاريخية هذه، إلى كنعان في الغرب منها عبر بادية الشام،
لا تحتاج إلى أكثر من أسبوع سفر بدوابَّ كسولة. فإن رحلة القبيلة الإبراهيمية لم تتجه
فورًا إلى كنعان، بل ضربت شمالًا من مدينة أور في أقصى جنوب الوادي، حتى وصلت حاران
داخل الحدود التركية، لتقيم هناك زمانًا ترحل بعده إلى كنعان، لتصلها بعد مضي خمسة عشر
عامًا من خروجها من أور.
ثم تظهر لنا حاران بعد ذلك في التوراة، كما لو كانت هي الموطن الأول للقبيلة
الإبراهيمية وليس أور، وحول حاران تقول التوراة:
فأتوا حاران وأقاموا هناك، ومات تارح في حاران. وقال الرب لإبرام: اذهب من
أرضك وعشيرتك وبيت أبيك إلى الأرض التي أريك. فأجعلك أمة عظيمة وأباركك وأعظم
اسمك وتكون بركة، فأخذ إبرام ساري امرأته ولوطًا ابن أخيه، وكل مقتنياتهما التي
اقتنيا، والنفوس التي امتلكا في حاران، وخرجوا ليذهبوا إلى أرض كنعان.
(تكوين، ١١: ٣١، ٣٢ و١٢: ١، ٥، ٢)
والملاحظة هنا أن التوراة باتت تشير إلى حاران باعتبارها أرض عشيرة إبراهيم، رغم
قولها قبل ذلك بمدينة «أور»، كموطنٍ أول لتلك العشيرة. وهو ما دفعنا دفعًا إلى محاولةٍ
للبحث عن الموطن الأول للعشيرة الإبراهيمية، ووضعها موضع البحث للتفسير والفهم،
وتيسيرًا للأمر نجمل المشكلة في موجزٍ سريع يحدد سماتها بوضوح.
التوراة تقول إن الرَّكْب الإبراهيمي المهاجر، قد خرج من أور الكلدانيين على الشاطئ
الجنوبي الأقصى لنهر الفرات، قاصدًا أرض كنعان الفلسطينية، وهو ما يعني أن الموطن
الأصلي للعشيرة الإبراهيمية كان جنوبي العراق، وتقع مباشرة إلى الشرق من كنعان، تفصلهما
بادية الشام، لكن الركب — دونما سبب واضح — يتحول شمالًا ويستمر يضرب مسافاتٍ وبلدانًا
ومواطن، ويتجاوزها جميعًا حتى يصل إلى حاران داخل الحدود التركية الآن. وهنا لا مندوحة
من التساؤل: لماذا التحول عن الطريق القصير المباشر إلى كنعان، وتجشم مصاعب مضاعفة
للوصول إليها عن طريق حاران. والأهم أن حاران تبدو في رواية التوراة، كما لو كانت محطة
ترانزيت، معروفة على الطريق من أور إلى كنعان، رغم وقوعها في أقصى الشمال بعيدًا عن
الطريق بمسافاتٍ شاسعة. والغريب في أمر التوراة أنها بعد أن ذكرت «أور الكلدانيين»
نسيتها تمامًا، واستمرت تضرب وتكرر وتزيد على الأصل الآرامي الحاراني، ولم تملَّ تأكيد
أن إبراهيم كان «آراميًّا تائهًا (تثنية، ٢٦: ٥).»
وهنا افترضت من جانبي أن حاران التوراتية، لم يقصد بها مدينة محددة بعينها، قدر ما
قصدت بها التوراة موطن الهجرات الأول للحوريين، ذلك الموطن الذي يضم عددًا من الدويلات
الآرامية، كانت التوراة على صلةٍ بها طوال الوقت، وربطت التوراة إبرام وأسرته بها. وهو
الأمر الذي يشير إلى المحطة الكبرى القديمة للحوريين القادمين من براري الهند وإيران،
ليستقروا هونًا في محيط بحر قزوين وأرارات. وهنا كان لا بد أن نتساءل حول «أور»
الجنوبية، ومدى صدق احتسابها موطنًا أول للقبيلة الإبراهيمية؟ وبعدها ذهبنا نبحث في
مساحة بحر قزوين عن أورٍ أخرى، يمكن أن تكون هي ذلك الموطن؛ لأن «أور» الواقعة جنوبي
العراق تختلف مكانيًّا مع معطيات التاريخ حول الهجرة الهندوآرية، كما أننا لو احتسبناها
فقط «أور الكلدانيين» فإن ذلك سيضعها بعيدًا تمامًا عن زمن النبي إبراهيم، حيث لم تقم
دولة الكلدانيين إلا بعد زمن النبي إبراهيم بحوالي ألف عام أو يزيد.
والمعلوم أن «أور» كلمة تدل على القرية أو المدينة بشكلٍ عام، وهي
UR الجذر الثنائي للكلمة الثلاثية (كور KUR)، والكور والكورة الحي أو القرية أو المدينة، أو ما
نسميه في الدارجة المصرية «الكفر». فمدينة قرطاجة الفينيقية على الساحل الإفريقي —
مثلًا — مركبة من ملصقين: الأول «كورة» أي قرية، والثاني «طاجه» أو بنطقها الأصلي
«حداشه» أي الحديثة أو الجديدة، فهي كور حداشة. وبتبادل حروف «واو» مع حرف «في V»، تصبح كور هي كفر، والكفر هو القرية.
ولذلك نجد أكثر من «أور» إضافة إلى «أور – الكلدانيين»، فهناك «أور – شليم» أي مدينة
السلام، و«أور – كومينوس» باليونان و«أور – أوك» بالعراق القديم، ثم مدينة الأرض أو
«أور – آرتو» على جبال أرمينيا المعروفة الآن بجبال أرارات قرب بحيرة «فان».
والتوراة من جانبها ترمز للهجرات الكبرى من أواسط البراري الآسيوية إلى محطتهم الكبرى
بأرمينيا بقصة الطوفان، التي قالت بانتقال قوم من موضعٍ أصابته كارثة بواسطة سفينة
ضخمة، إلى جبال أرارات حيث ألقت السفينة مراسيها، وأنه مما يؤكد أن «أرارات» المذكورة
بالتوراة، هي ذات أرارات الواقعة في أرمينيا، ما جاء عند المؤرخ «هروشيوش»؛ إذ يقول:
إن
السفينة النوحية قد ألقت مراسيها «على الجبل الذي بأرمانية».
٩
وفي الوقت ذاته تؤكد التوراة أن إبراهيم من نسل «أرفكشد أو أربكسد بن سام بن نوح».
ووجدنا في اسم «أرفكشد» ما يضع أيدينا على وصلات الأمر المبعثر، حين تساءلنا: هل قصدت
التوراة بمدينة «أور» مدينة أخرى غير أور الكلدانيين؟ ربما كانت تقع في موطن الحوريين
القديم بأرمينيا المعروف باسم «أراب – خيتيس»، التي تلتقي بعد حذف التصريف الاسمي
«الياء والسين» مع أرفكشد، وتصبح هي بالضبط «أربكسد» أو «أربخسد»؟ وهلا يعني ذلك إمكان
أن تكون «أور» المذكورة في التوراة باسم «أور الكلدانيين»، هي ذاتها مدينة الأرض «أور
–
آرتو»؟ لا نعتقدنا مخطئين إن احتسبنا منطقة أربكسد الكاسية هي المعنية في التوراة بأور
الكلدانيين، وأنها المقصودة ﺑ «أور كسديم»، وهو الاسم الوارد في التوراة المازورية
العبرية، فهي تقول: «أوركسديم»
١٠ ولا تقول: «أور الكلدانيين» الواردة في الترجمة العربية. أما «أرابخيتيس»
فهي مركبة بدورها من ملصقين «آرابه – خاسي» أو «أراب – كاسي» أو العرب الكاسيين أو
العرب القيسية. وإذا كان هؤلاء من قبائل سكيث أو سكاس، فهو بدوره ما يذكرنا بالسكاسك
ذلك العنصر الواضح في فيالق الهكسوس بمصر. ولو قدرنا أن الكلمة كانت تُنطق مصريًّا
«أراب – سا – كاس»، فهي ما تعني بالضبط العرب أبناء الكاسيين؛ لأن «سا» تعني «ابن» كما
تعني الإضافة، فهم العرب الكاسيون، والكلمة عرب هنا تعني البدو فقط.
