الأخلاق، وتقسيمها إلى غريزيَّة ومُكتسَبة
يقول صاحب القاموس: الخلُق هو الطبع والسَّجِية …
ويقول ابن الأثير في النهاية: حقيقة الخلُق أنه لِصورة الإنسان الباطنة — وهي النفس وأوصافها ومعانيها — بمنزلة الخلْق لصورته الظاهرة.
ويقول ابن مسكويه: الخلُق حالٌ للنفس داعية لها إلى أفعالها من غير فكر ولا رويَّة.
وزاده الغزالي بسطًا، فقال: «يُقال فلان حسن الخَلْق والخُلق؛ أي حسن الظاهر والباطن … فالخُلق عبارة عن هيئة راسخة في النفس، تصدر عنها الأفعال بسهولة ويُسْر، من غير فكر ولا رويَّة.»
•••
الخُلق إذن هيئة أو صفة للنفس …
غير أن النفس قوًى مختلفة، ووظائف متنوعة؛ فهناك ملكات الإدراك، والتفكير، والحكم، والتخيُّل، والتذكُّر، وهناك الوجدانات والانفعالات، وهناك الغرائز والنزَّعات. فإذا كانت هذه القوى النفسية كلُّها تصدر عنها آثارها في سهولة ويُسْر، هل يسوغ لنا أن نسمِّي شيئًا منها خلُقًا؟ … كلا!
نحن بحاجة إذن إلى مزيدِ إيضاح وتحديد، تتميَّز به حقيقةُ المقصود من هذه التسمية، وينجلي به الإبهام الذي تنطوي عليه التعريفات السابقة.
ونبادر فنقول: إن الخلُق ليس صفةً للنفس في جملتها، ولكن في جانبٍ معيَّن من جوانبها. وليس هذا الجانب هو جانب العقل والمعرفة، ولا جانب الشعور والعاطفة؛ وإنما هو جانب القصد والإرادة.
ونضيف إلى هذا التقييد تقييدًا آخر، فنقول: إن الخلُق يتعلَّق بنوع خاص من الأهداف الإرادية، وهو تلك الأهداف التي ينشأ عن اختيارها وصْفٌ يعود على النفس بأنها خيِّرة أو شرِّيرة.
من هاتين الخاصَّتين نستطيع أن ننظم التعريف التالي: «الخلُق هو قوة راسخة في الإرادة، تنزع بها إلى اختيار ما هو خير وصلاح — إن كان الخلق حميدًا — أو إلى اختيار ما هو شرٌّ وجَور — إن كان الخلق ذميمًا.»
هكذا تتميَّز الحقيقة الخُلقية عمَّا عداها من الصفات النفسية.
ثم ألا ترى أنَّ من الأعمال الإرادية نفسها طائفةً يستوي فعلها وتركها، فتدخل بذلك في نطاق المباحات، بحيث لا يترتَّب على فعلها مدح ولا ذمٌّ، ولا يُقال لصاحبها إنه أحسن أو أساء؟ فهي خارجة أيضًا عن موضوع البحث. وكذلك الأعمال الإراديَّة التي يترتَّب عليها مدحٌ أو ذمٌّ، بمعناهما الأدبي أو الفني؛ كإجادة البيان، وإتقان التصوير، أو إساءتهما؛ فهنالك يكون المدح والقدح والإحسان والإساءة أحكامًا تُشابِه في صورتها الأحكام الأخلاقيَّة، ولكنها في المعنى ليست منها بسبيل؛ لأن الذي لا يُحسِن التعبير أو التصوير لا يُقال إنه آثم أو شرِّير.
هذا، وينبغي ألَّا يَشْتبِه علينا الفرق بين الخُلق والسلوك.
فالخُلق كما قلنا أمرٌ معنويٌّ، وهو صفة النفس وسَجِيَّتها. أما السلوك فهو أسلوب الأعمال ونَهْجها وعادتها، وما هو إلا مَظْهر الخُلق ومرآته ودليله.
