علم الأخلاق، وتقسيمه إلى نظري وعلمي
لقد يكون في وسع الإنسان أن يستغني طول حياته عن بعض مسائل العلم والمعرفة، فلا تخطر له ببالٍ، بل قد يستطيع أن يستغني عنها جميعها فترةً طويلة أو قصيرة من عمره … ولكن أحدًا لن يستطيع أن يخلي همَّه من المسألة الأخلاقيَّة طرفة عين.
إنها ضرورة الحياة العمليَّة: عند كلِّ حركة أو سكون، وعند كلِّ نطق أو سكوت، وعند كلِّ همٍّ بفعل أو قول، تُلجِئ كلَّ واحد منَّا أن يستفتيَ نفسه: هل يحسن به أن يُقدِم أو يُحجِم. وإنها ضرورة الحياة العملية، تطالب كلَّ واحد منَّا بالجواب السريع على هذا الاستفتاء، قبل أن يفوت وقت العمل، وتطالبه بأن يكون جوابه مسببًا، معتمدًا على مبدأ يرضاه قاعدةً لسلوكه، ومعيارًا لحكمه وتقديره، أخطأ في ذلك أم أصاب، أساء أم أحسن في اختيار القواعد والأسباب.
من هنا مسَّت حاجةُ كلِّ عاقل إلى أن يكون عنده قانونٌ حاضِر يلقِّنه الجواب الصحيح عند كلِّ استفتاء، ويعصم إرادته عن الخطأ في التوجُّه والاختيار.
ذلك القانون هو علم الأخلاق.
فهو جملة القواعد التي ترسم لنا طريق السلوك الحميد، وتحدِّد لنا بواعثه وأهدافه.
- أحدهما: بحث عن أنواع الملكات الفاضلة التي يجب علينا التحلِّي بها؛ كالإخلاص والصدق، والعفَّة والشجاعة، والعدل والوفاء، وأمثالها. ويُسمَّي «علم الأخلاق العملي». وهذا النوع في الحقيقة هو أمسُّ الضربَيْنِ بالحياة، وأحقهما بأن يكون نبراسًا في كلِّ يدٍ. فهو الغذاء اليومي، بل هو الواجب العيني، ولذلك لا تكاد تخلو أمَّة في القديم والحديث من معرفته والحثِّ على آدابه التي تصل إليها بالفطرة، أو بالفكر، أو بالتجربة، أو بالوراثة والرواية.
- والثاني: بحث عن المبادئ الكليَّة والمعاني الجامعة التي تُشتق منها تلك الواجبات الفرعية؛ كالبحث عن حقيقة الخير المطلق، وفكر الفضيلة من حيث هي، وعن مصدر الإيجاب ومنبعه، وعن مقاصد العمل البعيدة، وأهدافه العُليا، ونحو ذلك. ويُسمَّى «فلسفة الأخلاق» أو «علم الأخلاق النظري»، وهو من علم الأخلاق العملي بمنزلة أصول الفقه من الفقه.فهو شأن الخواص والمجتهدين، ولا يُطلَب من غيرهم إلَّا كما تُطلَب النافلة بعد تمام الفريضة؛ ولذلك لا نجد له من الأقدمية ولا من الشمول ما لعلم الأخلاق العملي.
فالوثائق التاريخية التي وصلت إلينا لا تُشِير إلى أن قدماء المصريين عرفوا هذا النوع من الفلسفة، إلى جانب الفلسفة النظرية المعروفة لهم في الإلهيَّات والكونيَّات، ولعلَّ فلاسفة اليونان هم أول من قسَّم الفلسفة إلى قسمين؛ «فلسفة نظرية» تبحث عمَّا يجب علمُه واعتقاده، و«فلسفة عملية» تبحث عما يجب عملُه والتحلُّي به.
ومعني كون فلسفة الأخلاق فلسفة عمليَّة أنها تتعلق بالعمل، لا أنها هي من نوع العمل؛ فإن الفلسفة كلَّها بحوث نظرية وإن اختلفت مادَّتها وموضوعها. فإذا تعلَّقت بالحق الذي يُعتقَد، كانت نظريةً في أداتها، وفي موضوعها معًا. وإذا تعلَّقت بالخير الذي يُفعَل، كانت نظريةً في أداتها، عمليةً في موضوعها، بل علم الأخلاق العملي نفسه هو أيضًا من قبيل النظر لا العمل، وإن كان العمل مادَّته كما هو مادَّة العلم النظري؛ مع هذا الفارق الوحيد بينهما: وهو أن العمل الذي هو موضوع العلم العملي أنواعٌ من الأفعال لها مثال في الخارج، كالصدق والعدل ونحوهما؛ بينما موضوع العلم النظري هو جنس العمل المُطلَق، وفكرته المُجرَّدة، التي لا يتحقَّق مُسمَّاها خارجًا إلَّا في ضمن الأنواع التي يبحث عنها العلم العملي، تلك الأنواع التي تُعَد من قبيل الوسائل لتحقيق الخير المُطلَق أو الفضيلة الكليَّة التي يبحث عنها العلم النظري.
وهكذا يمكن اعتبار القسم العملي «فنًّا» أي علمًا تطبيقيًّا، بالنسبة للقسم النظري، ويمكن اعتباره في الوقت نفسه «علمًا نظريًّا»، بالقياس إلى ضروب التخلُّق وأساليب السلوك، التي هي التطبيق الفعلي الحقيقي لقواعد ذلك العلم.
ومن تأمَّل ضروب الواجبات الأخلاقية وكثرتها وتزاحُمها على الأوقات، وشدَّة الحاجة في تطبيقها إلى دقَّة في الفهم، وسلامة في الذوق، وحكمة في السياسة، للتوفيق بين مختلف المطالب الحيوية والاجتماعية والروحية وغيرها، على نِسَب قد تختلف باختلاف الظروف والملابسات، أدْرَك أن السلوك الأخلاقي جديرٌ بأن يُعَد فنًّا من أرقى الفنون الجميلة، لمَن عرَف كيف يؤلِّف من حياته اليومية صِفةً مُنسَّقة كاملة، على مِنهاج قول الرسول ذي الخلق العظيم: «إن لربك عليك حقًّا، وإن لنفسك عليك حقًّا، وإن لأهلك عليك حقًّا، وإن لِزَوْرك عليك حقًّا، فأعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه.»