وهكذا لا يعود رحيل العشيرة الإبراهيمية من أور إلى كنعان عبر حاران، أمرًا مثيرًا
للاستغراب والعجب؛ لأنها في هذه الحال لن تأتي من أور على الخليج العربي، إنما من أقصى
الشمال حول قزوين، من مدينة الأرض، أو من أورارتو أو «أرارات» في جبال أرمينيا، متجهة
غربًا نحو حاران القديمة، التي تصبح بذلك محطة منطقية تمامًا على الطريق، ثم تشد
القبيلة رحالها مع التدفق الآرامي نحو بوادي الشام، خلال النصف الأول من الألف الثاني
قبل الميلاد، ويبدو أنه خلال استقرارهم في محطتهم الأولى في محيط أرارات، أنشئُوا أول
مديناتهم المستقرة متمثلة في الدولة الحيثية، ثم في مجموعة الدويلات الآرامية التي
تناثرت على الحزام الحوري شمالي سوريا والعراق الغربي الشمالي.
وقد سبق وعلمنا أن الكلمة «أراب» و«عرابة»، تدل في إطلاقها على البداوة بشكلٍ عام،
كما أن الحيثيين يلفظ اسمهم على مختلف التخريجات خيتي وحيتي وكاثي، مما يشير إلى أصولهم
الجنسية السكوثية أو السكاثية، أو الكاسية أو القيسية القادمة من البراري الآسيوية.
وضمن هجرة هؤلاء السكاث أو السكاس أو الكاسيين، جاءت العشيرة الإبراهيمية، لتوجز
التوراة الألف الثالث قبل الميلاد أو قبل ذلك من براري آسيا إلى محيط أرارات، ثم رمزت
للهجرة الثانية من أرارات ومحيط قزوين إلى بوادي الشام بقصة الرحلة الإبراهيمية. ومن
جهته أكد التراث الإسلامي أن إبراهيم لم يكن عربيًّا بمفهوم اليوم، ولم يكن من الجنس
العربي المقصود في جزيرته؛ لأن لسانه كان سريانيًّا من الفرع الآرامي، لكنه عندما عبر
نهر الأردن فيما يروي ابن هشام في سيرته، حول الله لسانه إلى اللغة العبرية،
١١ بينما اكتسب فرع من نسله العروبية بعد ذلك ممثلًا في رمز إسماعيل أبي العرب
المستعربة.
ولمزيدٍ من التأكد سعينا حتى سمعنا «ماكلستر»، يؤكد لنا بخبرته في اللغات القديمة
والأجناس، أن لغة بلاد «ميتاني» التي يزعمها المؤرخون بين الخابور والفرات، كانت فرعًا
هندوآريًّا لا شك فيه إطلاقًا، كذلك بنفس اليقين كانت بلاد الحيثيين في الأناضول، تتكلم
بدورها لغة هندوآرية، بل عبد كلاهما ذات الأرباب بذات الأسماء.
١٢
وهكذا فإن «لويس عوض» ينهج مع ذات المدرسة، التي تأتي بالهندوآري ومعه السامي من
تلك
المواطن، يأتي بكليهما من موطنٍ واحد على اختلافهما الجذري دون مبررٍ واضح واحد. فأكد
أن موجة الهجرة الهندوآرية أو كما يسميها بالهندوأوروبية، قد جاءت في غزوتين: الأولى
هي
غزوة الكاسيين
Kassites التي احتلت الرافدين، وغزوة
الحوريين الميتانيين التي أنشأت لها دولة، مزعومًا أنها بين الفرات والخابور. أما
الموجة التي صاحبتها فهي موجة سامية قادمة من ذات المواطن، وتمثلت بدورها في فصيلين:
العموريين أو الأموريين
Amorites والآراميين
Aramaeans، ويأتي على ذلك بشهاداتٍ يرى أوثقها آرثر
كيت، الذي يصف العرب بأنهم أقوام قوقازية تتكلم لغةً سامية.
١٣
ثم يعلن عوض نظريته بقوله: «وقد انتهيت من أبحاثي في فقه اللغة العربية، إلى أن اللغة
العربية هي أحد فروع الشجرة، التي خرجت منها اللغات الهندوأوروبية»،
١٤ وكي يثبت «عوض» نظريته تلك، قدم لها بدراسةٍ تاريخية أنثروبولوجية لا
تتناسب إطلاقًا في عجالتها وتبسُّطها، مع عمله الكبير وقيمة النظرية التي يطرحها. وهي
النظرية التي يمكنها أن تجد في عملنا هذا تأسيسها التاريخي الأنثروبولوجي المناسب، رغم
الاختلاف البيني بين ما يقول وبين ما نقول؛ لأننا لا نرى العنصر المعروف بالسامي
الشمالي الذي ظهر في بوادي الشام، كان قادمًا من بلاد أرمينيا خالصًا، بل نراه عنصرًا
مولدًا من عناصر تلاقت وتلاقحت فيها العنصر الحامي ممثلًا في الكوشيين العمالقة والجنوب
جزيري أو العموري أو الأموري، وكذلك في المصريين الحاميين ولغتهم، وبين العنصر الآرامي
الكاسي أو السكيثي الحيثي القادم من الشمال الهندوآري، وأن ذلك اللقاء قد بدأ مبكرًا
قبل الألف الثالثة قبل الميلاد في بواكير التواصل الأولى، والتي تبعتها هجرات متعددة
منوعة من بعدُ، وهو ما يمكن أن يكون قد حدث إبان قيام الدويلات السومرية الهندوآرية في
العراق الجنوبي القديم، وهو أيضًا ما تثبته خبرة العراق حيث ظهر الساميون هناك بعد ذلك
ممثلين في الدولة الأكادية، لكن ليتمثل الأكاديون الثقافة السومرية وعقائدها، وطريقة
كتابتها ممزوجة بلغةٍ جديدة وثقافة جديدة سميت سامية، وهي تحوي في تراكيبها ومفرداتها
وعقائدها تراثًا هندوآريًّا كاملًا.
نحن نعني أن السامية الشمالية المعروفة في لغاتها المتعددة، إنما كانت ناتج تلاقح
الحامي والهندوآري أو اليافثي مع الجنوب جزيري القديم القادم من اليمن. أما التفاصيل
الدقيقة والمقارنات اللغوية التي يمكن إقامتها على تأسيسنا هذا، فهي مهمة أخرى نتركها
لمن يستطع بحثها من علماء متخصصين، قد تجد اجتهادتنا طريقها إلى قناعاتهم.
وكي يدعم «لويس عوض» نظريته في هندوأوربية اللغة العربية في أصولها، قام بجمع ما
يؤيد
رأيه، وضمن ذلك إثباته حداثة العرب قياسًا على الأمم القديمة، وهي برأينا حداثة ضرورية
ناتجة عن حداثة العنصر السامي الشمالي جميعه كما زعمنا، ومن هنا يشير «عوض» إلى أن أبعد
المصادر التي تشير للعرب كعنصرٍ متميز عن غيره من الأجناس، لا تبعد عن بداية الألف
الأول قبل الميلاد: وهنا ينبه قائلًا: «إن العرب حين يتحدثون عن منشئهم، يقسمون أنفسهم
إلى ولد عدنان وهم عرب الشمال، وولد قحطان وهم عرب الجنوب. وهناك فكرة متوارثة أن نسل
يعرب بن قحطان أصفى عروبة من نسل عدنان؛ ولذا جاء تبويب العرب إلى عربٍ عاربة وهم أهل
الجنوب، وعرب مستعربة وهم أهل الشمال. ومن العلماء من يؤيد هذه النظرية، بما تتضمنه من
اعترافٍ بأن عرب الشمال من أجناس كانت غير عربية ثم استعربت، أو أنهم مولَّدون من العرب
وغير العرب. وعلى كلٍّ فإن عرب الشمال المستعربة، ينسبون أنفسهم إلى إسماعيل بن إبراهيم
الخليل، عن طريق عدنان ومضر، وفي رواياتٍ أنهم من عدنان ومضر دون ذكر لإسماعيل بن
إبراهيم. وانتساب عرب الشمال إلى إسماعيل يجعلهم أبناء عمومة بني إسرائيل، أو بتعبيرٍ
أدق أنصاف إخوة، أي إخوة غير أشقاء، فالجد الأعلى للطرفين هو إبراهيم أبو إسحاق وجد
يعقوب إسرائيل من جهة، وأبو إسماعيل وجد عدنان من جهةٍ أخرى. وربما كان براهما
Brahma هو الإبيونيم
Eponym١٥ القومي لموجةٍ هندية إيرانية، استقرت في أور عبر لوريستان
Luristan في إيران، ثم هاجرت إلى حران في عهد
الكاسيين
Kassites نحو ١٨٠٠ق.م. لتعيش في ظل
الأرستقراطية العسكرية، التي نزلت على حران من القوقاز
Caucasus أو سيكذيا
Scythia وخرج
منها الإشكينازي
Ashkinazi».