وإنه لكي تكون الأفعال علامةً صحيحة على خُلُق صاحبها، لا بدَّ أن يجتمع فيها عنصران؛ أحدهما: أن تتكرَّر الأفعال على نَسَق معيَّن حتى تكون عادةً مستقِرة، وحتى تدلَّ على قوَّة راسخة ونزعةً ثابتة إلى هذه الأفعال؛ فإن الذي يدلُّ على خُلق المرء هو جملة تصرُّفاته في عامة الأوقات والأحوال المختلفة لا في النادر منها. الثاني: أن تقوم الأمارات على أن هذه الأفعال صادرة بطريقة انبعاثية عن النفس، وليست أثرًا لأسباب خارجيَّة، من الخوف أو الرجاء، أو الحياة أو الرياء، أو نحوها؛ ممَّا يجعل صدور الأعمال تكلُّفًا وتصنُّعًا على خلاف سَجِيَّة صاحبها، ويجعلنا نحكم بأن خُلقه الحقيقيَّ على النقيض ممَّا يُوحِي به ظاهر هذه الأفعال.
وكما تتجلَّى العادات المُستقِرة في ثوبٍ إيجابي، قد تبدو لنا في صورة سلبيَّة. وهنا أيضًا ينبغي أن نكون في يقظة وحَذَر عند إصدار أحكامنا؛ إذ قد يخفى علينا الخُلق الحقيقي، لعدم البواعث والأسباب التي تقتضي ظهوره؛ كالفقير الذي لا يجد ما ينفقه، مع أن في نفسه نزعةَ البذلِ والسخاء، فلا تحكم عليه بالبخل لمجرد عدم إنفاقه، وكالشَّرِه الذي لا يجد ما يتناوله، فلا تحكم له بالعفَّة حتى تتهيَّأ الملابسات التي تُبدِي لنا كامِنَ سجيَّتِه وشِيمته.
•••
سيقول قائل: إذا كان خُلق الإنسان كما ذكرتم هو مزاج روحه، وهيئة نفسه الراسخة فيها، على غرارة الصورة الخُلقية لبدنه، ألَا يكون ذلك اعترافًا من أول الأمر بأنَّ الأخلاق فِطريَّة دائمًا، لا سبيل إلى تغيير ما وُجِد منها، ولا إلى اكتساب ما ليس بحاصل فيها؟ وهذا الاعتراف ينطبق بلا ريبٍ على بعض وجوه النظر في المسألة، ولكنه لا يُسايِر جملةَ المذاهب فيها. فإذا سلَّمْتُموه أصبح علم الأخلاق وليس له موضوعٌ مُتفَق عليه، مُسلَّم الثبوت في نفسه.
نقول: كلا، إن التعريفات المذكورة للخُلق لا تنطوي على الاعتراف بشيء من هذه اللوازم؛ ذلك أننا نسمِّي خُلقًا كلَّ قوَّة إرادية راسخة، نزَّاعة إلى الخير أو إلى الشرِّ، سواء أكان هذا الرسوخ في كلِّ أحواله من عمل الفطرة والجِبلَّة ليس غير، كما يقول أهل الجبر، أم كان يحصل تارة بالجِبلَّة والغريزة، وتارة بالكسب والرياضة، كما يقول غيرهم.
فها هنا إذن مذهبان، يجمُل بنا تعرُّفهما، وبسْط وجهة نظرهما.
فأمَّا غلاة أهل الجبر، فهذا نموذج من أقوالهم:
يقول شوبنهاور (الفيلسوف الألماني): يُولَد الناس أخيارًا أو أشرارًا، كما يُولَد الحَمَل وديعًا، والنمر مُفترِسًا. وليس لعلم الأخلاق إلَّا أن يَصِف سيرة الناس وعوائدهم، كما يصف التاريخ الطبيعي حياة الحيوان.
ويقول كانْت (الفيلسوف الألماني أيضًا): إن الذي يُشاهِد موقف الإنسان في ظرف مُعيَّن، ويعرف سوابق تصرُّفاته في مثل هذا الموقف، يستطيع أن يتنبَّأ تنبُّؤًا صادقًا بما سيفعله في هذا الظرف المُعيَّن، كما يتنبَّأ العالم الفلكي بكسوف الشمس وخسوف القمر في ساعة محدودة.
ويقول سبينوزا (الفيلسوف الهولندي): إن أفعال الناس، كغيرها من سائر الظواهر الطبيعية، تحدث ويمكن استنتاجها بالضرورة المنطقيَّة الهندسيَّة، كما يستنتج من طبيعة المثلث أنَّ زواياه الثلاث تساوي زاويتين قائمتين.
ويقول ليفي بريل (الفيلسوف الفرنسي): إن ميولنا الحسنة أو القبيحة التي نجيء بها إلى هذا العالم عند ولادتنا، هي طبيعتنا. فكيف نكون مسئولين عن طبيعة، هي ليست من عملنا، أو على الأقل ليست من عملنا الشعوري الاختياري؟
ويقول هيوم (الفيلسوف الإنجليزي): إن شعورنا بالحرية ليس إلَّا وهمًا خدَّاعًا.
أولئك فريق من فلاسفة أوروبا، غلب على عصرهم البحث في القوى الماديَّة وطبائعها، ورأوا ما فيها من قوانين علمية ثابتة، فأرادوا أن يَبْسُطوا نتائجها على سائر العلوم … حتى الاجتماعية، والأخلاقية. فهم لذلك يصوِّرون لنا الإرادة الإنسانية سجينة في نطاق حديديٍّ من الغرائز والطبائع، ويصوِّرون لنا البشرية كلَّها عاجزة عن التحوُّل والتطوُّر. ففِيمَ إذن كان إنزال الكتب وإرسال الرسل؟ وفِيمَ إذن وُضِعت الشرائع والقوانين؟ وفيمَ كان ويكون عمل المؤدِّبين والمربِّين؟ ألَّا يكون ذلك كلُّه عناءً بغير جدوى؟ أوَلا تكون دراسة الأخلاق نفسها ملهاةً أو شبه ملهاة؟!
- (١) وأول ما نلاحظه على هذه الأقاويل شذوذها على إجماع المُفكِّرين الأسبقين؛ فإن هؤلاء المفكرين وإن اختلفوا في شأن الفطرة الإنسانية على مذاهبَ ثلاثة٢ إلَّا أنهم من جهة جعلوا هذه الفطرة عامَّة في جنس البشر، فلم يزعموا أنها خيِّرة في البعض شرِّيرة في البعض، بل هي إمَّا هذا، وإمَّا ذاك، وإمَّا كلاهما معًا، في الجميع. ومن جهة أخرى فإنهم اتفقوا ثلاثتهم على قبول هذه الفطرة للتغيُّر والتبدُّل؛ وذلك إمَّا لامتزاج هذه الفطرة وتركُّبها (كما في المذهب الثالث)، وإمَّا لمرونتها وقبولها للانقلاب (كما في المذهبين الأوَّلين).
- (٢) فإذا سلَّمنا أن فطرة الخير والشر ليست مُوزَّعة على السواء في البشر، واعترفنا بأن بعض٣ الناس يُولَد خيِّرًا بطبعه، وبعضهم يُولَد شرِّيرًا بطبعه، فإننا نفهم من هذه الأسبقية في ظهور أحد الطبعين منذ الطفولة أن يكون التحوُّل إلى الطبع المقابل له أصعب وأبطأ، لتوقُّفه على عواملَ خارجية جديدة. لكن أي دليل يدلُّ على أن الطبع البدائي الذي يُولَد عليه الحيوان، بل الإنسان، يصل إلى ذلك الحدِّ الذي وصَفُوه لنا من الجمود والاستعصاء على كلِّ تحويل وتبديل؟
يجيب الجامدون المتشائمون، وهم الذين يسمِّيهم الغزالي أهل البطالة والكسل، مُحتجِّين على دعواهم بحُجَّتين؛ الأولى: مُقايسة نظريَّة، وهي أنه كما لا يمكن الإنسان تحويل خلقته الظاهرية من الدمامة إلى الوسامة، كذلك لا يمكنه تغيير طبيعته الباطنة من الشرِّية إلى الخيرية؛ إذ لا فرْقَ بين فطرة وفطرة، كلاهما من صُنْع الله، الذي لا تبديل لخلقه. الحجَّة الثانية: تجربة عملية، وهي أن كثيرًا من أهل المجاهدة والرياضة حاولوا في أنفسهم تحطيم قوتَي الشهوة والغضب، وإسكات غريزتَي الأمل والألم، فباءوا بالفشل. وإذا كانت هذه هي الوسيلة الوحيدة لاكتساب الخُلق الحميد، وقد ثبت استحالتها، كانت غايتها محالة كذلك.