١٦
ولا يفوت «عوض» اللماح الإشارة إلى كون «الوثائق الآشورية التي ترجع إلى أواخر القرن
التاسع ق.م. أي قبيل ٨٢٤ق.م. تشير إلى ملكات العرب، وهم قبائل مؤتلفة من البدو الرحل
من
شمال شبه الجزيرة العربية، جعلت بعض العلماء يستدلون من هذه الإشارة إلى ملكات العرب،
ومن شيوع أسماء القبائل المؤنثة مثل: أمية، ربيعة، كندة، مرة … إلخ أن القبائل العربية
عرفت في مرحلةٍ من تاريخها نظم المجتمع
الأمومي
Matriarchal society، حيث المرأة هي رأس القبيلة.»
١٧
أما نحن فقد انتهينا إلى القول بمملكةٍ، تسمى مملكة عريبي أو عرابة أو سبأ، كانت تقطن
محيط العقبة، وأن سكانها كانوا أصحاب تجارة وطيوب وعز أو عنز أو معز، وأن بينهم كانت
الملكة سبأ أو الزباء، وأنهم كانوا رفاعيين أو رباتيين من أصحاب الثعابين، وأنهم كانوا
عمالقة.
وقد عرج عوض بلمحةٍ مضيئة — لكنها أيضًا مثل الفلاش السريع — على الهكسوس وعلاقتهم
ببني إسرائيل، فراجع ما قدمه يوسفيوس نقلًا عن مانيتو، ليخرج أجملها في قوله: «وواضح
من
كل هذا الكلام أن فرعون موسى، الذي ذهب مانيتون أو يوسفيوس على لسان مانيتون، إلى أن
فتنة بني إسرائيل قد حدثت في عهده، هو آمنحتب الرابع الشهير بإخناتون نبي التوحيد
والسلام في العالم القديم، فهو وحده الذي اشتهر باعتراض الضمير على الحروب، وقد ناصبته
طبية العداء؛ لدعوته التوحيدية من ناحية، ولتفريطه في ردع أعداء مصر من ناحيةٍ أخرى.»
١٨ وقد استند «عوض» في تزمين الخروج بزمن إخناتون، تأسيسًا على ما ورد عند
يوسفيوس: أنه رفض مشاركة رجاله في معركةٍ ضد الهكسوس؛ «فقد كان يعتقد أن الحرب عمل ضد
الآلهة.»
١٩
ولما كان معلومًا أن الهكسوس قد تم طردهم قبل زمن إخناتون، بما يزيد على قرنين من
الزمان زمن الفرعون أحمس، فقد كان الرأي هو أن بني إسرائيل كانوا بقايا أسيرة، بقيت حتى
زمن إخناتون حيث تم حدث الخروج. وعليه يستنتج عوض «أنه إذا صحت رواية مانيتون فإن بني
إسرائيل كانوا بمثابة طابور خامس لغزوةٍ هكسوسية ثانية متأخرة في الدولة الحديثة باءت
بالفشل، وانتهت بكارثةٍ لهم ولبني إسرائيل. ومع ذلك؛ فكل هذا لا يتفق في التاريخ مع
الرأي السائد، القائل بأن خروج بني إسرائيل كان في عهد مرنبتاح».
ومن هنا يضع «عوض» نظرية سريعة للتفسير، أخذها عن بيير مونتيه — فيقول: «ومعنى هذا
أن
دخول بني إسرائيل مصر كان نحو ١٦٥٠ق.م. كما يبدو أنهم أقاموا بها (إبان حكم الهكسوس
[المؤلف])، كما تقيم الجاليات الأجنبية في ظل الحكم الأجنبي في أي بلدٍ مفتوح، وأنهم
لم
يرحلوا عن مصر مع الهكسوس المطرودين ١٥٧٥ق.م. بل ظلوا في البلاد نصف متمصرين ومتمركزين
أساسًا في شرق الدلتا، حيث كانت أفاريس عاصمة الهكسوس القديمة، بحجة أنهم غرباء يزاولون
شئون معاشهم، ولا صلة تربطهم بالغزاة الهكسوس، وفيها أقامو أكثر من قرنين ضيوفًا أراذل،
حتى بعد أن أقام رمسيس الثاني مدينته بي
رمسيس
Pi-Ramses على أنقاض مدينة أفاريس، إلى أن طردهم مرنبتاح جملةً من أرض مصر
ما بين ١٢٢٣ أو ١٢١٥ق.م. بحسب تقديرات بيير موانتييه.»
٢٠
ثم بلمحاته العبقرية يتساءل «عوض»: «إن الحقائق التاريخية تقول إن الهكسوس بعد خروجهم
من مصر، قد اختفوا جملةً من مسرح التاريخ، وهذا الاختفاء ممكن سياسيًّا لكنه غير ممكن
بشريًّا، فمهما كان الهكسوس بعد خروجهم من مصر في حالةٍ من التمزق والإعياء، فلا بد أن
نفترض أن هذه الحشود البشرية، التي أتيح لها أن تُخضع المصريين أكثر من قرنٍ ونصف، لا
بد أن تكون قد استقرت في مكانٍ آخر خالٍ، تنشئ فيه محلاتها ومضاربها، أو مكانٍ آخر
مأهول تختلط فيه مع السكان الأصليين.»
٢١
وهكذا يبدأ عوض في العثور على أصولٍ عربية في الهندوأوربية، في قصة أنثروبولوجية
تذهب
إلى أن الهكسوس كانوا عنصرًا هندوآريًّا، خرج من مصر لكن ليحط رحله في مكان آخر، يعلن
عنه في نصٍّ عبقري يقول: «نشتبه أن الحجاز جملة كان المنطقة التي لجأ إليها الحكا – خازو
Heqa Khasou، أو الهكسوس بعد طردهم من مصر،
وتعايشوا مع سكانها الأصليين، الذين عرفوا الهكسوس الوافدين باسمهم المصري القديم.
وانتهى الأمر بأن جرى الاسم على المنطقة كلها، وفقد معناه الأصلي، وصار اسم علمٍ
جغرافيًّا فحسب.»
٢٢
ولا شك أن ما قلناه حتى الآن، يذهب إلى أن بعض عناصر الهكسوس، وبينهم السكان
الآراميون الذين خرجوا من مصر، قد ذهبوا جنوبًا نحو شمالي جزيرة العرب ليمنحوها اسم
السكاث، لكن بعد تحول حرف «س» في النطق المصري إلى «ح»، لتصبح الكلمة حسب القواعد التي
وضعها عوض نفسه «حكاث» أو «حجاز»، قياسًا على «سآكل/حاكل المصرية، أو سأذهب/ها
أذهب».
وفي لقطاتٍ مضيئة سريعة قافزة فلاشية، يعقد «عوض» المقارنات اللغوية كما في قوله:
«إن
ملك الهكسوس خمودي
Khamoudi، الذي ورد في بردية تورين
فيه جميع العناصر الفونيطيقية في اسم ثمود»،
٢٣ وهو القول الذي يعضد ما ذهبنا إليه، حول قدم ثمود في مناطقها الحضارية،
وأنها كانت تقع ضمن دائرة حلف الأخلامو الكبير، الذي قوي شأنه ليتوسع على حساب دول
المحيط، ويحتلها وضمنها مصر نفسها.
ونتابع لقطات عوض؛ إذ يقول: «نحن نقف أمام اسم مثل الصالحية في مصر بالقرب من السويس
(في الحقيقة هي شمال شرق الدلتا، وتتبع محافظة الشرقية الآن، وينسبها البعض للملك
الصالح أيوب [المؤلف])، واسم مداين صالح في شمال الحجاز، واسم صالح وشالح ومتوشالح
(أسماء عربية وتوراتية [المؤلف]) وربما صلاح، لا يسعنا إلا أن نشتبه في أنه صيغة من اسم
شيليك
Shelek الهكسوسي، ومن حقنا أن نستنتج مبدئيًّا أن
مداين صالح، كانت إحدى المحلات أو المدن التي أنشأها الهكسوس بعد طردهم من مصر.»
٢٤
أما نحن فقد قلنا إن مداين صالح كانت قبل الخروج من مصر، بل قبل الدخول إليها، عضوًا
في حلف الأخلامو ومدينة تابعة للعاصمة الأم سالع/البتراء/بونت في وادي عربة ببلاد
آدوم.