ونحن ندحض هاتين الحجَّتين، واحدة واحدة، على عكس ترتيبهما:
- (٣) أما الحجة العملية فإن الدليل التجريبي قائمٌ على عكس ما زعموا فيها؛ فقد وُفِّق الإنسان في كلِّ عصوره إلى نقل طباع الحيوان من النُّفور إلى الإلْف، ومن الصعوبة والحزونة إلى السلاسة والانقياد، ومن اعوجاج السَّيْر واضطرابه إلى اعتداله وانتظامه … حتى إن الإنسان ليرقِّص الخيل، ويلاعب الطير، ويعلِّم الجوارح ألَّا تطعم مما تمسكه لربِّها وهي في أشدِّ الحاجة إليه … فإذا كان هذا هو الشأن في غرائز العجماوات، فكيف بالغرائز الإنسانية التي أثبت علم النفس المقارن أنها أسلس قيادًا، وأعظم مرونة، بسبب تنوُّعها وتعارُضها٤ وقبولها للمزج والتعديل بينها بترجيح بعضها على بعض؟
- (٤) ولو سلَّمنا جدلًا استعصاء الطِّباع الإنسانية في أنفسها على المحو والإثبات، فإننا لا نسلِّم استعصاءها على التهذيب والتنظيم. ألَا وإننا ليس يلزمنا في تصحيح مذهبنا أن نُثبِت لأنفسنا سلطانًا على قلب طباعنا وتحويل جرثومتها الأولى، بل يكفينا أن نُثبِت اقتدارنا على تعقيم هذه الجرثومة أو على إخصابها، ثم على تربيتها بعد ذلك أو إهمالها. ومثل ذلك مثل حبَّتَيْ عنب وحنظل؛ فإنك لست ببالغٍ ولو حرصت أن تجعل العنب حنظلًا أو الحنظل عنبًا، ولكنك تملك أن تضع إحدى الحبَّتين أو كلتيهما على صخرة جافَّة مَلْساء لا تغذيها تربة ولا يرويها ماء، فلا تعطيك زهرًا ولا ثمرًا؛ وتملك أن تضعها في أرض طيِّبة تُؤويها من الأعاصير، وتحميها من الحشرات والطفيليات، ثم تتعهدها بالماء والسَّماد، حتى تُنبِت لك النبات الذي تؤهِّلها له طبيعتها، ثم لا تزال تلاحقها، تقويمًا لأغصانها، وتهذيبًا لأشواكها، وتسوية لها طولًا أو عرضًا على الشكل والمقدار الذي ترضاه لها. فكذلك الروح وما فيها من قابليات واستعدادات، وسجايا وجبلات، لا تستطيع أن تبدِّل عناصرها تبديلًا، ولكنك أهلٌ لأن تتعهَّد عناصر الخير فيها؛ إمدادًا بماء العلوم والمعارف، ورفدًا بالعمل الصالح، وصقلًا وجلاءً، بالندم على السقطات والزلَّات، وبما شئت من تزكية وتنمية، كما قال الله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا، وأنت أهلٌ كذلك لأن تَدَعَ مرآتها يعلوها صَدَأُ الجهل، وتغشاها عدوى خُلَطاء السوء، وتتراكم عليها أنقاض العادات الذميمة، كما قال الله تعالى: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ.وبالجملة فإنما يكون الجهاد الخُلقي عبثًا في أحد افتراضينِ لا ثالث لهما: أن تكون النفس الإنسانية قد خُلِقت خلقًا كاملًا مستجمعًا لكلِّ أطوارها، أو أن تكون خُلِقَت بَتْراء جامدة غير قابلة للكمال. أما وهي كما قال الغزالي ناقصة بالفعل ولكنها منطوية على إمكانيات الكمال، قابلة بالقوة لما شاء الله من درجات الترقِّي والتدلِّي، فقد اتسع ميدان الجهاد أمام كلِّ مجاهد. وذلك كلُّه ممَّا توحي به الآيات القرآنية الكريمة، حيث يقول الله تعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا، فجعل تسوية النفس من فِعْل البارئ المصور، ولكنَّه جعل تزكيتها أو تَدْسِيتها من عمل الإنسان.
وهكذا تسقط حجَّة المعارضة بشقَّيها النظري والعملي.
ذلك أننا نقبل تحدِّيهم لنا بالمقايسة على الخِلقة البدنية، ونقول إننا وإن لم نملك أن نغيِّر طبيعة أبداننا وأن نُنشِئها خلقًا آخر، فإننا نملك أن نعالجها من أمراضها، وأن نهذِّب شذوذها بتقليم الأظفار، وإزالة ما يغشاها من الشعث والغبار، وأن نجمِّلها بما نشاء من الزينة الظاهرة. وإن رسالتنا في الجهاد الروحي لا تعدو هذا النَّمَط. وكذلك نقبل الحجَّة التجريبيَّة ونقول إننا ليس علينا أن نمحوَ من أنفسنا غريزتَيِ الشهوة والغضب كما زعم المجادل. كيف وهما أداتنا في الحياة، لاجتلاب نفعها، واستدفاع ضرِّها؟ فمَثَل غريزةِ التشهِّي والتمنِّي كمثل كلب الصيد الذي تبعثه في طلب رِزقك. ومَثَل غريزة الألم والغضب كمثل كلب الحراسة الذي تدْفَع به اللصوص والمُعتدِين عن نفسك وحريمك. فكما أنه ليس من الحكمة والرشد أن تقتل كَلبَيْكَ، كذلك ليس من الحكمة والرشد أن تقتل غريزتَي الغضب والشهوة فيك، ولكن عليك أن تُعلِّم كلبَ صيدِك ألَّا يختطف الطير الأليف المملوك، وأن تُعلِّم كلْبَ حراستك ألَّا ينبح في وجه الضيفان. وهكذا واجبك أن تنظِّم سَيْر غرائزك إقدامًا أو إحجامًا، على مقتضى قانون الشرع والعقل. وإذا كانت التجربة القاصرة الناقصة قد فشلت في هذه المهمة، فإن التجربة الصابرة المثابرة، التي لا يزيدها الإخفاق إلَّا معاودة وإلحاحًا وتشبُّثًا بالمُثُل العليا، قد أثبتَتْ دائمًا نجاحها وانتصارها، تشهد بذلك سِيَر الحكماء والمربِّين، في أنفسهم وفي تلاميذهم.
- (٥) وبعدُ فإننا نلاحظ أنَّ في دعوة المعارضة إحاطةً وتعميمًا، في مقامٍ كان حقُّه التفصيل والتقسيم. ذلك أن ها هنا فصيلتَيْنِ من السجايا:
- (١)
طباعًا قاصرة الأثر على نفسيَّة صاحبها، بمعني أنها لا تهتف به إلى عمل حميد أو ذميم.
- (٢)
وطباعًا حافزة له على الخير أو الشر.
ولعل أكثر ما جرَّبه المُعترِضون هو من قبيل الفصيلة الأولى.
فهم إذا قالوا لنا مثلًا: إن المرء قد يُولَد متفائلًا أو متشائمًا، مرحًا أو كئيبًا، ألمعيَّ الذهن أو بطيء الإدراك، ذَكورًا أو شديدَ النسيان، مُتذوِّقًا للفن أو محرومًا من حاسَّة الجمال، نزَّاعًا للانطواء، كثير الانزواء، أو ميالًا للخلطة نَفورًا من الوحدة، وإنه لا حِيلة له في تغيير هذه السجايا، قلنا: وماذا يضيرنا هذا العجز إذا كانت هذه الصفات المتقابلة لا تمنع أصحابها — في أيِّ الطرفين فُرِضوا — أن يكونوا فضلاء أتقياء، مؤدِّين لواجباتهم نحو الخالق والمخلوق؟
فهذه الفصيلة كلُّها لا صِلة لها بقانون الأخلاق، ولا تنقُض مذهب الجمهور فيه.