ومن تلك النماذج الفلاشية نموذج آخر يقول فيه: «وفي تقديري أن اسم عمران ومشتقاته
له
علاقة باسم العمو
Ammou أو العمرو
Amrou، وهي القبائل التي احتلت دلتا مصر أو شرقيها مع الهكسوس وفي
زمنهم، فنصوص مصر تحدثنا دائمًا عن كفاح مصر ضد الخازو والعمو بعد الفتح الهكسوسي،
والصلة بين الخازو والعمو غير واضحة عند المؤرخين.»
٢٥
ويصل من هذا كله إلى نتيجةٍ مفادها «إن الهكسوس إذن لم يأتوا إلى مصر من الحجاز ومن
شبه جزيرة العرب، إنما استقروا فيها بعد طردهم من مصر. أما المنبع البشري الذي تدفقوا
منه على الشرق القديم ثم عبروا إلى مصر، سواء على مراحل أو دفعة واحدة، فهو بحسب تقدير
الكثير من علماء الآثار والتاريخ القديم، نفس المستودع البشري المعروف في عصر الهجرات
العظيمة حول بحر قزوين. وربما كان هذا المنبع ذاته مجرد محطة وسطى استقروا فيها زمنًا
منذ هجرتهم من أواسط آسيا، شأن كافة القبائل التي تسمى آرية طورانية وسامية، والهكسوس
إذن ليسوا بني إسرائيل، وإنما بنو إسرائيل كانوا على الأرجح قبائل دخلت مصر تحت جناح
الهكسوس وعاشت في كنفهم، ثم طردت من مصر بعد رحيل الهكسوس بقرون، أو ربما طردت معهم
أيام أحمس، ثم استجدت العودة أيام تحتمس الثالث. ولعل بني إسرائيل هم قبائل العمو
Ammou، التي كثيرًا ما يرد ذكرها مع الخازو
khasou أو الهكسوس في النقوش المصرية القديمة، وكانت
متمركزة معهم في شرق الدلتا بصفةٍ أساسية، مع جيوب هنا وهناك أكثرها في مصر الوسطى.»
٢٦
وإعمالًا لكل هذه المعطيات، ينتهي عوض إلى أنه «مهما افترضنا للعرب وجودًا في
المنطقة، فهو لن يتجاوز بضعة قرون، ترجع بهم إلى ١٠٠٠ق.م. أو ١٢٠٠ق.م. فلو كان لهم وجود
معروف باسمهم المعروف، أيام الصراع العظيم بين المصريين الحيثيين ١٥٥٥–١٢٧٠ق.م. أو بين
المصريين والميتانيين
Mitanni ١٤٥٠–١٣٦٢ق.م. في العراق
(يذهب عوض مذهب من يضعون الميتاني بين الفرات والخابور [المؤلف])، أو بين المصريين وبني
إسرائيل ١٢٢٣–١٢١٥ق.م. أو بين المصريين والهكسوس أي بين ١٧٢٠ أو ١٥٦٧ق.م. لورود ذكرهم
في النقوش القديمة في أية منطقة من مناطق الشرق القديم. وعلى هذا فإنه يتعين علينا أن
نفترض أن وجودهم في شبه الجزيرة لاحق لعام ١٠٠٠ق.م. أو قبل ذلك بقليل. ولن نستطيع أن
نفسر ظاهرة تكون اللغة العربية من عناصر مشتركة مع اللغات الهندوآرية، إلا إذا افترضنا
أن التكوين السكاني لشبه الجزيرة، لم يكن فيضانًا سكانيًّا من داخل شبه الجزيرة إلى
خارجها أو حوافيها المحيطة بها، ولكن كان فيضانًا سكانيًّا من خارج شبه الجزيرة إلى داخلها.»
٢٧
وهكذا أسس «لويس عوض» تاريخيًّا وأنثروبولوجيًّا لقوله: إن اللغة العربية من أصولٍ
هندوآرية، من حيث هبطت جموع الهكسوس من محيط بحر قزوين إلى المنطقة، ثم خرجت مطرودة من
مصر مطاردة من قبل المصريين، فهبطت الحجاز وأعطته اسمها ولغتها التي أصبحت العربية
الشمالية، أم العربية الفصحى الآن. لكن ذلك كان وجهًا واحدًا للحقيقة، لا يفسر لنا
تداخل آخر لأسماء أعلام ومفردات وتراكيب لغوية، ليست من الهندوآرية في شيء، وكانت من
العلامات الهكسوسية البارزة الباقية. هنا نظن أن نظريتنا هي الأفق للتفسير، والتي قلنا
فيها بمجيء هجرات تدريجية متتابعة من الكوشيين، من شرقي أفريقيا والجنوب اليمني على
الخط التجاري البري الصحراوي، هي هجرة العمالقة والعموريين التي جاءت من جنوب الجزيرة،
ويمكن تسميتها تجاوزًا «السامية الجنوبية»، وسبق وأطلقنا عليها الجنوب جزيرية لتلتقي
هناك بالعناصر الهندوآرية القادمة من أرمينيا، استقرت في شمالي الجزيرة وآدوم وسيناء،
لتهبط عليها عناصر هندوآرية، حورية وسكيثية حيثية، لتستقر معها في مديان، وتشكل لها
قيادة عسكرية تتوسع على حساب دول المحيط، حتى تتمكن من إقامة إمبراطورية الهكسوس، وكان
أهم إفرازات هذا اللقاء من فجره، ظهور جنس جديد ولغة جديدة هجينة، هي اللغة السامية
الشمالية، متشكلة من عناصر جنوب جزيرية تأسيسية، وعناصر حامية زنجية ومصرية وعناصر
هندوآرية.
على مستوى العربية والهندوآرية قدم لويس عوض جهدًا رائعًا وعظيمًا، لا تنكره المنكرات
والمصادرات ضد كتابه لسقطةٍ هنا وزلةٍ هناك، حيث إن الرجل قد أثبت نظريته ببراعة، وهي
أحد مؤيداتنا هنا، لا تغني الإشارة إليها عن قراءتها في كتابه الرائع. ومن جانبنا ثبت
بطول كتابنا هذا بوضوح مدى الالتقاء والتداخل بين المصرية القديمة وبين العربية، أو ما
بقي لنا من تطور العربية الشمالية، مُمثلةً في قمة نضجها في لغة قريش، التي أصبحت اللغة
العربية الفصيحة الصحيحة. وعندما كنا نقدم قراءتنا عثرنا على أكثر من شهادةٍ من التاريخ
العربي الإسلامي، على وجود عنصر عربي سامي ممثلًا في شهادات ذلك التاريخ بحكم عماليق
الجزيرة لمصر، لكنا أبدًا لم نجد مثل تلك الشهادات الفصيحة، على الجانب الآخر عند
القائلين بهندوآرية الهكسوس، أو بعضًا منهم على الأقل، فهل بالإمكان العثور على مثل تلك
الشهادات، التي تؤكد أن عناصر هندوآرية قد دخلت مصر واحتلتها وحكمتها؟ بل وحكمت أيضًا
بقية مدينات الشرق الأوسط القديم كالرافدين والشام وجزر المتوسط الشرقية ضمن إمبراطورية
كبرى؟ حيث وضح لنا وجود العنصر الآري، كعنصر قائد متقدم بين فيالق الهكسوس كما سبق
شرحه.
نقف هنا مع القبائل التي جاء ذكرها باسم سكيث، لنعتبرها من وجهة نظرنا القبائل الأم
للهجرات الهندوآرية، أو أنها الاسم الشامل الذي كان يطلق على تلك القبائل المهاجرة من
براري آسيا، ومنها كان الحوريون والحيثيون الذين أصبحوا فيما بعد عنصرًا مؤسسيًّا في
المملكة الآدومية التجارية، ومن ثم في الإمبراطورية الهكسوسية، حيث كان الإسكيث أو
السكاث كما أسماهم اليونان، أو الكاسيون كما أسماهم الرافديون، أو الهكسوس كما أسماهم
المصريون، قبائل متبدية هائلة العدد لا تعرف الاستقرار، تنتشر طول الوقت في براري آسيا
الوسطى من شمالي الهند إلى أرمينيا.