وإنما الذي يتصل بموضوعنا من الطِّباع الإنسانية هو ما يكون منها ذا نزعةٍ عملية نحو الفضيلة أو الرذيلة، كما لو قِيل لنا إن صنفًا من الناس ينشأ منذ طفولته شجاعًا جريئًا مغامرًا، وصنفًا آخر ينشأ جبانًا متردِّدًا رِعديدًا، وإن الرجل قد يُولَد سخيًّا أو شحيحًا، ليِّن العَرِيكة أو شكسًا خَشِن الجانب، إلى نحو ذلك؛ وإن كلَّ ضرْبٍ من هذه الأخلاق يُوحِي إلى إرادة صاحبه حتمًا تنفيذ مقتضي جِبِلَّته.
فنقول: ها هنا أيضًا يجب أن نفصل بين الإيحاء وقبول الإيحاء. فكلُّ عمل الطبيعة والجِبِلَّة أنها تدعونا وتُلِح علينا أن نتَّخذ اتجاهًا معينًا في سيرنا؛ ولكن في وسعنا نحن أن نلبِّي الدعاء، وأن نرفض الرجاء. وما أحكمَ التعبيرَ القرآني البليغ حين يقول: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، فلم يقل: لحاكمة بالسوء أو لمُلجِئة إلى السوء. ولنستمع إلى قوله سبحانه حين يحكي محاجَّة الشيطان لأوليائه وقوله لهم: وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ، هكذا حصر كل سلطانه في مجرد الدعوة، وألقى عليهم المسئولية بأنَّهم هم الذين استجابوا لتلك الدعوة. ذلك أن المسئولية إنما تتقرر في الأعمال الإرادية، والإرادة وإن كانت جهازًا متصلًا بسائر الأجهزة النفسية، إلَّا أنها في الوقت نفسه مُنفصِلة عنها. وبعبارة أخري إنها متصلة بها اتصال استشارة واستنارة، وليس اتصال ائتمار وارتباط آليٍّ ولا شبه آليٍّ. فموقف الإرادة في استقلالها عن العواطف والنزعات، وعن الأفكار والذكريات، وغيرها، مع ارتباطها بها في المجموعة النفسية، كموقف القاضي في استقلاله بالنطق بالحكم. مع ارتباطه بجهاز العدالة كلِّه، من اتهام وشهادة، وحِجاج ودفاع؛ أو كمَلِكٍ له بطانتان تصف له إحداهما الخير وتحبِّبه فيه، وتُزيِّن له أخراهما السوء وتغريه به. والأمر في النهاية إليه. - (١)
- (٦)
وأخيرًا فإننا نستطيع أن نتنزَّل مع هؤلاء الجبريِّين إلى النهاية، وأن نسلِّم جدلًا كلَّ المقدمات التي سبقت مناقشتها؛ فنسلِّم لهم أولَ كلِّ شيء أن الناس ليسوا في الجِبِلَّة العامة، وأن الطبيعة تؤهِّل كلَّ طائفة منهم لناحية معينة من السلوك في الحياة، ثم نسلِّم لهم أن هذا المَيْل الطبيعي لا حِيلة للمرء في نزعه ومحوه، ولا في تنظيم آثاره؛ ونسلِّم أخيرًا أن هذا العجز لا يسري على الطباع العادية وحدها، بل على السجايا المُتصِلة بصميم السلوك الأخلاقي كذلك.
غير أننا نلفت نظرهم بعد هذا كلِّه إلى أنهم، حين يتحدَّثون عن جمود الطباع واستعصائها، إنما يتحدَّثون عن ذلك الطبع الذي يُستنتَج بالظن من العادة المستمرة للمرء في سلوكه، لا عن الطبع الحقيقي الكامن الدفين، الذي قد تغطِّيه طبقة سميكة من عوائدنا الشخصية، أو الوراثية، أو السارية إلينا من عدوى المجتمع؛ حتى إنه لَيخفى أمرُه على الناقد البصير، بل قد يخفى على المرء نفسه كُنْهُ نزعاته وميوله، وينخدع في حكمه على استعداداته؛ إمَّا لِقلَّة عنايته بتحليلها، وإمَّا لفقد الفُرَص المواتية لظهورها؛ كما يجهل الزوج الذي لم يُرزَق ولدًا قطُّ مبلغ حنان الأبوَّة ورأفتها، وكما يجهل طالب العلم كُنْه ميوله الأدبية أو العلمية، في فترة طويلة من سِني دراسته، وكما يجهل الجندي مدى قدرته على سياسة الجماعة وتصريف أمورها؛ لأنه لم يتولَّ أمر القيادة يومًا ما، فإذا تغيَّرت ظروف كلِّ واحد منهم أشرقت فيه صفاتٌ وملكات جديدة، وعرَف من نفسه ما كان يُنكِره منها، بل رُبَّ كلمة نُصْح تصادِف القلب، ورُبَّ حادث مفاجئ يصدم الشعور، فإذا مجرى الحياة كلها قد تغيَّر في طرفة عين، وإذا المِعْوَج يعود مستقيمًا، والفاجر العِرْبيد تقيًّا نقيًّا.