وبحسبان حرفي «ح» و«ك» حلقيَّيْن يتبادلان، فإن الحيثيين هو لفظ آخر للسكيثيين حيث
تتبادل «س» و«ح»، وهكذا يمكن أن نعتبر المصادر الحيثية مصادر سكيثية كنقطةٍ مفصلية،
نبدأ بحثنا منها، فهل ورد أي نص تاريخي في المدونات الحيثية، يشير إلى أحداثٍ قديمة،
احتل بموجبها الحيثيون مصر؟
هناك نص ضئيل القيمة تمامًا لدى المؤرخين والباحثين، لم يُعِرْه أحد التفاتًا، نتيجة
عدم الربط إطلاقًا بين الحيثيين والسكيثيين والهكسوس، وهو ما نجد له ترجمة عند عالم
الحيثيات «جرني»؛ إذ يقول أولًا مقررًا حقيقة واضحة هي أن: «الحيثيين من الأقوام
الهندوأوروبية التي لعبت دورًا مهمًّا في تاريخ الشرق الأوسط القديم، لكنا مع ذلك نجهل
الكثير عنهم.»
٢٨
أما النص المقصود فهو ذلك الذي يقول:
عندما حمل إله جو حاتي (يقصد إله الهواء الحيثي تيشوب [المؤلف]) رجال
كوروستوما إلى بلاد مصر. وقيدهم إله جو حاتي بمعاهدةٍ إلى أهل حاتي، وجعلهم
يقسمون على رعايتها (يقول جرني معقبًا: إن ذلك عائدٌ على المصريين، أي إن إله
الجو الحيثي فرض عهده، على المصريين بقسم الولاء للحيثيين الذين من كوروستومار
[المؤلف]).
وبذلك أصبح شعب حاتي وشعب مصر مقيدين بقسم لإله جو حاتي، ونكث شعب مصر بعد
ذلك بالعهد، وباتوا يحنثون بقسمهم بالإله؛ لذلك أرسل أبي مشاةً وفرسانًا، وغزوا
حدود مصر وبلاد أمكا، ثم أرسلهم مرةً ثانية فغزوا مرةً ثانية.
ويشرح هنا «جرني» أن كوروستوما هي القطاع الشمالي الشرقي من الأناضول، أي بالضبط
في
المساحة التي نتحدث عنها كمنطلق أخير للهجرة الهندوآرية، ما بين قزوين والبحر الأسود
في
أرمينيا وأرارات، لكن جرني يرى ذلك النص غير مفهوم لو أخذنا بظاهره، وأن هؤلاء قد
احتلوا مصر، ويفسر بأن ذلك كان غير ممكنًا، ولم تتحدث عنه أية نصوص مصرية؛ لذلك لا
تفسير له إلا وجود الحيثيين بفلسطين بعد ذلك في التاريخ التوراتي، وهو ما يعني أن النص
لم يقصد مصر بلاد النيل، إنما قصد فلسطين التي كانت تابعة آنذاك لمصر سياسيًّا، وأنها
هي حدود مصر.»
٢٩
لكن قراءة النص تفيد أن الملك الحيثي، يتحدث عن غزوٍ تمَّ من جانب بلاده لبلاد مصر،
وأن ذلك قد تم زمنَ أجداده، حيث أقسم المصريون وأقسم الحيثيون على الارتباط بعهدٍ نكث
به المصريون، فعادوا زمن أبيه فغزوا مصر ثانيةً، وهو الأمر الذي يلتقي مع تاريخ مانيتون
عبر يوسفيوس، وأكد عليه لويس عوض، حيث علمنا أن هناك غزوتين للهكسوس، غزوة أولى كبرى
تم
طردها على يد أحمس، ثم غزوة هكسوسية متأخرة حدثت زمن فتنة بني إسرائيل، وقائدهم أوزرسيف
الذي أرسل يطلب مددًا هكسوسيًّا عند ثورته، فدخل الهكسوس مصر مرةً أخرى، لكن لتتم
هزيمتهم هزيمةً نهائية وأخيرة على الحدود المصرية.
لكن ألا نكون بذلك كمن يصنع من مادةٍ قليلة ضئيلة، بناءً طويلًا عريضًا يقوم على
أساسٍ هش، على إشارةٍ يتيمة وردت في نصٍّ ضمن نصوصٍ حيثية كثيرة أخرى؟
هنا كان لا بد من المثابرة والدأب والمشقة، سعيًا وراء ما يمكن العثور عليه من قرائن،
وهي ما وجدناه في حديث المؤرخين الكلاسيك، عن شعوب اسكيث أو سكاث؛ لأن «هيبوقراط» في
كتابه: «حول الماء والهواء والأقاليم»، وهو كتاب في الطبيعيات، محدثًا عن الشعوب التي
عاشت في المنطقة الفاصلة بين أوروبا وآسيا، أي عند أرارات وقزوين تحديدًا، يقول:
أولًا سأتحدث عن طوال الرءوس؛ لأنه ليس هناك شعب آخر على الإطلاق له مثل تلك
الجماجم. وقد ساهمت مجموعة من العادات إلى تلك الاستطالة في الرءوس، ثم أسهمت
الطبيعة بعد ذلك بدورها في دعم تلك العادات، وقد أتت تلك العادات من اعتقاد تلك
الشعوب، أن طويل الرأس نوعٌ مميز من البشر، فعند ولادة الطفل، وطالما كانت عظام
الرأس لينة لم تتصلب بعد، يجبرون الرأس على الاستطالةٍ بلفائف، الأمر الذي يشوه
الشكل الطبيعي للرأس فتزداد استطالتها. وفي البداية كانوا يفعلون ذلك خضوعًا
لعاداتٍ موروثة، لتأتي رءوسهم بهذا الشكل بفعلٍ قسري. لكن مع الوقت أصبحت الرأس
تأتي طويلة بحكم الميلاد الوراثي، أما الآن فقد اختفى طول الرأس بسبب اختلاطهم
بالزواج من شعوبٍ أخرى، وهذا رأيي فيما يتعلق بهذه الظاهرة.
٣٠
ولأن الحيثيين فيما زعمنا قبائل إسكيثية، فقد كان طبيعيًّا وغير مفاجئ أن نقرأ عند
«جرني» في كتابه «الحيثيون» قوله:
من الحفريات بفحص الجماجم التي وجدت في عدة مواضع بالأناضول، وُجد أن معظم السكان
كانوا طوال الرءوس، وذلك خلال الألف الثالث قبل الميلاد، على مزيجٍ قليل بالأنواع
القصيرة العريضة الرءوس.
٣١
هذا وقد عثرنا عند مكسيلاك القرياندي على نصٍّ مؤيد يقول: «وقد عاش شعب من ذوي الرءوس
الطويلة خلف البخاريين.»
٣٢
ولعلنا لم نزَلْ نذكر ما قلناه في باب عادٍ وثمود، ونقلنا منه وصفًا عينيًّا لمقابر
منطقة مقنا على الساحل الشرقي لخليج العقبة، وفي محيط بلاد الحجر وآدوم، حيث يقول
الشاهد: عثر على كثيرٍ من الجماجم الغريبة الشكل في طولها. والجماجم أكبر بكثيرٍ من
جماجم الناس العاديين.
٣٣
ثم نجد عند جرني إشارات لاسم منطقة عاش فيها الحيثيون وردت في الأساطير اليونانية،
مرتبطة باسم ملك حقيقي من ملوك الحيثيين، إلا أن اليونان إطلاقًا لم يعرفوا الدولة
الحيثية في كتاباتهم، فقط كانوا يشيرون إلى الاسكيث، مما يعني حسب نظريتنا أنهم قد
عرفوا الحيثيين ولكن باسم سكيث، وتقول إشارة جرني:
وأخيرًا فلدينا القصة الخرافية التي حفظها استفانوس البيزنطي، وهي أن مدينة
ساميليا في كاريا قد أسسها شخصٌ يُدعى موتيلوس، الذي استقبل هيلين وباريس في
رحلتهما، من إسبرطة إلى طروادة على ما يُظن، ويبدو أننا نجد هنا ما يذكرنا
بالمعاهدة الإقطاعية التاريخية بين مووتاليس وألاكساندوس.
٣٤
استفانوس هنا يحدثنا عن مدينةٍ أسسها ملك، يُدعى موتيلوس أو مووتاليس في كاريا، وأنه
استقبل الأشخاص الأسطوريين هيلين وباريس، القادمين من إسبرطة إلى طروادة. وقد تم الكشف
عن طروادة في أقصى غرب الأناضول، مما يعني أن مووتاليس كان ملكًا على الأناضول. ونحن
نعلم بوجود ملك بهذا الاسم متكررًا في قوائم ملوك الحيثيين، وهو دليل آخر قوي على رأينا
أن الحيثيين كانوا هم المعروفين باسم الإسكيث عند اليونان. كما نعلم من عالم الأجناس
واللغات «ماكلستر»، أن بلاد كاريا هذه حيث حكم مووتاليس، على خريطةٍ رسمها لبلاد
الحيثيين بالأناضول، كانت تقع على ساحل المتوسط المحاذي لبلاد اليونان في جنوب غربي شبه
جزيرة الأناضول، مما يقطع بأن اليونان قد عرفوا الحيثيين، خاصة أن الحيثيين قد أقاموا
دولتهم وعاصمتهم في بلاد الأناضول الملاصقة لبلاد اليونان، وكانت امتدادًا معلومًا لها.
لذلك يكون غريبًا تمامًا ألا يعرف اليونان شيئًا عن الحيثيين، اللهم إلا إذا كانوا
يعرفونهم كما نقول باسم الإسكيثيين. وكان عدم ذكرهم لديهم يكمن في كونهم أطلقوا عليهم
اسمهم الأصلي «سكيث»، ذلك الاسم الذي تكرر كثيرًا في قصصٍ طويلة، كتبها اليونانيون عن
شعب السكيث أو السكاث. وهو ما يؤكد ما قلناه بهذا الصدد، إن الحيثيين من قبائل السكيث
أو هم قبائل سكيثية، ثم نتذكر كيف استبعد المؤرخون الإشارات القديمة إلى الآراميين زمن
الملك الأكدي نرام سين، واحتسبوها مجرد تشابه في الأسماء؛ لأنهم رفضوا وجود الآراميين
في المنطقة في ذلك الزمن المبكر، لكن لما كنا قد احتسبنا الآراميين والحيثيين عناصر
إسكيثية هندوآرية، فإن ذلك يفسر لنا قولًا آخر جاء عند العاهل البابلي نرام سين، يقول
فيه أنه حارب حلفًا مكونًا من سبعة عشر ملكًا، بينهم الملك الحيثي بامبا، مما يقطع
بوجود الحيثيين في ذات الزمن الذي ينكره المؤرخون، ويقولون إن الأناضول كان يسكنه شعب
سابق للحيثيين، أعطوه اسم البروتوحيثيين. وقد ورد ما يشير إلى أن أعضاء هذا الحلف كانوا
جميعًا يسمون «هوارواس»، الذي هو ببساطة بعد حذف التصريف «هوارو» أو الحوريين؛ لأنه من
المستحيل أن يكون هوارواس اسمًا للملوك الأحلاف السبعة عشر، فهي صفة لا اسم. ومن النصوص
نكتشف صفات مشتركة بين الهكسوس والحيثيين، وأهمها نقل الشعوب المهزومة من مواطنها،
وتسخير الشعوب المفتوحة في جيش الإمبراطورية، وهو ما نجد له نموذجًا في قول الملك
الحيثي المنتصر على بلاد أرازوا؛ إذ يقول:
وهكذا قهرت بلاد أرازوا، ونقلت جزءًا من السكان إلى خاتوشاش (العاصمة الحيثية
[المؤلف])، أما الجزء الأخير فقد أخضعته مكانه، وفرضت عليه المساهمة بفرقٍ من الجند.»
٣٥
وإذا كنا قد اكتشفنا أن هناك عنصرًا حوريًّا، سكن مديان باسم القينيين أي الحدادين،
فإن علم التاريخ يعلمنا أن الحيثيين كانوا هم مُفجري صناعة الحديد وتعدينه، حيث سبق
وقرأنا رسالة الملك الحيثي خاتوشيليش، إلى ملكٍ صديق يعاصره، يقول له فيها:
أما عن الحديد الجيد الذي كتبت لي عنه، فالحديد الجيد غير متوفر في بيت الختم
في كيز وواتانا. وقد كتبت إليك أن هذا الوقت غير صالح لإنتاج الحديد. إنهم
سينتجون حديدًا جيدًا لكنهم حتى الآن لم ينتهوا، وعندما ينتهون سأرسله إليك،
أما اليوم فأنا مرسل إليك خنجرًا من حديد.
٣٦
ما زلنا نحاول التأكيد على أن الحيثيين كالحوريين تمامًا، عنصرًا إسكيثيًّا
هندوآريًّا، أو أنهم كانوا هم ذاتهم، كان العنصر الحيثي ضمن الفئات القائدة لجحافل
الهكسوس الهائلة، التي تم تجنيدها من مختلف الشعوب المفتوحة، فنقف مع «إيفار لسنر» يصف
الشعب الحيثي فيقول:
ويعتبر الحيثيون شعبًا غريبًا، أما غرابته فمردها إلى أننا لا نعرف عنه حتى
الآن سوى القليل، فضلًا عن الخلاف الكبير بينه وبين سائر الشعوب القديمة التي
عرفناها. وتكشف نقوشهم البارزة عن أنهم أناس قصار القامة مكتنزون، عظامهم بارزة
وجبهاتهم منحدرة. أما أنوفهم فطويلة ومقوسة قليلًا، أشبه بمنقار الببغاء
وذقونهم قصيرة.
٣٧
وهو الوصف الذي يلتقي مع وصف قديم أكثر تفصيلًا، قدمه اليوناني هيبوقراط لشعب سكيث؛
إذ يقول:
نتيجة للمناخ تميز الإسكيث بأنهم ممتلئون ومكتنزون، إلى حد عدم إمكان تمييز
الأعضاء عن بعضها، فالأعضاء رخوة بدون عضلات، والجزء الأسفل من البطن به قدر
عالٍ من المائية والرطوبة. وبفضل هذا الامتلاء يختفي الشعر عن الجسد ويصبحون متشابهين.
٣٨
ولا بأس هنا إن راجعنا لوحة بلاد بونت، نتفحص ملكة أرض الإله مرةً أخرى، التي تبدو
لنا مولدة من عنصرٍ زنجي جنوبي أعطى جلدها لونه، وعنصر حيثي إسكيثي شمالي، تتداخل معه
أعضاء الجسد المترهلة، حتى لا يمكن تمييزها فكانت تحمل صفات كليهما معًا، أما المؤكد
والناصع الذي لا بد أنه كان، فهو ما نقرؤه عند هيبوقراط مؤكدًا:
كانت القبيلة الإسكيثية تتميز بالشعر الأحمر الأمغر بسبب المناخ.
٣٩
وهو اللون الذي رأيناه واضحًا في بلاد آدوم الحمراء، وصفة ذكرتها التوراة لعيسو/آدوم.
ويبدو أن الإسكيث عندما هبطوا جنوبًا على مختلف قبائلهم، وتعدد عشائرهم ولغاتهم
الهندوآرية، قد أعطوا لمواطنهم الجديدة في بلاد آدوم، أسماء مناطق قديمة عزيزة في
مواطنهم الأصلية، فإذا كنا قد وصلنا إلى أن بلاد آدوم، كانت عند المصريين باسم بلاد
بونت، فهو ما يؤكده، ويؤكد كل رحلتنا البحثية، أن نجد ذات الاسم هو الذي كان ولم يزل
يطلق، على منطقة شرقي البحر الأسود الذي جاء منه السكيث، ممثلًا في مدينة بونت وإقليم
بونت، حتى إن البحر الأسود يحمل في تلك المنطقة اسم بحر بونت. أما الجبال الفاصلة هناك
مع الجنوب فهي جبال بنطس، أو بنط بحذف التصريف الاسمي «س». ثم إن الإسكيث قد عبدوا
ربًّا، عُثر له على نموذج في أدغالٍ قريبة هناك، وأنه كان هناك على جبلٍ يحمل اسمًا
شديد الدلالة، فقد كان ذلك الجبل في تلك البلاد البعيدة، دخل العمق التركي يحمل اسم
الجبل الأقرع، الذي تكرر اسمه بعد ذلك في منطقة حوض المتوسط الشرقي، فنجد الجبل الأقرع
في سوريا الآن كان مسكن الإله البعل، كذلك نجد الجبل الأقرع في بلاد آدوم، وكان دومًا
يحمل اسم جبل كاسيوس أو الكاسي، وهو ما نجده في جبال قاسيون، كما نجده في منطقة
الكسارون الآن شمالي سيناء الغربية على ساحل المتوسط، وظل يحمل اسم «كاسيوس» حتى زمن
الغزو العربي، ويعني الكاسي أو السكيثي، دالًّا على أصله وأصل أصحابه، الذين تركوا اسمه
أينما ذهبوا.