وهكذا يتبيَّن لنا أن الذي يعتمد على ظواهر السلوك وعلى مجاري العادات في حكمه بعدم تطوُّر الطباع، إنما يعتمد على جُرُف هارٍ؛ وأن مثله كمثل مَن يحكم على الصحراء القاحلة الجَرْداء بأنها لا تقبل الإنبات، دون أن يُجرِّب سَقْيها وحَرْثها ومعالجتها بسائر ضروب المعالجة.
فعلَّة ما يتوهمه الناس من جمود الطباع هو هذا اليأس، وهو فقد الثقة بالنفس. ومِفتاح الخير كله في العمل والأمل، واليقظة والجد، والحرص على الإصلاح والتقدُّم. وتلك هي الوصية الذهبية التي أوصانا بها صاحب الرسالة حين يقول: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز.» وتلك هي حقيقة الجهاد الأعظم الذي قال فيه الرسول الكريم: «المجاهد مَن جاهد نفسه.» وقد وعد الله الذين يحافظون على عمل الصالحات بأن يصير الصلاح ملكةً لهم، فقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ، كما وعد المجاهدين لأنفسهم بإبلاغهم غايتهم من الهداية، فقال جلَّ شأنه: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا، وهي آية مكية لا تعرف الكفاح بالسيف، ولكن بالصبر والقناعة، وقوة الإرادة، وتحدِّي المغريات والمُثِيرات، والصمود أمامها كالصخرة الراسية أمام الرياح العاتية. وقد جاء في الحديث الصحيح أن الرجل لا يزال يصدق ويتحرَّى الصِّدْق حتى يكون صِدِّيقًا. ومن أوضح الأحاديث الصحيحة في الدلالة على فضل الجلد والمثابرة وأثرهما في إزالة الرعونات الجبلِّية، وتكوين الخلق الحميد المضاد لها، قوله عليه السلام: «وإنه مَن يستعفِفْ يعفه الله، ومَن يستغنِ يُغنِه الله، ومَن يتصبَّر يُصبِّره الله.»
والله ولي التوفيق.
ولا يفوتنا هنا أن نبيِّن اتجاه النصوص الإسلامية في هذه القضية، وأن فيهما ما يشهد لهذا المذهب الوسط، مذهب الاستعداد المزدوج؛ ففي القرآن الكريم إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ، وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا بل فيها ما يشهد في الوقت نفسه؛ لأن هذه الفطرة المُزدوجة أقرب في أصلها إلى السلامة والاستقامة: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا وفي الحديث: «كلُّ مولود يُولَد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه.» نعم إن هذين النصَّين الأخيرين واردانِ في عقيدة الحقِّ، لا في إرادة الخير، ولا خفاء في أن الفطرة الأُولى في المسألة الاعتقادية هي فطرة التوحيد، وأن عقائد الشرك والوثنية أعراضٌ طارئة، بل أمراض مُتطفِّلة، من أثر الاتباع والمحاكاة. وأما الفطرة الأُولى في الناحية العملية فقد يكون من السائغ الحكم فيها بالخيرية على أصل النشأة، أخذًا من آية «التقويم» المُشار إليها آنفًا. ولكن من الصعب تعميم هذا الحكم في الأجيال والطبقات والأفراد، ولا سيما إذا لاحظنا اختلاف عامل الوراثة وما قد ينقُله من الطباع الحميدة أو الذميمة عن الآباء. ومهما يكن من أمر فإن أسبقية أحد الطَّبْعين إلى الوجود لا يعني مُطلَقًا عدم قابليته للتبدُّل إلى أحسنَ أو أسوأ، خلافًا لما يزعمه أعداء التربية والتعليم.