والآن نأتي إلى منطقةٍ مفصليةٍ في البحث، عن إشاراتٍ واضحة في كتاباتٍ هندوآرية،
تشير
إلى غزوٍ هندوآري حدث لبلاد مصر، يمكن أن يفسر لنا وجود العنصر الهندوآري، قائدًا لجموع
الهكسوس، فنقرأ عند «ديودور الصقلي»، وهو يحدثنا عن قبائل شعب سكيث أو سكاث:
بفضل جسارتهم وقواتهم المحاربة احتلوا مناطق واسعة، وأضفوا على قبائلهم مجدًا
وسيطرة كبيرة. في البداية عاشوا على نهر الأراكس (نهر يصب في بحر قزوين
[المؤلف]). وفي الماضي البعيد تحت قيادة ملك محارب، يتميز بقدراتٍ عظيمة،
أقاموا لأنفسهم عرشًا على الجبال امتدَّ حتى القوقاز. وفي الأرض المنخفضة امتدت
أراضيهم حتى البحر المحيط. وتميزوا بالشجاعة والمواهب الاستراتيجية، وأخضعوا
بلادًا شاسعة بعد نهر تانيس، وحتى بلاد الفيريجيين (آسيا الصغرى [المؤلف])،
وبعثوا بعثات عسكرية انتشرت في جميع الأراضي، وأخضعوها حتى وصلوا نهر النيل
المصري، وسخروا العديد من القبائل التي تعيش بين هذه الحدود، ونشروا سيطرتهم
حتى المحيط الشرقي.
واستوطن هؤلاء الملوك ومعهم القبائل التي أخضعوها بلادًا كثيرة، وأهم هذه
الحركات الاستيطانية حركتان: الأولى من آشور إلى بلاد بافلاجونيا وبونت،
والثانية من ميديا إلى نهر تانيس.
٤٠
إذن امتدت الأراضي التي استولى عليها الإسكيث، بل وسخروا أهلها في العسكريتاريا
السكيثية، بل واستوطنوا تلك الأراضي، حتى البحر المحيط أو الكبير وهو التعبير
الكلاسيكي، الدال على البحر الأبيض المتوسط، وكانت حركة الاستيطان الأولى في البلاد
الممتدة شمالًا عند أرمينيا من بافلاجونيا إلى بونت على البحر الأسود، إلى بلاد آشور
أي
العراق الشمالي، ثم كانت الحركة الثانية من ميديا إلى نهر تانيس، ولا نظن المقصود
بميديا هنا ميديا الأصلية بشمالي إيران، إنما ميديا (ميديان)، لسببين
جوهريين، الأول: ما جاء في تعقيب الباحث الروسي
المتخصص، الذي ترجم نص ديودور إلى الروسية، حيث عقَّب بأن الإحداثيات المعطاة عند
ديودور الصقلي لا تشير إلى ميديا فارس، لكنها تشير إلى موطنٍ آخر مجهول. وهذا المجهول
برأينا هو بلاد مديان في سيناء ووادي عربة وشمالي الجزيرة. والسبب الثاني هو ذلك النهر
الذي يرد احتلال مناطقه في الترتيب، بعد ميديا. وجاء ذكره باسم «تانيس»؛ لأن تانيس اسم
الفرع النيلي قبل الأخير للدلتا شرقًا، فهو أول فروع الدلتا القديمة المتلاحمة مع
البوادي السينائية، وكانت مدينة تنيس أول محطة عامرة كبرى بعد بلاد مديان، عند الاتجاه
الشرقي إلى الغرب دخولًا إلى مصر في الغرب، وعلى رأسه عند المنزلة كانت تقع المدينة،
التي منحته اسمه مدينة «تانيس»، هذا بالطبع مع عدم إغفال قول ديودور الأول، أنهم أخضعوا
جميع البلدان، حتى وصلوا نهر النيل المصري.
ثم يوضح لنا «ديودور الصقلي» من أين جاءت فكرة النساء الأمازونيات في الأساطير
اليونانية، وهن نساء محاربات يظهرن كثيرًا في الأساطير الملحمية المسرحية اليونانية،
مصحوبات بجوقةٍ من النساء يسمين الفينيقيات، فيقول:
ملكت على السكيث امرأة تتميز بالقوة، وعند هذا الشعب تتدرب المرأة على الحرب
مثل الرجل، ولا تقل عنه شجاعة، وعديد من مآثرهن العظيمة صنعتها نساء عظيمات (لا
بأس أن نتذكر هنا ملكات بلاد عريبي [المؤلف])، وعلى هذا النحو تأسست قبيلة
الأمازونيات، التي تميزت بالشجاعة التي مكنتها من احتلال دول كثيرة، كانت تشكل
جزءًا كبيرًا من آسيا وأيضًا من أوروبا. وأحرقوا الثدي الأيمن للأطفال الإناث،
حتى لا يعيقهم عند الحرب عند وصولهن سن البلوغ. وهذه الملكة أخضعت كل جيرانها
حتى وصلت إلى نهر تانيس، واستحوذت على الجزء الأكبر من آسيا، ونشرت سيطرتها في سوريا.
٤١
ولو كان نهر تانيس كما ذهب بعض الباحثين، ربما كان نهر الدنيبر في عمق الشمال
الآسيوي، لما ذكر معه في نص ديودور السابق، ولما قيل هنا مترافقًا مع سيطرة السكيث
الأمازونيات على بلاد سوريا. وحتى الآن لم يتم تقديم تفسير مُرضٍ، لمعنى كلمة
الأمازونيات رغم شهرتهن لدى اليونان. لكن وفق ما جمعناه حتى الآن لن نكون مجازفين، إذا
قرأناه على أصوله عمزونيات أو عنزيات ذوات العنز والماعز؛ حيث نعلم أن حرف «م» يتبادل
مع حرف «ن» كما في عنَّ وعمَّ، ولو طالعنا ما أمكن جمعه من لوحات الفن السكيثي، لوجدناه
جميعًا لا يكاد يخلو في لوحة واحدة منه من صورة العنز، حتى تلك الآثار التي وجدناها في
محيط بحر قزوين.
ولمزيدٍ من التأكيد على أن العنصر الهندوآري، الذي تواجد مع الهكسوس في مصر، يعود
بأصوله الجنسية إلى شعوب السكيت، نقرأ فليكوفسكي؛ إذ يؤمن أن الهكسوس العمالقة كانوا
بالتحديد ساميين من جزيرة العرب، لكنه يعجب أشد العجب من بربرية وهمجية وقسوة الهكسوس
في مصر فيقول:
كان الغزاة العماليق قادمين من شبه الجزيرة … ومثَّل العماليق بأجسام الجرحى
والمساجين، وقطعوا أطرافهم، وكانوا على درجةٍ كبيرة من القسوة والفظاظة في
نواحٍ كثيرة، بما يعجز عنه الوصف. وخطفوا الأطفال والنساء، وأحرقوا المدن
ودمروا الآثار والأعمال الفنية، وجردوا مصر من ثرواتها وكنوزها. وكانوا يبترون
أعضاء وأطراف الجرحى ويمثلون بهم، ويهرطقون ويجدفون بكُفرٍ صارخ بقذف الأعضاء
المبتورة من الجرحى نحو السماء، ويسخرون من الرب.
٤٢
كلا لم يرَ فليكوفسكي في هذه الفظاظة القاسية سوى هرطقة وكفر؛ لأنه لم يكن يعلم بعدُ
ما علمنا وفق خطتنا الحميدة، حيث نجد تلك القسوة دليلًا آخر على وجود عنصر آري سكيثي
في
الهكسوس، وذلك عندما نقرأ عنها عند مؤرخي اليونان، فنكتشف أن تلك القسوة لم تكنْ مجرد
قسوة، إنما إضافة لذلك كانت طقسًا دينيًّا تعبديًّا، لدى شعب سكيث بالذات وبالتحديد،
ولم تكن غايةً في حد ذاتها، كانت قربانًا للملك وللإله، فيقول هيرودوت عن شعب السكيث:
في كل عامٍ يضيفون إلى مرتفع ١٥٠ حمولة من حزم أعواد الخشب الجاف. وفوقه
كانوا يغرسون العقناق
Akunak (يقول المترجم
إنه ربما كان سيفًا حديديًّا) يمثل الإله، ويقدمون لهذا العقناق كل عام كافة
أنواع القرابين. في أسفل هذا المرتفع يقومون بالآتي: يقطعون الكتف الأيمن من
موتى العدو بالذراع، ويقذفون بها في الهواء.
٤٣
وفي نصوص مصر القديمة، نجد السجاز الهكسوس يوصفون بوصفٍ يأتي كما لو كان معنى لكلمة
سجاز، فهم قاطعو الرءوس أو قاطعو الرقاب، ومن جانبنا؛ فقد عثرنا على تفسيرٍ للكلمة، وهو
بذاته دليل آخر على مدى نجاح فروضنا، فنقرأ هيرودوت يحكي عن قبائل سكيث قائلًا:
حين كان السكيثي يقتل لأول مرة، كان لا بد أن يشرب من دم عدوه، ويسلخ جلد
الرأس بقطع دائرة حول الأذنين، ويسلخها عن الجمجمة، ويقدمها للملك. ثم كانوا
ينشرون الجمجمة أسفل الحاجبين ثم ينظفونها، وإذا كان الشخص فقيرًا كساها
بالجلد، وإن كان ثريًّا كساها بالذهب، ثم يستخدمونها في الشراب.
٤٤
وقد سبق وعلمنا أن هناك تفسيرات تاريخية قديمة، سِيقت خلال القرن الرابع والثالث
قبل
الميلاد، لخروج بني إسرائيل من مصر، كان من بينها القول بأن الإسرائيليين لم يكونوا
يأخذون بقواعد النظافة عند المصريين، ومع طول عشرتهم للحيوانات، أصيبوا بأوبئةٍ جلدية
حادة، اضطر معها المصريون إلى طردهم من البلاد؛ خشية تفشِّي الداء في مصر، وربما وصلنا
من جانبنا إلى تفسيرٍ لسر انتشار ذلك الوباء، بين الهكسوس في عادات شعب السكيث، وهو ما
يمكن فهمه من نص هيرودوت القائل:
يأخذ السكيث بذور نبات يشبه نبات التيل (نرى من جانبنا أنه أحد مواد البخور
[المؤلف])، ويزحفون تحت غطاءٍ، ويلقون بالبذور على أحجارٍ سبق تسخينها إلى درجة
الاحمرار، فتُحدث دخانًا كثيفًا، ويستمتع السكيث بهذا الحمام من البخار، فهو
لديهم بديلٌ عن الاغتسال، فهم لا يغسلون أجسادهم بالمياه أبدًا.
٤٥
لقد كان الإسكيث يعتقدون أن مواد التبخير كانت أطهر للجسد من الماء، وهو أمرٌ لا
يعتقده إلا من كان إنتاج مواد التبخير لديه أمرًا أساسيًّا وتأسيسيًّا، ومصدرًا
اقتصاديًّا عظيمًا يستحق هذا التقديس. ولمزيدٍ من التعضيد في كون إسكيث كانوا هم أصحاب
الماعز بين الهكسوس، نستمع إلى المؤرخ الكلاسيكي يفستافي «يوسابيوس [المؤلف]»، يحكي لنا
عن بعض قبائل سكيث في مواطنهم الأصلية، فيقول:
والتيباريون الذين يسمون تيباريين، أي أصحاب الماعز، يعيشون في المناطق حتى
أرمينيا الصغرى. وخلفهم يعيش الكاليبيون الذين استوطنوا أرضًا قفرًا وقاسية،
وكانوا بارعين في معالجة الحديد الخام، وهم شعب بونتي.
٤٦
ويبدو لنا أن اسم الكاليبيين ونسبته إلى كالب، قد ترك بصمته واضحة فيما بعد في اسم
أحد تلامذة موسى (كالب بن يفنا)، وأصبح شخصًا لا يقل أهميةً عن يشوع بن نون بعد موت
موسى. ثم تند ذكريات هنا وهناك في كتابات الكلاسيك، عن علاقاتٍ للمصريين بذلك الشعب
المعروف باسم السكيث، تأتي في عباراتٍ سريعة غامضة، لكنها تفصح مع كل ما جمعنا وتصبح
شديدة الوضوح، ومن نماذج ذلك ما جاء عند بومبي تروج يقول:
وسيطرت السكاث على آسيا ثلاث مرات، أما هم فلم يمسسهم أحد ولم ينتصر عليهم
أحد، وكان أول من أعلن الحرب ضد السكاث هو الملك المصري ثيزوسيس
٤٧ (يقصد الفرعون المشهور لدى اليونان باسم سيزوستريس
[المؤلف]).
وفي رسالةٍ من السكيث أو السجاز قاطعي الرقاب إلى الإسكندر المقدوني، نقرأ القول
بعد
حكاياتٍ طويلة عن ماضٍ عريق.
وهكذا انتصرنا على الملك السوري وملك الفرس وميديا (يعقب المترجم الروسي
المتخصص، بأن ميديا هذه ليست ميديا فارس، إنما هو بلد مجهول [المؤلف])، وأصبح
الطريق مفتوحًا أمامنا حتى مصر نفسها.
٤٨
نظننا الآن نقف على أرضٍ صلبة، بعد أن عثرنا على جميع أصول المحتل الهكسوسي، وبخاصة
ذلك العنصر الغامض الهندوآري، الذي أثبت وجوده دون دلائل كافية، ولا قرائن تشير إلى
أسماء قبائله ومواطنها، والذي ثبت أنه من قبائل سكيث، وهو الأمر الذي جهدنا عليه طويلًا
لتأكيد نظريتنا في اتحاد العناصر المتلاقحة في بلاد آدوم ومديان في سيناء وآدوم وبوادي
الشام، لينجبوا شعبًا هجينًا مولدًا، ويفرزوا لغته السامية الشمالية، وكان بين هؤلاء
الشعب العبري الإسرائيلي، المرموز له دومًا بأورشليم، حيث يضيء أمامنا نص الكتاب
المقدس، كاشفًا العنصرين العموري الأموري الجنوبي الحيثي الآرامي السكيثي الشمالي،
فيقول:
هكذا قال السيد الرب لأورشليم: مخرجك ومولدك من أرض كنعان، أبوك أموري، وأمك
حيثية.
(حزقيال، ١٦: ٣)
ليكرر مناديًا بلسان حزقيال النبي:
أنت وأخت أخواتك اللواتي كرهن أزواجهن وأبناءهن، أمُّكن حيثية وأبوكن
أموري.
(حزقيال، ١٦: ٤٥)
أما النظرية التي كانت تتوارى في الظل طوال الوقت، حول أصل الأقوام السامية وموطنها
الأول الجغرافي، فهي تلك التي تقول إن بوادي الشام كانت المهد الأول للأقوام السامية،
وبالذات بلاد عرابة، وقد أكد كونتو أن بوادي الشام كانت محطة استراحة طويلة، في هجرة
الأقوام السامية من موطنٍ أخرى أصلية.
٤٩
هكذا انتهينا من سكيث، بينما ما زال علم التاريخ التقليدي، يبحث عن من هم السجاز،
لينتهي من حل اللغز إلى ذات الحل، الذي لجأ إليه في مشكلة الخابيرو، وهو أنهم مجرد شذاذ
آفاق، لا يرتبطون بعنصرٍ معلوم ارتباطًا واضحًا، وهو ما يعبر عنه قول المصرلوجست
(آلدريد):
وكانت هناك فئة تبدو لنا — أكثر غموضًا هي فئة الساجاز كما ذكرت على الألواح
المسمارية، وهم مطابقون للخابيرو، الذين أطلقت عليهم النصوص المصرية اسم
العابيرو. وكان يندرج تحت هذا الاسم كل العمال غير المدربين، وكل العبيد من
أسرى الحروب، ويبدو أن هذه الفئة كانت من أصولٍ عرقية مختلفة، ولغاتهم أيضًا
مختلفة، يتجولون في فلسطين وسوريا، يعيشون على السلب والنهب أو الخدمة كمرتزقة.
٥٠
ساجاز أو سكيث أو الحيثيون هم إذن العنصر الهندوآري الآرامي، الذي هبط من الشمال
ليسكن بلاد مديان بلاد الأيك وأشجار العطور، مع الزنوج الأفارقة ومع العموريين القادمين
من جنوب الجزيرة، حتى إن كلمة شجرة العربية هي الأصل الذي تعود إليه كلمة
SAGARIS اليونانية، وهو نوعٌ من السلاح كان يستخدمه
الإسكيثيون، وتسميته سكيثية وليست يونانية، أما الرومان فيطلقون اسم سكاريا على السيف
القصير العريض، ومن الشجرة في العربية الشواجر، والشواجر في لسان العرب هي سيوف الحديد.
٥١
ويحيطنا «آرثر كيستلر» علمًا أن كلمة «سا – جاز» مركبة من شقين، يعني شقها الثاني
«جاز»، فعل بمعنى يتجول في اللغة التركية،
٥٢ أي البدوي أو التائه أو الهائم على وجهه. وفي العربية «اجتاز» انتقل من
موضعٍ لآخر، وعرب اليوم بجزيرة العرب والخليج، ما زالوا يطلقون على العابر المتنقل أو
المسافر اسمه: العبري … و… التركي. إنها بقايا التاريخ في اللسان حتى اليوم.